سلطوية التمويل: نحو نهاية النيوليبرالية

  • مراجعة لكتاب «التمويل الاستبدادي: نحو نهاية النيوليبرالية» لمارلين بنكيه وتيو بورغرون، الذي يقطع مع البداهة في تحليل الشعبوية اليمينية الصاعدة في العالم ويبتعد من تحليل السلوك الاجتماعي للجماهير والبعد النفسي لليمين الشعبي، ليبحث في جانبها المادي وارتباطه بالجهات التي تموّله ومصالح الطبقة المسيطرة.

يقطع هذا الكتاب مع البداهة في تحليل الشعبوية اليمينية الصاعدة في العالم. بعيداً من تحليل السلوك الاجتماعي للجماهير والبعد النفسي لليمين الشعبوي، يفحص عالما الاجتماع، مارلين بنكيه وتيو بورغرون في كتابهما «التمويل الاستبدادي: نحو نهاية الليبرالية الجديدة» الجانب المادي من ظاهرة الشعبوية والصعود اليمين المتطرف في أوروبا والعالم بتعلق بحلّ إشكالية من يمول هذا الصعود؟ وكيف ولماذا؟ يستند الكتاب إلى ثلاث تجارب أساسية للدفاع عن أطروحته. أولاً ما جرى في بلدين مهمّين (الولايات المتحدة والبرازيل)، عندما تم انتخاب رجلين يحملان مشروعاً استبدادياً وليبرالياً للغاية وهما ترامب وبولسونارو. وثانياً، قضية خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي. وكان التحليل السائد لهذه الموجة الشعبوية شديدة اليمينة والرجعية، يدور حول نتاج مزيج من الأفكار الرجعية والعنصرية مع ثورة قطاعات من الطبقة العاملة أو الطبقة الوسطى (في البرازيل). وقد ساهم قطاع واسع من اليسار العالمي في ترسيخ هذا النوع من التحليل، الذي يملك في بعد منه واجهة ويحقّق جانباً من تفسير الظاهرة. وتمحور حول بعدين: الأول مادي ويتعلّق بخيبة أمل الطبقات العاملة البيضاء والوسطى من سنوات العولمة والتحوّل النيولبيرالي، والثاني نفسي، يتعلّق بنزوع يميني عالمي نحو التضاد مع القيم الليبرالية وفي اتجاه الانعزالية القومية ومعاداة الأجانب، وهو نتاج البعد المادي الأول.

لكن مارلين بنكيه وتيو بورغرون، يعتقدان أن هذه التحليلات غير كافية، ولا تأخذ في الاعتبار الانقسامات داخل الطبقات المهيمنة، التي تصرف بعضها بقوة لضمان حدوث هذه التطوّرات. ويركّز عملهما في المقام الأول على بريطانيا مع دراسة متأنية لتمويل حملة الاستفتاء على مغادرة الاتحاد الأوروبي، حتى حكم الشعبوي بوريس جونسون. وكذلك دراسة القوى المالية التي دفعت إلى التصويت المعادي للأجانب والمنكرين لأزمة المناخ في الولايات المتحدة أو البرازيل، ما يدل على اختلاف عميق في المصالح داخل الطبقة الحاكمة نفسها. وحاول المؤلفان إظهار المصالح الاقتصادية القوية الموجودة وراء هذه الأحداث والتي عادةً ما يكتفي الكثيرون بتفسيرها من خلال استياء الطبقات العاملة. ويطرح المؤلفان فرضية مفادها أن العالم لن يظل محكوماً بالليبرالية الكينزية الجديدة القائمة على التمويل المصرفي المنظّم، بل سوف يحكمه شكل جديد من الرأسمالية هي «الليبرتارية الاستبدادية» التي يهيمن عليها «تمويل الظل».

إذا نظرنا إلى هذه الأحداث من وجهة نظر تمويل التصويت وليس من منظور خارطته الاجتماعية، فإننا لم نشهد انتصار الخاسرين على الفائزين في العولمة، بل إن الفائزين في العولمة هم الذين لم يتفقوا فيما بينهم وهذا نتيجة صراع قوي بين نوعين من المتموّلين الذين لم يعودوا يحملون المشروع السياسي نفسه

الشرط المالي للشعبوية

يهيمن نموذج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كشاهد على رجاحة أطروحة المؤلفان، بوصفها أول حالة عملية لتحوّل بلد ما من نظام سياسي نيوليبرالي إلى نظام سياسي تحرّري استبدادي. فقد تم تقديم نتيجة الاستفتاء من العديد من المحلّلين ووسائل الإعلام على أنها نوع من المفاجأة للقطاع المالي، ونتيجة لشكل من أشكال التمرّد الانتخابي للطبقتين العاملة والمتوسطة ضد القطاع المالي الذي كان يعارض الاستفتاء بشدة. لكن من خلال تحليل التمويل الاجتماعي للتصويت، ومن خلال النظر إلى الأفراد والشركات التي موّلت معسكري البقاء والمغادرة، يكشف الكتاب أنه على عكس ما طرحته بعض وسائل الإعلام، فقد دعم قطاع مالي مهم وسائد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بشكل كبير، وتظهر البيانات أن القطاع المالي خصّص ما يقرب من 60% من أمواله لدعم المغادرة. وقد أتى ذلك رفضاً لسياسات الاتحاد الأوروبي، بعد أزمة 2007-2008، في السيطرة على عمليات مالية معيّنة؛ ويعتقدون أيضاً أنه بمجرد تحقيق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تصبح لندن «كسنغافورة جنّة ضريبية عالمية»، لا تتّجه نحو أوروبا بل نحو الولايات المتحدة وبقية العالم. كما يُظهر المؤلفون أيضاً المكانة الغالبة للمتبرّعين الأفراد الأثرياء في دعم مغادرة الاتحاد، ويعرضون بالتفصيل مفاهيمهم الاقتصادية التحرّرية (وشبكة مراكز الفكر التي يعتمدون عليها) بالإضافة إلى مواقفهم الرجعية بشأن الضمان الاجتماعي والمناخ والحفاظ على النظام وما إلى ذلك.

ويفصل الباحثان في التناقضات التي تشقّ القطاع المالي، الذي تفقر في الدول الثلاث، بريطانيا والولايات المتحدة والبرازيل، بين تمويل اليمين الشعبوي من جهة وتمويل القوى السياسية السائدة في الجهة المقابلة. وقفت المؤسّسات المالية التقليدية مثل البنوك، وشركات التأمين، وصناديق التقاعد خلف المعسكر الليبرالي، وفي المقابل دعمت المؤسسات المالية الجديدة معسكر اليمين الشعبوي. وتتشكّل هذه المؤسسات الجديدة من مديري الأصول، وصناديق الأسهم الخاصة، وصناديق التحوط، وهم اللاعبون الجدد في الأعوام العشرين الماضية، الذين يعملون في الظل وبطريقة المضاربة. لذلك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال - بحسب أطروحة الكتاب - جاء نتيجة للمعارضة الاقتصادية، التي أصبحت صراعاً مؤسسياً وسياسياً، بين فئتين داخل القطاع المالي. لكن هذا التحليل يتجاهل على نحو اختزالي الفئات التي دعمت الخروج من خارج القطاع المالي داخل الرأسمالية البريطانية، حيث تظهر بيانات المؤلفين أنفسهم أن 43.3% من تمويل حملة المغادرة جاء من القطاعات غير المالية. 

لا يعارض المؤلفان التحليلات التي قدّمتها العلوم الاجتماعية النقدية عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب من زاوية الجغرافيا الاجتماعية للتصويت واستياء الطبقة المتوسطة والعاملة البيضاء في القطاعات غير الصناعية، التي تعاني من التمييز ضد النخب الحضرية المعولمة، لكنهما يحاولان فهم هذين الحدثين التاريخيين من زاوية الأسباب التي دفعت الناخبين إلى التحرك فحسب. فلكي يتم التصويت، يجب أن يكون هناك من يقرّر تنظيم هذا التصويت، وليس الطبقات العاملة والمتوسطة هي التي تتخذ هذا القرار. ثم يحتاج الأمر إلى جهات لتمويل هذا التصويت. وإذا نظرنا إلى هذه الأحداث من وجهة نظر تمويل التصويت وليس من منظور خارطته الاجتماعية، فإننا لم نشهد انتصار الخاسرين على الفائزين في العولمة، بل إن الفائزين في العولمة هم الذين لم يتفقوا فيما بينهم. وهذا نتيجة صراع قوي بين نوعين من المتموّلين الذين لم يعودوا يحملون المشروع السياسي نفسه. 

دأبت التحليلات النقدية إلى تصوّر المستفيدين من الرأسمالية كمجموعة متجانسة لها مصالح مشتركة يدافعون عنها بطريقة منسقة تماماً، وما تظهره البيانات هو أن هناك انقسام قوي للغاية حتى داخل الفئات الاجتماعية التي تستفيد من تراكم رأس المال

يقدّم هذا التصور النقدي لتجانس الطبقة المهيمنة، زاوية تحليل ذكية وغير مألوفة، تشجّع على ملاحظة عدم التجانس الذي يمكن أن يوجد داخل المجموعات الاجتماعية التي تستفيد من نمط الإنتاج الرأسمالي. فقد دأبت التحليلات النقدية إلى تصوّر المستفيدين من الرأسمالية كمجموعة متجانسة لها مصالح مشتركة يدافعون عنها بطريقة منسقة تماماً، وما تظهره البيانات هو أن هناك انقسام قوي للغاية حتى داخل الفئات الاجتماعية التي تستفيد من تراكم رأس المال. وهذا يشجّعنا على العودة إلى ماركس، الذي يعرّف البرجوازية، سواء من خلال علاقتها الاستغلالية تجاه البروليتاريا، أو من خلال علاقات المنافسة التي تحافظ عليها داخلها. غالباً ما يتم نسيان هذا الجزء الثاني من التعريف، لكن بحسب ما يذهب إليه مارلين بنكيه وتيو بورغرون. يقدّم هذا التحليل نقداً ضمنياً لتصورات اليسار المركزية عن الطبقات العاملة، أو عموم المحكومين، حيث تركز التحليلات النقدية للشعبوية واليمين المتطرّف على تفشي النزعات العنصرية داخل الطبقة العاملة البيضاء والطبقات الوسطى بسبب آثار العولمة والتحوّل النيوليبرالي، وفي المقابل يتم تجاهل النظر إلى العنصرية وكراهية الأجانب لدى الطبقات الحاكمة. ولفهم مدى انتشار هذه الأفكار، يقدّم لنا الكتاب منظوراً لفهم كيفية تنظيم وتمويل هذه العنصرية وكراهية الأجانب. وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على نموذج انتخاب جايير بولسونارو في البرازيل، حيث دفع قطاع واسع من المموّلين، على رأسهم صناديق التحوّط، نحو فوزه في سياق سياسة تتعلّق بتمويل إنكار الأزمة المناخية. وقد حقّق بولسونارو مصالح هذا القطاع المالي لاحقاً من خلال سياسات معادية لسكان الأمازون، ولفائدة الشركات، التي تساهم هذه الصناديق في رأس مالها وتنفذ برامج معادية للبيئة. وتسمح هذه الأمثلة ببيان الطابع البنيوي للتحوّل من نظام تراكم إلى آخر، القائم على تحوّل داخل الطبقة المهيمنة نفسها، وهو ما يفصّله المؤلفان بشكل أوضح في القسم الثاني من الكتاب.

الليبرتارية السلطوية

يؤسِّس المؤلفان على النماذج الثلاثة أطروحتمها عن التحوّل الذي تشهده الرأسمالية من النيوليبرالية نحو «الليبرتارية الاستبدادية».  تعارض هذه العقيدة الاقتصادية أي تدخل من الدولة باستثناء حماية الملكية الخاصة واللعب الحرّ في السوق. ويذهب الليبرتاريون إلى أبعد من النيوليبراليين في تشكيكهم في دور الدولة. وهم بالكاد مرتبطون بالمؤسسات الدولية التي أنشئت في خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وهم أيضاً متشكّكون في قضية المناخ، ويصرّون على التكاليف الباهظة للتدابير المطروحة لمواجهة الاحتباس الحراري. والأكثر خطورة من ذلك أنهم يدافعون عن نهج استبدادي لحماية الملكية الخاصة. فالتحرّرية الاستبدادية – كما يعرّفها المؤلفان - هي مشروع سياسي يقوم على الدفاع عن حرية التراكم فقط، مع استبعاد أي شكل آخر من أشكال الحرية، أو أي شكل آخر من أشكال المبدأ السياسي. فهي تتبنّى مبادئ آين راند، المؤلف التحرّري الذي نشر التحرّرية في الولايات المتحدة. على المستوى الاقتصادي، ترى أن رفع القيود التنظيمية يجب أن يكون واسعاً قدر الإمكان، وأن الدولة يجب أن تقصر دورها وتدخلها على الحماية الوحيدة لحرية التراكم إلى حد خصخصة الوظائف السيادية للدولة، أو على الأقل تفويضها إلى القطاع الخاص. ويعتقد المؤلفان أن الاستبداد هو النتيجة العملية لهذه التحرّرية، لأنها لن تكون قادرة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي إلا من خلال القوة والقوة القسرية. وفي غياب أي آليات إعادة توزيع تربط المجتمع ببعضه، لن يكون هناك أفق ديمقراطي كمبرر للحياة الاجتماعية. وقد تبدو عبارة «الليبرتارية الاستبدادية» وكأنها متناقضة، ولكن عندما يتم وضع التحررية موضع التنفيذ، فإن الطريقة الوحيدة للحفاظ على النظام الاجتماعي ستكون الإكراه. وذلك في تضادٍ مع النموذج النيوليبرالي، حيث تعتبر الدولة ضامنة لحرية التراكم، على النحو المنصوص عليه في الوظائف السيادية كوكيل تنظيمي. وحيث يتم تبرير نمط الإنتاج الرأسمالي بالديمقراطية الليبرالية. 

هذا التحول ليس تضاد بين الليبرتارية السلطوية والنيوليبرالية، بل مسار تطوّر في الرأسمالية نفسها، وحلقة جديدة من حلقات الكوارث التي يتركها هذا النمط في العالم منذ قرون، وماضٍ في إنتاج المزيد منها

لم يأخذ الكتاب ضمن شواهده نموذج، خافيير مايلي، الرئيس الأرجينتيني الجديد، وذلك لأن مايلي صعد إلى السلطة مؤخراً بعد صدور الكتاب. لكنه يقدّم نهجاً لتحليل ظاهرة مايلي، الغريبة والمتطرفة في تحرّرها الاقتصادي ونزوعها الفاشي.  يدعي مايلي أنه رأسمالي لاسلطوي ويدافع عن إلغاء الدولة التي يعتبرها شراً مطلقاً. تأتي تأثيراته النظرية من المدرسة النمساوية للاقتصاد، والتي تم تطويرها على يد التحرّري الأميركي موراي روثبارد، مؤلف العديد من الأعمال بما في ذلك البيان التحرّري (1973). لكن إدعاء مايلي بأنه رأسمالي لاسلطوي يتضاد مع رغبته الحثيثة في الوصول إلى السلطة، لأنه يعي تماماً أن أي مشروع اقتصادي رأسمالي يعادي القطاع الأوسع من الناس ويحقّق مصالح الأقلية يحتاج بالضرورة إلى دولة تملك جيشاً وشرطة وأجهزة قمعية وأيدولوجية لتحقيقه. 

أخيراً، وعلى الرغم من الأهمية النظرية التي يقدّمها الكتاب في مقاربة الشعبوية اليمينة الصاعدة في بقاعٍ كثيرة من العالم، والبداهة التي يقطع معها في ترسيخ تحليلات مدرسة العلوم الاجتماعية النقدية للطبقات العاملة والوسطى، لكن يبدو مبالغاً فيه ذلك الزعم بأن الليبرتارية السلطوية، بوصفها حاصل الصراع داخل القطاع المالي المهيمن على الرأسمالية، تمثل تجلياً للطابع البنيوي للتحول من نظام تراكم إلى آخر، لا من حيث عجز أشكال التمويل الجديدة عن أن تكون سائدةً خلال سنوات قليلةٍ، ولا من حيث عدم وجود أزمة تهزّ النيوليبرالية منذ العام 2008، ولكن من حيث أن هذا التحول ليس تضاد بين الليبرتارية السلطوية والنيوليبرالية، بل مسار تطوّر في الرأسمالية نفسها، وحلقة جديدة من حلقات الكوارث التي يتركها هذا النمط في العالم منذ قرون، وماضٍ في إنتاج المزيد منها.