حياة جون ماينارد كينز

تتجاوز سيرة كينز الممتازة، التي كتبها زاكاري كارتر بعنوان «ثمن السلم»، السير التقليدية. يبدأ الكتاب من وقت كان كينز في الـ31 من عمره في صيف العام 1914، ويعمل على استباق الأزمة المصرفية في إنكلترا عقب اغتيال سراييفو وانزلاق أوروبا شبه المؤكد نحو الحرب. وينتهي الكتاب بعد وفاة كينز بزمن بعيد، ويغطي صعود الكينزية في الولايات المتّحدة. وأمجاد كينز بعد وفاته التي فاقت بكثير الأمجاد الضئيلة التي حققها في حياته. ويرجع ذلك إلى تبني سياساته في الولايات المتحدة.     

فرانكلين روزفلت أدّى بالنسبة إلى كينز الدور نفسه الذي أداه لينين بالنسبة إلى ماركس. ولولا السياسيين، لكان كلاً من ماركس وكينز مجرّد اقتصاديين ومؤلفين معروفين

يُعتبر منظور كارتر مُبرراً فهو يعاين فترة طويلة من الوقت تتجاوز حياة كينز. ولولا الكساد العظيم والصفقة الجديدة لكان تأثير كينز محدوداً، حتى لو افترضنا أنه كان سيألّف كتابه «النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود». وعلى الرغم من علاقاته السياسية العديدة لم يكن كينز شخصية بارزة في بلاده، إنما ترسخت أمجاده مع الصفقة الجديدة وسياسات روزفلت. والحال، إن فرانكلين روزفلت أدّى بالنسبة إلى كينز الدور نفسه الذي أداه لينين بالنسبة إلى ماركس. ولولا السياسيين، لكان كلاً من ماركس وكينز مجرّد اقتصاديين ومؤلفين معروفين. لكن بمجرد تبنّي طامحين إلى السلطة لأفكارهما (امتد الأمر في حالة كينز إلى ريغان)، صار مصيرهما مبرراً من منظور كينز تجاه قيمة الأفكار التي عبّر عنها في نهاية «النظرية العامة»: «إن الرجال العمليين الذين يعتقدون أنهم معفيون من أيّ تأثير فكري عادةً ما يكونون عبيداً لبعض الاقتصاديين الراحلين».

يسلّط الكتاب الضوء، حتى لو لم يوضح كارتر ذلك بالتفصيل، على عدم التوافق الفلسفي الأساسي بين كينز والنمساويين من أمثل هايك وميزس. (لا يلعب كلاهما أي دور في الكتاب تقريباً، لكن عدم التوافق بين كينز والنمساويين، وجمعية مونت بيليرين والنيوليبراليين من بعدهم، يُعتبر عاملاً أساسياً من أجل فهم كينز). كان عدم التوافق بسبب الاختلاف في نُظم القيم. فالآلية الاقتصادية لسياسة عدم التدخل، بالنسبة إلى هايك، كانت قيمة في حد ذاتها. فاعتبر حرية التجارية والتوظيف والفصل من العمل وحرمة الملكية الخاصة قيماً في حد ذاتها في معزل عن النتائج التي تؤدي إليها. وبالفعل، اعتقد هايك وميزس أنها سوف تؤدي إلى دخل أعلى وسعادة أكبر تالياً، حتى إذا لم تنجح في ذلك؛ حتى لو أدت، كما حدث في الغالب، إلى احتكار واحتكار أحادي للشراء وكساد وبطالة وفساد سياسيّ وتجزئة المجتمعات إلى طبقات، كان لا يزال الدفاع عنها واجباً لأنها قيمة في ذاتها. كانت هذه الحرية بالنسبة إلى هايك.

لكن كينز لم يشاركهم هذه النظرة. فلم يكن النشاط الاقتصادي بالنسبة إلى كينز، سواءً التجارة الحرة أو الموجهة أو الخاضعة إلى السيطرة الحكومية أو غيرها من أشكال التجارة، قيمة في حد ذاته، بل مجرد أداة. فاعتبر السياسات الاقتصادية وحتى التقدّم الاقتصادي مجرد أدوات من المفترض أن تضع حداً للنقص وتؤمّن الوفرة العامة بالنسبة إلى البشر. كانت الوفرة هي الهدف لأننا نستطيع في ظل الظروف التي تتلاشى فيها أهمية السلع المادية أن نكرّس أنفسنا لأشياء أروع الحياة: مثل تأليف الروايات أو الذهاب إلى الأوبرا أو مشاهدة الأفلام أو تأليف الشعر. رأى أن هدف الاقتصاد أن يتعالى على ذاته. فاعتبر أن حاجتنا إلى الاقتصاد تقل كلما زاد نجاحه. ويحقق الاقتصاد نجاحه الأسمى كعلم حين تنتفي الحاجة إليه، عندما يخلق المجتمع، مثل قطار يسير بسلاسة على مسار محدد مسبقاً، البحبوحة من دون أيّ جهد، ومن دون أن يلحظ أحد ذلك. فيتيح لنا تلاشي أهمية الاقتصاد أن نكرّس أنفسنا للأمور المهمة فعلاً في حياة الإنسان: الجمال والتعلّم والفنون والعلوم.

لذا رأى أن الاقتصاد برمته يهدف إلى التعالي على ذاته. وتُعتبر هذه النظرة إلى العالم غريبة تماماً عن هايك. فإذا كان علم الاقتصاد مجرد أداة، وتلك الأداة أكثر فعالية حين تستخدمها الدولة، فليكن؛ وإذا كان رأسماليو القطاع الخاص يتعاملون مع الأمر على نحوٍ أفضل، فليكن المجال مفتوحاً لهم. وينبع افتقار كينز الملحوظ إلى روح دوغمائية من هذه النقطة. فالحكم على الاقتصاد يجري بناءً على نتائجه، وليس اتساقه الداخلي.

كان في استطاعة كينز، بسبب سطوع نجمه فحسب، أن يتنقل بيسر بين مختلف المناصب الاقتصادية التي شغلها على مدار حياته. فأيّد التجارة الحرة وسياسة عدم التدخل ومعيار الذهب حين رأى في ذلك المزيج الأفضل لحياة متحضرة، لكنه أيّد بالقدر نفسه استثمار الدولة وتيسير الموت لأصحاب الريع والرسوم الجمركية المرتفعة حين اعتقد أن هذه السياسات هي الحل الأمثل. ما ميّز كينز كان مرونته الملحوظة في التعامل مع السياسات، فضلاً عن التركيز الملحوظ على هدف محدد.

لا يُمكن وضع حد لعبوديتنا للمال طالما أننا جميعاً لسنا أغنياء بما يكفي أو سعداء بما يكفي بما لدينا في الأقل حتى يتسنى لنا أن نعمل للحد الأدنى من الوقت ونقضي بقية وقتنا في مساعي أكبر وأمتع.

اتسم كينز بالمرونة، في حين كان النمساويون دوغمائيين، لكن مرونته لم تنبع من عدم ثبات الهدف أو التقلّب. إنما كانت نابعة من رؤية إلى الاقتصاد بوصفه أداة لتحقيق «رغد العيش».

كان التعبير عن هذا الهدف بمصطلحات ماركسية بأنه «مدخل» إلى «عالم الحرية». وهناك تشابه وثيق بين وصف كينز لمجتمع ما بعد الندرة في مقالته «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» التي كتبها في العام 1936 وكتاب «الأيديولوجيا الألمانية» لماركس الذي كتبه قبلها بقرن تقريباً لكنه لم يُنشر إلا في العام 1932 في موسكو. (لم يكن «الأيديولوجيا الألمانية» معروفاً لكينز). اعتقد كلاهما أن الحرية الحقيقية تبدأ عندما ينتهي الكدح الناتج عن تقسيم العمل والعبودية للمال. فيقول كينز: «ربما يحملنا صانعو المال المجتهدين والهادفين إلى أحضان الوفرة الاقتصادية. لكن تلك الشعوب التي يمكنها أن تحافظ على حياتها وترعى فن الحياة ذاتها للوصول إلى كمال أرفع، ولا تبيع نفسها من أجل وسائل الحياة، هي الشعوب التي سوف يكون في استطاعتها أن تستمتع بالوفرة حينما تحدث». ويقول ماركس: «حيث لا يملك أحد مجالاً حصرياً واحداً للنشاط، بل يُمكن لكل فرد أن يُنجز في أيّ فرع يتمناه، ينظم المجتمع الإنتاج العام وبذلك يتيح لي أن أفعل شيئاً اليوم وشيئاً آخر غداً، أن أصطاد براً في الصباح وأصطاد السمك بعد الظهر وأرعى الماشية في المساء وأنتقد بعد العشاء، حسب ما يروق لي، من دون أصبح صياداً أو راعياً أو ناقداً قط».

لا يُمكن وضع حد لعبوديتنا للمال طالما أننا جميعاً لسنا أغنياء بما يكفي أو سعداء بما يكفي بما لدينا في الأقل حتى يتسنى لنا أن نعمل للحد الأدنى من الوقت ونقضي بقية وقتنا في مساعي أكبر وأمتع.

تشكّل حياة كينز مثالاً موضحاً لما ينبغي أن تبدو عليه الحياة الأفضل والأعظم. فكان ناقداً فنياً وموظفاً حكومياً وصحفياً وإحصائياً ومصمماً لمنظمات دولية وأكثر منتقديها ضراوةً وراعياً للفنون واقتصادياً أكاديمياً ومتحدثاً حول الأسهم وشخصية اجتماعية وكاتب مقالات، وأخيراً مؤلّف لكتاب «النظرية العامة». ربما يقول عنه الصغار إنه صاحب الكارات السبع الذي لا يتقن أيّ منها، لكنه في الحقيقة كان رجلاً ينتمي إلى عصر النهضة ورأى أن البشرية لن تكون حرة إطلاقاً حتى يتسنى للجميع أن يعيشوا حياة مشابهة لتلك التي كان محظوظاً بما يكفي لأن يعيشها.

نُشِر هذا المقال على مدوّنة الكاتب في 9 حزيران/يونيو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره بموافقة مسبقة من الكاتب.