الإقطاع التكنولوجي: نقد الاقتصاد الرقمي

  • مراجعة لكتاب «الإقطاع التكنولوجي: نقد الاقتصاد الرقمي» لسيدريك دوران الذي يتناول التحوّلات الناجمة عن ظهور الاقتصاد الرقمي وعواقبه، إذ بدأ ببروز شركات رقمية بسيطة، سرعان ما تحوّلت إلى شركات عملاقة ريعية احتكارية، وطوّرت خوارزميات مُعقّدة في توجيه اختيارات الأفراد التي خلقت علاقة تبعية قد تبدو كشكل جديد من أشكال الإقطاع. 

 

من خلال ثلاثة معاول للهدم، يقوم أستاذ الاقتصاد في جامعتي السوربون وجنيف، سيدريك دوران، بالدفاع عن أطروحته: «الفرضية الإقطاعية التكنولوجية». وتستهدف هذه المعاول الثلاثة أسس الاقتصاد الرقمي كما نعرفه اليوم. أولاً إيدولوجيا وادي السيلكون، أو ما يسمّيه بــ «روح الشركات الناشئة». وثانياً «الهيمنة الرقمية»، ونزوعها الاحتكاري والرقابي. وثالثاً، التراكم الوهمي وطبقة «أصحاب الأصول غير الملموسة». ليدافع أخيراً عن عودة «الإقطاع»، أو على نحو دقيق قيمه وأخلاقيّاته ونموذجه الاجتماعي في ثوب أكثر تطوّراً.

لا يخفي الكاتب نقده المؤسّس على منظور ماركسي، مراهناً على أن «تحديد خصائص الإقطاع يساعدنا على فهم أفضل للتغيّرات في الرأسمالية المعاصرة» ذلك أن الاقتصاد الرقمي، حسب قوله، يعطّل العلاقات التنافسية لصالح علاقات التبعية، ويؤدي بالتالي إلى جعل «الافتراس يغلب الإنتاج». فمن ناحية، تمكّنت الشركات الرقمية - التي كانت في البداية شركات صغيرة ومُبتكرة للغاية - من التحوّل تدريجياً إلى شركات عملاقة، ما سمح لها بتوليد دخل احتكاري. ومن ناحية أخرى، ساعدت المنصّات الرقمية، من خلال تطوير خوارزميات متزايدة التعقيد، في توجيه بل والتنبؤ باختيارات الأفراد، ما أدى إلى خلق علاقة تبعية - سواء من جانب المستهلكين أو المنتجين - أشبه بشكل جديد من أشكال القنانة الإقطاعية.

الاقتصاد الرقمي، حسب قوله، يعطّل العلاقات التنافسية لصالح علاقات التبعية، ويؤدي بالتالي إلى جعل «الافتراس يغلب الإنتاج

نقد العقيدة الكاليفورنية

يفتتح الكاتب بفصل يحاول فيه هدم الأساس الإيديولوجي للاقتصاد الرقمي، أو ما يسمّيه الخبير الاقتصادي مايكل بيوري من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بـ «إجماع وادي السيليكون»، الذي يعتبره الباحث عقيدة يريد تحويل العالم إلى شركة ناشئة. منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين وحتى اليوم، قدّم وادي السليكون وعوداً كبيرة في خطاب ليبرالي غير مقيّد عن المستقبل الرقمي، الذي سيحرّر البشر من العبودية والمعاناة. وبالتالي أصبح الابتكار، وخصوصاً الرقمي، هو المحرّك الرئيسي لخلق فرص العمل والشركات. وعلى الرغم من أن 90% من الشركات الناشئة تختفي بعد بضع سنوات، نجحت عقيدة وادي السيليكون في التغلغل في العالم منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأصبحت تتقاطع مع العقيدة الاقتصادية السياسية لصندوق النقد الدولي، ومنظّمة التجارة العالمية، ومنظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويعتمد الكاتب على منشورات «مؤسّسة التقدّم والحرية»، وهي منظّمة تأسست في العام 1993 وتم تمويلها حتى إغلاقها في العام 2010 من قبل شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الكبرى، والتي يقدّمها على أنها «لاعب رئيس في بلورة أيديولوجية يمينية مرتبطة بالثورة الرقمية». نشرت المؤسسة في العام 1994 وثيقة تحت عنوان «الفضاء الإلكتروني والحلم الأميركي: ميثاق عظيم لعصر المعرفة»، تقدم بوضوح مبادئ توجيهية، وخصوصاً سياسية، نحو عصر المعلومات والمعرفة. ويشير الكاتب إلى أن هذا النص «اعتمد على أفكار الفيلسوف آين راند، المنظر للرأسمالية الفردية». الأمر الذي يكشف عن الطبيعة الإيديولوجية لإجماع وادي السيليكون، شديدة الفردانية واليمينية.

ويحاجج سيدريك دوران بأن الأساس الإيديولوجي لإجماع وادي السيليكون قد فكّكته التجربة، إذ فرض نفسه باكراً بوصفه ديناميكية متجدّدة للآلة الرأسمالية، وباعتباره أيضاً الحلم الكاليفورني بالعيش المشترك، لكنه مع الزمن لم يحقق هذه الأهداف التحرّرية. مع فشل غالبية الشركات الناشئة، بقيت أقلية لوحدها في السوق الرقمي وتحوّلت إلى شركات إحتكارية، ناسفة أحد أهم أسس العقيدة الكاليفورنية وهي وهم النجاح الفردي، كما صوّرها ستيف جوبز دائماً. وفي الوقت نفسه تحوّلت هذه الشركات الإحتكارية الرقمية إلى سلطة، تبدو أشد وطأة وقوة من السلطة السياسية.

الأساس الإيديولوجي لإجماع وادي السيليكون قد فكّكته التجربة، إذ فرض نفسه باكراً بوصفه ديناميكية متجدّدة للآلة الرأسمالية، وباعتباره أيضاً الحلم الكاليفورني بالعيش المشترك، لكنه مع الزمن لم يحقق هذه الأهداف التحرّرية

رأسمالية المنصّات

من خلال الاعتماد على أعمال نيك سرنيسك عن «رأسمالية المنصات: هيمنة الاقتصاد الرقمي» (2018)، يركّز الكاتب على طبيعة التراكم من خلال نقد طبيعة الأصول الرئيسة التي يعتمد عليها نشاط هذه الشركات، وهي الأصول غير الملموسة. تشير هذه الأصول إلى جميع المعلومات التي تم جمعها بشكل جماعي بواسطة المنصّات الرقمية عن مستخدميها. وفي الواقع، وعلى النقيض من الأصول الملموسة، فإن السمة الرئيسية للأصول غير الملموسة هي أنها واسعة النطاق إلى ما لا نهاية، ما يؤدّي إلى زيادة العائدات بشكل كبير وفي وقت وجيز. تسمح هذه العائدات على نطاق واسع للشركات الرقمية بالحصول على ما يسمّيه الكاتب بـ «الإيجار التفاضلي من الأصول غير الملموسة»، الذي يضاف إليه إيجارات أخرى مثل الإيجار المرتبط بحيازة براءات الاختراع وكذلك الريع من الابتكار الديناميكي المرتبط بالسيطرة على أنظمة المعلومات. لكن هذه الحيازة الواسعة لكمّ هائل من البيانات والمعلومات، لا تحقق للشركات الرقمية الاحتكارية العائدات فقط، بل تمكّنها من السلطة والهيمنة.

يستعين سيدريك دوران، بنظرية الناقدة والفيلسوفة الأميركية، شوشانا زوبوف، عن «رأسمالية المراقبة» لإيجاد خيط الوصل بين نمط الإنتاج الرقمي والهيمنة، والوصول أخيراً إلى إنتاج حالة من التبعية بين المنتج والمستهلك ورأس المال، لا تشبه أبداً أي علاقة تبعية في النمط الرأسمالي، بل هي حالة جديدة من «القنانة» كما عرفتها البشرية في عصر الإقطاع الكلاسيكي. فالإنسان المعزّز في عصرنا الرقمي لم يعد يفلت من إمبراطورية الخوارزميات مثلما يفلت الإنسان الاجتماعي من إمبراطورية المؤسّسات. إن التبلور في سحابة الإفراط الاجتماعي يتخلّل الوجود الفردي، فهو يربطهم كما كان الأقنان في السابق مرتبطين بالمجال الجغرافي للنبيل الإقطاعي. وتنعكس هذه القوة الاجتماعية، التي تنبثق من المجتمعات البشرية وتشكّل الأفراد جزئياً في البيانات الضخمة. لذلك يجب أن ننظر إليها كنوع جديد من وسائل الإنتاج وكمجال من الخبرة تركّز عليه ذاتيات القرن الحادي والعشرين.

تؤدّي، هذه المنصات، وقد أدّت، أدواراً مركزية في دعم السلطة السياسية بالأدوات القمعية اللازمة ضد المجتمع أو على نحو جيوسياسي أكبر ضد الخصوم الدوليين. لذلك فإن الأمر لم يعد يتعلق بـ «زيادة القدرة على التنبؤ بالسلوك بل بالأحرى بإدارته

لا تنتج هذه المنصّات شئياً في الحقيقة، بل تؤدي وظيفة تنسيق الوكلاء في السوق. إن ما يمنحها القوة ليس القدرة على دفع تكاليف معينة كما هو الحال في الرأسمالية الصناعية الكلاسيكية، بل هو احتلال موقع معين على مفترق طرق تدفقات المعلومات. عندما تنتج شركة ما مقطع فيديو لتسويق منتج ما، وتضعه على إحدى المنصّات، يصبح المقطع في متناول المستهلك. وفي هذه الحالة تكون الشركة والمستهلك في علاقة من خلال وسيط يتحكّم وحده في مصير العملية برمتها، وفضلاً عن ذلك فهو يستحوذ على جميع البيانات التي تخصّ الطرفيين ويقوم ببيعها لاحقاً لطرف ثالث. وهذا الطرف الثالث ليس بالضرورة جهة اقتصادية ربما يكون جهة سلطوية. وبذلك تؤدّي، هذه المنصات، وقد أدّت، أدواراً مركزية في دعم السلطة السياسية بالأدوات القمعية اللازمة ضد المجتمع أو على نحو جيوسياسي أكبر ضد الخصوم الدوليين. لذلك فإن الأمر لم يعد يتعلق بـ «زيادة القدرة على التنبؤ بالسلوك بل بالأحرى بإدارته» كما يذكر سيدريك دوران.

الإقطاع التكنولوجي

في القسم الأخير من الكتاب يحاول الكاتب أن يقيم مقارنة بين الإقطاع القديم والإقطاع التكنولوجي الجديد. من خلال مقاربة الأسس الثلاثة للإقطاع وهي السيادة، التي كان يمثلها النبلاء والقنانة، التي مثلها الفلاحون، والتبعية وهي طبيعة العلاقة بين الطرفين. كان الإقطاع القديم متميزاً بتفوق العلاقات الافتراسية بين النبلاء ورعاياهم. وكذلك بالطبيعة الريعية غير المنتجة، لنظام الاستيلاء على القيمة. من خلال تحديد الطبيعة الاحتكارية للشركات الرقمية الكبرى، يدافع سيدريك دوران، عن أن الطفرة التي تصاحب ظهور تكنولوجيات المعلومات تمسّ أسس نمط الإنتاج وتزعزع مبادئه الأولية، إذ يشكّل صعود التكنولوجيا الرقمية مُعطّلاً للعلاقات التنافسية لصالح علاقات التبعية، ما يعطّل الآليات الشاملة ويميل إلى جعل الافتراس يسود على الإنتاج.  في النمط الإقطاعي القديم كان النبيل يحقّق دخله من النفوذ الذي يمارسه على منطقة جغرافية معيّنة ومحدّدة. لكن في الإقطاع التقني الجديد، تستمد الشركة الرقمية دخلها من السلطة التي تمارسها ضمن موقع استراتيجي في المعاملات الرقمية، وحيازة كميات كبيرة من البيانات، التي لم يتم إنتاجها - على عكس الرأسمالي الصناعي - ولكن تم استخراجها وحمايتها من المنافسة.

لكن الجانب الأكثر إحالة على الإقطاع القديم هو طبيعة العلاقة الاجتماعية والنفسية بين الفلاح والنبيل. فالفرد في الإقطاع التكنولوجي، وحتى الشركات التقليدية، أصبح في حالة اعتماد كلية على الشركات الرقمية، وغير قادر على الخروج من هذه التبعية، وهو ما يشير إليه الكاتب بالقول : «إن وضع اعتماد الرعايا التابعين على التربة الرقمية أمر ضروري، لأنه يحدّد قدرة المهيمن على الاستيلاء على الفائض الاقتصادي». لكن الإشكال المنهجي مع القياس الذي يحاول الكاتب وضعه هو المحدّد الطبقي له. فالقطاع القديم كانت تفرضه الأرستقراطية على طبقة الفلاحين، ضمن صراع طبقي محدّد وواضح. لكن الإقطاع التكنولوجي، الذي تفرضه البرجوازية الرقمية لا يطال طبقة محدّدة، بل مروحة واسعة من مستهلكي المنصات بمن فيهم شرائح واسعة من البرجوازية التقليدية وأصحاب الشركات الرأسمالية الصناعية. لذلك يبدو من الوجيه عدم المضي بعيداً في القياس، أو ربما نحت مصطلحات جديدة للتعبير عن طبيعة العلاقة بين المنصات الرقمية ومستهلكيها. وقد عاد سيدريك دوراند، قبل مدة من خلال مقابلة صحافية ليتدارك طبيعة هذا الإقطاع وحدود القياس بينه وبين الإقطاع القديم قائلاً إن «الإقطاع التكنولوجي هو نوع من رأسمالية آكلي لحوم البشر».

هذه العلاقة المختلة بين رأس المال التقليدي والإقطاع التقني تجعل النظام أكثر عرضة للأزمات، وأكثر تناقضاً وأقل قابلية للحياة مما كانت عليه الرأسمالية في جميع مراحل تطورها السابقة

يتقاطع كتاب سيدريك دوران مع كتاب الاقتصادي ووزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس «الإقطاع التكنولوجي: ما الذي قتل الرأسمالية» (2023). لاسيما في مسألة دور القطاع التقني الرقمي في تحويل الربح إلى ريع. في الماضي، كانت الرأسمالية تعتمد على إنتاج وتوزيع السلع المادية. واليوم، تحقّق شركات التكنولوجيا الأرباح من خلال استغلال البيانات وإنشاء الاحتكارات الرقمية. تأتي ثرواتهم من جمع وبيع المعلومات حول عاداتنا وتفضيلاتنا وسلوكياتنا. وبالتالي، يصبح الربح معاشاً سنوياً دائماً يغذيه اعتمادنا على الخدمات الرقمية. يبدو الإقطاع التكنولوجي أكثر بكثير من مجرد استعارة بسيطة. فهو الحقيقة التي تشكل مستقبلنا. ولفهم تحديات هذا العصر، من الضروري التشكيك في معتقداتنا حول الرأسمالية وتحليل العواقب المترتبة على اعتمادنا الرقمي.  فما يحدث الآن هو أنه في قلب الإقطاع التكنولوجي يوجد قطاع رأسمالي، وهو أمر ضروري للغاية. وهو القطاع الوحيد الذي ينتج القيمة التبادلية بمعناها الماركسي، لكن أصحاب رأس المال، هم تابعون للرأسماليين الرقميين ويتم سلب أرباحهم. لذا، يتم سحب القيمة الفائضة من التدفق الدائري للدخل من قبل الرقميين. هذه العلاقة المختلة بين رأس المال التقليدي والإقطاع التقني تجعل النظام أكثر عرضة للأزمات، وأكثر تناقضاً وأقل قابلية للحياة مما كانت عليه الرأسمالية في جميع مراحل تطورها السابقة.