Preview destroyed-school-gaza

الإبادة المعرفية: محو الذاكرة والعِلم والتراث في غزة

لا تتجلَّى الإبادة الجماعية فقط في خلق «مناطق للقتل»، حيث يُطلق الجنود النار عشوائياً على الفلسطينيين، وفي استخدام القوة المميتة ضد أهداف غير عسكرية مثل المستشفيات والمدارس، بل أيضاً في التدمير المنهجي للبنية التحتية الفكرية والثقافية والمدنية في غزّة. يسعى هذا الحَتُّ المدروس إلى القضاء على نسيج المجتمع في غزّة، ويتجاوز العنف الجسدي إلى محو هويته التاريخية والثقافية.

إن التوثيق المستمر ومتزايد الدقة لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل لا يكشف عن الحقائق المروعة على الأرض فحسب، بل يلقي الضوء أيضاً على الآثار الأوسع نطاقاً لهذه الانتهاكات. تمتدّ الأزمة المتكشِّفة إلى ما هو أبعد من الوحشية المباشرة والتدمير المادي في غزّة، لتكشف عن شكل أعمق وأكثر خبثاً من العنف يتجاوز ساحة المعركة. يتجذَّر هذا العنف في أجندة أيديولوجية تُشرعِن البربرية بينما تهاجم بشكل منهجي أي شكل من أشكال التعليم، وكذلك النقد الذي يسعى إلى فضحها. يتجلّى هذا الاعتداء في شكل حرب ناعمة وحرب خشنة على التعليم والتاريخ والاستقصاء النقدي وأي حركة معارضة قابلة للتطبيق. وقد وصفت كرمة النابلسي من جامعة أكسفورد هذه «الحرب على التعليم» بأنها شكل من أشكال الإبادة المعرفية وحاججت أنها سوف تؤثِّر على أجيال من الأطفال الفلسطينيين. وفي قلب هذه الحرب على المعارضة والتعليم، توجد محاولات متكرِّرة من جانب حكومة إسرائيل اليمينية لرفض جميع الانتقادات الموجّهة إلى حرب إسرائيل على غزة باعتبارها شكلاً من أشكال معاداة السامية. على سبيل المثال، عندما توضع أحياناً الحرب على غزة في سياقها التاريخي في التقارير، تسارع الحكومة الإسرائيلية والمدافعين عنها إلى تَسليح تهمة معاداة السامية ضدّ المنتقدين، خصوصاً الفلسطينيين، ولكن أيضاً اليهود. ويُسلِّط المؤرّخ إيلان بابيه الضوء على كيفية استخدام الحكومة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل لهذا الاتهام لإسكات ليس فقط منتقدي الحرب، ولكن أي سردية تكشف عن الحملة التي استمرّت خمسة عقود من «القوات المحتلة لفرض عقوبات جماعية مستمرة على الفلسطينيين... وتعريضهم لمضايقات مستمرة من المستوطنين الإسرائيليين وقوّات الأمن وسجن مئات الآلاف منهم».

إن العنف واسع النطاق والعشوائي والصاعق الذي أطلقته إسرائيل على غزIة لا يتطلب مفردات جديدة فقط، ولكن أيضاً فهماً أعمق لسياسات التعليم وتعليم السياسة. كما يتطلّب إعادة تعريف فهم ما يُشكِّل جريمة حرب، إلى جانب حركة دولية جماهيرية تقاوم الهجمات المتعمّدة والوحشية التي تشنّها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة على الشعب الفلسطيني وسعيه إلى الحرية والسيادة. بالإضافة إلى ذلك، من الأهمية بمكان أن ندرك أن هذا العنف بأشكاله المتعددة يشمل شكلاً أقل وضوحاً من العنف والذي غالباً ما يُتَجَاهل. إن هذا الشكل من أشكال العنف، الذي كثيراً ما يحجبه القتل والإهلاك الإبادي الذي يتكشَّف في غزة، هو عنف النسيان المُنظَّم - المحو المنهجي للذكريات الخَطِرة والتاريخ والذاكرة الجماعية.

يسعى هذا النوع من العنف إلى محو النكبة من التاريخ، وتدمير المؤسّسات التي تحافظ على ذاكرة الإبعاد القسري لـ 700 ألف فلسطيني من أرضهم، وفرض النسيان التاريخي كوسيلة لمنع الأجيال القادمة من التعلّم عن المقاومة الفلسطينية

هذا هو عنف «الإبادة المعرفية». ويسعى هذا النوع من العنف إلى محو النكبة من التاريخ، وتدمير المؤسّسات التي تحافظ على ذاكرة الإبعاد القسري لـ 700 ألف فلسطيني من أرضهم، وفرض النسيان التاريخي كوسيلة لمنع الأجيال القادمة من التعلّم عن المقاومة الفلسطينية ضد العنف الاستعماري والتشريد والمحو الذي يستمر منذ عقود من الزمان. وتُعرب إيزابيلا حماد، الكاتبة البريطانية الفلسطينية، بحق عن غضبها إزاء الطريقة التي تعمل بها الحاضنات التربوية للإبادة المعرفية الناعمة على إدانة المحتجّين الفلسطينيين والتستر على جرائم الإبادة الجماعية. ولعله من الأفضل أن نقتبس منها بالتفصيل:

«لا تستهدف حرب إسرائيل في غزّة الذاكرة والمعرفة والاستقصاء النقدي فحسب، بل تمتد أيضاً إلى تدمير المؤسسات التعليمية حيث يكشف التاريخ عن جرائم الماضي وحركات التحرير والمقاومة. هذه حرب لا تُشن ضد الأجساد فحسب، بل أيضاً ضد التاريخ نفسه - ضد الذكريات، وإرث القسوة، والمدارس، والمتاحف، وأي مساحة يتم فيها الحفاظ على تاريخ الشعب وهويته الجماعية ونقلها إلى الأجيال الحالية والمستقبلية. يمثل هذا الهجوم على الوعي التاريخي، والذكريات، والأفكار النقدية، والتاريخ الدائم للاستعمار الاستيطاني شكلاً من أشكال العنف الأيديولوجي الذي يُدعِّم استراتيجياً الحربَ الملموسة الدموية التي تدمر حياة الفلسطينيين والمؤسسات التي تحمي الذكريات الحيوية. وفي هذا السياق، يظهر مفهوم الإبادة المعرفية، الذي يشير إلى التدمير المتعمد للمساحات التعليمية التي تنقل المعرفة الأساسية والذكريات والقيم، ليصبح عنصراً مركزياً في حرب إسرائيل الأوسع ضد الشعب الفلسطيني». 

إن الإبادة المعرفية، باعتبارها شكلاً من أشكال فقدان الذاكرة التاريخية والسياسية والاجتماعية، تعمل من خلال ما يسمّيه روب نيكسون «العنف البطيء» - وهو شكل تدريجي وأقل وضوحاً من أشكال الضرر. وفي هذا السياق، تتجلّى الإبادة المعرفية من خلال الالتواءات اللفظية التي تتَّسم بالإلهاء والكذب والخوف والتهديد والترهيب. تُستَخدَم اللغة والصور والكراهية المُفرِطة عبر مختلف المنافذ والمنصّات الإعلامية لصرف انتباه الناس عن الجرائم التي تحدث في غزّة. ونتيجة لذلك، تعمل الإبادة المعرفية على تطبيع الحرب الدموية على غزّة وقمع حرّية التعبير. ومع ذلك، من الأهمّية بمكان أن ندرك أن الإبادة المعرفية تتَّخذ أيضاً تعبيراً أكثر وحشية وفورية فيما أسميه «العنف البنيوي الوحشي للإبادة المعرفية». يستهدف هذا الشكل من الإبادة المعرفية تدمير المدارس والجامعات والمتاحف بينما يقمع بشكل منهجي المعلّمين والطلاب المعارضين وغيرهم. إنه ينطوي على أسلحة دمار شامل حقيقية، لا تهاجم فقط الأجساد والعقول ولكن أيضاً المؤسسات التي تدعم الحياة الفكرية.

فيما يلي، سوف أحلِّل العنف البنيوي الوحشي للإبادة المعرفية التي تحدث في غزة، حيث تُستهدَف المؤسّسات التعليمية وتُدمَّر بشكل منهجي. ثم سوف أتفحّص العنف الأيديولوجي للإبادة المعرفية، الذي يتّسم بقمع حرية التعبير والحرية الأكاديمية، ويُفرَض بشكل متزايد من خلال آليات الدولة للمراقبة وفقدان الوظائف وغيرها من التدابير العقابية، بما في ذلك الاحتجاز. هذان الشكلان من أشكال الإبادة المعرفية ليسا معزولين، بل يعزّزان بعضهما البعض، ويخدمان مشروعاً أكبر لفرض دولة قمعية في إسرائيل. سوف يكشف هذا التحليل أيضاً عن الكيفية التي تشير بها هذه الممارسات إلى اتجاه أوسع وأكثر خبثاً في الغرب، حيث تُنشَر الرقابة والقمع وأشكال مختلفة من الإرهاب التربوي بقوة لكبت المعارضة والفكر النقدي، ما يؤدّي إلى مسار عالمي وحشي من الكبت الفكري والأكاديمي. هذان الشكلان من أشكال الإبادة المعرفية - الأيديولوجي والبنيوي - مترابطان بعمق. ويضع الهجوم الأيديولوجي على حرّية التعبير والحرّية الأكاديمية الأساسَ للتدمير المادي للمؤسّسات الأساسية للتعليم النقدي كممارسة للحرّية والتحرّر. وعلى هذا النحو، تعمل القوى الأيديولوجية للإبادة المعرفية كمقدّمة وشرط مُسبق لإبادة الأسس الحقيقية للتعليم التحرّري.

لا تستهدف الحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل في غزة الأجساد فحسب، بل تهاجم أيضاً صَون التاريخ والمعرفة والفكر النقدي. فمن خلال تدمير المؤسسات التعليمية، تهدف إلى محو سرديات الجرائم الماضية والحركات التحررية الفلسطينية. هذه حرب ضدّ التاريخ نفسه - ضد الذكريات وإرث المقاومة والمؤسّسات التي تحمي الهوية الجماعية الشعبية للأجيال القادمة. إن قمع الوعي التاريخي وتاريخ الاستعمار الاستيطاني هو شكل من أشكال العنف الأيديولوجي الذي يُغذِّي الصراع المستمر الذي يُدمِّر حياة الفلسطينيين ويمحو الذكريات الحيوية. هذا التدمير المتعمّد للمؤسسات التعليمية والمساحات والتاريخ، والمعروف باسم «الإبادة المعرفية»، هو محور الحرب الأوسع التي تشنّها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. في مقال لها في «الغارديان»، وصفت تشاندني ديساي عملية الإبادة المعرفية بأنها عمل وحشي أخلاقياً وقمع تربوي، مشيرة إلى «أنها تمحو الوسائل التي يمكن بها لمجموعة - في هذه الحالة، الفلسطينيين - الحفاظ على ثقافتها ومعرفتها وتاريخها وذاكرتها وهويتها وقيمها ونقلها عبر الزمان والمكان. إنها سمة أساسية للإبادة الجماعية».

العمليات العسكرية الإسرائيلية قتلت ما لا يقل عن 5,479 طالباً و261 مدرساً و95 أستاذاً جامعياً في غزّة، بما في ذلك عُمداء ورؤساء جامعات وفيزيائيون حائزون على جوائز وشعراء وفنانون ونشطاء بارزون

لا يمكن إنكار العنف البنيوي المتمثّل في الإبادة المعرفية في غزة منذ هجوم «حماس» في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولا يمكن تصوّره عملياً. شَهِدَ العالم استهداف إسرائيل المتعمّد للمدارس والجامعات والمواقع الثقافية الأخرى في غزّة. وكما تشير شارون تشانغ، «فإن استهداف البنية التحتية المدنية في الحرب يُعَد جريمة حرب، لكن إسرائيل لديها تاريخ طويل من انتهاك القانون الدولي بشكل صارخ مع الإفلات من العقاب - بما في ذلك استهداف المؤسسات التعليمية التي تحافظ على التاريخ والهوية والثقافة الفلسطينيين». ووفقاً للأمم المتحدة، فقد دُمِّر 90% من مدارس غزة، وقُصفت جميع الجامعات الـ 12 أو تضرّرت أو تحوّلت إلى أنقاض. وتشير شاندنيديساي إلى أنه «قد عُلِّقت دراسة حوالي 90 ألف طالب جامعي فلسطيني، وسوف يُدفَع الكثير منهم إلى النزوح القسري بسبب الإبادة الجماعية، حيث أصبحت غزة غير صالحة للسُّكنى». والأمر يزداد سوءً، حيث أفاد مسؤولون من الأمم المتحدة ووزارة التعليم الفلسطينية أن العمليات العسكرية الإسرائيلية قتلت ما لا يقل عن 5,479 طالباً و261 مدرساً و95 أستاذاً جامعياً في غزّة، بما في ذلك عُمداء ورؤساء جامعات وفيزيائيون حائزون على جوائز وشعراء وفنانون ونشطاء بارزون.

واجهت المدارس في غزّة تحديات كبيرة حتى قبل الحرب، بما في ذلك الاكتظاظ، والعمل بنظام الفترتين، ونقص المباني، والوصول المحدود إلى مواد البناء واللوازم المدرسية. ويسلّط ستيفن ماكلوسكي الضوء على ذلك قائلاً «في حزيران/يونيو 2022، أفادت «منظمة إنقاذ الطفولة» أن 80% من الأطفال في غزة في حالة دائمة من الخوف والقلق والحزن والأسى». أدّت الحرب إلى تفاقم هذه القضايا، وتركت شباب غزة يتصارعون مع الصدمات النفسية المتكرّرة، وأزمات الصحّة العقلية، والتهديد المستمر بالموت أو الإصابة. وتتفاقم هذه المصاعب بسبب الفقر المدقع، والعنف المستمر، والنزوح القسري، والرعاية الصحّية غير الكافية.

فضلاً عن ذلك، تمتدّ الحقائق الوحشية إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة. ومن المعروف جيّداً أن الكثير من الأطفال المحتجزين من دون تهمة في مراكز الاحتجاز الإسرائيلية تعرّضوا للإساءة الجسدية والجنسية والعقلية. وقد جمعت «منظمة إنقاذ الطفولة» شهادات من الأطفال تكشف عن مستويات متزايدة من العنف، خصوصاً منذ تشرين الأول/أكتوبر، عندما نُفِّذت قواعد أكثر صرامة تمنع زيارات الآباء أو المحامين. وأبلغ بعض الأطفال عن تعرّضهم للضرب وكسور في العظام، ما يسلّط الضوء على الانتهاكات الشديدة التي تحدث في مراكز الاحتجاز هذه. وفي خضم هذه الأزمة الإنسانية المروعة، يُترَك الأطفال الفلسطينيون وأولياء أمورهم أمام خيار مؤلم: «بين الموت من التعرّض للعوامل الجوية، أو المرض، أو القنابل، أو الجوع، أو الأمراض المعدية، أو الرحيل». ويؤكد هذا الواقع القاتم أن تدمير نظام التعليم في غزّة هو جزء من حملة أوسع نطاقاً تشنّها إسرائيل لجعل المنطقة غير صالحة للعيش.

وتمتدّ حرب إسرائيل على التعليم والثقافة إلى أبعد من ذلك، لتستهدف نسيج هوية غزّة ذاته. ويوضح قصف وتدمير الكثير من المكتبات والأرشيفات ودور النشر والمراكز الثقافية وقاعات الأنشطة والمتاحف والمكتبات والمقابر والآثار والمواد الأرشيفية جهداً منهجياً لمحو التراث الفلسطيني. وقدّمت الكثير من منافذ الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي قصصاً وصوراً تؤكد أن الجنود الإسرائيليين لا يدمِّرون فحسب، بل يسرقون أيضاً القطع الأثرية. وفي إحدى الحالات الفاضحة التي كُتب عنها على وسائل التواصل الاجتماعي، عُرضت قطع أثرية مسروقة من قطاع غزة علناً في واجهة عرض صغيرة في البرلمان الإسرائيلي، المعروف بـ «الكنيست».

 يُترَك الأطفال الفلسطينيون وأولياء أمورهم أمام خيار مؤلم: «بين الموت من التعرّض للعوامل الجوية، أو المرض، أو القنابل، أو الجوع، أو الأمراض المعدية، أو الرحيل»

إن سياسة إسرائيل المتمثلة في الإبادة المعرفية، وتهدف إلى تدمير التعليم الفلسطيني وخصوصاً أساليبه الأقل عنفاً، لا تقتصر على غزة، بل تمتدّ أيضاً إلى الطلاب وأعضاء هيئات التدريس وغيرهم من منتقدي الحرب داخل إسرائيل. تحاجج الباحثة الإسرائيلية مايا ويند أن جامعات إسرائيل أصبحت مراكز للبحوث العسكرية والدعاية والقمع. على سبيل المثال، تلاحظ أن «التخصّصات الأكاديمية وبرامج الدرجات العلمية والبنية التحتية للحرم الجامعي ومختبرات الأبحاث تخدم الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري». ولعله من الأفضل أن نقتبس منها بالتفصيل:

«الجامعة العبرية، من بين جامعات أخرى، تُدرِّب جنود المخابرات لإنشاء بنوك أهداف في غزة. إنهم ينتجون المعرفة للدولة... والتي هي دعاية للدولة، أو معرفة قانونية للمساعدة في إحباط محاولات محاسبة إسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها، مثل القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. وهم يمنحون في الواقع دورات جامعية للجنود الاحتياطيين العائدين من غزة إلى فصولهم الدراسية. ولكل هذا، فإن الجامعات الإسرائيلية متواطئة بعمق في هذه الإبادة الجماعية». 

بالإضافة إلى ذلك، ذكر نيف غوردون وبيني غرين في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» ​​أن نادرة شلهوب كيفوركيان، وهي مواطنة فلسطينية من إسرائيل وأستاذة كرسي لورانس د. بيلي بالجامعة العبرية في القدس، اعتقلت لتوقيعها على عريضة بعنوان «باحثو وطلاب دراسات الطفولة يطالبون بوقف فوري لإطلاق النار في غزة». كانت واحدة من الكثير من المعلّمين الفلسطينيين الذين أرهبتهم حكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة لانتقادهم الحرب. ويشمل نطاق الرقابة والعقاب الإسرائيلي أيضاً أعضاء هيئات تدريس يهود مثل الأستاذة الشهيرة نوريت بيليد إلهانان التي خضعت لجلسة تأديبية لأنها أرسلت رسائل على تطبيق «واتساب» للموظّفين اعتبرت داعمة لـ«حماس».

كما لاحظ غوردون وغرين أنه «في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت هجوم «حماس»، واجه أكثر من 100 طالب فلسطيني في إسرائيل، ما يقرب من 80% منهم من النساء، إجراءات تأديبية بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تدعم إنهاء الحصار على غزّة... أو تعبّر عن التعاطف مع الفلسطينيين في القطاع، أو تتضمّن ببساطة صوراً تنتقد السخرية من معاناة الأطفال الفلسطينيين». إن محاولات الدولة الإسرائيلية لتدمير التعليم في فلسطين هي جزء من مشروع أوسع نطاقاً لتدمير أي أثر لحركة التحرير في فلسطين. وتشير ويند إلى أن هذا واضح ليس فقط من حيث قمع المنتقدين الفلسطينيين في غزّة وإسرائيل، ولكن أيضاً في الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الغربية. وتقول إن الجامعات الفلسطينية تتعرّض بشكل روتيني لمداهمات من الجيش الإسرائيلي. وتضيف:

«إن الناشطين والمنظّمين الطلابيين في أكثر من 411 مجموعة وجمعية طالبية فلسطينية أعلنتها الدولة الإسرائيلية غير قانونية يتعرّضون للاختطاف بشكل روتيني من الأحرام الجامعية ومن منازلهم في منتصف الليل. ويتعرضون للتعذيب. ويُحتجزون في الاعتقال الإداري من دون تهمة أو محاكمة لشهور. وبالتالي، فإن ما نراه حقاً هو هجوم منهجي من الجيش الإسرائيلي والحكومة العسكرية الإسرائيلية على التعليم العالي الفلسطيني، خصوصاً على الأحرام الجامعية الفلسطينية بما هي مواقع للتنظيم من أجل التحرّر الفلسطيني».

إن ما يبرز فيما يتعلّق بسياسة إسرائيل في الإبادة المعرفية ليس القتل المؤلم والمعاناة والإرهاب الذي يمارس على الشعب الفلسطيني في غزة فحسب، بل أيضاً الجهود المدروسة لمحو المؤسّسات التي تحافظ على التاريخ الفلسطيني، وتعليم الأجيال الحالية والمستقبلية، وإقامة الروابط بين الماضي ومستقبل الحرّية والعدالة. وهذا ليس مجرّد اعتداء على الذاكرة؛ إن ما يحدث في غزّة يشكّل هجوماً على جوهر التعليم باعتباره قوة تحريرية - وهو أمر لا غنى عنه لمجتمع يشكّل فيها الحكم المستنير والشجاعة المدنية والفعالية النقدية أهمّية أساسية لدعم مُثُل الحرّية والعدالة من خلال المقاومة الجماهيرية.

إن الناشطين والمنظّمين الطلابيين في أكثر من 411 مجموعة وجمعية طالبية فلسطينية أعلنتها الدولة الإسرائيلية غير قانونية يتعرّضون للاختطاف بشكل روتيني من الأحرام الجامعية ومن منازلهم في منتصف الليل. ويتعرضون للتعذيب

ومن الأهمّية بمكان أن يعترف المعلمون الناقدون والناشطون المناهضون للحرب بأن هذه الحرب على التعليم في غزة توازي الهجوم المستمرّ على التعليم العالي في الولايات المتحدة وغيرها من الأنظمة السلطوية، وهو ما يكشف عن محاذاة عالمية مقلقة في الهجوم على الحرية الفكرية والحقيقة التاريخية. تمثّل استراتيجية الإبادة المعرفية مشروعاً بنيوياً عنيفاً وجهداً أيديولوجياً وتربوياً محسوباً لإسكات المعارضة داخل وخارج التعليم العالي، خصوصاً المعارضة التي تُحمِّل حرب إسرائيل الإبادية وأجهزتها التلقينية الأيديولوجية وقمعها المسؤولية. وتمثل الأهوال التي تتكشّف في غزّة النقطة النهائية القصوى لحملة أوسع نطاقاً وخبيثة تهدف إلى سحق المعارضة في الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا وخارجها، بما في ذلك دول مثل المجر. في الولايات المتحدة، لا يجوز قصف المدارس والمؤسّسات الثقافية، ولكن يُسحَب التمويل منها بشكل منهجي وتُحوَّل إلى قلاع للقمع الأكاديمي. تُحظر الكتب، ويواجه الطلاب المحتجون وحشية الشرطة، وتُطهّر هيئات التدريس، ويُبيّض التاريخ. وفي الوقت نفسه، يعمل المليارديرات والمنفّذون الإداريون بلا رحمة على «هندسة الإفقار الفكري والاجتماعي والمالي للقطاع التعليمي»، وإسكات أي شخص يجرؤ على تحدّي سعيهم إلى الإخضاع الوطني والأيديولوجي.

الإبادة المعرفية هي شكل حديث من أشكال «المكارثية» يُكثّف من إسكات المعارضة إلى التدمير الصريح للمؤسسات الأكاديمية والثقافية التي تُمكِّن المقاومة الفردية والجماعية. يبدأ الأمر باستهداف الحكم المستنير والذاكرة التاريخية والمعارضة، ثم يتصاعد إلى محو البنى التحتية المدنية مثل المدارس والمتاحف. وفي أعقابه، يترك وراءه درباً من إراقة الدماء والأطراف المكسورة والنساء والأطفال الجرحى وإرثاً مرعباً من العنف والوفيات الجماعية والفراغ الأخلاقي. إن ظاهرة الإبادة المعرفية هي بمثابة طائر كناري في منجم فحم، حيث تشير إلى تهديد وشيك وخطير للحرية الأكاديمية، وحرية التعبير، والتعليم النقدي، والديمقراطية نفسها.

نُشِر هذا المقال في CounterPunch في 23 آب/أغسطس 2024، وتُرجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.