Preview genocide pandemic

الأمراض تفتك بسكّان غزّة
الإبادة بالأوبئة

منذ بداية حرب الإبادة الجماعية لسكّان قطاع غزّة، خرجت تسريبات من داخل الحكومة الإسرائيلية عن خطط تجري دراستها لإجبار الفلسطينيين على مغادرة بلادهم قسراً أو «طوعاً». وظهرت مواقف في الولايات المتحدّة تدعم هذه الخطط، مثل قول مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون في مقابلة مع قناة «سكاي نيوز» إن «فكرة إعادة إعمار قطاع غزّة وبناء دولة فيه قد بات أمراً يتناقض مع الواقع (...) الفلسطينيون باتوا بحاجة إلى توطين في دول تمتلك اقتصادات قوية». تلجأ إسرائيل إلى وسائل إجرامية كثيرة لتنفيذ خططها الإبادية للشعب الفلسطيني، ووفق الاستراتيجية، التي عبّر عنها جيورا إيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، في مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية: «ليس أمام دولة إسرائيل خيار سوى تحويل غزّة إلى مكانٍ من المستحيل العيش فيه مؤقتاً أو بشكل دائم. إن خلق أزمة إنسانية حادّة في غزة هو وسيلة ضرورية لتحقيق الهدف... سوف تصبح غزة مكاناً لا يمكن لأي إنسان أن يعيش فيه». وقال: «المجتمع الدولي يحذِّرنا من كارثة إنسانية وأوبئة شديدة في قطاع غزّة. لكن لا يجب أن نخجل من هذا. في نهاية المطاف، فإن الأوبئة والمصاعب في قطاع غزّة سوف تقرّب النصر وتقلّل من الخسائر في صفوف جنود الجيش الإسرائيلي».

genocide pandemic

بعد أكثر من 10 أشهر على شنِّ هذه الحرب الهمجية، نجحت إسرائيل في تنفيذ فصول كارثية من هذه الاستراتيجية. فحتى الآن، دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 60% من المساكن والمرافق والبنى التحتية في قطاع غزّة، وشرّد أكثر من 90% من السكان وأجبرهم على النزوح مراراً وتكراراً والاكتظاظ في مناطق صغيرة وضيّقة وتفتقد إلى أدنى المقوّمات، واستهدف بآلته التدميرية مراكز الإيواء في المدارس والمرافق الصحّية وقطع الكهرباء والمياه والمحروقات والدواء والغذاء عن الجميع. لقد خلقت إسرائيل أوضاعاً في قطاع غزّة تؤدّي إلى مواصلة قتل الفلسطينيين وتدمير حياتهم حتى بعد توقّف الأعمال العسكرية.

تقول دراسة بعنوان «إحصاء القتلى في غزة: صعب لكنه ضروري» نشرتها مجلة «لانسيت» في مطلع تموز/يوليو الماضي، إنّ عدد الوفيات التي يتسبّب بها انتشار الأمراض يزيد بمقدار 3 إلى 15 ضعف عدد الوفيات المباشرة من جرّاء القصف والغارات، تبعاً للحروب التي ترصدها هذه الدراسة ومداها وحدّتها. وإذا ما تمّ اعتماد التقدير «المتحفّظ» الذي تبنّته الدارسة، أي 4 وفيات بسبب الأمراض في قطاع غزّة في مقابل كلّ وفاة مباشرة في هذه الحرب، فهذا يعني أن الإبادة الجماعية سوف تقضي على حياة نحو 200 ألف فلسطيني في قطاع غزّة في حال توقّفت الحرب الآن، وسوف يعاني البقية طيلة الأشهر والسنوات المقبلة من الآثار الصحية الناتجة من الأمراض الإنجابية والأمراض المعدية وغير المعدية في ظل التدمير المنهجي الشامل للبنية الأساسية للرعاية الصحّية والنقص الحادّ في الغذاء والمياه والمأوى.

تُشير التقديرات إلى أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر حصدت أرواح نحو 3.6 إلى 3.8 مليون إنسان «ليس بسبب الرصاص أو القنابل، بل بسبب سوء التغذية والمرض والانتحار وغيرها من الأسباب غير المباشرة للحروب». أيضاً عانت مدينة لينينغراد السوفياتية بعد حصار ألمانيا لها ثلاث سنوات، إذ تشير التقديرات إلى موت 630 ألف شخص بشكل بطيء ومتعمّد سبب المجاعة وأسباب غير العنف المباشر. وحال مشابه ينطبق على اليمن وأفغانستان حيث لا يزال السكّان فيهما يعانون لليوم من الأمراض والتداعيات الناجمة عن ويلات الحرب. أما في قطاع غزّة فالنتائج التي سوف تبقى قائمة لفترة طويلة كانت متوقّعة منذ بداية الحرب نظراً لوضوح أهداف الحرب الإبادية.

في 29 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أي بعد أقل من شهرين على بداية الحرب، حذّرت المديرة التنفيذية لمنظّمة الصحّة العالمية مارغريت هاريس إنّ «عدد الأشخاص الذين قد يموتون بسبب الأمراض سوف يفوق عدد الضحايا بسبب القصف ما لم يتمّ إصلاح النظام الصحي». وجاء هذا التحذير في ظل الاستهداف المُمنهج للقطاع الصحي والعاملين فيه. تُشير أحدث تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن 16 مُستشفى فقط من أصل 36 مستشفى لا يزال يعمل جزئياً، من ضمنها 3 في شمال غزة، و7 في مدينة غزّة، و3 في دير البلح و3 في خان يونس. ومن أصل 126 مركزاً للصحّة الأولية هناك 53 مركزاً فقط يعمل بشكل جزئي، أي ما نسبته 42% فقط، ومن أصل 26 مركزاً تابعة لوكالة «أونروا»، لا يزال يوجد 10 مراكز عاملة فقط. أيضاً وثّقت مجموعة الصحّة التي تقودها منظّمة الصحّة العالمية أكثر من 492 هجوماً شنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على مرافق الرعاية الصحّية في قطاع غزة.

بالتزامن مع الاستهداف المُمنهج للقطاع الصحّي، أجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي غالبية سكّان غزّة إلى النزوح، وحشرهم في منطقة ساحلية لا تتعدّى مساحتها 50 كيلومترا مربعاً، حيث لا يوجد نظام صرف صحّي ولا مياه نظيفة صالحة للاستخدام والشرب، ولا يوجد مكبّات للنفايات الصحّية. تقول التقديرات إن هناك مرحاض واحد لكلّ 220 نازح فلسطيني، ودشاً واحداً للاستحمام لكل 4,500 نازح، فيما صرّح عضو لجنة الطوارئ البلدية في غزّة عاصم النبيه لـ «الجزيرة» أن ما يزيد عن 100 ألف طن من النفايات تتراكم في مدينة غزّة وحدها، وما يزيد على ربع مليون طن في مختلف أنحاء ومدن القطاع، فضلاً عن تسرّب كمّيات كبيرة من الصرف الصحّي في مختلف مناطق غزّة إلى مياه البحر. هذا عدا عن جثث الشهداء التي لم تدفن بسبب التدمير الممنهج للطرق والقصف المستمرّ، فتحلّلت في الهواء الطلق.

هذه الظروف الصحّية الكارثية، في ظل المجازر والدمار والحصار المُطبق، ساهمت بانتشار مجموعة كبيرة وواسعة من الأمراض المعدية وغير المعدية، وظهرت مؤشّرات جدّية على انتشار الأوبئة، التي خطّط لها جيش الاحتلال الإسرائيلي. فقد أعلنت منظّمة الصحّة العالمية أواخر شهر تموز/يوليو الماضي عن احتمال انتشار سلالة فيروس شلل الأطفال في قطاع غزّة، بعد أن تمّ اكتشافها في 6 عيّنات من مياه الصرف الصحّي، جُمِعت من موقعين للمراقبة البيئية في خان يونس ودير البلح، وحذّرت المنظّمة من الخطر الكبير الناجم عن انتشار هذه السلاسة التي تم القضاء عليها عالمياً واكتشاف اللقاحات المضادة لها منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وعلى أثره، صنّفت وزارة الصحّة الفلسطينية قطاع غزّة منطقة موبوءة لشلل الأطفال بعد سنوات من القضاء على المرض في فلسطين نفسها.

بالفعل، كانت مُعدّلات التحصين والتلقيح الروتيني في فلسطين المحتلّة «مثالية» قبل الحرب على ما تقول منظمة الصحّة العالمية، إذ بلغت تغطية التلقيح ضدّ شلل الأطفال نحو 99% في العام 2022، ثمّ انخفضت إلى 89% في العام 2023 وفقاً لأحدث التقديرات، وهي حالياً شبه معدومة بسبب الحصار المُطبق التي تفرضه إسرائيل على قطاع غزّة والتدمير المنهجي للخدمات الصحيّة ومنع المساعدات.

تنتشر بين سكّان غزّة الكثير من الأوبئة والأمراض التي يمكن الشفاء منها بعلاجات بسيطة ومكتشفة منذ زمن، لو لم تمنع إسرائيل الفلسطينيين من الوصول إليها، مثل الحصبة والنكاف والتهاب السحايا والتهاب الكبد والطفح الجلدي والجرب والقمل وجدري الماء…. تم تسجيل أكثر من مليون حالة التهاب حادّ بالجهاز التنفسي، فضلاً عن أكثر من نصف مليون حالة من الإسهال الحاد، وأكثر من 100 ألف حالة من اليرقان، وفق أرقام برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي. وتفيد تقديرات منظمة الصحّة العالمية بوجود نحو 65 ألف إصابة بالطفح الجلدي وأكثر من 103 آلاف حالة إصابة بالقمل والجرب. 

يعزو المعنيون في قطاع الصحّة في قطاع غزّة تفشي الأمراض إلى ما يصفونه بـ«الأوضاع المروعة في المخيّمات المُكتظة التي تأوي مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم، فضلاً عن ارتفاع درجات الحرارة في الصيف وانهيار الصرف الصحّي الذي خلّف بركاً من مياه الصرف الصحي المفتوحة في خلال 10 أشهر من القصف الإسرائيلي والهجمات في القطاع». 

تنتشر هذه الأمراض بسبب تدمير خدمات الصرف الصحي وقطع المياه النظيفة وتكاثر القمامة والحشرات في ظل اكتظاظ ضخم، إذ يضطر الكثير من الفلسطينيين في قطاع غزّة إلى غسل أجساد أطفالهم بالمياه المالحة من البحر الأبيض المتوسط، فيما تضطر الغالبية منهم إلى الإبقاء على ثيابهم أياماً عدّة بسبب تعذّر غسلها بشكل دوري.

وفقاًً لوزارة الصحّة الفلسطينية في قطاع غزّة، فإن ما يقدّر بنحو 350 ألف مريض يعانون من أمراض مزمنة لا يتلقون الأدوية حالياً، وتقول أرقام المرصد الأورومتوسطي إن أكثر من 14 ألف مريض يحتاج إلى العلاج في خارج قطاع غزّة لإنقاذ حياتهم، بالإضافة إلى 12 ألف جريح يحتاجون إلى رعاية طبّية عاجلة للبقاء على قيد الحياة غير متاحة في قطاع غزّة، وذلك بعدما أقفل الجيش الإسرائيلي معبر رفح الحدودي في 7 أيار/مايو مانعاً سفر الفلسطينيين بمن فيهم المرضى والجرحى الذين يسعون إلى العلاج الطبي في الخارج، فيما المعابر الأخرى التي تربط قطاع غزّة بالأراضي الفلسطينية المحتلة مغلقة منذ بداية الحرب، ولم تفتحها سلطات الاحتلال إلا لمرّات محدودة. على سبيل المثال منذ بداية العام 2024 لم يخرج إنسان واحد من معبر بيت حانون في شمال غزّة بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

تواصل إسرائيل حربها لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه تخلق الظروف المواتية لمواصلة الإبادة الجماعية لفترة طويلة بعد اضطرارها إلى وقف القصف والتدمير. لقد أرادت إسرائيل منذ البداية أن تجعل إغاثة الفلسطينيين هي العنوان لسنوات طويلة مقبلة، وفي الوقت نفسه، تريد أن تتحكّم كلّياً بإعادة الإعمار بعد الحرب، أو ما يُسمّى «اليوم التالي». والواقع أن إسرائيل لم تخفِ رؤيتها المستقبلية: غزّة من دون الفلسطينيين.