Preview فاتف ولبنان

تجنيد شبح «تبييض الأموال السوداء» في «الحرب»
لبنان على مقصلة مجموعة العمل المالي

يتجدّد القلق محلّياً من إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) في خلال الاجتماع الدوري للمنظّمة المزمع عقده بين 21 و25 تشرين الأول/أكتوبر المقبل. ويعني إدراج لبنان على اللائحة الرمادية أنه سوف يوضع تحت المراقبة من قِبَل هذه المجموعة إلى حين التأكّد من امتثاله للتعليمات والإملاءات، أو ما يُصطلح على تسميته «معايير مجموعة العمل المالي من أجل مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب». وإلى حين «تبييض صفحته»، قد يتجنّب بعض المستثمرين والمصارف الأجنبية التعامل مع لبنان ونظامه المصرفي خوفاً من ضغوط مُماثلة قد تمارس ضدّهم، وسوف يبقى سيف إدراجه على «اللائحة السوداء» بمثابة الشبح المخيف الذي يخيّم على الحاضر والمستقبل. 

هذه المرّة الثالثة في غضون أقل من سنتين التي يواجه فيها لبنان خطر الإدراج على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي. المرّة الأولى، كانت في أيار/مايو الماضي 2023، عندما فشل لبنان بالحصول على «غضّ نظر»، كما جرت العادة، إذ درست منظّمة «MENA FATF» التابعة لمنظّمة «FATF» ملفه، وقرّرت بتدخّل من مندوبي الولايات المتّحدة وصندوق النقد الدولي، بحسب ما أوردت جريدة «الأخبار»، نقل ملف لبنان إلى المنظّمة الأم للدراسة والتقييم. والمرّة الثانية كانت في حزيران/يونيو الماضي، حين صدر تصنيف FATF من دون إدراج اسم لبنان ضمن اللائحة، وهو ما أعاده خبراء لبنانيون إلى «سلسلة إجراءات قام بها مصرف لبنان لضبط السيولة النقدية، وإلى تعاميم أصدرها لتشجيع التعاملات المصرفية»، ولعل أبرزها التعميم رقم 165 الذي يجيز إجراء التحويلات وإصدار الشيكات بالدولار الأميركي «الفريش» عبر مقاصة داخلية في مصرف لبنان، والذي روِّج له كإحدى محاولات المصرف المركزي لضبط الاقتصاد النقدي امتثالاً للطلبات الدولية المتعلّقة بالتضييق على التدفّقات المالية التي قد تسمح بتييض الأموال أو قد يستفيد منها حزب الله. وصولاً إلى اللحظة الراهنة، التي لدى كثيرون قناعة بأنها سوف تكون «الثالثة الثابتة».

لماذا يعود التهديد بإدراج لبنان على «اللائحة الرمادية» إلى الواجهة اليوم؟ ولماذا تتزايد التكّهنات بأن القرار مُتّخذٌ سلفاً؟ 

شبح تبييض الأموال السوداء

يتزايد الحديث عن الاقتصاد النقدي في لبنان باعتباره مصدر البلايا التي علينا مواجهتها فوراً وقبل أي أمر آخر. هذا ما يوحي به المسؤولون والخبراء والمصرفيون يومياً في تصريحاتهم. في الملتقى السنوي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الذي نظّمه «اتحاد المصارف العربية» في بيروت في 22 آب/أغسطس الماضي، قال الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة - وحدة الإخبار المالي اللبنانية عبد الحفيظ منصور إن «قيمة الأموال المُحتفظة في الخزائن الخاصّة والشخصية تقدّر بنحو 5 إلى 6 مليارات دولار، ويقدّر مُجمل حجم الاقتصاد النقدي وفقاً لبعض الدراسات بنحو 11 إلى 14 مليار دولار، أي ما يوازي نصف حجم الاقتصاد حالياً». ويتابع منصور «الاقتصاد النقدي حالة غير مرغوب بها في المنظومة المالية العالمية، ولذلك هو موضوع ملاحظات وتنبيهات من مؤسّسات التمويل الدولية والمصارف المراسلة، وخصوصاً من مجموعة العمل المالي التي أفردت له حيّزاً في تقرير التقييم الصادر لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب».

ما يُفهم من كلام الأمين العام لوحدة الإخبار المالي أن الاقتصاد النقدي ليس هو المشكلة، وإنّما هو عنوان لها، ولكن يجري تضخيمه لأهداف أخرى غير الأهداف المُعلنة

ومع ذلك، يدرك منصور حقيقة أخرى تخالف ما قاله كلّياً، وهي بحسب قوله أن «استخدام النقد شائعٌ في الدول العربية، ونسبة الاقتصاد النقدي في بعض تلك الدول تقارب أو تتجاوز النسبة الحالية في لبنان. وعليه، لبنان لا ينفرد في كون نحو نصف اقتصاده يعتبر نقدياً، إلا أن الوضع العام يلقي بثقله على جوانب الحياة كافة، بما فيها تضخيم الإضاءة على أن نحو نصف الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد نقدي». 

ما يُفهم من كلام الأمين العام لوحدة الإخبار المالي أن الاقتصاد النقدي ليس هو المشكلة الكبيرة، وإنّما هو عنوان لها، ولكن يجري تضخيمه لأهداف أخرى غير الأهداف المُعلنة. 

ما هي القصّة إذاً؟ وما هو «الاقتصاد النقدي»، ولماذا يحضر بقوّة في الخطاب العام بوصفه الخطر الداهم الذي يهدِّد لبنان؟ وما هي قصّة مجموعة العمل المالي (FATF) التي يجري التهويل من خطر إدراج لبنان على لائحتها الرمادية؟ وما علاقة كلّ ذلك بالحرب الجارية الآن في غزّة وعلى الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلّة؟

يُعرّف الاقتصاد النقدي (Cash Economy) على أنه ذلك الجزء من معاملات الدفع التي تتمّ نقداً، وليس عبر التحويلات المصرفية والشيكات وبطاقات الائتمان وغيرها من وسائل الدفع الإلكترونية. وبهذا المعنى، يوجد اقتصاد نقدي في جميع دول العالم، ولكن يتفاوت حجمه بين بلد وآخر تبعاً للعوامل والظروف والأنظمة المختلفة ومستوى تطوّر هذه البلدان. وتعدّ المعاملات عبر الدفع النقدي أقل كلفة من الوسائل الأخرى وأكثر خصوصية وسرّية، فضلاً عن أنها وسيلة الدفع الوحيدة لفئات اجتماعية واسعة من الفقراء والمحرومين والمهمّشين وسكان القرى والمدن الصغيرة التي تضمحل فيها وسائل الدفع الإلكترونية.

لا يوجد حتّى الآن اقتصاد خالٍ من «الكاش»، وهذا ينطبق على لبنان. فقبل انهيار النظام المصرفي برمّته في خريف العام 2019، وتعطّل نظام الائتمان، لم يكن لدى 55% من المقيمين في لبنان، الذين تتجاوز أعمارهم 15 سنة، أي حساب لدى أي مؤسّسة مالية أو مقدّم خدمات مالية. وفي العام 2021، ارتفعت نسبة هؤلاء إلى 79%، في حين لا يزال 21% من البالغين فقط لديهم حسابات مصرفية ولكنها مقيّدة وغير نشطة. 

جبهة من جبهات الحرب 

من الواضح أن تضخيم قصّة الاقتصاد النقدي في لبنان هدفه التعمية على قصّة أخرى تجري في أروقة مجموعة العمل المالي (FATF)، حيث تمارس الولايات المتّحدة وإسرائيل والدول المُتحالفة معهما ضغوطاً كبيرة لإدراج لبنان على ما يُسمّى «اللائحة الرمادية»، وإخضاعه لمجموعة من الشروط التي تساعد في تحقيق هدف بات أكثر إلحاحاً بعد طوفان الأقصى، وهو «قطع حزب الله عن شريان حياته: البترودولارات الإيرانية»، وفق ما جاء في تقرير نشره موقع Politico. يبدو أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية أمرٌ مفروغ منه، بحسب الموقع نفسه، الذي يشير إلى أن «المعركة الحالية داخل مجموعة العمل المالي لا تتركّز على ما إذا كان ينبغي إدراج لبنان على اللائحة الرمادية أم لا، بل على الشروط التي يتعيّن عليه استيفاؤها للخروج من اللائحة بعد فترة مراجعة مدّتها عامين، وخصوصاً في ما يتّصل بدور حزب الله في النظام المصرفي في البلاد».

لا يتعلّق الأمر بتوسّع الاقتصاد النقدي وتسهيله تبييض الأموال وإنما بتضييق الخناق على حزب الله وحماس عبر إجبار الدولة اللبنانية على المشاركة في هذا العمل السياسي

يتطابق ذلك مع ما تناوله تقرير لـ«بلوم إنفست» صادر في آذار/مارس الماضي، ويعيد فيه «زيارة نائب مساعد وزير الخزانة لشؤون آسيا والشرق الأوسط في مكتب مكافحة تمويل الإرهاب والجرائم المالية، جيسي بيكر، إلى لبنان في 7 و8 مارس/آذار الماضي، إلى رسالة حَمَلها إلى الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف التجارية بشأن تمويل الإرهاب». وبحسب ما ينقل تقرير «بلوم إنفست» فإن مسؤولي وزارة الخزانة الأميركية «يشعرون بالقلق إزاء شركات الخدمات المالية غير المشروعة الكبرى في لبنان، ومن اقتصاد نقدي يمثّل نحو 46% من الناتج المحلي الإجمالي للبنان وفقاً لتقديرات البنك الدولي، والذي قد يخدم تمويل حماس وحزب الله المُدرجين على القائمة السوداء لوزارة الخزانة الأميركية». 

وينقل موقع Politico عن مسؤولين مُطّلعين على تحقيق مجموعة العمل المالي إن «لبنان عبارة عن قضية غالباً ما تفتح ومن ثمّ تغلق بالنظر إلى مدى فظاعة الأدلّة المتوافرة على عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي تجري فيه. ولكن التطوّرات الأخيرة في الشرق الأوسط عقّدت الأمور، كما أن نفوذ حزب الله في لبنان يعني أن حكومة لبنان المركزية عاجزة عن فرض أبسط معايير غسل الأموال الدولية. ولذلك يخشى دبلوماسيون غربيون من أنه إذا لم تضغط مجموعة العمل المالي، لن يستطيع لبنان اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ مصادر تدفق الأموال إلى حزب الله من إيران». 

وتشير مصادر politico إلى «قناة رئيسة لتمويل حزب الله، وهي شركة مالية تُعرف بجمعية القرض الحسن، تعمل كمصرف فعلي، ويعتمد عليها حزب الله لدفع رواتب جنوده وغيرهم من المسؤولين، فضلاً عن تقديم الخدمات المصرفية للمجتمعات المحلّية». وبحسب Politico، «وسّع القرض الحسن عمليّاته في ظل الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي عانى منها لبنان في السنوات الأخيرة، وأصبح واحداً من أكبر «المصارف» في لبنان مع ودائع تُقدّر بمليارات الدولارات. لكن ما يميِّز القرض الحسن عن غيره من المصارف اللبنانية هو أنه غير منظّم ولا يمتلك حتى ترخيصاً مصرفياً، عدا عن تصنيفه من الحكومة اللبنانية كمنظّمة غير ربحية لا تدفع ضرائب». 

تصف الحكومة الأميركية «القرض الحسن»، الذي أدرجته على قائمة العقوبات في العام 2007، بـ«الغطاء لإدارة الأنشطة المالية لحزب الله والوصول إلى النظام المالي الدولي». ولكن مصادر Politico تقول إن مجموعة العمل المالي «لم تجد أن التصنيف الأميركي قد نجح في عرقلة أعمال القرض الحسن في لبنان، أو الشرق الأوسط. لا بل أن أنشطته عبر الحدود أصبحت أسهل بعد القرار الذي اتّخذته جامعة الدول العربية في حزيران/يونيو الماضي بالتوقّف عن الإشارة إلى حزب الله باعتباره منظّمة إرهابية».

إذاً، ووفق هذه التقارير، لا يتعلّق الأمر بتوسّع الاقتصاد النقدي وتسهيله تبييض الأموال غير المشروعة وإنما بتضييق الخناق على حزب الله وحماس عبر إجبار الدولة اللبنانية على المشاركة في هذا العمل السياسي. وهذا ليس تفصيلاً، فالقناعة الراسخة في لبنان أن تبييض الأموال السوداء، الناتجة من الجرائم المالية والفساد والتهرّب الضريبي والتجارة غير المشروعة، لا تبدو أنها محور اهتمام مجموعة العمل المالي وتركيزها وإنما إخضاع الدولة اللبنانية وتطويعها في الحرب على حزب الله أو من تصنّفهم الإدارة الأميركية في لوائح الإرهاب والعقوبات.

وربّما نحتاج أكثر لفهم ماهية مجموعة العمل المالي، وإن كانت فعلاً إطاراً تقنياً مُحايداً.   

إن إمعان النظر في بنية المجموعة وتركيبتها ووظائفها ومهامها ووسائلها يجعل مقاربة التهديد بوضع لبنان على اللائحة الرمادية محكومة بالجانب السياسي أكثر من الجانب التقني. بمعنى، أن حقيقة تفشّي الفساد والجريمة وتبييض الأموال في الواقع اللبناني لا يبرّر تجاهل الوظيفة السياسية للمجموعة وتأثيرها على الأوضاع الداخلية.

أداة للتطويع والهيمنة

تأسّست مجموعة العمل المالي في العام 1989 من قِبَل دول مجموعة السبع، ومقرّها في باريس، وأوكلت إليها مسؤولية تنسيق العمل العالمي في مجال مكافحة غسل الأموال الذي ارتبط بداية بـ«الحرب على المخدّرات». وبعد عام من تأسيسها، نشرت مجموعة العمل المالي في العام 1990 نحو 40 توصية للدول لتحسين أنظمتها القانونية والتنظيمية المتعلّقة بغسل الأموال. وأصبحت هذه التوصيات أساس عمل المجموعة. ولكن بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، دفعت الولايات المتحدة باتجاه توسيع نطاق عمل المجموعة وتفعيله لتصبح أداة رئيسة في «مكافحة تمويل الإرهاب»، أو ما سمّته الإدارة الأميركية «الحرب على الإرهاب». وفي العام 2012، في مواجهة صعود بلدان في الشرق والجنوب، سارعت مجموعة العمل المالي لنشر «معايير منقّحة»، بضغط اميركي، أضافت بموجبها مهمّة ثالثة إلى مهامها تقضي بالعمل على «منع انتشار أسلحة الدمار الشامل (الصواريخ الباليستية)». وبحسب ما يرد في الكثير من الأدبيات، «لم يكن لهذه المجالات المضافة (تمويل الإرهاب ومنع انتشار الأسلحة) أي علاقة بالجرائم المالية، بل عبّرت عن هدف واحد وهو وقف تدفّق الأموال إلى الكيانات التي تصنّفها الولايات المتحدة والقوى الكبرى إرهابية أو مارقة»، وبالتالي «استُخدمت مجموعة العمل المالي لترسيخ نظام قائم على التهديد بالعقاب والتطويع بموجب معايير وتصنيفات تقنية وغير واضحة وفضفاضة ولا تمّت إلى الجرائم المالية بصلة».

استُخدمت مجموعة العمل المالي لترسيخ نظام قائم على التهديد بالعقاب والتطويع بموجب معايير وتصنيفات تقنية وغير واضحة وفضفاضة ولا تمّت إلى الجرائم المالية بصلة

عند تأسيس المجموعة، ضمّت 16 عضواً غالبيتها من الدول المُرتفعة الدخل، ومن ضمنها المفوّضية الأوروبية. أما حالياً فهي تضمّ 39 عضواً من بينها إسرائيل والسعودية ومجلس التعاون الخليجي والمفوّضية الأوروبية. والمجموعة ليست هيئة تقريرية وتنفيذية وتوصياتها ليست ملزمة للدول، ولكن إمساكها من الولايات المتّحدة التي تتحكّم بالنظام المالي العالمي وتفرض الامتثال لمعاييرها أعطاها قوّة تنفيذية كبيرة، ولا سيما بفعل التهديد بإدراج الدول غير المُمتثلة لتوصياتها على واحدة من لائحتيها الرمادية أو السوداء. وبالفعل، تشير الكثير من التقارير إلى امتثال أكثر من 190 دولة على الأقل لتوصيات مجموعة العمل المالي، التي تحتل مكانة لا جدال فيها كجهة أساسية تؤدّي دوراً حاسماً في تصميم المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والإشراف على تنفيذها. 

وعلى العكس من بعض المنظّمات الدولية التي تقتصر على وضع التوصيات، تشارك مجموعة العمل المالي في فرض معاييرها، بحسب ما تورد الأدبيات التي تبحث في دورها. إذ تضع المجموعة «ما تراه مناسباً كمعايير دولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومن ثمّ تقيّم الدول الأعضاء وغير الأعضاء فيها على أدائها في جميع هذه المعايير، سواء من حيث امتثالها الفنّي أو فعاليتها في تنفيذ الإجراءات، كما تشارك في عمليات متابعة مٍنتظمة لإصدار تقارير». وعلى الرغم من أن الدول غير الأعضاء ليست ملزمة بعمل المجموعة، لكنها «تمتثل لمعاييرها خشية إقصائها عن النظام المالي العالمي». 

لقد كتب الباحثون في نظرية الامتثال الكثير عن طبيعة هذه التوصيات والمعايير، وخلَصوا إلى أن مجموعة العمل المالي هي أداة «للسيطرة والهيمنة، فهي تُجبر غالبية الدول على التصرّف بما يخدم مصالح أقلية منها، لا سيّما أن تكوين الدول الأعضاء مُنحرف لصالح القوى المالية العظمى مثل الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي». كما انتقدت مجموعة أخرى من الباحثين، يقودها في الغالب المجتمع المدني، الحكومات، سواء الاستبدادية أو الديموقراطية، التي وسّعت نطاق تشريعاتها تحت ذريعة الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي، واستخدمتها للادعاء على أفراد وكيانات بتهم غسل الأموال ودعم الإرهاب، ومن الأمثلة الفاقعة، أوغندا وصربيا وتركيا والهند، بحسب تحقيق نشرته رويترز، ما دفع منظّمة العفو الدولية إلى اعتبار «مكافحة الإرهاب سلاحاً للهيمنة».

دور السياسة في التصنيف

ومن الآليات الأكثر شهرة في عمل المجموعة هي نشرها لائحة رمادية «للولايات القضائية غير المُمتثلة»، ولائحة سوداء «للولايات القضائية الخاضعة للمراقبة المتزايدة». وفي حين تحتفظ كوريا الشمالية وإيران بمكان شبه دائم على القائمة السوداء، بسبب ما تعتبره مجموعة العمل المالي «عيوباً استراتيجية خطيرة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل»، وقد انضمّت إليهما مؤخراً ميانمار، تتقلّب اللائحة الرمادية، التي تحدّد حالياً 21 دولة، مثل سوريا وجنوب السودان وفيتنام واليمن وفنزويلا وموناكو. واللافت أن الدول الموجودة على هذه اللائحة هي من «صنف واحد» من المنظور الغربي. 

عندما تدرج دولة ما على لائحة رمادية يكون الأمر مقروناً بجدول من الشروط على الدولة تنفيذها لإخراجها من اللائحة بمرور الوقت. ولكنها قد تبقى لوقت طويل فيها في حال عدم الاستجابة للشروط ما يهدّد بنقلها إلى اللائحة السوداء. وبمجرّد إدراج دولة ما على اللائحة السوداء تفرض عليها العقوبات فوراً، إذ تقطع علاقاتها مع القطاع المصرفي العالمي، وتقيّد العلاقات التجارية والمعاملات المالية مع أشخاص في الدولة المعنية أو حتى مع الدولة بمجملها.

الشروط المطلوبة من إيران تقضي بـ «وقف تمويل الجماعات التي تحاول إنهاء الاحتلال الأجنبي والاستعمار والعنصرية»

تعتبر هاتان اللائحتان من الآليات الأكثر إشكالية في مجموعة العمل المالي، نظراً إلى عدم وضوح آلية اتخاذ القرارات التي تقضي بإدارج دولة ما على اللائحة أو إزالتها منها، والتي تعتبر في غالبية الأحيان سياسية. على سبيل المثال، في شباط/فبراير الماضي، أزالت مجموعة العمل المالي الإمارات عن اللائحة الرمادية، وبعدها بشهرين فقط نشرت منظّمة OCCRP تحقيقاً بعنوان «مفاتيح دبي» (Dubai Unlocked) يكشف كيف تجري عمليات غسل الأموال في دبي عبر شراء العقارات، وأن المتهمين المزعومين يأتون من جميع أنحاء العالم إلى دبي لتبييض أموالهم، مستفيدين من معدّلات الضرائب المنخفضة والغموض المالي. وهو ما أثار الكثير من الانتقادات بشأن المعايير التي حكمت اتخاذ قرار إزالة الإمارات عن اللائحة على الرغم من عمليات غسل الأموال فيها. 

والواقع، أن تقديرات مكتب الأمم المتّحدة المعني بالمخدّرات والجريمة لحجم «الأموال المغسولة» على المستوى العالمي تتراوح بين 2% و5% من الناتج العالمي الإجمالي، أي ما بين 800 مليار دولار و2 تريليون دولار بأسعار العام 2024. ما يطرح المزيد من التساؤلات عن إدراج ثلاث دول فقط على اللائحة السوداء، وما إذا كان العقاب المفروض عليها لا يتعلّق بغسل الأموال أصلاً. 

في الواقع، تضع مجموعة العمل المالي كوريا الشمالية على اللائحة السوداء وترفض إزالتها منها لمزاعم «بأن كوريا الشمالية لم تضع أي قوانين فيما يتعلّق بالحدّ من انتشار الأسلحة»، أما إيران فهي موجودة على اللائحة نفسها «لفشلها في سنّ اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الجريمة المنظّمة (باليرمو) وتمويل الإرهاب بما يتماشى مع معايير مجموعة العمل المالي»، كما يرد على الموقع الرسمي للمجموعة، فالشروط المطلوبة من إيران تقضي بـ «تجريم تمويل الإرهاب بما يتناسب مع معايير مجموعة العمل المالي، على أن يتضمّن ذلك وقف الإعفاء الذي تتمتع به الجماعات التي تحاول إنهاء الاحتلال الأجنبي والاستعمار والعنصرية». وتقول المجموعة إن إيران «سوف تظل على اللائحة إلى حين امتناعها عن ذلك». واللافت في حالة إيران، أن مجموعة العمل المالي، بحسب ما يرد على موقعها، قد «رحّبت بالتزام إيران بمعالجة أوجه القصور الإستراتيجية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب». كان ذلك في العام 2016 بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة. ولكنها عادت إلى توبيخ إيران اعتباراً من العام 2019، لقصورها في تجريم تمويل الإرهاب استجابة للقرار الأميركي بإلغاء الاتفاق النووي.

لبنان وخطر اللائحة الرمادية

في حال أدرِج لبنان على اللائحة الرمادية في تشرين الأول/أكتوبر المقبل، فهذه لن تكون المرّة الأولى. يقول حاكم مصرف بالإنابة وسيم منصوري إن «لبنان وُضع على اللائحة الرمادية في العام 2000 بسبب قانون السرّية المصرفية الذي كان يعيق عمل التحقيقات الدولية، فضلاً عن عدم وجود قانون مستقلّ لمكافحة تبييض الأموال (آنذاك)، ومن ثمّ أخرِج منها في العام 2002، بعد اتخاذه جميع الإجراءات اللازمة، ابتداءً من إقرار قانون لمكافحة تبييض الأموال يستند الى توصيات مجموعة العمل المالي، مروراً بوضع إطار تنظيمي متكامل، وإنشاء هيئة تحقيق خاصّة تُعنى بمكافحة تبييض الأموال، وصولاً إلى التعاون والتنسيق لتحديد المسؤوليّات وتوزيع الأدوار على مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية المعنية، كلّ  بحسب صلاحياته». 

تجسّد تجربة لبنان مع اللائحة الرمادية دليلاً على تحرّك مجموعة العمل المالي بعيداً من أهدافها المُعلنة، فقد وافقت المجموعة في العام 2002 على إزالة لبنان من اللائحة في ظل موجة دعم غربي للحكومة اللبنانية، ولم تُرفَع السرّية المصرفية عن الأموال الناتجة عن جرائم مالية أمام السلطات المحلّية، وإنّما بقيت مفروضة باستثناء إمكانية الوصول إلى المعلومات التي تطلبها الإدارات الأميركية والأوروبية، وبالتالي تحوّلت هيئة التحقيق الخاصّة إلى مجرّد أداة من أدوات تنفيذ أوامر الامتثال الأميركية ولوائح العقوبات.

يعترف حاكم مصرف لبنان بالانابة، وسيم منصوري، أن «لبنان يخضع، مثله مثل البلدان المجاورة، لمزيد من التدقيق من المجتمع الدولي، ولا سيما الأميركي والأوروبي». ما يعنيه منصوري أن القرار سياسي يتعلّق بالصراعات الإقليمية، ولتأكيد هذا البعد السياسي، يشرح أن «المصرف المركزي يصدر التعاميم اللازمة ضمن صلاحيّاته بما فيها تعديلات على نظام مراقبة العمليات المالية والمصرفية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويقترح على الحكومة إجراء تعديلات على القوانين السارية وإقرار قوانين جديدة، ليبقى لبنان مندمجاً في النظام المالي العالمي»، ولكن، وفق تأويل هذه الفقرة من تصريحه، توجد شروط تتجاوز الإجراءات التقنية. 

لائحة الاتهام

في كانون الأول/ديسمبر 2023، صدر تقرير «تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب: التقييم المتبادل لجمهورية لبنان»، عن «MENA FATF»، واستند إلى زيارة ميدانية قام بها فريق المجموعة بين 18 تموز/يوليو و3 آب/أغسطس 2023. وتناول التقرير درجة امتثال لبنان بالتوصيات الأربعين لمجموعة العمل المالي ومستوى فعالية نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب فيه، كما سلّط الضوء على الفساد الحكومي والتهرّب الضريبي باعتبارها جرائم أساسية تولِّد عائدات إجرامية لغسل الأموال، وعلى الاتجار غير المشروع بالمخدرات، والجرائم الإلكترونية، والتهديدات الناشئة مثل التهريب إلى دول أخرى. 

المعركة الحالية داخل مجموعة العمل المالي لا تتركّز على ما إذا كان ينبغي إدراج لبنان على اللائحة الرمادية أم لا، بل على الشروط التي يتعيّن عليه استيفاؤها للخروج من اللائحة

ولكن، كان لافتاً أن لبنان حاز في هذا التقييم على درجات من فئة «ملتزم» أو «ملتزم إلى حدّ كبير» في 34 توصية من أصل 40 توصية تعتمدها المجموعة. وخلص التقرير إلى: أولاً، وجود قصور في القوانين المرعية الإجراء لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. فقانون مكافحة غسل الأموال الصادر في العام 2015 لا يغطّي كلّ الجرائم المرتبطة بغسل الأموال، كما أن العقوبات التي ينصّ عليها ليست رادعة ولا تتلاءم مع حجم الجرم. ثانياً، وجود قصور في القدرة على التنفيذ الفعّال لهذه القوانين بسبب نقص الموارد المخصّصة للتحقيق في الجرائم المالية والافتقاد لسياسات واضحة لتحديد عائدات الجريمة وتجميدها ومصادرتها، فضلاً عن عدم سعي القضاء إلى مصادرة هذه العائدات الجرمية. ثالثاً، وجود قصور في معالجة تدابير إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يغذّي اقتصاد النقد ويخلق فرصاً للأنشطة غير المشروعة، فضلاً عن تنامي نشاط شركات تحويل الأموال المحكوم بضوابط مرنة تسهّل غسل الأموال. ورابعاً، وجود قصور في فهم المخاطر الناجمة عن أنشطة «منظّمة شبه عسكرية محلّية بارزة» (في إشارة إلى حزب الله من دون تسميته)، و«خلو عمليات التفتيش التي أجرتها المديرية العامّة لمخابرات الجيش اللبناني، وشعبة المعلومات في المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي، والمديرية العامّة لأمن الدولة من أي إجراءات تأخذ بالاعتبار التهديدات المتعلّقة بالأنشطة المنظّمة للمجموعة شبه العسكرية المحليّة الرئيسة».

إذاً، تتعلّق مطالب المجموعة أو شروطها بأن تعمد الدولة اللبنانية إلى معالجة الأوضاع المصرفية واتخاذ إجراءات قانونية ضدّ حزب الله.

في السنة الماضية، شكّلت مسألة تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية نقطة خلاف داخل مجموعة العمل المالي، أدّت إلى تأخير صدور تقرير عن لبنان لمدة أشهر، ليتمّ نشره أخيراً في ديسمبر/كانون الأول. وفي النهاية، لم تسمِ الجهات التنظيمية حزب الله بالاسم، بل اكتفت بدلاً من ذلك بوصف مخفّف: «منظّمة شبه عسكرية محلّية كبرى لها سجل موثق جيّداً في ارتكاب أعمال إرهابية». وبحسب Politico من الواضح أن «تجربة 7 تشرين الأول/أكتوبر هي السبب وراء حثّ المسؤولين الأمنيين الغربيين للهيئات التنظيمية الدولية على اتباع نهج أكثر عدوانية تجاه فرض عقوبات على لبنان تشمل كيانات مُرتبطة بحزب الله».

إن المخاطر التي يتعرّض لها لبنان لا تنحصر بتداعيات إدراجه على اللائحة الرمادية، بل أيضاً في تداعيات أي محاولة للاستجابة إلى شروط المجموعة للتراجع عن هذا الإجراء. وكل ذلك، من دون أن يكون الهدف النيل من الضالعين في الجرائم المالية والفساد والاتجار غير المشروع والتهرّب الضريبي بل مكافأتهم على تعاونهم.