تاريخ المنتصرين
ربما لا يكون من المبالغة القول إنّ لحماس هدفاً آخر غير معلن، يتمثّل في دفع إسرائيل إلى إسقاط قناعها كدولة ليبرالية عقلانية وكشف طبيعتها الحقيقية كمفترس متعطّش للدماء لا يقيّده قانون.صارت القضية الفلسطينية، قضيّة إنسانية عالمية يتبنّاها الملايين حول العالم، كثيرون منهم لا علاقة مباشرة لهم بها، وما كان ذلك إلا ثمرة أفعال إسرائيل نفسها.
يُقال إنّ التاريخ يكتبه المنتصرون. تشهد غزّة في لحظة كتابة هذه السطور، وقفاً هشّاً لإطلاق النار، أحادي الجانب في الواقع، إذ تواصل إسرائيل كعادتها في مثل هذه الحالات، قصف القطاع بين حين وآخر. لا توحي التجارب السابقة مع هدن مشابهة بأنّ هذه ستصمد طويلاً. ومع ذلك، من المفيد التوقّف عند المشهد الراهن وطرح سؤال بسيط: لو انتهت الحرب الآن، من الذي انتصر؟ يمكن الإجابة بالنظر إلى أهداف كلّ طرف، وما تحقّق منها. من بلغ أهمّ أهدافه انتصر، ومن أخفق خسر.
لا وجه للمقارنة بين ما يملكه الطرفان من موارد وقدرات. تمتلك إسرائيل جيشاً ضخماً مدرّباً بعناية، ومخزوناً يكاد لا يُستنفد من أكثر الأسلحة تطوّراً في العالم، من طائرات مقاتلة ودبابات ومروحيات وتقنيات دقيقة لا تُضاهى. في المقابل، يعتمد الفلسطينيون على مجموعات مقاومة صغيرة مسلّحة بأسلحة خفيفة وصواريخ محلية وبعض الأدوات البدائية، كثير منها مصنوع من بقايا ذخائر إسرائيلية لم تنفجر. لذلك، من الطبيعي أن تكون أهداف الجانبين مختلفة جذرياً من حيث الإمكانات والمنطق.
تمكّن الجيش الإسرائيلي من تدمير واسع النطاق، لكنّه فشل في تحقيق أهدافه المعلنة أو المضمرة. فبعد عامين من حرب شاملة، لم يُبَد سكان غزّة ولم يُهجَّروا، ولم تُهزم حماس أو تُحلّ أو تُنزَع أسلحتها
تمكّن الجيش الإسرائيلي من تدمير واسع النطاق، لكنّه فشل في تحقيق أهدافه المعلنة أو المضمرة. فبعد عامين من حرب شاملة، لم يُبَد سكان غزّة ولم يُهجَّروا، ولم تُهزم حماس أو تُحلّ أو تُنزَع أسلحتها. حتى ملفّ الرهائن لم يُحسم عسكرياً، إذ أُفرج عن معظمهم بالتفاوض مع حماس، على الرغم من أنّ إسرائيل كانت تؤكّد عدم رغبتها في ذلك.
إذا خسر الإسرائيليون، فهل يعني ذلك أنّ الفلسطينيين انتصروا؟ يمكن القول إنّ ثمّة ما يبرّر هذا الاستنتاج. كانت حماس قد أعلنت أنّ هدفها هو امتلاك الوسائل التي تتيح تبادل الأسرى. تحتجز إسرائيل آلاف الأسرى الفلسطينيين، بينهم أطفالٌ كثر، وكثيرون رهن الاعتقال الطويل من دون توجيه تهمة. وبما أنّ إسرائيل تحتلّ القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزّة بصورة غير قانونية وفق القانون الدولي، ولأنّ للسكان الواقعين تحت الاحتلال حقّاً في مقاومة القوة المحتلّة، فإنّ أسر عناصر عسكرية إسرائيلية يُعدّ، من حيث المبدأ، عملاً مشروعاً. وبما أنّ الحكومات الإسرائيلية كانت في السابق مستعدّة لإجراء تبادلٍ للأسرى، فقد بدا من المنطقي أنّ امتلاك أسرى عسكريين إسرائيليين قد يكون وسيلة فعّالة للإفراج عن الفلسطينيين المعتقلين. وقد تبيّن أنّ هذا التقدير كان صائباً، إذ جرى بالفعل تبادلٌ للأسرى باتفاق الطرفين.
ربما لا يكون من المبالغة القول إنّ لحماس هدفاً آخر غير معلن، يتمثّل في دفع إسرائيل إلى إسقاط قناعها كدولة ليبرالية عقلانية وكشف طبيعتها الحقيقية كمفترس متعطّش للدماء لا يقيّده قانون. وإذا كان هذا أحد أهدافها في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، فقد بدا أنّها حقّقته بما يتجاوز كلّ تصوّر. إذ لم يعد ممكناً لمن شاهد الإبادة الجماعية التي بثّها جيش الاحتلال الإسرائيلي مباشرة وبنشوة، أن ينظر إلى دولة إسرائيل أو إلى الصهيونية بالطريقة نفسها مجدداً. بمجرد سقوط القناع، غدت ملامح الصهيونية الحقيقية عصيّة على الإنكار. وما جرى في غزّة غيّر، وربما إلى الأبد، ليس فقط الموقف من الحكومة الإسرائيلية الحالية ومن المجتمع الإسرائيلي الذي أيّد الإبادة بحماسة شبه جماعية، بل أيضاً الطريقة التي يُنظر بها إلى تاريخ المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين برمّته.
عددٌ متزايد من الناس لم يعد يرى المشروع الإسرائيلي كمحاولة يائسة لبناء ملاذ آمنٍ لشعب مضطهد، بل كحلقة أخرى في السردية الاستعمارية الأوروبية القديمة
غيّرت مشاهدة الدمار في غزّة لحظة بلحظة النظرة السائدة إلى ماضي إسرائيل بصورة لا رجعة فيها. فعددٌ متزايد من الناس لم يعد يرى المشروع الإسرائيلي كمحاولة يائسة لبناء ملاذ آمنٍ لشعب مضطهد، بل كحلقة أخرى في السردية الاستعمارية الأوروبية القديمة، شبيهة بالمستوطنات البريطانية في إيرلندا وأستراليا وأميركا الشمالية، والجزائر الفرنسية وجنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري وغيرها. فكرة إسرائيل كدولة استيطانية استعمارية ليست جديدة، إذ تعود إلى بدايات الصهيونية، وقد وصف عددٌ من قادتها الأوائل مشروعهم بتلك العبارات. اكتسبت هذه الفكرة دفعة وجيزة في الغرب عندما نشر المفكر ماكسيم رودنسون مقاله «إسرائيل، واقع استعماري» في مجلة الأزمنة الحديثة في العام 1967، لكنها ظلّت رؤية هامشية إلى أن أصبحت فظائع غزّة فاضحة إلى درجة لا يمكن تجاهلها. واليوم صارت هذه الفكرة هي السائدة، ولن يكون من السهل زعزعتها.
هل يمكن النظر إلى ما فعلته حماس في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر بوصفه «نجاحاً خالصاً»؟ يصعب أن يُقال ذلك أمام حجم الفاجعة: تُشير التوثيقات إلى مقتل قرابة 70,000 مدني، بينهم أكثر من 20,000 طفل، بينما ما زال كثيرون تحت الأنقاض، ومجاعة مصنوعة تُنهك الأحياء، وموتٌ صامت بفعل آثار الحرب التي لا تنتهي، وآلاف الأطفال فقدوا أطرافهم في عمليات بترٍ جرت من دون تخدير لأنّ إسرائيل منعت الدواء. سُوّيت مستشفيات ومدارس وشوارع بالأرض، فيما ظلّ العالم يتفرّج على غزّة وهي تُمحى ببطء.
أن يُصبح النصر أثقل من أن يُحتمل، تلك حكمة قديمة استخلصها الملك بيروس الإبيري في العام 279 قبل الميلاد حين قال بعد معركة أسكولوم: «نصرٌ آخر كهذا، ونكون قد انتهينا». فهل كان ثمن السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر يستحقّ ما جرى؟ لا يمكن الإجابة ببساطة. فالأمر يتعلّق بما كان البديل: هل الحصار الذي خنق غزّة لأكثر من عقد كان وضعاً يمكن احتماله إلى الأبد؟ ومن ذا الذي يملك أن يقرّر؟ إن رأى أغلب الفلسطينيين أنّ ما تكبّدوه لم يذهب سدى، فهل يحقّ لمن يراقب من بعيد أن يُنكر عليهم حكمهم؟ وإذا كان النقاش يدور حول معنى ذلك اليوم ونتائجه، فللإسرائيليين أيضاً أن يُدلوا بأصواتهم، لا بوصفهم أصحاب القرار، بل كمشاركين في الجدل حول ما حدث. أمّا الإجماع، فلا أحد ينتظره.
لا يكتفي بعض الإسرائيليين بالطرد أو الإبادة، بل يبتغون ما هو أدهى: أن يُقنِعوا العالم بأنّ الفلسطينيين لم يكونوا يوماً هنا. لكنّ الحقيقة تصمد: باتت التوثيقات المتراكمة لجرائم غزّة ملكاً للعالم
فقدان السيطرة على السردية في صراع ما ليس أسوأ ما يمكن أن يحدث لجماعة، تماماً كما أنّ الهزيمة العسكرية البسيطة ليست بالضرورة أسوأ ما يمكن أن تؤول إليه الحرب. في الحرب الأهلية الأميركية، انتصرت قوات الاتحاد في الشمال، ونستمدّ من روايتها اليوم ما نعرفه عن تلك الحرب. ومع أنّ الجنوب الأميركي دُمّر وتفكّك البناء السياسي للكونفدرالية، فإنّ السكان استمرّوا في الوجود، وهناك روايات كثيرة تروي الحرب من منظور مؤيّد للكونفدرالية. أمّا مصير قرطاجة القديمة فكان أشدّ قسوة على المستويين: لم تُهزم فقط، بل أُبيدت بالكامل على يد الرومان في ختام الحرب البونيّة الثالثة. وإلى جانب ذلك، لا نعرف كيف نظر القرطاجيون إلى تلك الحرب، إذ اختفت جميع رواياتهم اختفاءً تاماً. وحتى ظهور علم الآثار الحديث، كان كلّ ما نعرفه عن قرطاجة وشعبها ومعتقداتها يأتي من أعدائها الإغريق والرومان.
لا يكتفي بعض الإسرائيليين بالطرد أو الإبادة، بل يبتغون ما هو أدهى: أن يُقنِعوا العالم بأنّ الفلسطينيين لم يكونوا يوماً هنا. لكنّ الحقيقة تصمد: باتت التوثيقات المتراكمة لجرائم غزّة ملكاً للعالم، شاهدةً في الضوء. صارت القضية الفلسطينية، كما كانت حرب فيتنام أو نضال جنوب أفريقيا ضدّ الفصل العنصري، قضيّة إنسانية عالمية يتبنّاها الملايين، يتبنّاها اليوم ملايين حول العالم، كثيرون منهم لا علاقة مباشرة لهم بها، وما كان ذلك إلا ثمرة أفعال إسرائيل نفسها. لقد فشلت حملاتها وحملات حلفائها الغربيين في تطويع السرد. المستقبل مفتوح، لكن ما يبدو أكيداً هو أنّ من سيكتب التاريخ لن ينجح في شطب الاسم الفلسطيني من الوجود.
نُشِر هذا المقال في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 في New Left Review – Sidecar، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.