Preview فلسطين العالمية

عولمة فلسطين: عن حركة الطلاب في الجامعات الأميركية

نشهد اليوم في الولايات المتّحدة تحرّكاً طالبياً يمتدّ حول القارة الأميركية الشمالية. يلقى الطلاب مقابل تحرّكهم أشكال عنف وقمع وصلا إلى حدّ احتجاز الشرطة الأميركية أكثر من 2,000 طالب في غضون أسبوع من الاعتصامات، يرافقها استكمال لحملة مكارثية ضد الإدارات غير القادرة على فكّ الاعتصامات. تتعامل إدارات الجامعات مع الحركات الاحتجاجية بطرق مختلفة حسب خصائص كل جامعة. فجغرافية الجامعة وديموغرافيتها، وأهمّية المساحة المحتلة من الطلاب، والأشكال التصعيدية للتحركات، تؤدّي دوراً في احتساب خطوات الإدارة. وتختلف ردود فعل الإدارات حسب رئيس كل الجامعة، فرئيس نشأ داخل الجامعات وتمرّس فيها ويعرف سياساتها، يختلف في تعامله عن رئيس تمرّس في مؤسّسات رأسمالية غير جامعية. 

لكن مساحة الاختلاف محدودة. الإعلان واضح، أن فلسطين خارج نطاق «الحرية الأكاديمية» و«حرية الرأي». تتلاقى مواقف الإدارات على رفض محادثة الطلاب ورفض مطالبهم، وتجتمع على ضرورة إنهاء الاعتصامات. الهدف الجامع هو إعادة اختزال فلسطين بقضية إنسانية (محورها المجاعة) ومنعها من أي تشكّل خطابي سياسي. الضرورة بالنسبة للإدارات إرساء فلسطين خارج حدود القول السياسي، لتتمركز إسرائيل وعنفها فوق أي قانون معياري متفق عليه عالمياً، ولو كان شكلياً. نشهد مرحلة تأسيس استثناء فاشي (فوق القانون) يقابله استثناء مقموع (ممنوع من التشكّل الصريح).

المحرّك الأساسي للطلاب ليس سياسات الهوية، السبب سياسي وموروث. ما نشهده اليوم هو أثر لجهد في الفكر والممارسة للفلسطينيين في ستينيات القرن الماضي عندما حوّلوا فلسطين إلى قبلة للثوار اليساريين حول العالم

إن الخطر المبطن التي مثلته فلسطين بالنسبة للمؤسّسات الجامعية هو كسر زمن من إرساء سلوكيات معيارية تعرّف الجامعات الأميركية بكونها مساحة غير سياسية. أي عقود من ممارسات لتثبيت قاعدة أن «السياسة» لا تشكّل جماعات بين جمهور الطلبة. ويستكمل ذلك تقويض النقاش السياسي وحصره داخل صفوف المحاضرات ليلقى معالجة من منظار مراقب غير سياسي، أي غير المعني، ينتج خطاباً قابل لأرشفة المشكل السياسي. والمثير والخطير معاً هو أن تسييس المساحة الجامعية حصل على أثر فلسطين، القضية التي يُصعب على إدارات الجامعات استيعابها بهدف التحكم بها، مثلما يحاولون فعله بجميع خطابات الحقوق للجماعات المختلفة. فلسطين غير قابلة للاستيعاب ضمن خطابهم إلا في حدود مسألة الأجساد القابلة للإدارة المعيشية من مؤسسات رأس المال العالمية. 

أما الخطر الصريح التي تمثله التحرّكات هو وضع علاقة الولايات المتّحدة ومؤسّساتها الرأسمالية بإسرائيل ضمن حيّز إمكانية المساءلة والاستشكال السياسييّن في المجال العمومي. حين تعدّت التظاهرات فعل الصياح الجماعي المتقطع، واحتل الطلاب مساحة ملموسة ضمن الجامعة، استطاعوا رسم مساحة عامة لخطابهم ولو فشل هدفهم بفرض التفاوض على إدارات الجامعات. رُسمت حدود الخطاب من خلال استعادة استشكالات موروثة جامعة - مثل الاستعمار الاستيطاني، وتحالف الفاشية مع رأس المال، والعنصرية الممنهجة المشتركة.  تُعطّل هذه المقولات بداهة العلاقة بين الولايات المتّحدة وإسرائيل. وتُعطّل سيرورة التطبيع مع «طبيعة» إسرائيل. إن التحركات من أجل فلسطين في الولايات المتّحدة عموماً استطاعت جَمهَرة اليهود الرافضين لتمركز ولاحتكار التأويل لمعنى «اليهودية» ضمن السياقات التأويلية لدولة إسرائيل والحركة الصهيونية. وبنقيض لفاشية الاستثناء والخصوصية الإسرائيلية، يسعى اليهود المعارضين إلى تعميم كوني لشعارهم «لن يحدث مجدداً» الذي يعملون على تحويله وفكّه عن التأويلات الصهيونية من خلال ربطه بمفهوم كوني للعدالة.

لكن السؤال، لماذا تستطيع فلسطين تحريك جمهور من الطلبة في الولايات المتّحدة؟ يفهم الطلاب تحرّكهم على أنه تضامن مع الفلسطينيين ضد الإبادة التي ترتكبها إسرائيل. وللتضامن فعاليته في تعميم خطاب المقاطعة (وسحب الاستثمارات المالية/العسكرية من إسرائيل) ليصبح خطاباً مهيمناً بتعيينه الخطاب المضاد للخطاب المسيطر. فمضمون التضامن في الحالة الفلسطينية والأفعال المُجسّدة له هي سياسية. لذلك لا نستطيع فهم حركة التضامن على أنه أثر لخطاب الإنسانية غير السياسي الذي تتحكّم به المؤسّسات الرأسمالية. لا يفهم الطلاب تضامنهم على أساس شعورهم الإنساني.

يتشعّب الطلاب المجتمعون في اعتصاماتهم إلى جماعات هويّاتية مختلفة. تحتلّ كل منها مساحة خاصّة داخل مساحة الاعتصام الجامع، ويتشاركون في الأنشطة والمظاهرات العامة. تضمّ الجماعات الهويّاتية الطلبة السود الأميركيين واليهود الأميركيين والسكان الأصليين الأميركيين والهنود والإيرانيين والأتراك والعرب والجالية المسلمة، وغيرهم. وجزء أساسي من المتضامنين، لكن غير المعتصمين، هم العمّال (عمّال الوِرش والنظافة والكافتيريا وغيرهم) وهم بغالبيتهم من الجالية المكسيكية والسود الأميركيين. وقد عبّروا عن تضامنهم بتحويل تظاهرتهم يوم عيد العمّال إلى مسيرة من أجل فلسطين داخل الجامعات وخارجها.

إن الخطر المرافق للخطر الوجودي الذي يواجه الفلسطينيون الآن هو إعادة تحويلهم إلى مجرّد لاجئين لهم وجود جسدي من دون وجود سياسي. المطلوب عند إسرائيل تحويل غزّة وأهلها مرّة أخرى إلى لاجئين، ممنوعين عن التشكّل السياسي

المحرّك الأساسي للطلاب ليس سياسات الهوية، ففعلهم الاحتجاجي من أجل فلسطين يتجاوز الخصوصية الهوياتية. السبب المحرّك لهذه الجماعات ليس حلم تعددية ثقافية ولا استعطاف انساني. السبب سياسي وموروث. ما نشهده اليوم هو أثر لجهد في الفكر والممارسة للفلسطينيين في ستينيات القرن الماضي عندما حوّلوا فلسطين إلى قبلة للثوار اليساريين حول العالم. استطاع الفلسطينيون، بإبداع على إثر مواجهتهم الراديكالية مع الحرية، عولمة فلسطين.

اتخذ جهد العولمة شكلاً كلياً يضم التنظيم في الشتات وإنتاج الثقافة الإبداعية المقاومة وخلق علاقات ديبلوماسية وعسكرية وتدريب عسكري للثوّار من مختلف أنحاء العالم. كان ذلك ممكناً بسبب إعادة تشكيلهم لفهم صراعهم السياسي/الوجودي. طرح الفلسطينيون في الستينيات على العالم صراعهم من خلال مفاهيم كونية، مثل الاستعمار الاستيطاني (وهو طرح فلسطيني أوّلاً)، والتأسيس العنصري لرأس المال، وعلاقة الصهيونية بالإمبريالية العالمية، وعلاقة التحرّر الوطني للفلسطينيين بتحرّر شعوب العالم الثالث. تشكّلت بذلك فلسطين كمركز محدّد ملموس لطرح كوني قابل للتعميم. وكان ذلك طبعاً ضمن سياق سياسي ملائم وهو سيرورة التحرر تحت راية «العالم الثالث» والشعوب المُستغلَة والمقموعة عالمياً.

تحوّلت فلسطين بسبب الجهود الثورية المتكاملة إلى قضية داخلية للمتضامنين معها حول العالم. أي أنها تحوّلت في الستينيات إلى هم داخلي للجماعات المتضامنة، وأصبحت تَحكُم جزءاً من العلاقة السياسية بين الجماعات وصراعهم مع الدول. وربما كان ذلك واضحاً في سياق صراع الأميركيين السود حين تحوّلت فلسطين عندهم لتصبح جزءاً من ثقافتهم العامة (وأخذ ذلك شكلاً أكثر راديكالية عند «البلاك بانثرز»).  واستطاعت فلسطين أن تؤوّل فهمهم لصراعهم مع الدولة الأميركية وكانت محطة جدل في علاقتهم مع الجماعات اليهودية الأميركية المختلفة. أصبحت فلسطين وقتها شأناً داخلياً للجماعات المقاومة حول العالم، أي أصبحوا معنيين بها بشكل مباشر. بُني التضامن بسبب طرح فلسطين مشكلاً كونياً فتعولمت علاقات التضامن، ولم يكن التضامن تعاطف مع آخر خارجي بعيد، بل كان تمثّلاً لمنطق المساواة بين علاقات السلطة عالمياً والمساواة المقابلة للصراع التحرري.

نجح الفلسطينيون في الستينيات في موقفهم التحرري أن يتفوّقوا على إخضاع وجودهم إلى مجرّد لاجئين، ليتحوّلوا إلى ذوات سياسية عالمية تحرّرية. ونشهد، في الولايات المتّحدة أقلّه، أثر ذلك الجهد المتكامل ونجني ما بقي من ثماره. إن الخطر المرافق للخطر الوجودي الذي يواجه الفلسطينيون الآن هو إعادة تحويلهم إلى مجرّد لاجئين لهم وجود جسدي من دون وجود سياسي. المطلوب عند إسرائيل تحويل غزّة وأهلها مرّة أخرى إلى لاجئين، ممنوعين عن التشكّل السياسي. فيُستكمل إخضاع فلسطين لتكون قضية خاصة جداً يمكن للعالم أن ينساها لتدير شؤونها مؤسسات رأس المال العالمية، ويكون أقصى «التضامن» والتعميم هو تشارك في إحصائيات عن نسب الغذاء ونسب الوصول إلى تسهيلات ومنتجات مالية.

نجحت فلسطين في استعادة وجمع متخيلات موروثة عن التحرّر وتسييس راهنيتها. وتنجح المقاومة الفلسطينية بإبقاء فلسطين مشكلاً سياسياً وتستخدم جزءاً من موروثها الكوني بطرحها للمسألة الفلسطينية. ولكن يبقى الخطر في أن المشاكل تموت بعدم تجدّد استشكالاتها الفعلية والمفهومية، وخطر الموت اللاسياسي أمامنا. فالسؤال هنا، هل نستطيع استكمال إنتاج فلسطين كونية عالمية، كما هي، مشكلاً سياسياً للحرية والتحرّر، فتبقى مشكلةً داخلية تأسيسية لجماعات مختلفة حول العالم؟