معاينة قراءة في زمن المجازر

قراءة في زمن المجازر

  • مراجعة لكتاب بانكاج ميشرا «العالم بعد غزّة»، الذي يرى أن غزّة ليست مجرد مأساة فلسطينية، بل لحظة كونية تكشف انهيار وهم «الإنسانية المشتركة» الذي نشأ بعد العام 1945. ويبيّن كيف تحوّلت ذاكرة المحرقة إلى معيار انتقائي يُستخدم لتقسيم البشر إلى «ضحايا جديرين» و«ضحايا فائضين»، ولتبرير عنف استعماري جديد بحق الفلسطينيين. ومن خلال استدعاء التاريخ والأدب والفلسفة، يوضح أن المثقفين والكتّاب أسهموا إمّا في شرعنة هذا المحو أو في مقاومته، فيما باتت غزّة رمزاً يتردّد صداه في الجنوب العالمي كامتداد لتجارب الاستعمار والعنصرية. المفارقة القاسية التي يركّز عليها ميشرا أن الضحايا هذه المرة يوثّقون بأنفسهم لحظة إبادتهم على الهواء مباشرة، ومع ذلك يخيّم الصمت الدولي. وهكذا تصبح غزّة كسراً في الزمن، يفرض إعادة التفكير في معنى الذاكرة والعدالة. في خضمّ مشهد عالمي غارق في الدم والخراب، تُطلّ غزة بوصفها أكثر من حرب، وأكثر من مأساة فلسطينية. إنها لحظة كاشفة لانهيار أوهام رافقت العالم منذ العام 1945، حين اعتقد كثيرون أن المحرقة النازية قد أرست معياراً مطلقاً للشرّ، وأن الإنسانية تعلّمت الدرس. غير أن صور الأطفال المحترقين تحت ركام مدارسهم، والنساء الممزّقات في شوارع رفح، والآباء الذين يحملون جثث أبنائهم أمام عدسات العالم، فجّرت سؤالاً مريراً: إذا كان القرن العشرون قد حدّد معيار الشرّ في الهولوكوست، فما الذي يكشفه القرن الحادي والعشرون حين نرى الإبادة تُبثّ مباشرة، لحظة بلحظة، من غزة، من دون أن يهتزّ العالم؟

بانكاج ميشرا، الكاتب والمفكر الهندي الذي خبر تاريخ الاستعمار وآثاره في كتبه Age of Anger وFrom the Ruins of Empire، يعود في The World After Gaza ليضع إصبعه على هذا الجرح. الكتاب ليس عن فلسطين وحدها، بل عن العالم كلّه وقد عُري من ادعاءاته الأخلاقية. يكتب ميشرا تحت وطأة «انكسار أخلاقي» دفعه إلى الاعتراف: «شعرت أنني مُجبر على كتابة هذا الكتاب، لأخفف من حيرتي المدمّرة أمام انهيار أخلاقي واسع». هذا الاندفاع ليس موقفاً عابراً، بل استجابة لحظة تاريخية يرى فيها أن غزة أصبحت مرآة كونية، اختباراً يكشف الأعطاب البنيوية في النظام الدولي، وفي الذاكرة الغربية، وفي صورة المثقف والأدب.

منذ البداية، يقدّم ميشرا أطروحته بوضوح: ما يحدث في غزة يكشف أن الضحايا ليسوا سواء. هناك «ضحايا مستحقون» للتعاطف، و«ضحايا غير مستحقين» يمكن محوهم بدم بارد. الغرب الذي صاغ ذاكرة المحرقة كمعيار للشرّ المطلق، حوّلها إلى أداة سياسية لتبرير عنف استعماري جديد. وهكذا، انقلب شعار «لن يتكرّر ذلك أبداً» إلى وعد ضيق: «لن يتكرّر ذلك على اليهود فقط». الفلسطينيون، في هذا السياق، يُتركون للموت تحت غطاء الخطاب الأمني والديني والسياسي، بينما يُتهم كل من يتجرأ على تسميته بـ«التطهير العرقي» أو «الإبادة» بمعاداة السامية.

لكن لا تكمن قوة الكتاب في التحليل السياسي فقط، بل في استدعاء ميشرا لطبقات من الذاكرة والتاريخ والأدب. فهو يبدأ من سيغموند فرويد الذي حذّر من أن الطغاة لا يصنعون المجازر وحدهم، بل تتغذّى هذه الجرائم على صمت الجماهير وتواطؤها. ومن هناك ينتقل إلى هانا أرنت التي رأت في «تفاهة الشر» مفتاحاً لفهم كيف يمكن للبشر أن يشاركوا في القتل الجماعي عبر البيروقراطية أو الطاعة أو اللامبالاة. ثم يربط ذلك كله بغزة، حيث يعيش العالم تجربة جديدة: ملايين البشر باتوا «شهوداً غير طوعيين» على جريمة تُبثّ مباشرة عبر الشاشات، ومع ذلك يتصرفون كما لو أن الأمر لا يعنيهم.

غزة ليست مجرد حرب، بل مرآة تكشف انهيار وهم «الإنسانية المشتركة» الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية. إنها اختبار عالمي، يواجه فيه الغرب إرثه الاستعماري، ويواجه فيه المثقف مسؤوليته الأخلاقية

يكتب ميشرا أن صرخات غيتو وارسو في العام 1943، والتي وصفها الشاعر تشيسواف ميلوش في قصيدته Campo dei Fiori، تتكرّر اليوم في غزة. والفرق أن تلك الصرخات لم تصل إلى أحد، أما صرخات الغزيين فهي تُبثّ حيّة، ومع ذلك تُواجه بالتجاهل نفسه. بل يعيش العالم مفارقة أكثر قسوة: يكتب الضحايا هذه المرة وصاياهم الأخيرة على تويتر، ويبثّون صور موتهم على تيك توك، ويستغيثون عبر الشاشات، ثم يموتون على الهواء. هذه هي المأساة الأخلاقية التي ينطلق منها الكتاب: للمرة الأولى في التاريخ، يقدّم ضحايا الإبادة بأنفسهم الأدلة على موتهم، لكن العالم يتفرج ولا يتدخل.

بهذا المعنى، تصبح غزة كسراً في الزمن. كما فجّرت المحرقة وعي القرن العشرين، تفجّر غزة وعي القرن الحادي والعشرين. هناك عالم قبل غزة، وعالم بعدها. فالقانون الدولي الذي بُني بعد العام 1945 فقد شرعيّته، وحقوق الإنسان التي رُفعت كشعار عالمي سقطت أمام الانحياز، والديمقراطيات الليبرالية التي تغنّت بالإنسانية المشتركة انكشفت كقوى استعمارية جديدة.

لكن المقدمة ليست مجرد لائحة اتهام، بل أيضاً استدعاء لمسؤولية المثقف والأديب. يذكّر ميشرا أن الأدب أدّى دوراً مزدوجاً: لقد ساهم بعض الكتّاب الكبار – مثل شاوول بيلو ومارثا غيلهورن – في شيطنة الفلسطينيين وتبرير محوهم، بينما امتلك آخرون – مثل سيمون فايل وهانا أرنت – شجاعة النظر إلى الألم كألم بشري، بلا شروط. وبهذا يضعنا ميشرا أمام سؤال مزعج: هل الكلمة قادرة على مقاومة المجازر، أم أنها تتحول إلى شريك فيها؟

في النهاية، تضع المقدمة القارئ أمام صورة مكثفة: غزة ليست مجرد حرب، بل مرآة تكشف انهيار وهم «الإنسانية المشتركة» الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية. إنها اختبار عالمي، يواجه فيه الغرب إرثه الاستعماري، ويواجه فيه المثقف مسؤوليته الأخلاقية، ويواجه فيه كل قارئ سؤالاً وجودياً: هل نحن أمام نهاية مشروع ما بعد الاستعمار، أم أمام ولادة استعمار جديد أكثر فجاجة؟

الذاكرة كسلاح: من المحرقة إلى غزة

حين صاغت أوروبا بعد العام 1945 سرديتها عن المحرقة، قدّمتها كـ «صدمة أخلاقية» لن تسمح للعالم بتكرارها أبداً. لكن يذكّر بانكاج ميشرا بأن هذا الوعد لم يكن شاملاً بل انتقائياً. الغرب الذي جعل من «الشر المطلق» عنواناً للمحرقة، تجاهل في الوقت نفسه أن ملايين البشر في آسيا وأفريقيا عاشوا أشكالاً مماثلة من الإبادة على أيدي القوى الاستعمارية نفسها التي رفعت اليوم شعار «عدم التكرار». ومن هنا، تصبح المحرقة في قراءة ميشرا معياراً ذا وجهين: أداة لإعادة صياغة الهوية الأخلاقية للغرب، وسلاحاً لتبرير عنف جديد يُمارس على الفلسطينيين.

والمفارقة هنا قاسية: النازية، كما كتب إيميه سيزير في خطاب عن الاستعمار (1950)، لم تكن انحرافاً عن الحضارة الغربية بل استمراراً لمنطقها الاستعماري. فالهولوكوست لم يولد من فراغ، بل من أدوات إبادة استُخدمت سابقاً ضد الشعوب المستعمَرة. لقد أدار البريطانيون مجاعات في الهند أودت بحياة الملايين، وحوّل البلجيك الكونغو إلى معسكر دموي، وقصف الفرنسيون الجزائر بالغازات السامة. ما فعله هتلر داخل أوروبا لم يكن سوى «استيراد» لهذه الممارسات إلى قلب القارة. ومع ذلك، أعادت أوروبا بعد الحرب صياغة ذاكرتها بما يسمح بنسيان هذه الروابط، وتقديم نفسها كضحية وحَكم في الوقت نفسه.

هل يمكن لذكرى المحرقة أن تظل معياراً للشرّ، إذا كانت تُستعمل لتبرير إبادة أخرى؟ وهل يملك الغرب الحق في الاستمرار في تقديم نفسه حارساً للأخلاق، بينما يتواطأ مع مجزرة تُبثّ مباشرة؟

هنا يستحضر ميشرا قراءة هانا أرنت، التي رأت في «تفاهة الشر» مفتاحاً لفهم قدرة البشر على المشاركة في القتل الجماعي من دون وعي أو اعتراض، عبر الطاعة والبيروقراطية. ما جرى في غزة – من إدارة الحصار بالذكاء الاصطناعي إلى تحديد أهداف القصف عبر لوغاريتمات – يكشف نسخة محدثة من هذا الشرّ «العادي». لم يعد المقاتل يرى الفلسطيني كإنسان، بل كـ«هدف» رقمي. ويتحوّل الشر، هنا أيضاً، إلى روتين إداري، تحرسه شاشات الحاسوب وبيانات التجسس.

إلى جانب أرنت وسيزير، يذكّرنا ميشرا بجورج أورويل حين كتب في العام 1945 أن «فلسطين قضية لون»، أي أن جوهرها عنصري: من يُنظر إليهم كضحايا «بيض» تُعترف معاناتهم، بينما «السود» أو «البُنيون» يُعتبر موتهم تفصيلاً يمكن تجاوزه. هذا ما يعيدنا إلى جيمس بالدوين الذي كتب في العام 1967: «إن معاناة اليهود تُعترف بها كجزء من التاريخ الأخلاقي للعالم، وهذا ليس صحيحاً بالنسبة إلى السود». ويعيش الفلسطينيون، في نظر ميشرا، اليوم المصير ذاته: ضحايا بلا اعتراف، مقموعون خارج «الذاكرة الأخلاقية» التي تحتكرها المحرقة.

لكن ما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أن هذه الذاكرة لم تُترك للزمن كي تتكوّن، بل أُعيد «تصنيعها» سياسياً في ستينيات القرن العشرين. يشير ميشرا إلى أن محاكمات أيخمان في القدس (1961) مثلت لحظة حاسمة في تحويل المحرقة إلى سردية تُستخدم كأداة شرعية للدولة العبرية. لم يعد الأمر مقتصراً على ذكرى الضحايا، بل تحوّل إلى أساس سياسي يبرّر وجود إسرائيل كملجأ وحيد «آمن» لليهود. في الوقت نفسه، صار من الممكن شيطنة الفلسطينيين عبر مقارنتهم بالنازيين، أو اتهام العرب بأنهم «تواطئوا» مع هتلر. وبهذا، صارت الذاكرة نفسها أداة لنزع الشرعية عن الآخر.

الأخطر أن الولايات المتحدة أدّت دوراً محورياً في «تأمرك» الذاكرة. فمع صعود الحركة الإنجيلية، اندمج الخطاب التوراتي بفكرة «التحالف المقدس» مع إسرائيل، حين صُوّرت عودة اليهود إلى فلسطين كشرط للمجيء الثاني للمسيح. هذا التداخل بين اللاهوت والسياسة جعل من الدعم غير المشروط لإسرائيل قضية داخلية أميركية أكثر منها خياراً دبلوماسياً. أما ألمانيا، فقد حولت ذنبها التاريخي إلى ولاء مطلق لإسرائيل، معتبرة أن أي نقد لسياسات الاحتلال خيانة لذاكرة المحرقة. وهكذا، صار الغرب بأسره رهينة ذاكرة انتقائية: ذاكرة ترفع معاناة اليهود إلى مرتبة كونية، بينما تدفن معاناة الشعوب المستعمَرة تحت صمت ثقيل.

تكشف غزة اليوم حدود هذه الذاكرة. فالمجازر التي ارتكبتها إسرائيل بُثت لحظة بلحظة: آباء يحملون جثث أبنائهم، أمهات يصرخن وسط الركام، أطفال يودّعون العالم عبر شاشات هواتفهم. وللمرة الأولى في التاريخ، كما يكتب ميشرا، «الضحايا كانوا يبثّون إبادتهم بأنفسهم في الزمن الحقيقي». ومع ذلك، فإن العالم لم يتحرك. هنا تكمن المفارقة الأخلاقية الكبرى: الذاكرة التي وُعدنا أنها ستمنع التكرار، تحوّلت إلى أداة لإنكار المجزرة الجديدة.

بهذا، يصبح السؤال الذي يطرحه ميشرا على القارئ حاداً: هل يمكن لذكرى المحرقة أن تظل معياراً للشرّ، إذا كانت تُستعمل لتبرير إبادة أخرى؟ وهل يملك الغرب الحق في الاستمرار في تقديم نفسه حارساً للأخلاق، بينما يتواطأ مع مجزرة تُبثّ مباشرة؟

الذاكرة، كما يكشف ميشرا، ليست مجرد سجلّ للتاريخ، بل سلطة معيارية تحدد من يُعتبر إنساناً ومن يُمحى من السرد. وفي عالم ما بعد غزة، لم يعد بالإمكان تجاهل هذا الانكشاف. المحرقة، التي صارت يوماً أساساً لـ«الإنسانية المشتركة»، باتت اليوم معياراً انتقائياً يكشف حدود تلك الإنسانية نفسها.

الأدب بين التواطؤ والمقاومة

ليست المجازر من صناعة الساسة وحدهم. هذا ما يذكّرنا به بانكاج ميشرا وهو يتأمّل دور الأدباء والمفكّرين في صياغة الوعي الغربي بفلسطين وإسرائيل. الأدب، في هذا السياق، لم يكن ساحة بريئة أو محايدة؛ بل أدّى دوراً فعّالاً في إنتاج الصور التي جعلت الفلسطينيين غير مرئيين، أو غير جديرين بالتعاطف. ومن هنا، فإن السؤال الذي يطرحه ميشرا ليس فقط سياسياً بل ثقافياً أيضاً: من يكتب التاريخ؟ ومن يحدّد من هو الإنسان ومن هو «الآخر»؟

قائمة الأسماء التي يستعرضها لافتة. كتب شاوول بيلو، الأديب الأميركي الحائز على نوبل، روايات انسجمت وظيفياً مع سردية الدولة الإسرائيلية، حيث يظهر اليهود كأبطال مقاومين للتاريخ فيما العرب مجرد خلفية غامضة أو همجية. لم تُخفِ مارثا غيلهورن، الصحافية والروائية المعروفة، احتقارها للفلسطينيين، ورأت في العرب شعوباً «متخلّفة» لا تستحق التعاطف. أما ماري ماكارثي فقد وصفت العرب الليبيين بأنهم «مقززون»، وكأنها تؤكد أن بعض الشعوب لا مكان لها في سجل الإنسانية. هذه الكتابات، وإن بدت فردية، شكّلت ما يسميه إدوارد سعيد «الأرشيف الأدبي للاستعمار»، حيث تُصاغ المخيلة الغربية بطريقة تُضفي الشرعية على العنف وتبرر الإقصاء.

الفلسطينيون، كما كتب إدوارد سعيد، وُصفوا بأنهم «شعب بلا فرويد أو شاغال» – أي بلا رموز ثقافية يُمكن أن تشرّع معاناتهم كجزء من السجل الكوني. هذه الصورة الثقافية ليست تفصيلاً، بل شرط أساسي لإقصاء الضحايا من الذاكرة

لكن لا يكتفي ميشرا بالإدانة، بل يعرض الجانب الآخر: مثقفون امتلكوا شجاعة مقاومة التيار السائد، ورأوا المعاناة كمعاناة بشرية لا تُختزل في هوية أو دين. سيمون فايل، التي اعتبرت أن الظلم أينما كان يظل ظلماً. هانا أرنت، التي انتقدت علناً محاكمة أيخمان، ورأت أن تحويل المحرقة إلى أداة سياسية خطير على الضحايا أنفسهم. بواز إفرون، المفكّر الإسرائيلي، الذي فضح عنف الدولة العبرية من الداخل. وناتاليا غينزبورغ، الكاتبة الإيطالية، التي رفضت إقصاء الفلسطينيين من سجل الإنسانية. لقد برهن هؤلاء الكتّاب، وإن كانوا أقلية، أن الأدب يمكن أن يكون ساحة مقاومة، لا مجرد انعكاس للسلطة.

اللافت أن ميشرا يعطي مكانة خاصة لبريمو ليفي وجان أمري، الناجيين من المحرقة. ليفي، الذي عاش توتراً مؤلماً بين اعتزازه بهويته اليهودية وشكوكه في شرعية الدولة التي تدّعي تمثيله، كتب في رسالة: «أحياناً أتساءل إن كنت أنتمي حقاً إلى الشعب اليهودي». أما جان أمري، الذي قاتل في المقاومة ضد النازية وتعرّض للتعذيب، فقد وجد نفسه عاجزاً عن التوفيق بين حلمه القديم بإسرائيل وبين ممارساتها بعد العام 1967، حين احتلت الضفة الغربية وغزة وبدأت سياسة التعذيب المنهجي ضد الأسرى الفلسطينيين. رفض هؤلاء الناجون أن تتحوّل ذكرى معسكرات الاعتقال إلى صك غفران مفتوح لممارسات إسرائيل. بالنسبة إليهم، كان الصمت على الظلم استمراراً للمأساة بطرق أخرى.

هنا تكمن إحدى أهم أفكار ميشرا: الأدب ليس مجرد كلمات، بل قوة تُسهم في صناعة المخيلة الأخلاقية. حين يكتب بيلو أو غيلهورن ضد الفلسطينيين، فإنهم لا يعبّرون عن موقف شخصي فقط، بل يرسّخون تصوراً عاماً يرى في الفلسطيني كائناً غير جدير بالحياة أو التعاطف. وحين تكتب فايل أو أرنت أو ليفي ضد هذا التصور، فإنهم يفتحون نافذة للذاكرة الإنسانية، ليذكّرونا أن الضحية لا تُختصر في عِرق أو دين.

لكن الأخطر، كما يشير ميشرا، هو أن الأدب نفسه صار جزءاً من ماكينة الهيمنة. فالغرب لم يحتكر القوة العسكرية والسياسية فقط، بل احتكر أيضاً سلطة السرد. الفلسطينيون، كما كتب إدوارد سعيد، وُصفوا بأنهم «شعب بلا فرويد أو شاغال» – أي بلا رموز ثقافية يُمكن أن تشرّع معاناتهم كجزء من السجل الكوني. هذه الصورة الثقافية ليست تفصيلاً، بل شرط أساسي لإقصاء الضحايا من الذاكرة. فقد صارت المحرقة مأساة كونية لأنها كُتبت ورُسمت وغُنّيت في الثقافة الغربية، بينما تُركت النكبة بلا تمثيل، أو جرى محوها عمداً.

إن إعادة قراءة ميشرا لهذا التواطؤ تضع المثقف في قلب المعركة: هل يكون شاهداً على المجازر، أم شريكاً في تبريرها؟ فالكلمة ليست محايدة، بل تتحرّك بين قطبين: إمّا أن تعزّز منطق الإقصاء، أو أن تمنح الضحايا صوتاً. بهذا، يعيد ميشرا استدعاء إرث إدوارد سعيد في تمثيلات المثقف، حيث يؤكّد أن دور المثقف ليس ترديد الإجماع، بل مقاومته.

ومثلما فضح سعيد الاستشراق بوصفه شبكة معرفية تخدم الهيمنة، يكشف ميشرا كيف أن الأدب الغربي ساهم في صياغة صورة إسرائيل كضحية أبدية، مقابل الفلسطيني كـ «تهديد» أو «غياب». الأدب، هنا، ليس مجرد انعكاس للواقع، بل منتج له. ومن خلال هذا التحليل، يصبح الكتاب دعوة إلى مساءلة الثقافة نفسها: كيف تتحوّل الرواية إلى سلاح، وكيف يمكن للقصيدة أن تُعيد للضحايا إنسانيتهم؟

في زمن تُرتكب فيه المجازر على الهواء مباشرة، لا يعود السؤال مقتصراً على من يقصف ومن يُقتل، بل يمتد إلى من يكتب ومن يصمت. وفي هذا الامتداد، يكمن جوهر أطروحة ميشرا: الأدب هو ميدان آخر للمجزرة أو للمقاومة. بين بيلو وغيلهورن من جهة، وأرنت وليفي وأمري من جهة أخرى، نرى أن الكلمة قد تشرعن الإبادة أو تفضحها. وهنا، تتحدّد مسؤولية المثقف: أن يختار بوضوح أي جانب يقف فيه، وأي ذاكرة يريد أن يساهم في صياغتها.

الجنوب العالمي وغزة: بين التضامن والمفارقات

منذ اللحظة الأولى للحرب على غزة، كان واضحاً أن الانقسام العالمي لا ينحصر بين إسرائيل والفلسطينيين وحدهم، بل يمتدّ ليشطر الخريطة الدولية إلى معسكرين: معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة وأوروبا، يمنح إسرائيل غطاءً سياسياً وعسكرياً لا محدوداً، ومعسكر آخر غير متجانس يضمّ أصواتاً من الجنوب العالمي، ترى في غزّة انعكاساً لتجربتها الخاصة مع الاستعمار والقمع. وهنا يفتح بانكاج ميشرا زاوية جديدة: غزة ليست مجرد ساحة محلية للصراع، بل مرآة كاشفة للتاريخ الطويل للهيمنة الاستعمارية، وتجربة تتجاوز حدود فلسطين لتصيب وجدان شعوب بأكملها.

في الجامعات الأميركية والبريطانية، كما في شوارع جوهانسبرغ ونيودلهي وبوينس آيرس، خرجت حركات طالبية وشبابية ترفع صور غزة إلى قلب النقاش العام. بالنسبة إلى هؤلاء، غزة ليست مجرد خبر يومي أو مأساة بعيدة، بل رمز لمعركة أوسع ضد الإمبريالية والتمييز العنصري. ما عبّر عنه نيلسون مانديلا في عبارته الشهيرة «حرية جنوب أفريقيا منقوصة ما لم يتحرر الفلسطينيون»، يتجدد اليوم مع جيل جديد يرى في المقاومة الفلسطينية استمراراً لمعركة شعوب «اللون الآخر» ضدّ منطق الهيمنة البيضاء.

ما زالت شعوب الجنوب تعيش تحت منطق القوة، حتى لو تغيّرت الوجوه والأدوات. وفي هذا السياق، تصبح غزة اختباراً: هل يستطيع الجنوب العالمي أن يستعيد روح التضامن التي ميّزته في الخمسينيات والستينيات، أم أن القومية الشعبوية والتحالفات الجديدة ستقضي على هذا الحلم؟

لكن تكمن قوة كتاب ميشرا في أنه لا يكتفي بالاحتفاء بهذا التضامن، بل يتوقف عند تناقضاته. فالهند، بلده الأم، تمثل المثال الأوضح. هذه الدولة التي قادت حركة عدم الانحياز في خمسينيات القرن الماضي، ورفعت لواء مناهضة الاستعمار إلى جانب مصر ويوغوسلافيا وإندونيسيا، تجد نفسها اليوم أقرب إلى إسرائيل من أي وقت مضى. رئيس الوزراء ناريندرا مودي لم يتردّد في إعلان تضامنه مع «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، بينما تُترجم السياسات الداخلية للهند نزعات قومية دينية قريبة في منطقها من الصهيونية. الشعب الذي خبر قمع الاستعمار البريطاني صار يحكمه حزب قومي يعيد إنتاج أدوات الاستعمار ضد أقلياته المسلمة، وفي الآن نفسه يتبنّى خطاباً سياسياً يشرعن إبادة الفلسطينيين.

لا يقرأ ميشرا هذا التحوّل كخيانة فحسب، بل كجزء من مأزق عالمي أعمق: لم ينتهِ الاستعمار بخروج القوى الأوروبية من آسيا وأفريقيا، بل يُعاد إنتاجه اليوم عبر أنظمة محلية استعارت أدوات السيطرة والهيمنة ووجّهتها ضد شعوبها أو جيرانها. فإذا كان القرن العشرون قد شهد حركات تحرير وطنية رفعت شعارات العدالة والمساواة، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد أن كثيراً من هذه الدول تحوّلت إلى شركاء في النظام الاستعماري الجديد، مستفيدة من تحالفاتها مع الغرب.

في المقابل، لا يخلو الجنوب العالمي من أصوات مقاومة جديدة. من كيب تاون إلى كراتشي، ومن سانتياغو إلى جاكرتا، تتشكّل موجة تضامن واسعة مع فلسطين، يقودها جيل جديد يقرأ غزة باعتبارها رمزاً لمعركته الخاصة. لا يرى هؤلاء في القضية الفلسطينية نزاعاً إقليمياً، بل نموذجاً للتمييز العنصري العالمي الذي يقسّم البشر إلى «ضحايا جديرين» و«ضحايا فائضين». ولذلك لم يكن غريباً أن نرى نقابات عمّالية في أميركا اللاتينية، وحركات شبابية في أفريقيا، وجامعات في آسيا، ترفع شعار «كلنا غزة».

ومع ذلك، يبقى التناقض قائماً: فبينما تعبّر هذه الحركات عن وجدان شعبي متعاطف مع الفلسطينيين، تظل الحكومات في الجنوب خاضعة لمعادلات سياسية واقتصادية تجعلها أقرب إلى الغرب. الهند مثال واضح، لكن يمكن أيضاً ذكر البرازيل أو جنوب أفريقيا التي تعلن دعمها للفلسطينيين في المحافل الدولية، لكنها لا تستطيع كسر تبعيتها للنظام الاقتصادي العالمي الذي تديره القوى الكبرى.

يقرأ ميشرا هذه المفارقة باعتبارها جزءاً من الانهيار الأوسع لمشروع «ما بعد الاستعمار». وُلد هذا المشروع ليمنح الغالبية العالمية – شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية – صوتاً ومكاناً في التاريخ، لكنه لم ينجح في تفكيك بنية الهيمنة الاقتصادية والسياسية. والنتيجة ما زالت شعوب الجنوب تعيش تحت منطق القوة، حتى لو تغيّرت الوجوه والأدوات. وفي هذا السياق، تصبح غزة اختباراً: هل يستطيع الجنوب العالمي أن يستعيد روح التضامن التي ميّزته في الخمسينيات والستينيات، أم أن القومية الشعبوية والتحالفات الجديدة ستقضي على هذا الحلم؟

الجواب، بالنسبة إلى ميشرا، لا يزال مفتوحاً. لكنه يلاحظ أن جيلاً جديداً – من الطلاب في الجامعات الغربية إلى النشطاء في الشوارع العربية والأفريقية – بدأ يعيد تعريف التضامن على أسس أخلاقية لا سياسية. لا يملك هؤلاء جيوشاً ولا حكومات، لكنهم يملكون ما يسميه ميشرا «المحنة النفسية المشتركة»: وعي بأنهم شهود غير طوعيين على مجزرة تبثّ أمام أعينهم، وأن صمتهم سيكون مشاركة في الجريمة.

في النهاية، لا يرى ميشرا في غزة مجرد مأساة محلية، بل مرآة كاشفة لانقسام العالم بين أقلية تملك القوة وتشرعن العنف، وغالبية تعيش تحت عنف تلك القوة. لكن هذه الغالبية، على الرغم من هشاشتها، تحمل أيضاً بذور مقاومة جديدة. وهنا تكمن قوة غزة: أنها أعادت إلى الواجهة سؤال العدالة الكونية، وجعلت من فلسطين رمزاً جامعاً لمعركة ما بعد الاستعمار في القرن الحادي والعشرين.

خاتمة: غزة كمرآة وانكشاف الوهم

يخرج القارئ من The World After Gaza لبانكاج ميشرا مثقلاً بالأسئلة أكثر من الأجوبة. لا يقدّم الكتاب حلولاً سحرية، ولا يَعِد بخرائط طريق سياسية، لكنه ينجح فيما هو أعمق: كشف تناقضات عصر كامل، وتعرية خطاب «الإنسانية المشتركة» الذي بشّر به العالم بعد العام 1945. تكمن قوة الكتاب في جرأته على إعادة فتح ملف الذاكرة. فالميثاق الأخلاقي الذي وُلد من المحرقة – «لن يتكرر ذلك أبداً» – صار أداة انتقائية تُستخدم لتبرير إبادة جديدة. وهذا الانكشاف، الذي يعرضه ميشرا بلغة حادة، يجعل القارئ يعيد النظر في مسلمات رسّختها الثقافة الغربية لعقود: من يملك الحق في أن يكون ضحية؟ ومن يملك سلطة تعريف الشر؟ هل يمكن أن يكون هناك «معيار كوني» للمعاناة بينما تُستثنى شعوب كاملة من هذا السجل؟

الميزة الثانية للكتاب هي أنه لا يكتفي بتحليل سياسي أو قانوني، بل يُدخل الأدب والفكر في قلب النقاش. من شاوول بيلو إلى ماري ماكارثي، من أرنت إلى بريمو ليفي، يكشف ميشرا أن الكلمات ليست محايدة: فهي إما تشرعن العنف، أو تفضحه. ويصبح الأدب، في هذا المعنى، شريكاً في المجزرة أو سبيلاً لمقاومتها. وهنا يلتقي ميشرا مع إرث إدوارد سعيد، في التشديد على أن المثقف الحقيقي ليس من يساير الإجماع، بل من يقاومه، حتى ولو دفع ثمناً باهظاً. لكن ربما أهم ما يقدّمه الكتاب هو وضع غزة في قلب مشهد عالمي أوسع. بالنسبة إلى ميشرا، غزة ليست استثناءً، بل استمرار لتاريخ طويل من الاستعمار والعنصرية. إنها مرآة تكشف أن مشروع «ما بعد الاستعمار» لم يتحقق بعد، بل إن العالم عاد إلى منطق «القوة تصنع الحق»، وإلى إثنوقوميات متعطشة للدم. ومع ذلك، يرى أن أصوات الجنوب العالمي – من الطلاب في الجامعات الغربية إلى الحركات الشعبية في أفريقيا وآسيا – تحمل بذور أمل، حتى لو كانت هشّة.

الخاتمة ليست مريحة. يصرّ ميشرا على أن ما جرى في غزة لن يُمحى سريعاً: لقد عاش جيل كامل من الشباب حول العالم تجربة أن يكون شاهداً مباشراً على مجزرة تُبثّ لحظة بلحظة، بلا تدخل أو رادع. هذه التجربة ستترك أثراً عميقاً في الوعي العالمي، وستعيد طرح سؤال: ماذا يعني أن نكون بشراً في زمن تُقاس فيه الضحايا بميزان اللون والجغرافيا والسياسة؟

إن The World After Gaza ليس مجرد كتاب عن فلسطين، بل عن العالم بعد غزة: عالم فقد أوهامه، وسقطت عنه الأقنعة. وهو في الآن ذاته دعوة إلى التفكير: إذا كانت الإنسانية المشتركة قد انهارت في غزة، فما الذي يمكن أن يعيد بناءها؟ وهل يستطيع الأدب والفكر أن يكونا جزءاً من هذا البناء، أم سيُستعملان مجدداً لتبرير القتل؟ بهذه الأسئلة يترك ميشرا قارئه، في نص يجمع بين السرد الشخصي، والتحليل الفلسفي، والنقد السياسي والثقافي. كتاب صادم، مُربك، لكنه ضروري. فهو يذكّرنا أن غزة ليست فقط مأساة فلسطينية، بل اختبار كوني، وأننا جميعاً – بصمتنا أو بكلماتنا – طرف فيه.