صفر 0 الاقتصاد في خدمة المجتمع
هيئة التحرير
نعيش في لحظة تصادم قوي بين مصالح متناقضة في الداخل وفي الخارج. تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية، وتهدّد بالمزيد من الصراعات والحروب والعسكرة والسياسات الإمبريالية والعقوبات الاقتصادية والشعبوية والتطرّف اليميني. تتعمّق التفاوتات في توزيع الدخل والثروة والموارد بوتيرة متزايدة. وتتكدّس المديونيات الضخمة على الحكومات والأسر. ويواجه المزيد من الناس الفقر والجوع والتشرّد والبطالة وانخفاض الأجور والهجرة والتدهور البيئي. يسود خوف عارم من حدوث حالة من الكساد المزمن، يصبح فيها النمو شديد التباطؤ هو القاعدة وليس الاستثناء، ويتعزّز هذا الخوف في ظلّ انخفاض معدّل نمو الإنتاجية طيلة العقدين الماضيين، وعودة الحكومات والبنوك المركزية أخيراً إلى السياسات الانكماشية، ورفع أسعار الفائدة، وزيادة كلفة التمويل، وشنّ الحرب الجديدة على الأجور والدعم والحماية الاجتماعية والإنفاق العام الاستثماري، بحجّة كبح جماح التضخّم وتخفيف الضغوط على أسعار الصرف وتصحيح اختلال التوازنات المالية والنقدية.
الأوضاع الماثلة اليوم تبدو أنها الأسوأ منذ الإعلان عن انتصار الرأسمالية النهائي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. لقد انتقل الحديث في ربع القرن الأخير من «نهاية التاريخ» إلى «نهاية العالم». وعادت النظرة «الأبوكليبسية» لتطغى بقوّة على صور الحاضر والمستقبل، من الاحتباس الحراري والجوائح الصحيّة إلى الحروب النووية.
يعيش الناس هذا الهلع يومياً في صراعهم من أجل البقاء. تفيد المسوحات الدولية أن شريحة الـ10% الأغنى من سكان العالم باتت تستأثر وحدها بأكثر من 76% من الثروة و52% من الدخل، في حين أن نصف السكّان مجموعين لا تتجاوز حصّتهم 2% من الثروة و8.5% من الدخل. وفي الوقت الذي يموت فيه شخص واحد كل أربع ثوانٍ بسبب الحرمان، ارتفعت الثروات الشخصية لأغنى عشرة أشخاص في العالم إلى 1.5 تريليون دولار، أي أكثر بست مرّات من ما يملكه أفقر 3.1 مليار شخص. ويوجد الآن نحو 2.3 مليار شخص، أو 29% من سكان العالم، يعانون من فقدان الأمن الغذائي، من ضمنهم 828 مليون شخص جائعون حرفياً. وما زال هناك 733 مليون شخص من دون كهرباء، ونحو 100 مليون شخص مشرّدين. وفي المقابل، تتراكم الديون العالمية لتبلغ أكثر من 300 تريليون دولار، أي 350% من مجمل الناتج العالمي، ويتأثّر بها بتفاوت نحو 6.3 مليار شخص، أي أكثر من 80% من سكان العالم، نتيجة إجراءات التقشّف التي تفرضها 143 دولة بحجّة الضبط المالي وضمان القدرة على تسديد الديون وإنقاذ المصارف والأسواق المالية في كل حين.
هذه الأوضاع المتدهورة بشدّة تعكس طبيعة الأزمة الأصلية الكامنة في الرأسمالية نفسها كنظام اجتماعي، حيث التراكم اللانهائي لرأس المال والمزاحمة في الأسواق يؤدّيان تاريخياً إلى الاحتكار والتركّز والعنف الاجتماعي. إلا أن ما وصلنا إليه في هذه اللحظة هو أيضاً نتاج أربعة عقود من هيمنة النيوليبرالية على حياتنا، وتحوّلها إلى ما يشبه الانقلاب على دولة الرعاية والرفاه، التي أنقذت الرأسمالية نفسها بواسطتها بعد الحرب العالمية الثانية. فما جرى منذ سبعينيات القرن الماضي، أن النيوليبرالية نجحت في التخلّص من «التنظيم الكينزي للرأسمالية»، وظهرت، وفق تعبير دايفيد هارفي، كمشروع سياسي لمراكمة الثروة، يزعم أن الطريقة الأمثل لتحسين الوضع الإنساني تكمن في الحماية الشديدة لحقوق الملكية الخاصّة وحرّية التجارة وحرّية الأسواق. وبحسب هذه النظريّة، يجب أن يقتصر دور الدولة على إقامة الهيكليّات والوظائف العسكريّة والدفاعيّة والأمنيّة والقضائيّة المطلوبة لحماية حقوق الملكيّة الفرديّة، واستخدام القوّة إن اقتضت الحاجة لضمان عمل الأسواق بالصورة الملائمة.
بهذا المعنى، نجحت النيوليبرالية إلى حدّ كبير، إذ سادت في العقود الأربعة الماضية، ولا تزال، نظريات جانب العرض وفُرِضت سياسات التكيّف الهيكلي في مواجهة كل أزمة وفي كل البلدان تقريباً، بما فيها منطقتنا. وبهذا المعنى أيضاً، يعدّ تزايد مستويات اللامساواة من أبرز علامات نجاحها، وكذلك تسخير الدولة في دعم رأس المال. فإذا كانت النيوليبرالية تعني تراكم الثروات والنفوذ في ظل حكم الأقلية، فكل الوقائع توضح أنّها حقّقت غرضها.
لذلك، لا يتعلّق هلع الناس فقط بأوضاعهم المحسوسة، التي تجعل معظمهم يائسين وفاقدي الأمل، بل يتعلّق أيضاً بالهلع المصنوع لهم بواسطة الإعلام، الذي يقوّض دفاعهم عن أنفسهم ويجعلهم مستسلمين للعلاجات بالصدمة التي تُمارس ضدهم. وهذا هو جوهر المهمّة التي يريد موقع صفر أن يساهم في التصدّي لها.
يعترف السياسيون والخبراء ورجال المال والأعمال أننا نعيش فعلاً في ظروف حرجة للغاية وخطيرة، تفرض علينا جميعاً بذل التضحيات الكبيرة لتجاوزها وتفادي هلاكنا، ولكنهم يزعمون أن لا سبيل أمامنا لبلوغ هذا الهدف سوى بجعل الفقراء أكثر فقراً والأغنياء أكثر غنى. فلكي تكون الدولة قادرة على إسعاف رأس المال دائماً وتمكينه من مواصلة التراكم وتحقيق الأرباح لمعاودة النمو الاقتصادي، يتوجب على المجتمع أن يبقى مجنّداً دائماً لتسديد الفاتورة كلّها على حساب مستوى معيشته ودخله وثروته العامّة. يقولون للناس إنهم إذا لم يفعلوا ذلك سيفقد أصحاب رأس المال الأغنياء حافز الربح للاستثمار وخلق وظائف جديدة ويتركوننا لمصيرنا القاتم في حالة «السقوط الحرّ» إلى ما لا نهاية.
قوّة هذه السردية الشائعة ليست في أنها صحيحة بل لأنها بسيطة ومخادعة، إذ يتم رمي مسؤولية الأزمات كلّها على إسراف الدولة في إنفاق المال العام وتمويل العجوزات بالدين، ولذلك يكون الحل دائماً بتخفيض هذا الإنفاق عبر التقشّف في الأجور ومعاشات التقاعد وأنظمة الحماية الاجتماعية وخصخصة الخدمات العامّة والبنية التحتية. وفي هذا السياق، يتم تركيز الاهتمام على الفساد وسوء الإدارة وعدم الكفاءة في القطاع العام، في حين أن الإسراف، إذا وُجد، فهو ناتج بالدرجة الأولى من عملية إعادة توزيع عكسية من قاعدة الهرم الطبقي إلى قمته، تحصل عبر مدفوعات الفائدة وعقود المشتريات والامتيازات والشراكات مع القطاع الخاص والإعفاءات الضريبية على الثروة والدخل، بالإضافة إلى عمليات الاستيلاء الواسعة على الموارد والأملاك العامّة والمشاعات في البرّ والبحر.
هكذا، يوضع الناس أمام خيار وحيد يشبه استبداد الأمر الواقع، فلا تُطرح أمامهم خيارات أخرى غير مجهولة، أقلّ وطأة وأكثر استجابة لحاجاتهم الفعلية. لقد حدثت انتفاضات شعبية عدّة في العقد الأخير، وكان معظمها مدفوعاً بشعور الناس العميق بالظلم والقهر وانعدام العدالة. ولكن، مع بعض الاستثناءات المحدودة، فشلت هذه الانتفاضات في تظهير بدائل للسياسات المتبعة، في حين تنجح النخب السياسية والاقتصادية، المدعومة من المؤسسات المالية الدولية وترساناتها الأيديولوجية وقدراتها المادية، في محاولاتها الحثيثة لتجديد هياكل السيطرة والاستغلال على الأسس السابقة نفسها، التي أدّت إلى انهيارها مرّات عدّة في التاريخ الحديث، والتي جعلت رأس المال في حالة دائمة تشبه «التراكم الأولي أو البدائي» القائم على التجريد والاستيلاء والسطو والسحت.
يقدّم لبنان، البلد الذي ينطلق منه موقع صفر، كاريكاتوراً متطرّفاً عن هذه الحالة، إذ يعبّر الكثير من الناس بطرق مختلفة عن اقتناعهم بأن البنى المؤسسية للدولة لا تعمل لخدمتهم بل ضدهم، وأن الاقتصاد خاضع لنظام احتكار داخلي تتحكم به قلّة من العائلات النافذة صاحبة الامتيازات على حساب مصالح الأكثرية، وأن اللامساواة تكاد تكون شاملة، طبقياً وطائفياً ومناطقياً وجندرياً وبين الأجيال، وعلى أساس الجنسية والنسب والولاء الحزبي. لقد عبّر اللبنانيون في مناسبات عدّة أنهم ما عادوا يثقون بـ «الطبقة الحاكمة» وأنهم يرغبون بالتخلّص ممن يطلقون عليها صفة «الطبقة السياسية» المتسلّطة والفاسدة والمرتهنة للخارج، وأشاروا بإصبع الاتهام إلى «الائتلاف الحاكم» الذي يتخذ شكل الأوليغارشيا، بوصفه المسؤول المباشر عن نشوء الأزمة وسوء إدارتها، ولمسوا لمس اليد استعداد هذه «الطبقة» للتضحية بهم من أجل استمرار سيطرتها والسعي إلى تجديد نفسها. إلا أن هؤلاء الناس، لأسباب كثيرة ومختلفة، يعيشون الهلع نفسه، الذي تعلّموه في كل تاريخ اجتماعهم، إلى درجة الشلل والتجمّد في مواجهة المخاطر الضخمة التي تحدّق بهم، حيث يصير «الذهاب الى جهنّم» هو البديل عن الأوضاع القائمة في حال فقدان السيطرة في الطريق نحو تغيير هذه الأوضاع.
في السنوات الثلاث الأخيرة، جُرِّدت أكثرية الأسر المقيمة في لبنان من مصادر دخلها وقدراتها الشرائيّة، وفي الوقت نفسه (بالتزامن)، جُرِّدت من مدّخراتها في البنوك وتعويضات نهاية الخدمة... جرى كلّ ذلك، في ظلّ سياسات انكماشيّة وتضخّميّة «مُتعمّدة»، وفق اتهامات البنك الدولي، وفي ظل واحدة من أشدّ الأزمات في العالم منذ خمسينيّات القرن التاسع عشر، وفي ظلّ متغيّرات جيوسياسيّة وعوامل خارجيّة ضاغطة ومثيرة للمزيد من التوتّرات والصراعات. لقد خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من سعرها في مقابل الدولار، واعترفت الحكومة بخسائر مُحقّقة في الجهاز المصرفي تعادل قيمتها 3 مرّات الناتج المحلّي الإجمالي السنوي، وانكمش الدخل الذي يُعبِّر عنه هذا الناتج إلى نصف قيمته بالأسعار الجارية للدولار في عام 2018، وتهاوى متوسّط نصيب الفرد منه إلى المستوى الذي كان عليه قبل ربع قرن، وارتفعت البطالة والهجرة والعمل اللانظامي في ظلّ نقصٍ حادٍّ في فرص العمل يعادل نصف القوى العاملة والمُحتملة، وارتفع متوسط مؤشّر أسعار الاستهلاك أكثر من 1000% منذ أيلول من عام 2019، في حين لم يرتفع متوسط الأجور بالليرة إلّا بنسبة 100%، وبات الكثير من الأسر في حالة عجز فعلي عن تكبّد كلفة الحاجات المعيشية الملحّة والضروريّة.
توجد وراء هذا الفشل في تظهير البدائل ظروفاً وعوامل داخلية وخارجية كثيرة، متشابكة ومعقّدة، موضوعية وذاتية، وبنى ومصالح وتراكمات ومصادفات... إلا أن التجربة المباشرة، التي يستند إليها موقع صفر، تبيّن أن الأسباب تكمن أيضاً في نقص الوسائل وضعف المشاركة والقصور الملحوظ في الأدب السياسي عموماً، إذ تُهمل الحقائق الاقتصادية وتُهمّش المؤشرات والإحصاءات الاقتصادية ويُطمس تأثيرها على السياسة والمجتمع والثقافة. تُترك هذه المهمة لأصحاب الاختصاص، الخبراء، كما لو أن الاقتصاد مسألة تقنية فقط، أو أن حلوله محايدة سياسياً واجتماعياً. وهو ليس كذلك إطلاقاً.
تقوم فكرة موقع صفر على فرضية أن الصحافة الاقتصادية بإمكانها أن تلعب دوراً مهمّاً ومؤثّراً كوسيلة لتحفيز الاهتمام بالاقتصاد، بوصفه ميدان صراع اجتماعي، حيث تدور القصّة الحقيقية التي يتعاون فيها المتحكّمون برأس المال والمتحكّمون بالدولة ووسائل العنف من أجل تحقيق مصالحهم الخاصّة وتبادل أدوار النهب والضبط. وتزداد أهمية الصحافة الاقتصادية في أوقات الأزمات، عندما يزداد الطلب على المعلومات التي تخبرنا عن أوضاعنا ومآلاتها، ولكنها غالباً لا تكون متاحة للعموم، أو غير مصمّمة لاستخدامات «الناس العاديين»، أو يجري تقديمها بلغات أجنبية أو كطلاسم ومصطلحات غير مفهومة. وفي كل الأحوال، يخضع نشر هذه المعلومات إلى توجيه أيديولوجي تبعاً لمصالح القوى المهيمنة ومواقعها الاجتماعية.
الاقتصاد ليس شأناً غريباً، ولا هو اختصاص كالطبّ ولا علم كالفيزياء، ويمكن تعريفه باختصار على أنه ناتج العمل الذي يقوم به كلّ المجتمع، بكلّ تشكيلاته الطبقية والجندرية أو من أي نوع كانت، وبكل علاقاته الداخلية والخارجية. وهو يشمل كل عمل بما في ذلك غير المُعترف به، الذي يقع معظمه على النساء والأطفال، أو العمل المُصنّف غير منتج أو غير قانوني أو غير شرعي أو غير أخلاقي. ويقوم الاقتصاد على بناء اجتماعي معقّد، تتصارع فيه وتتفاعل طبقات وتشكيلات اجتماعية ومهنية مختلفة، وتتراكم فيه علاقات ومصالح وحاجات وأفكار وثقافات وهويات، وبالتالي لا ينفصل الاقتصاد عن السياسة والمجتمع والثقافة، ولا يمكن التعبير عنه عبر النماذج الرياضية والمعلومات الكميّة فحسب، بل بأبعاده السياسية والاجتماعية والحقوقية والجندرية والثقافية، وفي كيفية تأثيره على عيش الناس وبيئتهم واجتماعهم وحالتهم الصحّية والنفسية والمادية.
لذلك، نريد الاشتباك مع التيّار السائد واقتصاده المُبتذل، وممارسة صحافة اقتصاديّة من الناس وللناس، مع المُستغَلّين ضد المُستغِلّين، ضدّ تسويغ إخضاع المجتمع لقوانين الاقتصاد ومصالح الطبقات المُسيطرة. صحافة تقدّمية، تبحث عن العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية والسلامة البيئية في آنٍ.
ندرك مسبقاً الصعوبات التي تعترضنا ومحدودية الموارد المتاحة لنا، ولكننا قرّرنا أن نخوض هذه التجربة لنواجه جيشاً من الإعلاميين والخبراء والأكاديميين وموظّفي المؤسّسات الدولية ورجال الأعمال والمدراء التنفيذيين، الذين، على اختلافاتهم، يسوّقون جدول أعمال واحد تقريباً: التقشّف، الخصخصة، تعويم سعر الصرف، تجميد الأجور، زيادة الضرائب على الاستهلاك لا الدخل، إلغاء الدعم، إنقاذ المصارف والدائنين، تقليص القطاع العام، وفتح المزيد من الأسواق لتراكم رأس المال الخاص على حساب تقلّص الثروة العامّة وتدهور مستوى المعيشة واستنزاف الطبيعة... إلخ.
ينطلق موقع صفر نحو صحافة اقتصاديّة تروي القصص الحقيقية للناس وتروي القصص الحقيقية عن الناس، وتحاول دائماً فكّ طلاسم الأرقام ومصالحة الناس معها، وترصد الأحداث والتطوّرات والمؤشّرات والتوقّعات وتحلّلها وتشرح الأفكار والبدائل والنظريات بقوالب بسيطة وسهلة وهادفة، ليس بوصفها «اقتصاداً صرفاً» بل اقتصاداً سياسياً واجتماعياً ونسوياً وبيئياً. صحافة منحازة إلى التغيير، الذي يحقّق قدراً أعلى باستمرار من الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية والحماية البيئية والصحيّة، وفرصاً دائمة للتقدّم والتطوّر والابتكار وإطلاق القدرات الإبداعية المكبوتة.