من الثورة الفرنسية إلى نهاية الحرب الباردة
التاريخ الاقتصادي للامساواة

  • مراجعة لكتاب برانكو ميلانوفيتش «رؤى عن اللامساواة: من الثورة الفرنسية إلى نهاية الحرب الباردة»، الذي يعدّ تحليلاً أساسياً وثاقباً وشاملاً للتاريخ الاقتصادي وتاريخ الفكر الاقتصادي من خلال عدسة اللامساواة.

 

الأفكار مهمّة. وفي الاقتصاد (ومن أجله)، تُشكِّل النقاشات المستنيرة والشفافة عن الأفكار في ارتباطها بالتاريخ أهمّية أكبر. ولهذا السبب فإن كتاب برانكو ميلانوفيتش الأخير «رؤى عن اللامساواة: من الثورة الفرنسية إلى نهاية الحرب الباردة»، الذي يتمحور حول فكرة «تطوُّر التفكير في اللامساواة الاقتصادية على مدى القرنين الماضيين»، يُعَدّ عملاً متميِّزاً في الاقتصاد اليوم. وبكثافة متساوية، يتناول الكتاب الانقسامات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية المعاصرة ويدعو الاقتصاديين النظريين والإمبريقيين إلى إجراء تقييم نقدي لمواقفهم الفكرية.

على نحو مخالف للمنطق، فإن الاقتصاد، وهو علم اجتماعي ديناميكي بطبيعته، كثيراً ما يُشكِّك في الأفكار التي تتحدّى المسلّمات الراسخة. وفي نموذج فردي يعمل على تعظيم المنفعة، يكون دور الدولة الرسمية في حَدِّه الأدنى. ومن المفترض أن تكون السوق ذاتية التصحيح مستقرّة وقادرة على حل مسائل توزيع الدخل. لكن على أرض الواقع، يبدو أن توزيع الدخل والثروة، والحصول على التعليم والرعاية الصحية وغيرهما، يتبع مساراً مختلفاً، ما يخلق فجوات هائلة بين من يشير إليهم ميلانوفيتش في موضع آخر باسم «من يملكون ومن لا يملكون».

إن اللامساواة قضية منهجية تاريخياً تعوق ازدهار الحاضر واستدامة المستقبل. وميلانوفيتش على قناعة بأن المحدِّدات الرئيسة للامساواة مُتجذِّرة في أساس النظام الاقتصادي وليست محدَّدة باختيارات فردية، ويقودنا في كتابه إلى تحليل زمني للأمر. ومع ذلك، فإن فكرة الربط بين التمظهُرات المحسوسة المختلفة للامساواة في الحياة اليومية والتفكير النظري الذي يُحفِّز تدابير السياسة الاقتصادية الملموسة ليست عنصراً أساسياً في الاقتصاد المعاصر. فـ«الاقتصاد الجاد» نجح في تجنُّب اللامساواة «الضارة بالاقتصاد السليم»، مع التركيز بدلاً من ذلك على النمو الاقتصادي واسع النطاق. إن النمو أمر ضروري، ولكن كما يُحاجج ميلانوفيتش، فإن الحوار المفتوح بشأن الأفكار أو «الرؤى» التي تدور حول اللامساواة أمر ضروري أيضاً.

يبدو أن توزيع الدخل والثروة، والحصول على التعليم والرعاية الصحية وغيرهما، يتبع مساراً مختلفاً، ما يخلق فجوات هائلة بين من يملكون ومن لا يملكون

يبدو أن اللامساواة الاقتصادية اقتحمت مجتمعنا المعولم بحلول «الأزمة المالية العالمية» لعام 2008، التي أفقَرت الملايين وكانت لحظة فاصلة في الاقتصاد. على الفور تقريباً، بدأ الاقتصاديون في التشكيك في حكمة نماذجهم العقلانية، وشرعوا في ابتكار مُخطّطات منهجية جديدة من قائمة طويلة من الأفكار، بدءاً من الدورات الاقتصادية، وفعالية الدور الاستباقي للدولة والبنوك المركزية في توجيه النمو، وحتى دور الائتمان في الاقتصاد العالمي وما هو أكثر من ذلك. وفي خضم انخفاض مستويات المعيشة، خصوصاً بين المجموعات متوسطة الدخل في الاقتصادات المتقدمة، بدأ عدد كبير من الدراسات المتعلقة باللامساواة في الظهور، إضافة إلى الأعمال السابقة لمؤلفين مثل توني أتكينسون وتوماس بيكيتي وإيمانويل سايز، بين آخرين.

قبل ما يقرب من عقدين من الزمن قبل أزمة العام 2008، كان ميلانوفيتش قد نجح بمفرده تقريباً في تطوير دراسة اللامساواة في الدخل من مجرد فضول فكري إلى موضوع مركزي في بحوث الاقتصاد الإمبريقي وأجندات سياسات التنمية. جاء ذلك من خلال عمله المبكر في اقتصادات ما بعد الاشتراكية في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق وفي خلال فترة عمله كبيراً لاقتصاديي قسم البحوث في البنك الدولي.

في هذا الكتاب الجديد، يقف ميلانوفيتش، الذي يعترف بتشكّك المهنة تجاه اللامساواة، مع الفلاسفة الدنيويين للرأسمالية المبكرة الذين كانوا على دراية بالتناقضات الحادة في النتائج الاجتماعية والاقتصادية. ولا يزال تعليق جورج هيغل في العام 1820 عن الفجوة الاجتماعية والاقتصادية التي تتعمّق بسرعة بين الأغنياء والفقراء والترياق المحتمل لها، ذا أهمية حتى يومنا هذا. ورأى هنري جورج الانقسام الاجتماعي والاقتصادي المنهجي نفسه في عصره على أنه المأساة التي ألقت بظلالها على التقدّم الصناعي. وفي هذا السياق الأوسع، قد يستفيد القارئ أكثر من كتاب «رؤى عن اللامساواة». وتتمثل المساهمة الفريدة للكتاب في إيجاد توازن مُدار ببراعة بين بنية المناقشات المواضيعية وعمقها (سبعة فصول تتبع تعامل خبراء الاقتصاد البارزين مع مسألة اللامساواة على مدى القرنين الماضيين).

ميلانوفيتش على قناعة بأن المحدِّدات الرئيسة للامساواة مُتجذِّرة في أساس النظام الاقتصادي وليست محدَّدة باختيارات فردية، ويقودنا في كتابه إلى تحليل زمني للأمر

تستكشف الفصول الستة الأولى منظورات اللامساواة الاقتصادية لدى فرانسوا كيسناي، وآدم سميث، وديفيد ريكاردو، وكارل ماركس، وفيلفريدو باريتو، وسيمون كوزنتس، على التوالي. إن النقاشات مترابطة في كل فصل وتبني على بعضها البعض، ما يقودنا إلى الفصل السابع الختامي والأطول، الذي يجمع التطوّرات الأحدث في خطابات اللامساواة ومساهمات الاقتصاديين في الوقت الحاضر. ويُركِّز هذا الفصل إلى حد كبير على الاهتمام الذي تلقته اللامساواة في خلال الحرب الباردة عندما كان النظام الاقتصادي والسياسي الرأسمالي موجوداً كنقيض للنظام الاشتراكي (قبل أن تكتسب الرأسمالية السيادة الكاملة. وهذا هو موضوع ميلانوفيتش في كتابه «الرأسمالية وحدها»). هذا الفصل الأخير - ذروة الكتاب - هو أيضاً الموضع الذي يشرح فيه ميلانوفيتش نقده للاقتصاد النيوكلاسيكي السائد. وهو يستهدف هنا إغفال علاقات القوة العالمية واللامساواة في الاقتصاد القياسي. ويمكن بسهولة دراسة هذا الفصل، بنقاشاته الموسّعة عن الاقتصاد السياسي المعاصر وأهمية الاقتصاد كعلم اجتماعي، بشكل منفصل.

تبرز ثلاث ملاحظات مهمة من الكتاب. أولاً، انخراط ميلانوفيتش النقدي العميق مع أعمال الاقتصاديين الكلاسيكيين، بدلاً من الاعتماد على التفسيرات اللاحقة لهذه النصوص، أمر يستحق الثناء. يقرأ المؤلف الأعمال الأصلية بدقة مع إيلاء اهتمام خاص للامساواة، موضحاً كيف أدّت بعض الأفكار في الاقتصاد - وإن كانت لا تحظى بشعبية أو فقدت مصداقيتها من قِبَل الغالبية - دوراً في تطوير التفكير العام للاقتصاديين الكلاسيكيين. تجسِّد مقاربته قيمة دراسة مجالين مترابطين ولكن منفصلين: التاريخ الاقتصادي وتاريخ الفكر الاقتصادي. وما من اقتصاد يمكن الحديث عنه من دون هذا الثنائي.

ثانياً، يؤكّد ميلانوفيتش أن كل واحد من الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين استطلعهم كتابه أشار إلى مسائل اللامساواة من وجهة نظر الفترة التاريخية والنظام الاقتصادي في عصره. وفي هذا الفهم التاريخي للاقتصاد، يدمج بشكل فعّال السرد الإمبريقي مع النظرية الكامِنة لإنتاج صورة مُقنِعة للنظام الاقتصادي في استمراريته التاريخية. ويبدو أن قسماً كبيراً من البحوث الاقتصادية المعاصرة يعتمد بشكل مُفرِط على التحليلات البيانية التقنية، بعيداً من المحدِّدات التاريخية. وكثيراً ما يؤدي هذا الفصل إلى عدم توافق قاتل بين التنظير الاقتصادي وتصميم السياسات الاقتصادية الفعلية وتنفيذها، وهي التجربة التي مرت بها - ولا تزال تعيشها - العديد من الاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية ما بعد اشتراكية، خصوصاً الاقتصادات الصغيرة منها.

بالنسبة إلى ميلانوفيتش، فإن تطوّر وجهات نظرنا بشأن اللامساواة له جذور عميقة في تاريخنا. إذا كان الاقتصاديون السياسيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قد نظروا إلى النتائج الاقتصادية من منظور البِنَى الطبقية المتطوّرة لمجتمعاتهم (من كيسناي إلى سميث وريكاردو وماركس)، فإن اقتصاديي القرن العشرين، مثل كوزنتس، نظروا إلى اللامساواة على أنها نتاج تطور القوى الصناعية، ونمو التصنيع، والتقدّم التكنولوجي والتمدُّن. وسيكون لهذا آثار أيضاً من حيث درجة الاهتمام التي قد ينسبها كل مؤلِّف إلى اللامساواة كمشكلة اجتماعية واقتصادية في رؤيته لنظام الاقتصاد السياسي وأيضاً في أي تصميمات لسياسات التوزيع أو تنظيم الضرائب. إن التعلُّم من تلك التجارب أمر بالغ الأهمية لفهم شدّة الوضع المعاصر بشكل صحيح.

يؤدي هذا الفصل إلى عدم توافق قاتل بين التنظير الاقتصادي وتصميم السياسات الاقتصادية الفعلية وتنفيذها، وهي التجربة التي مرت بها - ولا تزال تعيشها - العديد من الاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية ما بعد اشتراكية

ثالثاً، يُفكِّك الكتاب بعض التفسيرات السائدة لتعاليم الاقتصاديين الكلاسيكيين. على سبيل المثال، فإن قراءة ميلانوفيتش الدقيقة لآدم سميث تُفسِّره على أنه «الاقتصادي اليساري» اليوم، ويُحاجج ميلانوفيتش بأن انشغال سميث بالنتائج العادلة فيما نسميه الآن السوق، وكذلك انشغاله بتركيز الثروة واحتكار صناعات بأكملها من الأفكار الحاسمة في كتابه «ثروة الأمم».

خاتمة الكتاب مفعمة بالأمل. يشعر ميلانوفيتش بالتشجيع من الحجم المتزايد لدراسات اللامساواة والعمق الفكري الذي تنطوي عليه، والصلات بين المواضيع المختلفة، واستكشاف أنواع مختلفة من اللامساواة. والتوافر المتزايد للبيانات وسهولة الوصول إليها، مثلاً من خلال «مركز ستون عن اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية» الذي ينتمي إليه المؤلف أو من خلال «قاعدة بيانات اللامساواة العالمية»، يمكِّنا جيلاً جديداً من الاقتصاديين من إجراء أبحاث إمبريقية أكثر استنارة وأكثر تقدّماً من الناحية المفاهيمية والتي يمكن بدورها أن تفيد عملية صنع السياسات.

سيكون من المثير للاهتمام أن نرى ميلانوفيتش يواصل أبحاثه، وربما يضيف تحليلاً لأعمال المزيد من الاقتصاديين. ويمكن أيضاً تكييف الكتاب ليناسب الجماهير الأقل تخصّصاً، والتعامل مع مجالات خارج نطاق الاقتصاد والسياسة العامة. وفي وضعه الحالي، يُعَد «رؤى عن اللامساواة» تحليلاً أساسياً وثاقباً لتاريخ اللامساواة الاقتصادية الذي أصبح ذا أهمية عاجلة في يومنا هذا. إن الكتاب عبارة عن دراسة شاملة للتاريخ الاقتصادي الأوسع وتاريخ الفكر الاقتصادي من خلال عدسة اللامساواة. وعلى هذا النحو، فهو عمل رائد من شأنه أن يؤثِّر على مهنة الاقتصاد وعلى نظرتنا إلى العالم.

نُشِر هذا المقال في LSE Review Of Books في 21 أيار/مايو 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.