ما الخطب الذي أصاب الرأسمالية؟

  • مراجعة لكتاب «ما الخطب الذي أصاب الرأسمالية؟» لروتشير شارما، ويقول فيه أن الرأسمالية كما يتصوّرها، أي رأسمالية تنافسية تعطي حظوظاً متساوية للجميع، لم يعد لها وجود، وتحوّلت إلى احتكارات مدعومة من دولة متدخّلة لصالح الكبار. 

صدر لروتشير شارما كتاب بعنوان «ما الخطب الذي أصاب الرأسمالية؟» وروتشير شارما هو مستثمر ومؤلف ومدير صندوق رأسمالي وكاتب في «فايننشال تايمز». كما يشغل منصب رئيس الأعمال الدولية لشركة «روكفلر كابيتال مانجمنت»، وكان مستثمراً في الأسواق الناشئة في «مورغان ستانلي» لإدارة الاستثمارات.

مع هذه المؤهلات التي تضعه «داخل اللعبة» أو تجعله «أحد وحوشها»، لا بد أنه يعرف الإجابة عن سؤاله. ويوضح شارما حجّته في مراجعة لكتابه نشرت في فايننشال تايمز. فيقول لنا، أولاً، إنه «قلق حيال المكان الذي تقود الولايات المتحدة العالم إليه الآن. إذ انهارت الثقة في الرأسمالية الأميركية التي بُنيت على أسس من السلطات المحدودة والأنظمة غير المقيّدة التي تفسح المجال لحرّية ومبادرة فرديتين». ويشير إلى أن معظم الأميركيين لا يتوقّعون في الوقت الراهن أن يكونوا «أفضل حالاً في غضون 5 سنوات»، في تردٍ غير مسبوق منذ طرح «مؤشر إدلمان للثقة» هذا السؤال للمرة الأولى قبل عقدين من الزمن. ويشكّ 4 أشخاص من كل 5 في أن حياة جيل أطفالهم سوف تكون أفضل مما كانت حياة جيلهم، وهو تردٍ جديد أيضاً. وبحسب أحدث استطلاعات الرأي التي أجراها مركز بيو، انخفض تأييد الرسمالية بين الأميركيين جميعهم، لا سيما الديمقراطيين والشباب. والواقع أن 58% من الديمقراطيين ممن تقل أعمارهم عن 30 عاماً لديهم «انطباع إيجابي» عن الاشتراكية في الوقت الراهن، في مقابل 29% فقط ممن لديهم الرأي نفسه بشأن الرأسمالية.

خوفاً من أن تنتهي الديون المتراكمة إلى كساد آخر مشابه لما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت البنوك المركزية بالعمل مع الحكومات لدعم الشركات الكبرى والبنوك والدول الأجنبية، كلما تزعزعت الأسواق المالية». لذا لم يكن هناك تحوّل نيوليبرالي يحرّر الرأسمالية لتتوسع، بل العكس

وتُعدّ هذه الأنباء سيئة بالنسبة إلى شارما باعتباره من أشدّ المؤيدين للرأسمالية. فما الخطب الذي أصابها؟ يعيد شارما الأمر إلى صعود السلطات القوية والمتدخلة والسلطة الاحتكارية والمال السهل لإنقاذ الكبار. وقد أدى ذلك إلى ركود وانخفاض نمو الإنتاجية وتنامي اللامساواة.

ويحاجج شارما بأن ما يُسمى بثورة الثمانينيات النيوليبرالية التي كان من المفترض أن تحلّ محلّ الإدارة الكلية وفق النمط الكينزي، وأن تقلّص حجم الدولة، وأن تحرّر الأسواق من القيود التنظيمية، كانت مجرد خرافة. ويقول شارما إنه «لم نشهد حقبة للدولة الصغيرة». ويشير إلى أن الإنفاق الحكومي في الولايات المتحدة ارتفع 8 أضعاف منذ العام 1930 من أقل من 4% إلى 24% من الناتج المحلي الإجمالي، وإلى 36% إذا احتسبنا الإنفاق الحكومي والمحلي. ومع التخفيضات الضريبية، ارتفع العجز الحكوميّ والدين العام ارتفاعاً هائلاً.

أما بالنسبة إلى رفع القيود التنظيمية، فقد كانت النتيجة عبارة عن «قواعد أكثر تعقيداً وتكلفة، غالباً ما يكون الأثرياء والأقوياء الأكثر تجهيزاً واستعداداً للتعامل معها». وفي الواقع، زادت القواعد التنظيمية. أما بالنسبة إلى المال السهل، و«خوفاً من أن تنتهي الديون المتراكمة إلى كساد آخر مشابه لما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت البنوك المركزية بالعمل جنباً إلى جنب مع الحكومات لدعم الشركات الكبرى والبنوك والدول الأجنبية حتى، كلما تزعزعت الأسواق المالية». لذا لم يكن هناك تحوّل نيوليبرالي يحرّر الرأسمالية لتتوسع، بل العكس.

لكن هل تأريخ شارما الاقتصادي لحقبة ما بعد الثمانينيات صحيح؟ يحاول شارما تصوير حقبة ما بعد الثمانينيات كحقبة الإنقاذ المالي للبنوك والشركات في خلال الأزمات على نقيض فترة الثلاثينيات التي اتبعت فيها البنوك والحكومات سياسة «تصفية» المؤسسات المأزومة. والواقع أن هذا الأمر ليس صحيحاً، إذ كان إنقاذ رأس مال الشركات والبنوك القوة الدافعة لـ«صفقة روزفلت الجديدة»، ولم تُعتمد التصفية كسياسة حكومية مطلقاً. علاوةً على ذلك، كانت فترة الثمانينيات في الغالب عقدَ أسعار الفائدة المرتفعة والسياسة النقدية المتشدّدة التي فرضها محافظو البنوك المركزية أمثال فولكر، سعياً منهم إلى خفض التضخم الموروث من السبعينيات. وبالطبع ليس لدى شارما ما يقوله بشأن «الكساد التضخمي» لفترة السبعينيات، إذ يراه عقداً تزامنت فيه الرأسمالية مع الدولة الصغيرة والأنظمة الضعيفة.

يُبرز شارما ارتفاع الإنفاق الحكومي بما فيه «الإنفاق على الرعاية الاجتماعية» في السنوات الأربعين الماضية، من دون أن يشرح السبب الحقيقي لهذا الارتفاع. فبعد ارتفاع الإنفاق والديون في أثناء الحرب، ارتبط جزء كبير من الإنفاق المتزايد منذ حينها بارتفاع عدد السكان، لا سيّما كبار السن، ما أدى إلى زيادة في الإنفاق (غير المنتج بالنسبة إلى الرأسمالية) على الضمان الاجتماعي والمعاشات التقاعدية. لكن الارتفاع في الإنفاق الحكومي جاء أيضاً استجابة لضعف النمو الاقتصادي والاستثمار في رأس المال المنتج منذ السبعينيات. ومع نمو الناتج المحلي الإجمالي على نحوٍ أبطأ ونمو الإنفاق على الرعاية الاجتماعية على نحوٍ أسرع، ارتفعت نسبة الإنفاق الحكوميّ إلى الناتج المحلي الإجمالي.

لم يتطرّق شارما إلى جوانب أخرى من الحقبة النيوليبرالية. لقد كانت الخصخصة إحدى أبرز سياسات عهدي ريغان وتاتشر، إذ بيعت أصول الدولة لتعزيز الربحية في القطاع الخاص، وتقلّصت أحجام «الدولة الكبيرة»، على عكس حجة شارما. في الواقع، وبدءاً من منتصف السبعينيات، بيعت أسهم القطاع العام. وفي الولايات المتحدة، انخفضت حصتها من الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف.

حصة رأس مال القطاع العام الأميركي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي

على نحوٍ مماثل، بعد الثمانينيات، انخفضت استثمارات القطاع العام كحصة من الناتج المحلي الإجمالي إلى النصف تقريباً بينما ارتفعت حصة القطاع الخاص بنسبة 70%.

استثمارات القطاعين العام والخاص كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي

إذاً، ليست «الدولة الكبيرة» هي التي تسيطر على قرارات الاستثمار والإنتاج، بل القطاع الرأسمالي. وهذا يشير إلى سبب تقلّص دور القطاع العام. فمشكلة الرأسمالية في أواخر الستينيات والسبعينيات هي الانخفاض الحاد في ربحية رأس المال في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الكبرى. كان لا بد من عكس هذا الانخفاض. فجاءت الخصخصة كإحدى السياسات المتبعة لتحقيق ذلك. وتمثّلت السياسة الأخرى بسحق النقابات العمالية من خلال القوانين والأنظمة المصمّمة لتصعيب إمكانية إنشاء النقابات أو اتخاذ قرار الإضراب، إن لم يكن جعله مستحيلاً. ومن ثم شهدنا خروج القدرة التصنيعية من الشمال العالمي إلى مناطق العمالة الرخيصة في الجنوب العالمي، تحت مسمى «العولمة». ومع ضعف النقابات العمالية في الداخل، كانت النتيجة انخفاضاً حاداً في حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي بالترافق مع عمالة رخيصة في الخارج وارتفاع (طفيف) في ربحية رأس المال.

تقهقر العمل

يقرّ شارما بأن «العولمة أدت إلى مزيد من المنافسة، وحدت من التضخّم» على عكس أطروحته عن الركود الاحتكاري، لكنه يزعم بعدئذ أن العولمة وانخفاض أسعار السلع المستوردة «عززت قناعة مفادها أن العجز الحكومي والديون لا يهمان». حقاً؟ منذ التسعينيات، حاولت الحكومات أن تفرض «تقشفاً» بحجة تحقيق التوازن المالي في للموازنات العامة وخفض الدين الحكومي. وفشلت، ليس لأنها تصوّرت أن «العجز والديون لا يشكلان أهمية»، بل لأن النمو الاقتصادي والاستثمار الإنتاجي تباطأ. وكانت تخفيضات إنفاق القطاع العام كبيرة، لكن النسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تنخفض.

يعتقد شارما أن «فترات الركود كانت أقل عدداً وأكثر تباعداً» في حقبة ما بعد الثمانينيات. لكن إذا تركنا الركود المزدوج الضخم في مطلع الثمانينيات (عامل رئيسي آخر في دفع قوة العمل إلى الانخفاض)، نرى فترات ركود في العامين 1990 و1991، وفي العام 2001، ثم الركود الكبير في العامين 2008 و2009، لتبلغ ذروتها في الركود الوبائي في العام 2020، وهو أسوأ ركود في تاريخ الرأسمالية. قد يكون قلّ عدد فترات الركوة وتباعدت فيما بينها، لكنها أصبحت ضرراً. 

يشير شارما إلى أن التوسّع الاقتصادي عقب كل ركود منذ الثمانينيات أخذ يضعف شيئاً فشيئاً. يبدو هذا بمثابة لغز بالنسبة إلى أنصار الرأسمالية. «ويعد اللغز المركزي للرأسمالية الحديثة هو المكمن خلف تباطؤ التعافي: انهيار معدل نمو الإنتاجية، أو إنتاجية كل عامل. ومع تفشي الوباء، كان قد انخفض أكثر من النصف منذ الستينيات».

يقدّم شارما تفسيره: «توجّه مجموعة متزايدة من الأدلة أصابع الاتهام نحو بيئة أعمال مثقلة بالأنظمة الحكومية والديون، حيث تزدهر الشركات العملاقة وتنجو أعداد أكبر من الشركات المأزومة من كل أزمة». وعمليات إنقاذ الاحتكارات الكبرى («ثلاث من كل أربع صناعات أميركية تحوّلت إلى احتكارات») وحافظ المل السهل على رأسمالية راكدة تزحف بوتيرة بطيئة، لتولّد شركات «زومبي» لا تستطيع أن تنجو سوى من خلال الاقتراض.

هنا، يقلب شارما الأمور. إذ يعزو تباطؤ نمو الإنتاجية في جميع المجالات إلى انخفاض في نمو الاستثمار الإنتاجي. وفي الاقتصادات الرأسمالية، تدفع الربحية الاستثمار الإنتاجي. والمحاولة النيوليبرالية لزيادة الربحية بعد أزمة السبعينيات المتعلّقة بالربحية كانت ناجحة جزئياً وانتهت مع بداية القرن الجديد. يتبدى الركود و«الكساد الطويل» في القرن الـ21 في ارتفاع الدينين الخاص والعام، إذ تحاول الحكومات والشركات أن تتغلب على الركود وانخفاض الربحية من خلال زيادة الاقتراض.

متوسط معدل ربح رأس مال الشركات في الولايات المتحدة

ويصرّح شارما بأن «الجمود الاجتماعي يخنق الحلم الأميركي». ففي ماضي «الرأسمالية التنافسية» الوردي، واستطاع الناس الارتقاء من الفقر المدقع إلى الثراء من خلال العمل الجاد ودافع العمل الحر، أما اليوم فهذا أمر مستحيل. لكن «الحلم الأميركي» لطالما شكّل خرافةفغالبية المليارديرات والأثرياء في الولايات المتحدة وغيرها ورثوا ثرواتهم، ومن أصبحوا مليارديرات في حياتهم حقّقوا ذلك من الأموال التي أخذوها من آبائهم لبدء مشاريعهم.

دعوني أضيف أن أطروحة شارما بُنيت على الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة في الشمال العالمي فحسب. وليس لديه الكثير ليقوله فيما يتعلّق ببقية العالم حيث يعيش معظم الناس. فهل أُعيق الحراك الاجتماعي أم أنه لم يوجد قط؟ أهناك دولة كبيرة تنفق مبالغ طائلة على الرعاية الاجتماعية في هذه البلدان؟ أهناك مال سهل لتقترضه الشركات؟ أهناك احتكارات محلية تعيق المنافسة؟ أهناك وفرة من عمليات الإنقاذ المالي؟

يقودنا هذا إلى رسالة شارما الرئيسة عن الخطب في الرأسمالية. كما ترون، بالنسبة إلى شارما، لم يعد للرأسمالية كما يتصوّرها وجود. بدلاً من ذلك، تحوّلت الرأسمالية التنافسية إلى احتكارات مدعومة من دولة كبيرة. فـ«لم تعّد فرضية الرأسمالية القائلة بأن الدولة الصغيرة شرط ضروري للحريات الفردية والفرص موضع ممارسة منذ عقود».

النسبة إلى شارما، لم يعد للرأسمالية كما يتصوّرها وجود. بدلاً من ذلك، تحوّلت الرأسمالية التنافسية إلى احتكارات مدعومة من دولة كبيرة. فـ«لم تعّد فرضية الرأسمالية القائلة بأن الدولة الصغيرة شرط ضروري للحريات الفردية والفرص موضع ممارسة منذ عقود

تبدو خرافة الرأسمالية التنافسية لدى شارما مشابهة لأطروحة غريس بلاكيلي في كتابها الأخير، الرأسمالية الجشعة الذي حاججت فيه بأن الرأسمالية لم تكن مطلقاً معركة وحشية بين رأسماليين متنافسين على حصة من الأرباح المستخرجة من العمل، إنما اقتصاد اتفاقي ومخطّط تسيطر عليه الاحتكارات الكبرى وتدعمه الدولة.

في الواقع، يتفق شارما وبلاكيلي على أن صعود «رأسمالية الدولة الاحتكارية» هو السبب الكامن للخطب الذي أصاب الرأسمالية. ويختلفان، بالطبع، بشأن الحل. بلاكيلي، لأنها اشتراكية، تريد أن تستبدل رأسمالية الدولة الاحتكارية بتخطيط ديمقراطي وتعاونيات عمالية. أما شارما، لأنه «أحد الوحوش»، يريد إنهاء الاحتكارات وتقليص الدولة واستعادة «الرأسمالية التنافسية» لتتبع «مسارها الطبيعي» فتوفّر الرخاء للجميع. ويقول شارما: «تحتاج الرأسمالية إلى ملعب تتاح فيه الفرصة للصغار والجدد لكي يجابهوا - ويدمروا على نحوٍ خلّاق - التركز القديم للثروة والسلطة».

كما ترون، بالنسبة إلى شارما، إذا أُطلق العنان للرأسماليين ليستغلوا القوى العاملة، ويتحرّروا من عبء الأنظمة واضطرارهم إلى دفع تكاليف الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، فسوف يزدهرون على نحوٍ طبيعي. «تفسّر العلوم الحقيقية الحياة بوصفها دورة تحوّل، من التراب وإلى التراب، لكن القادة السياسيون لا يزالون يستمعون إلى المستشارين ممن يزعمون أنهم يعرفون كيفية توليد النمو المستمر. يجب احتواء ثقتهم المفرطة قبل أن تسبب أضراراً إضافية». إذاً، بحسب شارما، سوف تستعيد الرأسمالية عافيتها مرة أخرى، إذا تركنا دورات الازدهار والركود الرأسمالية تعمل بشكل طبيعي ولم نحاول إدارتها.

«لا تزال الرأسمالية الأمل الأكبر للتقدم البشري، لكن إذا كان لديها مساحة كافية لتنجح». حسناً، حظت الرأسمالية بمجال واسع للعمل امتدّ لأكثر من 250 عاماً مع فترات الازدهار والركود التي مرّت بها. فزادت اللامساواة على مستوى العالم، والآن تهدّد البيئة والأرض، عدا عن مساهمتها في تزايد خطر الصراعات الجيوسياسية. من هنا، لا عجب أن 58% من الديمقراطيين الشباب في الولايات المتحدة يفضّلون الاشتراكية.

نشر هذا المقال على مدوّنة مايكل روبرتس في 27 أيار/مايو 2024، وترجم وأعيد نشره على موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.