Preview Lebanon Pagers Attack

تسليح السلع الاستهلاكية وسلاسل التوريد: لا أحدَ في مأمن

قد يمضي وقتٌ طويل قبل أن تتكشّف فصول ما جرى فعلياً في عملية تفجير أجهزة النداء الآلي والأجهزة اللاسلكية التي كان يحملها عناصر في حزب الله يومي الثلاثاء والأربعاء في 17 و18 أيلول/سبتمبر الحالي. فهذه العملية غير مسبوقة بحجمها ونطاقها واستهدافاتها، وهي عملية مُعقّدة ترتكز أولاً إلى عمل استخباراتي ربّما اشترك فيه أكثر من جهاز أمني ودولة، وترتكز ثانياً إلى عمل صناعي خصوصاً أن تفخيخ آلاف الأجهزة، بحسب الفرضية الأكثر ترجيحاً، يتطلّب مصانع مُجهّزة ولديها المعرفة والخبرة للقيام بهذه المهمّة، كما ترتكز ثالثاً إلى عمل تكنولوجي اخترق الشبكة اللبنانية وبثّ إمّا رسالة على آلاف الأجهزة أو موجة عبر أعمدة الإرسال من أجل تفعيل المتفجّرات المزروعة فيها. 

وبالنظر إلى كونها عملية غير مسبوقة، فقد تحرّكت حكومات ومنظّمات وجهات عدّة في العالم في محاولة لفهم كيفية حصول هذه الانفجارات المُتزامنة، وتوصيف العملية كعمل إرهابي وجريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي، والتحذير من «تسليح سلاسل التوريد»، الذي يرتّب مخاطر على الأمن والتجارة والثقة بين الدول. وكلّ ذلك في محاولة لوضع قيود على لجوء القوى المُتصارعة إلى تفخيخ الكثير من السلع الاستهلاكية، لا السلع التكنولوجية حصراً، ونشرها كقنابل موقوتة أو سموم قاتلة أو أوبئة فتّاكة، بأيدي الناس وفي بيوتهم ومؤسّساتهم ومرافقهم  وأسواقهم ووسائل نقلهم.

تسليح السلع الحيوية: إرهاب موصوف وخطر على أمن التجارة 

يُجمع خبراء القانون الدولي على أن تفخيخ أجهزة الاتصال التي قد يستخدمها الكثير من الناس في حياتهم اليومية هي عمل إرهابي وترتقي إلى جريمة حرب وفق القوانين الدولية. والواقع أن الانفجارات المُتزامنة، التي أدّت في يومين مُتتاليين إلى استشهاد 39 إنساناً من ضمنهم طفلة لم تتجاوز التاسعة من العمر وطفل بسن الحادية عشرة، فضلاً عن إصابة نحو 3 آلاف آخرين، فقدوا أعينهم أو اضطروا إلى بتر أصابعهم، تقع بمكان ما بين جريمة الحرب والعمل الإرهابي. ويقول المفوّض السامي للأمم المتّحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إن «الاستهداف المُتزامن لآلاف الأفراد، سواء كانوا مدنيين أو أعضاء في جماعات مُسلّحة، من دون معرفة من كانت بحوزته الأجهزة المُستهدفة وموقعها ومحيطها في وقت الهجوم، يشكّل انتهاكاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان». كما أشارت منظّمة العفو الدولية إلى «ضرورة التحقيق في هذه الانفجارات باعتبارها جرائم حرب». وبحسب الآراء القانونية الكثيرة المتداولة منذ وقوع هذا العمل الإرهابي، تعتبر هذه العملية «ذات طبيعة عشوائية وتشكّل خرقاً لقانون الحرب»، كما أنها «تخرق الحظر المفروض على استخدام الفِخاخ المُتفجّرة المنصوص عنها في البروتوكول الثاني المعدّل لاتفاقية الأمم المتّحدة بشأن الأسلحة التقليدية الصادر في العام 1996، ووقّعت عليه إسرائيل»، وأيضاً «تنتهك مبدأى التمييز والتناسب إذ تستهدف أفراداً بطريقة جماعية من دون معرفة أماكن تواجدهم». 

بالإضافة إلى الإرهاب الذي تبثّه عملية مُماثلة بين الناس، فإنها تفتح أيضاً باباً واسعاً أمام خطر تفخيخ السلع الاستهلاكية على أنواعها والتلاعب بالمنتجات المدنية لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية

وبالإضافة إلى الإرهاب الذي تبثّه عملية مُماثلة بين الناس، فإنها تفتح أيضاً باباً واسعاً أمام خطر تفخيخ السلع الاستهلاكية على أنواعها، وبالتالي تسليح سلاسل التوريد، والتلاعب بالمنتجات المدنية لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية، ورفع المخاطر المحيطة بأمن التجارة. تبيّن هذه العملية أن قواعد الاشتباك تشهد تحوّلات خطرة، إذ انتقلت من ميادين المعارك كما في الحروب التقليدية إلى استهداف المدنيين بالأفخاخ المتفجّرة في منازلهم وفي روتينهم اليومي. 

يرى الكثير من الخبراء أن «انفجار آلاف أجهزة النداء الآلي والأجهزة اللاسلكية في لبنان يمثّل تصعيداً جديداً ومُميتاً في استخدام سلاسل التوريد ضدّ الخصوم، كما يشكّل خطراً من أن تتحوّل سلاسل التوريد العالمية إلى أسلحة متنقّلة يحملها أياً كان». وهذا يعني أن بدء إسرائيل، المتّهمة الأولى بتنفيذ هذه العمليات، في «تسليح الأجهزة المدنية من خلال أطراف ثالثة في بلدان أخرى، يثير احتمالاً مُرعباً من أن سلاسل التوريد، التي كانت تُعتبر ذات يوم آمنة، قد تتعرّض للخطر في أي وقت، وفي أي مكان»، وأن تتسلّل السلع المُفخّخة إلى المنازل في جميع أنحاء العالم. 

وسيلة قديمة أصبحت أكثر تطوّراً وتعقيداً

يُعتبر التسلّل إلى سلاسل التوريد أداة قديمة تعود إلى قرون خلت، وقد استخدمتها الجيوش وأجهزة الاستخبارات المختلفة. تسجّل أولى الحالات الموثّقة في القرن الثامن عشر، عندما استخدم المستعمرون البريطانيون في أميركا بطانيات ملوّثة بوباء الجدري لقتل المئات من السكّان الأصليين من الهنود الحمر، وقد شكّل هذا التكتيك شكلاً بدائياً من أشكال الحرب البيولوجية بهدف الإبادة الجماعية. 

أيضاً، شهد التاريخ عمليّات تفخيخ كثيرة لأجهزة إلكترونية. ووفقاً لوثائق عسكرية أميركية أعاد موقع The Intercept نشرها، فقد أصدرت وزارة الدفاع الأميركية في العام 1965 كتيّباً يشرح كيفية تفخيخ سلع يفترض أنها آمنة وغير ضارّة يستخدمها الأفراد العاديون، وتحويلها إلى عبوات ناسفة. ويعرض الكتيّب صوراً تفصيلية لكيفية توصيل الأسلاك داخل سلع متنوّعة لتفخيخها، مثل المكاتب والهواتف وأدوات المطبخ والتلفزيونات والأسرّة،  كما يعرض رسماً آخر لسمّاعات الهواتف التي دَرَج تفخيخها في خلال الحرب العالمية الثانية. 

كسرت الانفجارات المُتزامنة في لبنان تقاليد استخدام سلاسل التوريد للتجسّس أو تنفيذ عمليات اغتيال وبات بالإمكان استخدامها في عمليات القتل الجماعي

لا تعتبر أجهزة الاتصالات هي الوحيدة التي يمكن تفخيخها. ففي العام 2010، نشرت مجلة «إلهام» (Inspire) التي يصدرها تنظيم القاعدة مقالاً تحت عنوان «إصنع قنبلة في مطبخ والدتك»، يشرح بالتفصيل كيف تمّ تفخيخ طابعة عبر وضع متفجّرات في عبوات الحبر قبل أن يكشف عنها في عمل استخباراتي. وبحسب المقال، استخدم صانعو المتفجّرات دائرة كهربائية من شركة نوكيا للهواتف المحمولة لتمريرها عبر أمن المطارات من دون كشفها. وقد كان عدد جسيمات الحبر مساوياً تقريباً لعدد الجسيمات المتفجّرة المُستخدمة، وقد سهّلت الدائرة الكهربائية للهاتف المحمول امتزاجها بالدوائر الداخلية للطابعة. وفي العام 2023، أرسِلت أجهزة USB مُفخّخة إلى صحافيين في الإكوادور، بحسب The Intercept أيضاً، وقد تمّ بالفعل تفجير أحدها بمجرّد وضعها في جهاز الكومبيوتر ما تسبّب بإصابة مذيع تلفزيوني.

تثبت هذه التجارب أن أدوات الاتصالات الإلكترونية ليست عرضة للمراقبة فحسب، بل يمكن تحويلها إلى أسلحة في حدّ ذاتها. في السابق، استخدمت هذه الأداة لجمع المعلومات لصالح وكالات الاستخبارات، ولعل أشهر تلك الحالات ما كشف عنه المقاول السابق لدى وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، إدوارد سنودن، من برامج تجسّس زرعتها CIA في الكثير من الأجهزة للتجسّس على ملايين الأشخاص حول العالم. وبرز استخدام هذه الأداة أيضاً في الكثير من الاتهامات التي وجّهت إلى دول ومنظّمات مُسلّحة بتخريب الأسلحة والذخائر لإيذاء الجنود الذين يستخدمونها في ميدان الحرب. كما استخدمت لتنفيذ عمليات اغتيال أسوة بالمحاولات التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية لاغتيال فيدل كاسترو بالسيغار الملوّث في ستينيات القرن الماضي، إلى قيام جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) بقتل مهندس المتفجّرات الفلسطيني يحيى عيّاش في العام 1996 بإضافة متفجّرات إلى هاتفه المحمول وتفجيره عندما اتصل به والده.

أمّا اليوم فقد كسرت الانفجارات المُتزامنة في لبنان تقاليد استخدام سلاسل التوريد للتجسّس أو تنفيذ عمليات اغتيال، وبات بالإمكان استخدامها في عمليات القتل الجماعي.

اختراق سلاسل التوريد والتلاعب بها

بعد العملية الإرهابية غير المسبوقة في لبنان، تتكاثر الأسئلة عن مدى انتشار هذه الأجهزة المتفجّرة في الكثير من البلدان؟ وكيفية إدخال المتفجّرات إليها أو إلى سلاسل التوريد الخاصّة بها؟

في الواقع، يثير هذا الهجوم أسئلة مُرعبة لم يتم التفكير فيها من قبل، إذ يرى خبراء التكنولوجيا أن هذه الهجمات تشكّل سابقة مثيرة للقلق لأنها تؤشّر إلى تلاعب واضح في سلسلة التوريد، وتطرح أسئلة مهمّة عن الحلقة التي تم اختراقها ضمن هذه السلسلة: هل كان ذلك أثناء عملية التصنيع، أو أثناء النقل، أو على مستوى مُشغّل النظام قبل توزيع الأجهزة على أفراد؟ 

يمكن النظر إلى كلّ مرحلة من مراحل السلسلة والتفكير في النقطة الأكثر عرضة للاختراق فيها. ويعتمد هذا الاختراق بالأساس على القنوات التي يمتلكها المنفّذون، بمعنى أنه يتطلّب عملاً استخباراتياً مُكثفاً

بداية، لا بدّ من فهم ما هي سلسلة التوريد؛ إنها ببساطة شديدة الشبكة الكاملة المؤلّفة من الأفراد والشركات والموارد والأنشطة والتكنولوجيا المشاركة في صنع منتج ما، من لما كان مادة خاماً وصولاً إلى تسليمه إلى المستهلك النهائي. وعادةً ما تمرّ هذه العملية بحلقات عدّة، بدءاً من الموردين التي تنحصر مهمّتهم بتوفير المواد الخام أو المدخلات التي سوف تدخل في عملية الإنتاج، مروراً بالمصنّعين الذين يحوّلون المواد الخام إلى منتجات نهائية، ومن ثمّ الموزّعين وتجّار الجملة الذين يخزّنون المنتجات ويشحنونها إلى تجّار التجزئة، الذين بدورهم يبيعون المنتج إلى المستهلك النهائي. 

في عالم الإلكترونيات والتكنولوجيا، كما في غيرها من السلع، هناك الكثير من المشاركين في سلسلة التوريد؛ فقد تأتي البطارية من مصنع ما، والشريحة من مصنع آخر، وأجهزة المودم من مصنع ثالث. ومن ثمّ يجري تجميعها في مصنع رابع، قبل أن يتمّ توضيبها وشحنها عبر شركات مختلفة، لتمرّ بمناطق حرّة عدّة، قبل وصولها إلى المستهلك النهائي.

ومن هنا، يمكن النظر إلى كلّ مرحلة من مراحل السلسلة والتفكير في النقطة الأضعف والأكثر عرضة للاختراق فيها. وعادة، يعتمد هذا الاختراق بالأساس على القنوات التي يمتلكها المنفّذون، أو بمعنى آخر يتطلّب عملاً استخباراتياً مُكثفاً ودعماً من أجهزة أمنية ودول وشركات لاستهداف الأجهزة الصحيحة. 

اختراق حزب الله: إسرائيل ودول أخرى وشركات وهمية

ذكرت قناة «إيه بي سي نيوز» الأميركية نقلاً عن مصدر استخباراتي أميركي أن «إسرائيل شاركت في إنتاج أجهزة النداء الآلي التي انفجرت في أيدي آلاف الأشخاص في لبنان» في 17 و18 أيلول/سبتمبر الحالي. وأضافت أن «هذه العملية استغرقت أكثر من 15 عاماً من التخطيط لاختراق شبكات حزب الله». فكيف حصل الاختراق؟ 

من المعروف أن حزب الله يفرض قيوداً صارمة على استخدام الهواتف المحمولة نظراً لخطورة تعرّضها للمراقبة الإسرائيلية بشكل مُتزايد. وقد طلب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في خطاب علني له من شباط/فبراير الماضي عدم استخدام الأجهزة المحمولة في خلال هذه الفترة الحسّاسة من الحرب. وبحسب المعلومات المتداولة، فقد ترافقت هذه الاحتياطات الأمنية مع طلبية جديدة لنحو 4,000 جهاز نداء آلي طلبها حزب الله من شركة «غولد أبولو» التايوانية وكانت معظمها من طراز AR920، بحسب ما نقلت صحيفة نيويورك تايمز، كما ضُمِّنت الطلبية ثلاثة طرازات أخرى من الشركة نفسها. 

تتعدّد النظريات بشأن كيفية وضع المتفجّرات في الأجهزة. وبحسب السيناريو الأكثر ترجيحاً فقد قام عملاء إسرائيليون بحشو البطاريات بالمتفجّرات عند تصنيع الأجهزة. وتمكّنوا من ذلك بواسطة شركات وهمية حصلت على ترخيص باستخدام تكنولوجيا أجهزة النداء الآلي من الشركة التايوانية. وبحسب تقرير للقناة 12 الإسرائيلية، تمّ «إنتاج عشرات الآلاف من أجهزة النداء الآلي على اعتبار أنها سوف تخضع للفحص الدقيق من قبل حزب الله». وبحسب رونين بيرغمان، مراسل تحقيقات في صحيفتي «نيويورك تايمز» و«يديعوت أحرونوت»، صُنعت أجهزة النداء الآلي «لتعمل على نحو سليم من دون ان تظهر أي مؤشّرات على احتوائها متفجّرات. ولذلك كان لا بدّ أن يكون شكلها ووزنها ثابتين، وأن تكون قادرة على اجتياز آلات الكشف والكلاب البوليسية».

انطلقت العملية من عدم قدرة حزب الله على إجراء عمليات شراء في السوق المفتوحة بسبب مخاوف المورّدين من العقوبات الأميركية، وبالتالي اضطراره للعمل مع المورّدين الوسطاء. وتبيّن المعطيات المتوافرة أن تنفيذ مُخطّط الهجوم بدأ منذ أكثر من عامين، في أقل تقدير، مع تأسيس شركات واجهة للاستخبارات الإسرائيلية من أجل إنتاج أجهزة النداء الآلي التي سوف يستوردها حزب الله لاحقاً. وبحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، فقد تأسّست «ثلاث شركات وهمية لإخفاء الهويات الحقيقية للأشخاص الذين يصنعون أجهزة النداء الآلي، وهم ضباط استخبارات إسرائيليون». وقد انكشف منها حتّى الآن شركتان: واحدة مجرية وهي BAC Consulting KFT والثانية بلغارية وهي Norta Global LTD.

تبيّن أن نشاط الشركتين المشبوهتين شبيه بأسلوب عمل الـShell Company، بمعنى أن مجال عملهما مجهول، وتأسّستا لغاية مُحدّدة، وفي هذه الحالة تفخيخ أجهزة حزب الله وتسهيل العملية الإرهابية في لبنان

بعد ساعات من الانفجارات التي قتلت وأصابت المئات في خلال وجودهم في المحال التجارية، وإيصال أولادهم إلى المدارس، وأثناء قيادة سيّاراتهم والتنقّل في الشوارع الآمنة، أصدرت شركة «غولد أبولو»، بياناً لإبعاد الشبهات عنها، وقالت فيه إنها «لم تنتج أجهزة النداء الآلي التي كان يستخدمها عناصر في حزب الله»، وأشارت الشركة التايوانية، التي كانت تُهيمن في وقت من الأوقات على سوق أجهزة النداء الآلي، ويقال إنها كانت تزوّد مكتب التحقيقات الفيدرالي بهذه الأجهزة، إلا أن «تصميم المنتج وتصنيعه هو من مسؤولية BAC Consulting KFT في المجر، التي لديها ترخيص باستخدام العلامة التجارية لـ«غولد أبولو» بموجب عقد لمدّة ثلاث سنوات». لكن هذه المعلومات نفاها المتحدّث باسم الحكومة المجرية، زولتان كوفاكس، وقال إن الأجهزة لم تكن في بلاده، وإن شركة BAC المشتبه بها هي مجرّد وسيط تجاري، وليس لها موقع تصنيع في المجر. كما كشف موقع Telex المجري، معلومات عن شركة Norta Global LTD تفيد بأنه كان لها دور أساسي في العملية، قضى بشراء الأجهزة من تايوان وإرسالها إلى حزب الله، فيما أدّت شركة BAC المجرية دوراً وسيطاً.

في نيسان/أبريل من العام 2022، تأسّست شركة Norta Global LTD في بلغاريا، وبعدها بشهر واحد في أيار/مايو 2022، تأسّست شركة BAC Consulting KFT في المجر. وقد تبيّن حتى الآن أن نشاط الشركتين المشبوهتين شبيه بأسلوب عمل الـShell Company، بمعنى أنهما شركتان لا تملكان أصولاً، ومجال عملهما مجهول، وتأسّستا لغاية مُحدّدة، وفي هذه الحالة تفخيخ أجهزة حزب الله وتسهيل العملية الإرهابية في لبنان. 

ونتيجة التحقيقات الاستقصائية، تبيّن أن مقرّ BAC هو نفسه مقرّ لـ 6 شركات أخرى على الأقل، وقد أغلق موقعها الإلكتروني تزامناً مع بروز اسمها وسط الاتهامات، علماً أن لديها موظّف واحد فقط، ولم تنفق أي أموال على رواتب الموظّفين، فيما زاد رأس مالها في عامين بنحو 307% تقريباً وفقاً لسجّلات الشركة الصادرة عن وزارة العدل المجرية. وبحسب مصادر «نيويورك تايمز»، فقد تعاملت شركة BAC مع عملاء عاديين كنوع من التمويه، وأنتجت لهم مجموعة من أجهزة النداء العادية، أمّا طلبية حزب الله فقد أنتجت بشكل مُنفصل وزوّدت ببطاريات مملوءة بمادة PETN المتفجّرة. وتفيد أيضاً أن شحن أجهزة النداء الآلي إلى لبنان بدأ في صيف العام 2022 بأعداد صغيرة، ومن ثمّ تسارعت عمليات الإنتاج والتصدير بعد أن ندّد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بالهواتف المحمولة.

وبحسب إيكاد، شغلت الرئيسة التنفيذية لشركة BAC، الإيطالية كريستيانا بارسوني أرسيدياكونو، مناصب عدّة في أوروبا، وعملت بين عامي 2007 و2009 لصالح شركة مقاولات دفاعية برازيلية اسمها GESPI، أي أن لديها مجال عمل سابق في شركات تتعلّق بالأسلحة والدفاع. ومن ثمّ استحوذت شركة «رافائيل» الإسرائيلية جزئياً على الشركة البرازيلية منذ العام 2012. أمّا بالنسبة لشركة Norta البلغارية التي ورد اسمها مع شركة BAC، فقد تبيّن أنها تملك طريقة عمل مشبوهة مُشابهة: عنوانها في صوفيا هو نفسه عنوان لنحو 196 شركة أخرى، وتتركّز أنشطتها في مجال التكنولوجيا، ولا تعترف بعدد موظّفيها، ولا تنشر أي منشور على فايسبوك منذ سنوات، ولا تتيح أي معلومة تسمح بالتواصل السهل معها كأي شركة أخرى، ولا تملك سجّلاً رسمياً في موقع السجل التجاري البلغاري، ولا في بيانات البوابة الرسمية للمعلومات المفتوحة التابعة للحكومة البلغارية. وقد كشفت وسائل إعلامية أن رينسون يوسي، الذي يملك الشركة البلغارية اختفى في يوم تفجيرها في لبنان. وبحسب صحيفة «ديلي ميل»، ولِد يوسي في الهند ويحمل الجنسية النرويجية، وبحسب ملفه الشخصي على موقع Founders Nation، وهو موقع يربط روّاد الأعمال بالشركات الناشئة الإسرائيلية، فهو «مطوّر أعمال ذو عقلية ريادية يبحث عن مؤسّس مشارك أو أشخاص ذوي تفكير مماثل لبدء مشروع». وقالت «ديلي ميل» إن إحدى شركاء الموقع المذكور هي جمعية «مرام» التي أنشأها قادة سابقون لوحدة النخبة السيبرانية في الجيش الإسرائيلي للمساعدة في العثور على جيل جديد من المواهب التكنولوجية.

أمس، انضمّت السلطات النرويجية إلى الدول التي تحقّق بالعمليات، وفتحت تحقيقاً  في تورّط مواطنها في القضية وفق ما أفادت رويترز. وقال هاريس هرينوفيتشا، المحامي في الشرطة الأمنية، إن «الشرطة الأمنية بدأت تحقيقاً أولياً لتحديد ما إذا كان هناك ما يستدعي بدء تحقيق شامل على أساس ما ورد في وسائل إعلام عن أن شركة مملوكة لجهة نرويجية ضالعة في إرسال أجهزة النداء الآلي الخاصة بحزب الله». كما أعلنت تايوان اليوم عن استجواب 4 شهود في القضية حتى الآن، من ضمنهم موظف حالي وآخر سابق في شركة «غولد أبولو» من دون كشف المزيد من التفاصيل. 

قلقٌ أينما كان 

ما جرى يدفع إلى القلق. صحيح أن المعلومات عن العملية لا تصنّفها كهجوم سيبراني، إلا أنها رسمت أحد صوره، وأعطتنا مثالاً عمّا يمكن أن تنتجه العقول الإجرامية وآلات القتل العسكرية والقمعية. 

في الخيال العلمي، يجري تصوّر برمجيات خبيثة قادرة على تحويل مكوّنات أجهزة كثيرة إلى متفجّرات. وفي التطوّر التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، يجري تصوّر جنود آليين ومُسيّرات وكاميرات تلاحق أشخاص وتقتلهم. نحن نعيش الآن في هذا العالم. وإذا كانت إسرائيل قادرة على فعل ذلك، يمكن توقّع أن دولاً وأجهزة ومنظّمات وأفراد كثر في العالم قادرون على القيام بالأمر نفسه، وبأشكال وأحجام وطرق عمل وتقنيات مختلفة ومتنوّعة.

إذا احتسبنا الدول التي تخشى ذلك سوف نحصل على نسبة كبيرة من مسارات التجارة سوف تعيش في قلق دائم وريبة

في ظل العولمة التجارية، ليس بيدنا الآن أن نجزم تورّط اليابان أو تايوان أو المجر أو بلغاريا أو «غولد أبولو» او «أيكوم» بطرق مباشرة أو غير مباشرة. لكن الأكيد أن هذه العملية سوف تؤثر على الثقة بدول وشركات تبعاً لمواقعها على جبهات الصراعات والمنافسات. وقد يجري الردّ على هذه المخاطر بتعقيد عمليات الاستيراد والتصدير بما يتناقض مع أيديولوجيا التجارة الحرّة وإزالة الحواجز من أمامها.

وبالفعل، بعد الانفجارات المُتزامنة في لبنان، سارعت شركة طيران الشرق الأوسط إلى منع إدخال الأجهزة الشبيهة بأجهزة النداء الآلي وأجهزة اللاسلكي على طائراتها، وحذّر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حكومته ومواطنيه من قبول الأجهزة الإلكترونية كهدايا لعيد الميلاد، فيما أكّد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على أهمّية فحص الواردات الإلكترونية بدقّة قبل دخولها البلاد، وقال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن إنشاء وكالة للأمن السيبراني هو أولى الأولويات التركية الراهنة، وأن بلاده تراجع التدابير لتأمين أجهزة الاتصالات المُستخدمة من قواها المسلّحة.

لا شك أن دول مثل إيران وسوريا والعراق واليمن والسودان روسيا وأوكرانيا وفنزويلا وكوبا، أي الدول «المغضوب عليها» من الولايات المتّحدة وحلفائها، سوف تتّخذ المزيد من الإجراءات لمنع استهدافها أو استهداف منظّمات فيها، وإذا احتسبنا الدول التي تخشى ذلك سوف نحصل على نسبة كبيرة من مسارات التجارة سوف تعيش في قلق دائم وريبة، على غرار ما حصل عندما فرضت الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي تجميد الأصول الأجنبية للمصرف المركزي الروسي، ما دفع دول كثيرة ومهمّة في النظام الاقتصادي العالمي إلى تنويع محافظها واحتياطياتها الأجنبية بأصول وعملات غير الدولار الأميركي واليورو الأوروبي والين الياباني.

ومن المؤكّد أيضاً أن تداعيات هذه الانفجارات لن تنحصر بالدول التي تعتبرها الولايات المتّحدة وحلفاؤها معادية لها، بل سوف تجبر الحكومات الحليفة والشركات المُصنّعة وشركات النقل على إعادة النظر في أمن سلاسل التوريد الخاصّة بها. يقول موقع Politico إن الانفجارات المُتزامنة في لبنان «هي نموذج عن شكل العداوة المستقبلية، وكيفية تسليح سلاسل التوريد المعقّدة والغامضة، التي تمرّر السلع المستخدمة يومياً عبر مجموعة من الأشكال والبلدان وصولاً إلى المتاجر. وبالتالي، قد يدفع ذلك الشركات إلى إعادة النظر فيما إذا كانت خطوط الإمداد والمرافق الخاصّة بها آمنة، لا سيما أن هذه الأحداث قد تحفّز الحكومات على فرض المزيد من القيود على تدفّق السلع التكنولوجية، كما قد تشجّع الشركات على نقل صناعاتها إلى البلدان الأم أو إلى دول ثالثة صديقة». 

تفكيك العولمة التجارية؟ 

بعد العملية الإرهابية التي نفّذتها إسرائيل في لبنان وراح ضحيتها مدنيون في خلال تأدية أعمالهم ونشاطاتهم اليومية الروتينية، عاد إلى الواجهة حديث مفتوح منذ بضعة سنوات في الدوائر الغربية عن العودة إلى سياسات التصنيع الوطنية في محاولة للتصدّي للصعود الاقتصادي الصيني. وعليه، أصبحت فكرة الاعتماد على سلسلة توريد عالمية مُتماسكة أقل قبولاً سواء من منظور الأمن القومي أو التفوّق الاقتصادي. 

اندفعت مراكز القوى العالمية إلى البحث في إمكانية فكفكة سلاسل توريد بعض السلع الحيوية، وخصوصاً التي تمسّ الأمن القومي، وإعادة عملية إنتاجها إلى داخل البلدان أو إلى بلدان صديقة وحليفة

وفي السنوات الأخيرة، انضمّت دول أخرى تسعى إلى تعزيز مواقعها والتفلّت من أداة التطويع الغربية، لا سيما بعد افتتاح الولايات المتّحدة وحلفاؤها سياسة «تسليح سلاسل التوريد» ضدّ الأخصام كإجراء للضغط والعقاب. وهذه هي الحال بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والردّ عليه بتسليح الشبكات التي تربط الاقتصاد العالمي بعضها ببعض، إذ حُرِمت المصارف الروسية الرئيسة من الوصول إلى الدولار الأميركي والاحتياطيات الأجنبية ونظام السويفت، ومَنعت الولايات المتّحدة وحلفاؤها تصدير أشباه الموصلات إلى قطاعي التكنولوجيا والدفاع في روسيا، فضلاً عن البرمجيات ومعدّات تكرير النفط والغاز وغيرها من السلع. وهي الإجراءات نفسها التي سبق تطبيقها ضدّ سوريا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا والعراق وغيرها.

وإلى ذلك، برز نقاش مماثل بعدما كشفت جائحة كوفيد-19 عن الهشاشة المتأصّلة في سلاسل التوريد الطويلة والمُعقّدة. فمع بدء إغلاق الحدود لضبط تفشّي الجائحة، اكتشفت الاقتصادات الوطنية في جميع أنحاء العالم معاناتها من نقص حادّ في سلاسل التوريد اللازمة لإنتاج المنتجات الأساسية لاقتصاداتها وتوزيعها واحتواء الجائحة، بدءاً من اللقاحات إلى الإمدادات الطبّية، إلى المكوّنات الأساسية مثل أشباه الموصلات ومجموعة واسعة من التقنيات التي تعتمد على أشباه الموصلات. 

وعليه، اندفعت مراكز القوى العالمية إلى البحث في إمكانية فكفكة سلاسل توريد بعض السلع الحيوية، وخصوصاً التي تمسّ الأمن القومي، وإعادة عملية إنتاجها إلى داخل البلدان أو إلى بلدان صديقة وحليفة. واليوم يتجدّد الحديث عن إجراءات مُماثلة، لا من باب قطع الطريق أمام الخصوم من استخدام سلع معيّنة لتطويعهم فحسب، أو التحوّل نحو سياسات تصنيع وطنية لضمان أمن البلدان في أوقات تفشّي الأوبئة أو الأزمات فقط، بل أيضاً خوفاً من استخدام هذه السلع في أعمال إرهابية أسوة بما حصل في لبنان. 

على مدى عقود من الزمان، افترض صنّاع السياسات أن الإنتاج والأسواق المالية قادرة على رعاية نفسها بنفسها، مع القليل من الإشراف من جانب الدولة وهيئاتها التنظيمية. لكن اليوم، يتبيّن أكثر وأكثر أن هذه الافتراضات غير مجدية في عالم مأزوم وتفترسه الحروب وتستطيع فيه الأطراف المُعادية استغلال نقاط الضعف في الاقتصاد العالمي كسلاح ضدّ خصومها. وبالفعل، ساهمت هذه المخاوف في ظهور إجماع جديد بين القوى الكبرى بشأن الحاجة إلى سلاسل توريد عالمية أكثر قوّة ومرونة. وهذه الكلمات الرنّانة ليست إلّا إشارة إلى عصر جديد يتميز بـ«إعادة تشكيل» الرأسمالية العالمية وسلاسل التوريد التي تدعمها، وفق مصطلحات صحيفة «ذي إيكونوميست». 

يقول الأستاذ المحاضر في جامعة جورج تاون، أبراهام نيومان، إنه «مع نهاية الحرب الباردة، بدا الأمر وكأن العولمة نجحت في ترويض سياسات القوة وبشّرت بعالم أكثر سلاماً. بدت الشبكات التي توزّع الأموال والمعلومات والإنتاج وكأنها تقاوم سيطرة الدولة، وبدا الصراع الاقتصادي غير عقلاني، على اعتبار أن مهاجمة منافس ما من شأنه أن يلحق الضرر باقتصادك أيضاً. ولكن لم يحدث ذلك. بل نحن في بداية حرب باردة جديدة، أو ربّما حرب من نوع جديد، إذ أصبحت الشبكات العالمية التي كان من المفترض أن تربط البلدان بعضها ببعض، ساحة معركة موزّعة ومعقّدة. والواقع أن القوى العظمى مثل الولايات المتّحدة تستخدم سلاسل التوريد كأسلحة في نزاعاتها، في حين تحاكي الدول الأصغر تكتيكاتها، وأصبحت الشركات مجرّد بيادق في ساحة المعركة». 

لا شك أن الانفجارات المُتزامنة في لبنان في 17 و18 أيلول/ سبتمبر الحالي هي غير مسبوقة بتقنياتها وحجمها وطبيعتها، ولكنها تشكّل فاتحة حرب العصر الحديث. إن تسليح السلع التي نستخدمها يومياً يشكّل اتجاهاً خطيراً، وتعتبر هذه الهجمات المتطوّرة نقطة تحوّل في الحروب وشكل الاقتصادات المستقبلية، وستكون لها آثار بعيدة المدى على كل من يريد تنفيذ هجوم مماثل، وعلى من يريد حماية نفسه من هكذا هجوم.