Preview التقنيات العقارية

التقنيات العقارية: من الاحتلال الصهيوني إلى مباني بروكلين

  • علينا مقاربة هذه التقنيات والتطوّرات من عدسة الصراع الطبقي والنزاع الطبقي، فكلما بات إجراء الصفقات العقارية أسرع، وابتعد موقع العقار المُستأجَر وخرج من نطاق المساءلة، زاد العبء على كاهل المستأجِر من الطبقة العاملة، الذي نطلق عليه في اتحاد المستأجرين مسمى العامل المستأجِر. 
  • الابتكارات الأمنية التي طبختها قوات الاحتلال الإسرائيلية في غزة والضفّة الغربية وحولهما يُعَاد تغليفها بغلاف الشركات الناشئة لتصل سريعاً إلى أحياء السود والسُمر في مدن الولايات المتحدة وتضطلع بدور مزدوج مماثل: من ناحية، تعمل على ملاحقة ومراقبة المستأجرين السود في منازلهم وأحيائهم، ومن ناحية أخرى تضيف قشرة من السلامة والأمن تُقدَّم للوافدين البيض الجدد بفعل الإحلال العمراني الطبقي. 

انخرط الجيش الإسرائيلي أيام الانتفاضة الثانية (2000 – 2005) بممارسة غير مسبوقة من القتل الاستهدافي. وبحسب المحلِّلين العسكريين الإسرائيليين، اغتالت العملية أكثر من 200 من «مقاتلي العدو» بتطبيق ما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، بـ«إجراءات وقائية مُستهدفة ضدّ الإرهابيين».1  وعمليات القتل خارج نطاق القضاء هذه – أدانها المجتمع الدولي – كانت قد حدّدتها القيادة المشتركة للاستخبارات الإسرائيلية وأكّدتها وأوعزت بها. والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) في خلال تلك الفترة كانت تحت قيادة الميجور جنرال آرون زئيفي فركش، وهو خريج كلية الأعمال في هارفارد وروماني المولد. وبسبب «قيادته» آنذاك، حاز من الصحافية الفلسطينية النازحة كوثر سلام صفة مجرم حرب. وبحسب تقرير سلام، يتحمّل فركش مسؤولية التخطيط والإيعاز باغتيال 544 فلسطينياً وهدم 2366 منزلاً فلسطينياً على مدار خدمته العسكرية.

بعد الانتفاضة الثانية وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، عزّزت إسرائيل من أنظمتها الأمنية «الحدودية». وعلى إثر ذلك، صار على مئات الآلاف من الفلسطينيين المسافرين يومياً للعمل من قطاع غزّة أو الضفّة الغربية إلى الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية أن ينتظروا ست ساعات أو أكثر في كلّ مرّة للحصول على تصريح الدخول. بعدها بمدة قصيرة غادر الميجور جنرال فركش منصبه في المخابرات العسكرية ليدخل عالم القطاع الخاص، وكان على دراية بذلك النظام الأمني المرهق وغير الفعّال ورأى فيه فرصةً تجارية مربحة.

سارع المستأجرون من خلفيات عمّالية وعرقية والمستأجرون لفترة طويلة في كلا المنطقتين إلى التنظيم ضد الأنظمة الأمنية البيومترية. وقد فعلوا ذلك لأنّهم يعلمون أن النظام الأمني الجديد والمعقّد خطوة جديدة في طريق الضغط عليهم لإخراجهم من منازلهم

بعد سبع سنوات، في العام 2013، واجه المستأجرون في حيَي إيست هارلم ولُوَر إيست سايد وجهاً لوجه ثمارَ الإلهام الفركشيّ. فقد ركّبت الإدارة في كل من تاينو تاور، وهو مجمّع سكني قوامه 35 طابقاً في سبانش هارلم، ونيكربوكر فيلِج، وهو مجمّع يتألّف من 12 مبنى و1,600 وحدة سكنية بالقرب من جسر مانهاتن، أنظمةَ الحماية البيومترية (سيف رايز) التي أنتجتها شركة فركش (إف إس تي 21). تستخدم هذه الأنظمة مزيجاً من التعرف إلى الوجه والصوت لتحديد هوية الأشخاص – وتسجيل حالتهم النفسية (فتطلب المساعدة عندئذٍ أو تتصل بالشرطة إذا رصدت حالة مقلقة أو غير مألوفة). يسوِّق النظام لنفسه بأنّه حل متكامل للمشكلات الأمنية عن طريق إنشائه قاعدة بيانات قوامها الملفات الشخصية المصرحة وإبعاد الأشخاص غير المرغوبين ومراقبة راحة المستأجرين. سارع المستأجرون من خلفيات عمّالية وعرقية والمستأجرون لفترة طويلة في كلا المنطقتين إلى التنظيم ضد الأنظمة الأمنية البيومترية. وقد فعلوا ذلك لأنّهم يعلمون أن النظام الأمني الجديد والمعقّد خطوة جديدة في طريق الضغط عليهم لإخراجهم من منازلهم،2  بحسب تقرير عن «تكنولوجيا المُلّاك» وضعه مشروع مكافحة الإخلاء. وكما يشرح التقرير، «هذه الصناعة تحت أي ذريعة كانت، سواء الراحة أو الأمان، غرضها الربح والمراقبة لصالح المُلّاك، وليس خدمة المستأجرين». لم يكن الغرض من تكنولوجيا الشركة تحسين حياة ورفاه المستأجرين لفترة طويلة، بل وسيلة بيد المُلّاك ليوصلوا إلى المستأجرين الجدد المحتملين أنّهم بأمان في منازلهم الجديدة على الرغم من سكنهم في حي جديد لربما كان «غير آمن» أو غير مألوف يسكنه لسنوات قبلهم أناسٌ مختلفون في مظهرهم. إنّ تقنيات المراقبة كتقنية سيف رايز بمثابة تقنيات حدودية، أي أنّها أساليب مراقبة غرضها وضع الأشخاص الأشد تأثراً بعمليات التشريد في موقع محدّد.

إنّ شركة «إف إس تي 21» من الشركات الإسرائيلية العديدة العاملة في صناعة التقنيات العقارية المُربحة. وهذه تقنيات تشير إلى مروحة من البنية التحتية الرقمية والابتكارات (ورأس المال المستثمر فيها) الموجّهة إلى رفع «كفاءة» عمليات إدارة الأملاك وانتزاع الريع، بمعنى جعل العقارات مغرية ومربحة أكثر. نقدّم في هذه المادة نظرة عامة عن ظاهرة التقنيات الإسرائيلية هذه ونبحث في جذورها وتأثيراتها ونضعها في منظور تاريخي أشمل، وبقيامنا بهذا فإنّنا نربط بين الصراع الطبقي للمستأجرين من الطبقة العاملة في نيويورك وبين المقاومة الفلسطينية التحرّرية.

منصة العقارات

وُصِفَت إسرائيل بـ«أمة الشركات الناشئة» في كتاب يحمل العنوان نفسه أصدره مجلس العلاقات الخارجية في العام 2009.3  ويجد هذا الوصف مصداقه في حقيقة أنّ نصيب الفرد في إسرائيل من رأس المال المغامر المجتذَب يفوق نظيره في أي دولة أخرى: 170 دولار للفرد مقابل 70 دولار للفرد في الولايات المتحدة. ويزعم الكتاب أنّ نجاح مشهد الشركات الناشئة الإسرائيلي وصلابته وأداءه دور «مختبر أفكار» يرجع إلى «سياسة الهجرة المفتوحة» لديها، أي أنّ اليهود من أنحاء المعمورة يُمنحون تلقائياً الجنسية، وما يصاحبها من مزايا وحقوق، لتصبح إسرائيل بفضل ذلك مرتعاً لأكبر تجمّع للمهندسين. لكن الكتاب لا يأتي على ذكر «سياسة الهجرة» شبه المنغلقة (أقل ما يقال عنها) التي تحرم الفلسطينيين من الجنسية والوصول إلى رأس المال الإسرائيلي داخل أرض أجدادهم – كما كتبت منظمة هيومن رايتس ووتش: «إنّ مواطناً يهودياً من أي بلدٍ لم يطأ إسرائيل قط يمكنه الانتقال إليها واكتساب الجنسية تلقائياً، أما الفلسطيني المهجّر من منزله في ما صار يعرف بإسرائيل ويعاني لأكثر من 70 عاماً في مخيمات اللجوء فلا يمكنه ذلك». أكثر من ذلك، الفلسطيني داخل إسرائيل «محدود في حركته ومحروم من حق التصويت في الانتخابات الإسرائيلية ويحاكم بموجب نظام قانوني مختلف كلياً».

إنّ وصف إسرائيل بـ «أمة الشركات الناشئة» يحمل معه مجازاً قديماً جديداً عن البروباغندا الصهيونية مؤداه أنّ المستوطنين (البيض الأوروبيين في غالبيتهم) لا يُهجِّرون أحداً، بل يجلبون معهم في واقع الحال معرفة ثرية وريادة ومعرفة تقنية وثقافة وتعليم ليمنحوا بلاد الشرق المتخلفة مستقبلاً. وقد ردّ أبو الصهيونية ثيودور هرتزل في معرض مراسلاته مع المفكر الفلسطيني يوسف ضياء الدين الخالدي في العام 1899 على مخاوف الأخير من تهديد المشروع الصهيوني بتهجير الشعب الفلسطيني بالقول: «بالسماح بهجرة عدد محدود من اليهود جالبين معهم ذكاءهم وبراعتهم المالية ومشروعاتهم الإنمائية إلى البلد، فلا ريب أنّ النتيجة العامة في البلاد ستكون الخير العميم».4  ونحن نعلم أنّ توجهاً مماثلاً يطلق عليه الإحلال العمراني الطبقي: تقديم «بدايات جديدة» (أنشطة تجارية جديدة وبنية تحتية ومساكن) للأحياء الفقيرة المصنفة عرقياً، لكن عبر تجريد – تطهير – السكان من ملكياتهم وإحلال سكان بيض مكانهم.

وهكذا، صارت إسرائيل في العقد الأخير مركز هذه الصناعة: صناعة التقنيات العقارية، أو منصة العقارات أو تقنيات المُلَّاك. وهذه التقنيات، شأنها شأن أي صناعة، بنت زمنها. فقد أعطت الأزمة العقارية والمالية في العام 2008 فرصةً لكبار المستثمرين ليحصلوا على المنازل ويحولوها إلى سكن إيجاري لتظهر على أساسها فئة أصول جديدة تستند إلى شيكات الإيجارات، وفي تلك الأزمة صار ملايين من مالكي المنازل الأميركيين مشردين أو مستأجِرين. ظهرت آنذاك تقنيات مماثلة، كالحوسبة السحابية والمحمولة والمنصات الرقمية وأدوات اتخاذ القرار الآلية والمدعومة بالبيانات، أتت بالتزامن مع تدفق رأس المال هذا إلى السوق العقارية لتعيد تشكيل طريقة بيع المساكن وشرائها وتأجيرها وإدارتها عبر أسواق كبيرة ومترامية جغرافياً. كانت هذه التدخلات الرقمية أيضاً جزءاً لا يتجزأ من إعطاء هالة تكنولوجية معينة لفئة أصول لم تختبر كفاية وتعزيز الثقة فيها، فالخوارزميات لا تعرف الكذب.

هذه التقنيات اللماعة تضفي على هذه الممارسات الراسخة (رفع الإيجار مثلاً) وهم الحقيقة العلمية، وتقدم ما هو في الواقع خيارات المُلّاك وأفعالهم (رفع الإيجار) على أنّه «قوانين منزلة». هذه التبرئة التكنولوجية تشبه إلى حد مفزع «عمليات القتل الاستهدافي» المشار إليها في مقدمة هذه المادة، كما تشبه عمليات القتل الجماعي بمساعدة الذكاء الاصطناعي الجارية الآن في غزة

إنّ صناعة التقنيات العقارية صناعة متشعبة، لكنّها تهدف بالعموم إلى رفع قيمة العقارات وزيادة معدل العائد لمالكيها: أي تسهيل شراء الأصول والأراضي المؤجرة وإدارتها لمُلّاك العقارات مع جعلها أكثر كلفة على المستأجرين – أو بيع هذا التصور المتوهم عنها، وهذا مهم لأنّ هذه التقنيات تُباع عموماً لمُلّاك العقارات. لا بد لنا من فهم هذه الصناعة من خلال عدسة الصراع الطبقي. فأسعار الإيجارات تتحدّد نتيجة الصراع الطبقي بين المالك والمستأجر.5  وارتفاع الإيجارات في المدينة أحد أشكال الحرب الطبقية على الطبقة العاملة في تلك المدينة – إلى جانب ارتفاع الإيجارات لدينا الإهمال في البنية التحتية السكنية ودوّامة الإخلاءات وزحف الإحلال العمراني الطبقي. ومن خلال هذه العدسة نفهم أنّ التقنيات العقارية سلاح جديد في ترسانة رأس المال العقاري في هذا الصراع الطبقي المستمر وسلعة خدمية تباع لقطاع العقارات. يُسَوّق للتقنيات العقارية، على غرار غالبية التقنيات المُسلَّعة، بلغة الاضطراب والتجاوز وحل المشكلات، بيد أنّها على الأرض لا تعمل في غالبية الحالات إلا على إضافة قشرة تكنولوجية لمّاعة على الممارسات الراسخة. لكنّ هذه التقنيات اللماعة تضفي على هذه الممارسات الراسخة (رفع الإيجار مثلاً) وهم الحقيقة العلمية، وتقدم ما هو في الواقع خيارات المُلّاك وأفعالهم (رفع الإيجار) على أنّه «قوانين منزلة». هذه التبرئة التكنولوجية تشبه إلى حد مفزع «عمليات القتل الاستهدافي» المشار إليها في مقدمة هذه المادة، كما تشبه عمليات القتل الجماعي بمساعدة الذكاء الاصطناعي الجارية الآن في غزة.

يُقدَّر حجم صناعة التقنيات العقارية بمليارات الدولارات حول العالم. وفي العام 2021 مثلاً شهدت الصناعة ضخ 25 مليار دولار من الاستثمارات في شركاتها. ويتوقّع المحلِّلون أنّ سوقها سينمو إلى 86.5 مليار دولار بحلول العام 2032. ويصف شارلي فيدرمان، أحد شركاء مجموعة سيلفر تِك الاستثمارية في مجال التقنيات العقارية، هذه الصناعة بأنّها «صناعة بحجم تريليون دولار».6  وإسرائيل موطن لمئات شركات التقنيات العقارية التي تساوي قيمتها مليارات الدولارات. وهذه الشركات، وإنْ كان معظمها قد نشأ داخل «وادي السيليكون» الإسرائيلي، لا تظل داخل الحدود الإسرائيلية (المتنازع عليها) إلّا ما ندر. ومرد ذلك إلى القيود والضغوط على السوق العقارية الإسرائيلية بحكم أنّ إسرائيل مستعمرة استيطانية فعلية ومحل نزاع وصغيرة في حجمها وتحت ضغوط جيوسياسية خارجية وسوقها العقاري تحت تهديد الحرب أو احتماليتها. وجميع الشركات الإسرائيلية تقريباً ترنو إلى السوق الأميركية، ومدينة نيويورك بالتحديد، وعليها تعقد الآمال. ومعنى هذا أنّ ثمّة شرياناً يربط الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ومجمعها الصناعي العسكري بالتحوّلات التقنية التي تعيد صياغة وتشكيل طبيعة الإيجارات في مدينة نيويورك.

الاستعمار كمختبر للتحكّم 

تمثِّل المستعمرات الاستيطانية والاحتلالات، من بين ما تمثله، مختبرات للتحكّم الاجتماعي وحواضن للابتكار التقني لتحقيق هذا التحكم. وبما أنّ الاستعمار الاستيطاني بنية اجتماعية تشاملية، كانت الطرائق والتقنيات الموضوعة لإنفاذه وإدامته تعمل بالضرورة على مستويات متنوعة. فنجد الابتكارات تظهر وتُختبَر وتُطبَّق في مكانٍ ووقت واحد، وإذا نجحت تنتشر بسرعة داخل المناطق المستعمَرة وتعود بعدها إلى موطنها في المتروبولات.

الوحدة 8200 – بحسب مجندين سابقين يشعرون بالعار والغضب – تنتهك باستمرار حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، فلا تراها تقتصر على مراقبة «المقاتلين المحتملين»، بل تراقب أفراد أسرهم وأصدقائهم ومعارفهم، جامعةً ومحللّةً البيانات والمعلومات الشخصية ومستخدمةً إياها كسلاح، وفي كثير من الحالات تبحث عن تفاصيل شخصية منفرة أو مؤذية، كالحياة الجنسية للأشخاص والممارسات الجنسية لابتزاز مصادر المعلومات المحتملة

بعدما اغتال النظام السعودي الصحافي جمال خاشقجي، اكتُشِف استخدام برنامج تجسّسي جديد (بيغاسوس) لمراقبة الصحافي وتحديد موقعه. وتبع ذلك صدور عدد من التقارير عن مجموعة (أن إس أو) الإسرائيلية المتخصّصة بمجال الاستخبارات السيبرانية مصمّمة البرنامج. وهذه المجموعة أكبر وأشهر شركة في صناعة الأمن السيبراني الإسرائيلية البالغ قيمتها مليارات الدولارات، وهي نتاج غريب لريادة الأعمال وسط جماعة موظّفي الاستخبارات والجيش ووليدة الاحتلال والتجنيد الإلزامي ونتاج الفائدة المتأتية لمصالح إسرائيل الجيوسياسية من تقنياتها العسكرية والتجسّسية المتقدّمة. نعني هنا أنّ احتلال الجيش الإسرائيلي لفلسطين مسألة تقنية بحتة، فوحدته الشهيرة (الوحدة 8200) المتخصّصة بالمراقبة والتجسس وأكبر وحدة عسكرية في جيش الاحتلال هي في آنٍ واحد مشروع تقني للتحكم الاجتماعي وحاضنة للشركات الناشئة. وقد قيل عنها: إنّها «تمثِّل نسخة إسرائيلية من هارفارد أو برنستون أو ييل» و«أقوى شركة في إسرائيل». وفي مقالةٍ تطرّقت إلى أهمية إسرائيل في هذه الصناعة نشرتها مجلة بروبتك كونكت ورد أنّ الوحدة 8200 «مسؤولة عن طيف واسع من الأنشطة التقنية، بينها أنشطة سرية. كما تضطلع بممارسة استخبارات الإشارة وفك التشفير ومكافحة التجسس والحرب السيبرانية والاستخبارات العسكرية والمراقبة. وينسب الفضل إليها في إعطاء العالم بعضاً من أفضل المواهب التقنية».

والوحدة 8200 – بحسب مجندين سابقين يشعرون بالعار والغضب – تنتهك باستمرار حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، فلا تراها تقتصر على مراقبة «المقاتلين المحتملين»، بل تراقب أفراد أسرهم وأصدقائهم ومعارفهم، جامعةً ومحللّةً البيانات والمعلومات الشخصية ومستخدمةً إياها كسلاح، وفي كثير من الحالات تبحث عن تفاصيل شخصية منفرة أو مؤذية، كالحياة الجنسية للأشخاص والممارسات الجنسية لابتزاز مصادر المعلومات المحتملة.

ومما له دلالته أنّ الوحدة منظّمة بطريقة «تشبه طريقة تنظيم الشركات الناشئة... إذ يعمل الجنود في مجموعات صغيرة العدد وبموارد محدودة للتغلّب على تحدّيات هي في بعض الحالات مسألة حياة أو موت».7  كان فركش، مؤسس شركة «إف أس تي 21»، رئيساً للوحدة بين عامي 1990 و1993. باعت مجموعة (إن إس أو) برنامج التجسّس بيغاسوس – بموافقة وزارة الدفاع الإسرائيلية – إلى جهات شائنة في جميع أنحاء العالم، بينها قوات الشرطة الأميركية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، فضلاً عن بيعه لـ«الحكومات القمعية والديكتاتورية كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وأذربيجان، أو إلى دول شبه ديمقراطية تتمتع بسمعة سيئة في قمع معارضيها السياسيين ونشطائها الاجتماعيين وصحافييها، كالمكسيك والهند ورواندا والمجر». ومبرّرات الحكومة الإسرائيلية في هذا البيع بسيطة: اعتماد أطراف جيوسياسية على برامج التجسّس الإسرائيلية بجعلها مقبولة في قطاعات معينة من المجتمع الدولي ويشتري لها دعماً صريحاً على الساحة الدولية. أما مبرّرات الشركة نفسها، فإنّها مسألة إيرادات، لكن إلى جانب الإيرادات كلما زادت البيانات المعالجة من برامجها، زاد «تحسّن» بياناتها. وقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز كيف تدخلت بعض الدول، بعد فترة وجيزة من شرائها برنامج بيغاسوس، نيابة عن إسرائيل في المسائل الدبلوماسية المثيرة للجدل. على سبيل المثال، في العام 2010، صوّتت بنما ضد نشر تقرير غولدستون في أعقاب التوغل في غزة في الفترة 2008-2009. وفي العام 2019، صوّتت الهند في بادرة غير مسبوقة لصالح اقتراح إسرائيلي يرفض منح صفة مراقب لمنظمة حقوقية فلسطينية.

بالتعاون مع المهندس المعماري دالاس روجرز، وضع الجغرافي الناقد ديزيريه فيلدز – وهو باحث خبير في مجال التقنيات العقارية الجديدة – تصنيفاً فرز بموجبه الصناعة إلى ثلاث فئات تتميز عن بعضها حسب وظيفتها واستراتيجية التراكم (على الرغم من أنّ الشركات الفردية في غالبية الأحيان تعمل في أكثر من فئة): منصات التداول والمنصات التشغيلية ومنصات البيانات. والشركات الإسرائيلية منخرطة في إنتاجها كلها.

من العسكر إلى البيزنس

تؤلّف منصات التداول البنى التحتية الرقمية التي تسمح بتجميع أسواق العقارات الضخمة والمجزأة سابقاً في جميع أنحاء العالم. وهي منصات تسمح بالشراء والبيع الفوري (أو شبه الفوري) للعقارات في أي مكان ومن أي مكان. كما تشارك هذه الشركات في غالبية الأحيان، كالشركتين الإسرائيليتين ستوا فند ولينداي، في تمويل الصفقات العقارية، لتجعل العلاقات الوثيقة بين التقنيات العقارية والمالية واضحة.

لينداي، ومقرها في جنوب تل أبيب، منصة توفر التمويل للمستثمرين الأجانب المهتمين بشراء العقارات الأميركية (خصوصاً كأدوات استثمارية وليس للعيش فيها). كان مؤسّس لينداي يائير بنياميني قائد فريق في اللواء 401 في جيش الاحتلال الإسرائيلي من 2007-2009 وخدم مع وحدة الاستطلاع والدوريات. وهذا يعني أنّه على الأرجح قاد المراقبة في الفترة التي سبقت عملية الرصاص المصبوب وأثناءها، وهي توغل إسرائيلي وحشي في غزة على أعتاب نهاية العام 2008. ذكر تقرير الأمم المتحدة عن عملية الرصاص المصبوب (تقرير غولدستون) أنّ إسرائيل تقوم عن عمد «بإحداث تدميرٍ غير متناسب وتخلق أقصى قدر من الاضطراب في حياة الكثير من الناس كوسيلة مشروعة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية»، وأنّ أفعالها «تتقصّد إحداث عواقب وخيمة على غير المقاتلين في غزة».8  وقال قائد اللواء 401، يعال سلوفك، بعد إسبوعين من بدء العملية: «ليس لدي أي مخاوف بشأن ما أفعله. في أسوأ الأحوال قد أُحرَم من دخول بضع دول أوروبية. لقد اخترتُ ومرؤوسي هذه المهنة عن إيمان بصواب طريقنا، فنحن على استعداد للتضحية بما هو أكثر من زيارة لندن». في العام 2022، أُدرِج بنياميني على قائمة أكثر المؤثرين في صناعة التقنيات المالية الإسرائيلية، وقد دُعِي لمنتدى شبكة الإدارة العالمية في أيار/مايو السنة الماضية ليكون متحدثاً بارزاً في منتداها الحادي عشر «إيجار العائلة الواحدة» في ميامي.

تسمح هذه التقنيات – الكاميرات البيومترية وأنظمة المفاتيح – لأصحاب العقارات وشركات الإدارة بمراقبة المستأجرين مراقبة لصيقة، وتتبع تحرّكاتهم لإخلائهم. هكذا حين يعود المستأجرون في بروكلين إلى ديارهم من زيارة عائلاتهم في الخارج يجدون أنفسهم إزاء الإخلاء الوشيك

أما ستوا فند، ومقرها تل أبيب أيضاً، فتقدِّم فرص التمويل وعقد الصفقات للمستثمرين المحتملين في القطاع العقاري. تملك ستوا التي أسسها أور أغاسي شركةً تابعة تعمل في قطاع التقنية تدعى فليب أو إس، ما يسرّع عملية شراء العقارات المستأجرة وإعادة تأهيلها. انتقل أغاسي من إسرائيل إلى سكوتسدايل في أريزونا ليساعد في تعميم فليب أو أس في سوقي فونكس وسكوتسدايل حيث تتسارع فيهما ظاهرة الإحلال العمراني الطبقي. يؤطر أغاسي فائدة فليب أو إس في إطار التوحيد فيقول: «المخزون هو الملك ونحن نخلق المخزون». ولنكن واضحين، فأغاسي وستوا لم ولن يبنيا أي شيء. فبقوله خلق المخزون لا يعني إلا خلق الوصول إلى العقارات والأراضي الموجودة بالفعل.

تؤدي هذه المنصات دوراً أساسياً في توحيد سوق الإيجارات. وبعد أزمة الرهون العقارية لعام 2008، رأينا مع سوق تأجير الأسرة الواحدة ظهور فئة الأصول الجديدة هذه. لكن إنشاء سوق جديدة كهذه ليس طبيعياً أو عضوياً، بل يتطلّب الدعم والتدخل. فالعقارات بحكم طبيعة قيمتها الاستخدامية هي بطبيعتها سلعة محلية موجودة في مكان محدّد، لذا فشراء العقارات وبيعها في معظم المناطق تشرّعه لوائح تنظيمية معيّنة ومفهومة من قلة من الناس في غالبية الأحيان.

يدرك أقطاب العقارات وخبراء التقنية أن «نقطة الاختناق الأهم في الصناعة» ليست التمويل أو المخزون (فهذان بهما فائض) بل التقنية. ما نعنيه هنا أنّ هذه المنصات تتيح لسوق التأجير العقاري المجزأة والمتباعدة بنيةً تحتية توحدها في سوق عملاقة مترابطة يسهل البحث فيها. ويسمح هذا بتدفق كميات كبيرة من رأس المال إلى هذه السوق بكلفة تنفيذ منخفضة. وشركات التقنيات العقارية رأت في كلٍ من المحلية واللوائح التنظيمية معوقاً يجب تذليله. والحال أنّ شراء الأجانب للعقارات ليس بالجديد (ماركس كتب في المجلد الثالث من رأس المال عن المالك الغائب الذي يجوب العالم)، بيد أنّ هذه التقنيات تزيد من هذه الظاهرة. ونقول مجدداً إنّ علينا مقاربة هذه التقنيات والتطورات من عدسة الصراع الطبقي والنزاع الطبقي. فكلما بات إجراء الصفقات العقارية أسرع، وابتعد موقع العقار المُستأجَر وخرج من نطاق المساءلة، زاد العبء (إيجارات أعلى وجودة حياة أقل) على كاهل المستأجِر، وبالتحديد على المستأجِر من الطبقة العاملة، الذي نطلق عليه في اتحاد المستأجرين مسمى العامل – المستأجِر. فهذه الفئة تُعصَر وتشهد تدهور حالة المباني القاطنة فيها. ولهذا السبب بالتحديد ننظّم أنفسنا حول الطبقة العاملة ودورها البطولي. فصاحب الدور التاريخي في اتحادنا هو العامل – المستأجر، فلا يمكننا مواجهة اضطهاد التقنيات العقارية إلا بالتنظيم الجماعي الواعي للعمّال – المستأجرين.

تدَّعي شركات التقنيات العقارية، من أمثال ستوا، أنّها تساعد مزيداً من الناس على العثور على منزل (وبهذا تحل المشكلة). ويقول أغاسي في مقابلة مع بلومبرغ، في معرض إشارته إلى نقصٍ (مشكوكٍ فيه) في الإسكان في البلد: «بتسريعنا العملية... نتمكّن من سد الفجوة بسرعة. يعني هذا أنّ عدداً أكبر من المستأجرين سيكونون قادرين على الانتقال إلى منازلَ آمنة ومريحة أسرع من أي طريقة أخرى». لكنّه لم يذكر في تلك المقابلة أنّ إيجار شقة بغرفة نوم واحدة في فينيكس قد ارتفع بنسبة 117% بين عامي 2020 و2021. فتسريع عقد الصفقات – كالتي تيسّرها ستوا – لا يخفف من الضغوط على المستأجرين ولا يخفض من مبلغ الإيجار ولا يزيد من أحقية المستأجرين بالحصول على سكنٍ ميسور، بل على العكس لم يأت الانفتاح على تدفقات رأس المال إلا بمفاقمة حالة عدم استقرار الإيجار عند الطبقة العاملة. وبهذا الصدد نورد ملاحظة بنيوية عامة مؤداها أنّ الاستعمار الاستيطاني كان ولا يزال يدور حول فتح أراض جديدة لتدفقات رأس المال (مع التركيز على التغلب على العقبات المصاحبة ومحوها): هذا سبب وجوده، وهذا السبب في أنّ تمويل المشروعات الاستعمارية الاستيطانية يأتي على الدوام من رأس المال الشركاتي، ولا تستثنى من ذلك حالتَا إسرائيل والإحلال العمراني الطبقي في سوق العقارات.

يتمثل النمط الثاني من شركات التقنيات العقارية (أي المنصات التشغيلية) في شركات من قبيل روجرز وفيلدز، وهذه شركات تيسّر صيانة العقارات المؤجرة مع تشديدها المبالغ فيه على تخفيض كلفة العمل وتأمين «الأمان» لمالكٍ يغيب غالبية الوقت عن أملاكه ولمستأجرين (بيض) يطرقون طريق الثراء. تكتب شركة فيلدز:

«تتيح المنصات التشغيلية للمستثمرين إمكانية إسناد أو أتمتة بعض من جوانب عملية إدارة العقارات. ففي سياق عقد الصفقات العقارية عن بعد، تلبي هذه المنصات الحاجة إلى تسويق العقارات واستئجارها وإدارتها عن بعد. تتوسط المنصات التشغيلية بين مالكي العقارات والمستأجرين والموردين».

إذا سمحت منصّات الصفقات بالتبادل التجريدي المتزايد للأراضي والمباني، فإنّ المنصات التشغيلية تربط هذه السوق المجردة بالأرض من جديد بالضرورة، ما يسمح بتدفق الدخل الإيجاري إلى الأسواق المالية العالمية بأكبر قدر ممكن من السلاسة.

والمنصات التشغيلية تقنياتُ تحكّم اجتماعي أكثر صفاقة من منصات التداول، ومنها «إف إس تي» الإسرائيلية وخدماتها البيومترية التي افتتحنا بها هذه المادة، ومنها أيضاً «غايت غارد» وهي شركة أسّسها آري تيمان الذي اختيرت شركته السابقة فريند أور فراود واحدةً من أكثر الشركات الناشئة دينامية في إسرائيل. هذه التقنيات – سواء في وظيفتها أو فيما تعلنه – مفيدة لعمليات الإحلال العمراني الطبقي والتشريد. ومع أنّها لا تسوق لنفسها من زاوية الأمن، فإنّها تستخدم في كثير من الأحيان للمراقبة والتشريد. ففي بروكلين، في أحياء ككراون هايتس وبراونزفيل وإيست نيويورك وفلاتبوش حيث يوجد عدد كبير من المستأجرين الكاريبيين واللاتينيين، ليس من غير المعتاد أن يزور مستأجر من أحد هذه الأماكن عائلته لمدة تزيد عن ستة أشهر كل خمس أو عشر سنوات. يُطلَب من المستأجر في مدينة نيويورك أن يعيش فعلياً في شقته لمدة ستة أشهر على الأقل في السنة ليحافظ على الإيجار ثابتاً. تسمح هذه التقنيات – الكاميرات البيومترية وأنظمة المفاتيح – لأصحاب العقارات وشركات الإدارة بمراقبة المستأجرين مراقبة لصيقة، وتتبع تحرّكاتهم لإخلائهم. هكذا حين يعود المستأجرون في بروكلين إلى ديارهم من زيارة عائلاتهم في الخارج يجدون أنفسهم إزاء الإخلاء الوشيك.

ومثلما يبين تقرير «إيه أي أم بي»:

«يتعرض المقيمون السود والسُمر لأذى غير متناسب من جراء هذه المراقبة في محيط منازلهم وأحيائهم. فهذه الشراكات بين شركات التقنيات العقارية والمُلاك والمطورين تحرِّض على التنميط العنصري والعمل الشُرَطي المعزّز والإخلاء والغرامات الآلية والإحلال العمراني الطبقي والمضاربة على العقارات، لا سيما في أوقات الأزمة».9

إعادة تدوير أنظمة المراقبة

هنا يمكننا أن نرسم خطاً واضحاً، فالابتكارات الأمنية التي طبختها قوات الاحتلال الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية وحولهما يُعَاد تغليفها بغلاف الشركات الناشئة لتصل سريعاً إلى أحياء السود والسُمر في مدن الولايات المتحدة وتضطلع بدور مزدوج مماثل: من ناحية، تعمل على ملاحقة ومراقبة المستأجرين السود والسُمر في منازلهم وأحيائهم، ومن ناحية أخرى تضيف قشرةً من السلامة والأمن تُقدَّم للوافدين البيض الجدد بفعل الإحلال العمراني الطبقي. 

يُلخِّص الجنرال فركش، مؤسس «إف أس تي 21»، الأمر بوضوح: «المدن مزدحمة، وتكون في الغالب أماكن خطرة، مع تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء... نحن بحاجة إلى طريقة للعيش بأمان، إنّما أيضاً بشيء من الراحة بجوار بعضنا بعضاً».10  إنّ شبح المناطق الحضرية الخطرة كان الأساس وراء عملية توريق الأصول العقارية، وهذه سهّلت لاحقاً عملية التجريد من الملكية لتتحقق على إثرها إمكانية المضاربة على العقارات المؤجّرة في تلك المناطق. تتيح أنظمة الأمان هذه للمُلاك إمكانية التخلّص من كلفة الصيانة والأمن، مع تحميل كلفة تبعات هذا الأمر على الشرطة (كما هو الحال دائماً). تمت برمجة نظام «إف أس تي 21» البيومتري ليتصل بمركز الشرطة إذا رصد اضطرابات أو مخالفات. وبرامج المراقبة هذه تزيد من الترابط بين المصالح المتبادلة القائمة لمشروعات الملكية الخاصة والملكية العقارية والشرطة. وهذه الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ مهام الأمن والسلامة تبرر لنا الضرورة (الظاهرية) لميزانيات الشرطة المتضخمة. هذا نظام دينامي يماثل في منطقه منطق ملاحقة ومراقبة الفلسطينيين من قبل الاحتلال الصهيوني، وهو بذلك نظام يمكن لنا تتبع تقنياته وطرائقه على هذا الأساس.

برامج المراقبة هذه تزيد من الترابط بين المصالح المتبادلة القائمة لمشروعات الملكية الخاصة والملكية العقارية والشرطة. وهذه الاستعانة بمصادر خارجية لتنفيذ مهام الأمن والسلامة تبرر لنا الضرورة (الظاهرية) لميزانيات الشرطة المتضخمة

أسس الكوميدي ورائد الأعمال آري تيمان شركة غايب غارد عقب اكتشافه بأنّ شقته المستأجرة عبر موقع «إر بي أن بي» كانت تُستخدَم لممارسات إباحية جماعية. وعلى غرار إف إس تي 21، استخدمت «غايت غارد» تقنية التعرف إلى الوجه لمراقبة المستأجرين، وروّجت لنفسها بأنّها متخصّصة في الحماية من ممارسات التأجير من الباطن غير القانونية. يتباهى تيمان في صفحته على موقع لينكدإن بفائدة «غايت غارد» في زيادة الدخل من تأجير الشقق على الرغم من زيادة اللوائح التنظيمية على الإيجارات، كما يتباهى بمساهمة شركته في تعظيم عمليات الإخلاء. إنّ افتراض المالك بأنّ المستأجر مجرم يماثل افتراض الصهاينة بأنّ الفلسطينيين إرهابيين. في كلتا الحالتين، يرتكز هذا الافتراض على طمس الطبقة والاستعمار، وهو عندئذٍ يهيئ شروط استمرار الاعتداءات والتهجير. وتقنيات المراقبة البيومترية في «غايت غارد» و«إف أس تي 21» ومثيلاتهما تماثل تقنيات الوحدة 8200، فكلتاهما تشتغل (وتتربّح) على هذين الافتراضين وتجسّدهما. فكلما ازداد التهجير – المستأجرين الأميركيين والشعب الفلسطيني – زادت معه الأرباح المتولدة. وحين نزيل حجاب الأمن والأمان – في كلا الموقعين – ينكشف لنا رأس مال مندفع وغير مبالٍ يسعى إلى استثمارٍ وعائدٍ أسرع وأقل تعويقاً. إنّ تراكم رأس المال مشروعٌ ملازم، وليس مماثل، للتطهير العرقي المصاحب للإحلال العمراني الطبقي والاحتلال الصهيوني. فالتهجير الجماعي للمستأجرين السود من أحياء في مدينة نيويورك ككراون هايتس وبيدفورد ستايفسانت وهارلم يمثل عنفاً لا يمكن اختزاله في مجرد جني الأرباح من قبل مطوّري العقارات الجشعين والمُلاك، على الرغم من عدم إمكانية فصله عن تلك العملية. إنّ الإبادة الجماعية الثقافية والتطهير العرقي ليسا طارئين على التراكم، بل هما شرطان أساسيان وعرضان له.

أما شركة قيرا الناشئة (رينتيغو وهالورينتد سابقاً)، لمؤسّسها ريفيتال قادش، فتجمع أنشطة إدارة عقارية متباينة على منصة واحدة (الدفع والتسويق والتشغيل والتواصل مع المستأجرين). في أيلول/سبتمبر 2022، أعلن مزوّد البرمجيات عن شراكة مع جمعية تثبيت الإيجارات، وهي منظمة (على الرغم من اسمها) لا تهتم بالإبقاء على الإيجار ثابتاً بقدر ما تهتم بضمان استقرار أرباح أصحاب المباني المؤجرة. تتضمّن الشراكة بين الشركة والمنظّمة نظامَ إنذار متكامل لمخالفات الحفاظ على المساكن وتطويرها، والقدرة على سحب البيانات من أكثر من 40 مصدراً للاستعلام عن المستأجرين ذوي الدخل المنخفض من خلفيات ائتمانية ضعيفة، ولوحة معلومات لتتبع المدفوعات بغرض مراقبة حالة الدفع والمدفوعات. يدعي المدافعون عن المستأجرين أنّ هذا يسفر عن غرامات تأخير في السداد أسرع وأكبر وعمليات إخلاء أكثر.

كان ولا يزال تطبيق تقنيات التحكّم الاجتماعي هذه، أي هذه الابتكارات التي تيسر عمليات الانتزاع والتهجير، محل نزاع وانتهى في الغالب إلى الانهزام. فالمستأجرون المنظمون في أتلانتيك تاور، وهو مجمع سكني بإيجار ثابت في براونزفيل في بروكلين، نجحوا في وقف تركيب نظام تعرف إلى الوجه يشبه نظام «إف أس تي 21». أما المستأجرون في تاينو تاورز في إيست هارلم ونيكربوكر فيلج في لوير إيست سايت فقد وقفوا صفاً واحداً ضد تطبيق نظام الأمن البيومتري من شركة «إف أس تي 21». هذه كلها صراعات ضارية ومطولة – وهي كما يجب علينا فهمها نزاعات طبقية وتعبيرات عن الصراع الطبقي. ومن خلال هذه العدسة نفهم ضرورة دمج هذه المنازعات المحلية – وربطها تنظيمياً وبرامجياً – في صراعات طبقية أوسع. لقد أتى تطبيق نظام «إف أس تي 21» في كل من تاينو تاورز ونيكربوكر فيلج في سياق إحلال عمراني طبقي: كانت نسبة السكّان في الأحياء المحيطة بهذين المجمعين تزداد وكانت الإيجارات (ولا تزال) ترتفع. لكنّ نجاح رفض الأنظمة الأمنية الصارمة والسجنية لا يخفف من الضغوط البنيوية وأجواء التهجير ضمن السياق الأوسع.

أما الفئة الثالثة من التقنيات العقارية فنجدها في شركة فيلدز، ونعني منصّات البيانات. تقول هذه الشركة «نوفر مراقبة مستمرة للسوق أكثر من الشركات العقارية التقليدية التي تصدر تقارير ربعية ومعروف عنها (في الولايات المتحدة) بأنّها مجزأة أو مشوهة، أي غير كاملة أو تحتوي على معلومات قديمة أو مكررة أو غير دقيقة أو غير متسقة». هذه الفئة الثالثة تنقب في الفئتين الأخرتين: تحويل أنشطة كليهما إلى بيانات قيمة توحَّد ويُعاد صياغتها وبيعها واستغلالها. وفي حين أنّ الفئتين الأخرتين هما صقل تقني لممارسات المُلاك المعروفة – من شراء وبيع وتأجير وإدارة – فهذه الفئة الثالثة تمثّل افتراقاً عنهما وتحوّلاً إلى مستوى جديد من تجريد الاستخراج العقاري.

أكثر من ذلك، تنقب شركة «بارابوست» في المحتوى والإدراجات عبر الإنترنت لإنشاء بيانات حول العقارات والمواقع، لتحسين التوفيق بين الباحثين عن المنازل وصناعة الإعلان. أما «سوليد بلوك» فتقدم منصة لتحويل المحافظ العقارية إلى أسهم رقمية يمكن تداولها. يلوح شبح التعلم الآلي والموضوعية التكنوقراطية في الأفق: هنا يمكن للنماذج الخوارزمية الكبيرة شرعنة القوى التاريخية للتجريد والاستخراج و«عقلنتها» بشروط سوقية جديدة مبتكرة ومحايدة أخلاقياً. في العام 1979، طرح الجغرافي نيل سميث مفهوم فجوة الإيجار. وفجوة الإيجار تمثّل عنده الفرق بين ما يدفعه المستأجر الحالي وما سيدفعه المستأجر المستقبلي (بالنظر إلى التهجير أو التجديد أو كليهما، سواء داخل المباني نفسها أو في الأحياء المجاورة). أين ومتى وجدت فجوة في الإيجار نجد الإحلال العمراني الطبقي.11  تيسّر مجموعات البيانات الكبيرة عن العقارات السكنية من عملية التحكم بأسواق الإيجارات والعقارات. فشركات من قبيل زيلو – ووي وورك! الإسرائيلية – تستخدم البيانات الكبيرة والاحتياطيات الكبيرة من رأس المال المستثمر (المضارب) للتعرف على الأحياء «الناشئة» ومواقع العقارات وتشكيلهما. وتوجد شركات أخرى، مثل «سناب لاند» الإسرائيلية، تحلّل البيانات العالمية لتقدِّمَ «فرص تجديد عمراني غير مستغلة حول العالم». تعمل هذه المنصات، بتحليلها السريع للعقارات وتأمين تمويلها، على تعظيم الأرباح بتقديمها يداً عليا حسابية على حساب المستأجرين لمدة طويلة وأصحاب المنازل. وفي غالبية الأحيان تُباع منصات البيانات إلى شركات عقارية كبرى – مثل «إنفيتايشن هوم» المملوكة من «بلاك ستون» – لتيسّر مشروعات توحيد السوق لديها. وفي نهاية المطاف تعمل منصات البيانات والتشغيل معاً كما تخبرنا «فيلدز»، وذلك لتمكّن «المستثمرين من تجميع ملكية الموارد وانتزاع تدفقات الدخل وتأمين نقل هذه التدفقات إلى أسواق رأس المال».12

تقنيات التحكم وابتكارات الحرب الطبقية التي تمثله هذه الشركات تمثل مواقع نزاع، فالنجاحات الفردية للمستأجرين أو الروابط – كنجاح رابطتي أتلانتك تينانتس وهِلز كيتشن التي قاضت المُلّاك لإزالة نظام القفل الرقمي – يمكن نشرها ومشاركتها عبر التنظيم إلى باقي الطبقة

وهذه الحركات لشركات التقنيات العقارية وتطوراتها تجسّد مكائد الشركات التي تحولت إلى المناخ المحيط برفع الإيجارات والحرب الطبقية. ولا يمكن منازعة هذه القوى، دع عنك هزيمتها، بنضالات فردية محلية جسورة، فرابطة مستأجرين لا تقدر وحدها على إبطال عقود من ضغوط رفع الإيجارات. بيد أنّ تقنيات التحكم وابتكارات الحرب الطبقية التي تمثله هذه الشركات تمثل مواقع نزاع، فالنجاحات الفردية للمستأجرين أو الروابط – كنجاح رابطتي أتلانتك تينانتس وهِلز كيتشن التي قاضت المُلّاك لإزالة نظام القفل الرقمي – يمكن نشرها ومشاركتها عبر التنظيم إلى باقي الطبقة. كما أنّ التنظيم يمكنه تجاوز ومقارعة تقنيات الحرب الطبقية هذه على مستوياتها التجريدية المختلفة عبر الوسائل الاقتصادية والسياسية. لكن لن يقيّض لنا هذا إلا إذا كان تنظيمنا على قدر المهمة. إنّ الأواصر بين تقنيات الاحتلال الصهيوني ونظيرتها عند مُلّاك العقارات في الولايات المتحدة واضحة وملموسة أكثر من كونها رمزية، فرأس المال نفسه الذي يدفع الاحتلال قدماً يموّل توليد ضغوطات التجريد التي يواجهها المستأجرون من الطبقة العاملة في الولايات المتحدة. لكن التضامن بين العمّال – المستأجرين والمقاومة الفلسطينية هو في جله اليوم رمزي للأسف الشديد. لذا، فالمهمة المطروحة أمام هؤلاء أن يؤسّسوا حركة منظمة من شأنها تحويل هذا التضامن الرمزي إلى دعم ملموس. ومن هنا تبرز فائدة تبيان وحدة النضال ووحدة الأعداء المتشابهين والمتعاونين. لكنها في نهاية المطاف مسألة ثبات تنظيمي وخلق حركة جماهيرية. وكما يقول تشافيز: الشعب وحده مَن سيحرر الشعب.

وفي اتحاد حماية المستأجرين من الإخلاء في بروكلن، وأصحاب هذه السطور من أعضائه ومنظميه، ندرك هذه الروابط الموثوقة بين عملنا ونضال التحرر الفلسطيني. وبصفتنا اتحاداً، وبالتحديد بصفتنا أعضاءً في تجمع التضامن مع فلسطين، نعي الطبيعة المزدوجة لمهمتنا.

من ناحية، هذا مشروع مستمر لبناء وتنمية التجمعات الديمقراطية التداولية بقيادة العمال والمستأجرين في مبانينا وفي أحيائنا – هذه جمعيات وفروع نقابية يصبح من خلالها المستأجرون من الطبقة العاملة أبطالاً جماعيين. في هذه الكيانات المستقلة (عن الدولة والمنظّمات غير الربحية، وبالتأكيد عن المُلّاك وشركات الإدارة) المكوّنة عبر النضال ضدّ جور المُلّاك، نخلق مساحة للناس لممارسة السياسة الديمقراطية الفعلية، ليكونوا أبطالاً نشطين في مسارات حياتهم، والقيام بذلك جنباً إلى جنب مع جيرانهم. في سياق هذا النوع من التنظيم، في سياق هذه الحركات، يمكننا نحن داعمو التحرير الفلسطيني في الاتحاد أن نشرك جيراننا بشفافية وعمق وقصد في موضوع فلسطين. نحن لسنا مهتمين بالمناقشات التلفزيونية أو تويتر أو الحجج غير الرسمية أو حتى مجرد الظهور في الشارع لنستعرض دعمنا (ونحن بالطبع نمارس الدعم). بدلاً من ذلك، نحن لا نعترف إلا بالتنظيم الطبقي الحقيقي – مثلنا، مثل المساحات القاعدية داخل النقابات العمالية – موقعاً يجب فيه على المشروع الخطابي نشر الكلمة الطيبة للتحرّر الفلسطيني. والبحوث المماثلة لما عرضناه في هذه المادة مفيدة لتحقيق هذه الغاية: أنظر/ي إلى ما اكتشفناه في الاتحاد.

من ناحية أخرى، فإنّ مهمتنا عمودية: ترتكز على النمو الصبور والمتفاني الذي وصفناه للتو، ليصبح الاتحاد نفسه وحركة العمّال – المستأجرين متزايدة الأهمية في المستويات العليا من النضال السياسي. وهذا يتطلّب بناء منظّمات ذكية  وواعية وديمقراطية وتشاركية. لا يمكننا، كما نؤكد، وضع العربة أمام الحصان. نحن نبني نظاماً بيئياً للديمقراطية، من الألف إلى الياء – وبالتأكيد إلى الأعلى! لكن لا يمكننا أن نسمح لجوانب من منظّمتنا أن تنجرف من دون مساءلة، من دون ربط ديمقراطي بقاعدة المستأجرين المنظّمين من الطبقة العاملة، عصب اتحادنا. وعلى الرغم من أنّ الغالبية العظمى من منظّمي اتحادنا المناضلين يعبّرون عن تضامنهم العميق مع الشعب الفلسطيني، فإنّنا لم نصادق بعد – كاتحاد – على دعم القضية أو نتعهّد بتقديم دعم صريح لها. وهذا لأنّنا لم نحصل بعد على دعم نشط ومشارك للقضية من قاعدة المستأجرين المنظّمين من الطبقة العاملة في أكثر من 70 رابطة تؤلف الاتحاد. هذه ليست خطوة إلى الخلف أو علامة قاتمة على الاتحاد بقدر ما هي انعكاس ظرفي لما نحن فيه. إنّ تجاهل هذا ولصقه ظاهرياً وبطريقة غير ديمقراطية على صرح تعبيرات اتحادنا عن التضامن الفلسطيني – على الرغم من رغبتنا في دعم القضية الفلسطينية بأي طريقة ممكنة – لا يساهم إلا في تقويض المشروع الفعلي والطويل الأجل للاتحاد، فمن خلال هذا المشروع طويل الأجل وحده من شأن تضامننا مع فلسطين أن يصبح ملموساً ومؤثراً بحق.

نُشِر هذا المقال في The Brooklyn Rail في عدد أيار/مايو 2024. 

  • 1Avi Kober, “Targeted Killing during the Second Intifada: The Quest for Effectiveness.” Journal of Conflict Studies, vol. 27, no. 1, 2007
  • 2Erin Mcelroy, Manon Vergerio, and Paula Garcia-Salazar. “Landlord Technologies of Gentrification: Facial Recognition and Building Access Technologies in New York City Homes,” Anti-Eviction Mapping Project, 2022
  • 3Dan Senor and Saul Singer, Start-up Nation: The Story of Israel's Economic Miracle. Grand Central Publishing, 2009
  • 4Rashid Khalidi, The Hundred Years' War on Palestine: A History of Settler Colonialism and Resistance, 1917–2017. Henry Holt and Company, 2021
  • 5Marx in 1844: “Now, however, let us consider the rent of land as it is formed in real life… The rent of land is established as a result of the struggle between tenant and landlord. We find that the hostile antagonism of interests, the struggle, the war is recognized throughout political economy as the basis of social organization”
  • 6Jonathan Frenkel, “The Israeli Startups Taking NYC Property-Tech by Storm.” ISRAEL21c, July 21, 2019
  • 7Jonathan Frenkel, “The Israeli Startups Taking NYC Property-Tech by Storm.” ISRAEL21c, July 21, 2019
  • 8 Quoted in Finkelstein’s Gaza: An Inquest into Its Martyrdom
  • 9Erin Mcelroy, Manon Vergerio, and Paula Garcia-Salazar. “Landlord Technologies of Gentrification: Facial Recognition and Building Access Technologies in New York City Homes,” Anti-Eviction Mapping Project, 2022
  • 10Erin Mcelroy, Manon Vergerio, and Paula Garcia-Salazar. “Landlord Technologies of Gentrification: Facial Recognition and Building Access Technologies in New York City Homes,” Anti-Eviction Mapping Project, 2022
  • 11N. Smith, (1987). Gentrification and the Rent Gap. Annals of the Association of American Geographers, 77(3)
  • 12D. Fields, (2022). Automated landlord: Digital technologies and post-crisis financial accumulation. Environment and Planning A: Economy and Space, 54(1), 162