Preview الإبادة الجماعية

الإبادة الجماعية التي لم تهزّ العالم… حتى الآن

في 12 شباط/فبراير 2024، أصدرت محكمة في هولندا قراراً بإيقاف جميع عمليات تصدير قطع غيار طائرات F-35 إلى إسرائيل. يأتي هذا القرار ضمن سلسلة من خطوات مشابهة اتخذتها دول أخرى، ما دفع بعض المحلّلين لاعتبار هذه الخطوات تسير بالاتجاه الصحيح نحو معاقبة إسرائيل وعزلها دولياً بهدف تقييد أفعالها. إلا أن تفحّص طبيعة هذه الإجراءات، بأشكالها كافة، يبيّن أنها لم تصل حتى الآن إلى مستوى الردّ المطلوب على جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية، من دون أن يعني ذلك تبخيس القيمة السياسية والمعنوية لإجراءات بعض الدول، التي قرّرت أن لا تكون شريكة أو متواطئة أو صامتة تجاه هذه الجرائم التي يشاهدها الجميع على الهواء مباشرة.

الإبادة الجماعية

قرارات قضائية «مؤقّتة»

قبل قرار المحكمة الهولندية، أوقفت إسبانيا جميع تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وكشف نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني أن إيطاليا أوقفت إمدادات الأسلحة للاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب على غزّة. ووفقاً لموقع «والا» الإخباري الإسرائيلي، فإن نحو 5% من مشتريات الأسلحة الإسرائيلية في خلال العقد الماضي جاءت من إيطاليا، وهي تشمل طائرات هليكوبتر ومدفعية بحرية.

من جهة أخرى، وعلى مستوى تمثيلي أضيق، أوقفت حكومة منطقة والون البلجيكية رخصتيْ تصدير ذخيرة إلى إسرائيل. وهذه المنطقة هي إحدى مناطق بلجيكا الثلاث. وقال وزير الإسكان كريستوف كولينيون إن القرار يقضي بالتعليق المؤقّت لرخصتين مُنحتا لشركة PB Clermont، وذلك على أثر الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية الشهر الماضي في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، فضلاً عن «التدهور غير المقبول للوضع الإنساني في قطاع غزة».

تبقى هذه الإجراءات، جزئية ومؤقّتة، على أهمّيتها الرمزية والمعنوية. ويرى محلّلون أن لا تأثير يذكر لها على قدرات الجيش الإسرائيلي، إذ لديه أسلحة أخرى تحت تصرّفه، وأن قطع غيار طائرات F-35 متوفرة في أماكن أخرى، وتحديداً في الدول المعروفة بدعمها العلني واللامتناهي لدولة الاحتلال، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية. فضلاً عن أن الدول التي اتخذت إجراءات لتعليق توريد الأسلحة أو أنها تهدّد بذلك ليست المصدّر الرئيس للأسلحة إلى إسرائيل، ففي العام 2021، جاء نحو 80.5% من واردات إسرائيل من الأسلحة من الولايات المتحدة الأميركية، و9.58% من الهند، فيما تراجعت حصّة واردات الأسلحة الإيطالية إلى 1.78%.

قطع العلاقات الدبلوماسية

على المستوى الدبلوماسي، تسجّل أميركا اللاتينية العدد الأكبر من حالات المقاطعة الدبلوماسية. في تشرين الثاني/نوفمبر، قطعت بوليفيا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب الحرب، ولحقت بها دولة بيليز. واستدعت دول أخرى، كولومبيا وتشيلي وهندوراس، سفراءها من إسرائيل. 

واجهت دولة الاحتلال ردود فعل مماثلة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، حيث سحبت تركيا والبحرين والأردن سفرائها. أمّا في أفريقيا، فقد اتخذت دولتان إجراءات مماثلة، وهما تشاد وجنوب أفريقيا. وعلى مستوى أضيق، وافق مجلس مدينة برشلونة على إعلان تعليق العلاقات مع إسرائيل إلى حين التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة.

لكن، لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع 166 دولة في العالم، وفق التحديث الأخير الذي نشره الموقع الالكتروني للحكومة الإسرائيلية في شباط/فبراير 2023. ولا تزال العلاقات الدبلوماسية قائمة مع الكثير من هذه الدول، بما في ذلك دولاً عربية مطبّعة مع الاحتلال، ولا سيما الإمارات العربية والمغرب ومصر. أما فيما يتعلّق بالبحرين، فعلى الرغم من تأكيدها مغادرة السفير الإسرائيلي من المنامة وسحب السفير البحريني من تل أبيب، تقول الخارجية الإسرائيلية إنها لم تُبلّغ لا من حكومة البحرين ولا من الحكومة الإسرائيلية بأي قرار بسحب السفراء، وأضافت أن العلاقات بين البلدين مستقرة.

وعلى الرغم من تأكيد المملكة العربية السعودية أنه لن تكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وفق حدود العام 1967، ووقف «العدوان الإسرائيلي» على غزة، تكشف التقارير الإعلامية عن استمرار الاتصالات بين السعودية وإسرائيل، ومشاركة السعودية في فكّ الحصار على إسرائيل الذي ضربته حركة «أنصار الله» اليمنية في البحر الأحمر، عبر السماح باستخدام أراضيها لعبور البضائع من دبي إلى الأراضي المحتلة، فضلاً عن تقارير تفيد بمشاركة السعودية في اعتراض صواريخ ومسيّرات أُطلقت من اليمن باتجاه أم الرشراش (إيلات).

الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية

المحاولات الدولية الأكثر جدّية لعزل إسرائيل ومعاقبتها، جاءت من جنوب أفريقيا، عبر الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكات الأخيرة لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية في قطاع غزة. وقد تبعها طلب قدّمته نيكاراغوا إلى المحكمة للانضمام إلى جنوب أفريقيا في دعواها. وسبق ذلك، إعلان محكمة العدل الدولية، في 17 تشرين الأول/نوفمبر 2023، عن تقدّم جنوب إفريقيا وبوليفيا وبنغلاديش وجزر القمر وجيبوتي بطلب للتحقيق في الهجمات الإسرائيلية على غزّة

نتيجة للدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، طلبت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة من إسرائيل القيام بكلّ الخطوات اللازمة لمنع التحريض على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه، إلا أنها لم تتوصّل إلى قرار بوقف إطلاق النار بحجّة «عدم الاختصاص» وعدم قدرة المحكمة على فرض قرار مماثل في صراعات ليست بين دولتين وإنما بين دولة ومنظّمة (المقصود حركة حماس)، كما لم تعتبر أن إسرائيل قد قامت حقاً بالإبادة الجماعية في غزة، وهو ما كان من الممكن له أن يؤدي إلى عزلها دولياً. ولم يفضِ قرار المحكمة إلى ثني إسرائيل عن أفعالها في غزّة، بحسب المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين فرانشيسكا ألبانيز، التي قالت في 2 شباط/فبراير 2024 إن إسرائيل تنتهك على ما يبدو أوامر محكمة العدل الدولية بشأن قطاع غزة.

محاولات العزل اقتصادياً 

على صعيد آخر، هناك محاولة لا تزال سارية لعزل إسرائيل اقتصادياً، تتمثّل بالهجمات المتكرّرة لحركة «أنصار الله» اليمنية على السفن ذات الصلة بإسرائيل في البحر الأحمر، الأمر الذي كان من الممكن له أن يفاقم من أزمة إسرائيل التجارية، إلا أن هذه المحاولة أيضاً، فضلاً عن أنها تعرّضت إلى إدانة دولية، فقد قوبلت بإنشاء ما سُمِّي بتحالف «حارس الإزدهار» بين دول عدّة لردعها، وقيام الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بهجوم عنيف على مواقع «أنصار الله» في اليمن.

وفيما لا تزال غزة تتعرّض للإبادة الجماعية، والتلويح بارتكاب المزيد من المذابح في رفح، لا يبدو أن إسرائيل ستكون في قائمة الدول الأكثر عزلة في العالم، ولن تتعرّض للعقوبات كما جرى مع روسيا مثلاً إثر غزوها لأوكرانيا في 2022، علماً أن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين غير مسبوقة في كلّ الحروب التي شهدها العالم، أقلّه منذ نهاية الحرب الباردة وإطلاق العنان للهيمنة الأميركية الأحادية على العالم برمّته.