حالة الرأسمالية

كتاب حالة الرأسمالية هو عمل طموح، ألّفته مجموعة من شبكة الأبحاث الأوروبية للسياسات الاجتماعية والاقتصادية (EReNSEP) بقيادة البروفيسور كوستاس لابافيتساس من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن، ويسعى إلى تحليل جميع جوانب الرأسمالية في القرن الـ21 من منظور ماركسي. حظي الكتاب بإشادات عديدة من أمثال يانيس فاروفاكيس وغريس بلاكيلي، وهما من ألمع رموز الاقتصاد اليساري.

وفقاً للمؤلفين، الكتاب «نتيجة كتابة جماعية تمزج بين أنماط مختلفة من المعرفة والخبرة، مع السعي المستمر إلى إيجاد صوت مشترك. حافظت شبكة الأبحاث الأوروبية للسياسات الاجتماعية والاقتصادية (EReNSEP) على نفسها، لسنوات عدة، من خلال جهود أعضائها التطوعية، وكانت النتيجة كتابة جماعية تمزج بين أنماط مختلفة من المعرفة والخبرة مع السعي المستمر إلى إيجاد صوت مشترك».

إن القطاع المالي في الاقتصادات الرأسمالية فاق في نموه القطاعات الإنتاجية من حيث الحجم والتأثير، ونتج عن ذلك ارتفاع في حصة الأرباح الإجمالية الموجهة نحو أنشطة مالية بدلاً من أنشطة إنتاجية

لا يسعني، في هذه المراجعة، أن أغطي جميع أجزاء تحليل الكتاب للرأسمالية الحديثة. لذا أركّز على ما أتفق أو أختلف فيه مع من سوف أشير إليهم بـ«المؤلفين» وتحليلهم واستنتاجاتهم.

يبدأ الكتاب بلمحة عن الرأسمالية في قرننا الحالي. ويرى المؤلفون أن الرأسمالية أضعف بكثير مما كانت في القرن العشرين، وتكمن جذور هذا الضعف في تراكم أبطأ لرأس المال، تحديداً منذ «الفراغ» الذي خلفه الركود الكبير بين عامي 2007 و2009. «اتسمت الاقتصادات المركزية في شتى أنحاء العالم بإنتاج ضعيف وتمويل افتراسي. ترسخت الأمولة، وظل التمويل المستفيد الرئيس من السياسات الحكومية ومصدر ثروة هائلة بالنسبة إلى الأوليغارشيات. في مواقع الرأسمالية المتطوّرة التاريخية، يكون النمو ضعيفاً، والتوظيف متزعزعاً والفقر مزمناً، بينما تأخذ الفوارق في الدخل في الاتساع، لتخلق شروخاً اجتماعية شاسعة. فتظهر على الرأسمالية المأمولة النيوليبرالية، التي سادت لأكثر من أربعة عقود، علامات الاستنزاف».

يمكننا أن نتبيّن، على الفور، أن المؤلفين يحدّدون السمة الرئيسية الجديدة للرأسمالية الحديثة: الأمولة. وهذا موضوع سائد في الكتاب. بالنسبة إلى المؤلفين، يُمكن أن نعزو السبب الرئيسي للضعف المتزايد في التطوّر الرأسمالي على مدار هذا القرن إلى الأمولة: «يكمن ضعف التراكم الرأسمالي في بلدان مركز في جذورها، استفحل الضعف بفعل تقدّم الأمولة لعقود عدة؛ وكانت مؤشرات هذا الأمر جلية منذ الأزمة الكبرى بين عامي 2007 و2009».

يعرف القراء المنتظمون لهذه المدوّنة أنني أجد مصطلح «الأمولة» إما معمّماً و/أو إشكالياً أكثر من اللازم. يُمكنكم أن تراجعوا، تحديداً، الورقة البحثية الممتازة التي كتبها ستافروس مافرودياس. يعترف المؤلفون: «لم تنتج الأدبيات الكثيرة عن الأمولة في العلوم الاجتماعية معنى متفق عليه لهذا المصطلح». فيعرّفونها بأنها «تحوّل تاريخي للرأسمالية الناضجة يعكس، أولاً، النمو الاستثنائي للقطاع المالي بالنسبة إلى بقية قطاعات الاقتصاد، وثانياً، الانتشار لممارسات وهموم مالية في مشاريع غير مالية وأشكال فاعلة أساسية أخرى للتراكم الرأسمالي».

إذا كان المؤلفون يقصدون بقولهم هذا إن القطاع المالي في الاقتصادات الرأسمالية فاق في نموه القطاعات الإنتاجية من حيث الحجم والتأثير، ونتج عن ذلك ارتفاع في حصة الأرباح الإجمالية الموجهة نحو أنشطة مالية بدلاً من أنشطة إنتاجية، فهذا صحيح قطعاً. لكنني أعتقد أن قصد المؤلفون لا يتوقف عند هذا الحد. فيقولون إن في الرأسمالية الحديثة: «استغل تراكم الثروة المصادرة المالية المتكاثرة، وهي سمة مميزة للرأسمالية المُأمولة المفترسة». وعلى وجه الخصوص، يرون أن الصدمة الهائلة التي خلّفها الركود الكبير في عامي 2008 و2009 «انبثقت من أمولة عدوانية شهدتها بلدان المركز في خلال العقدين السابقين». لذا ترجع أزمة الرأسمالية في القرن الـ21 بشكل رئيسي إلى «تفكك الرأسمالية المأمولة الذي بدأ في أواخر العقد الأول من قرننا الحالي»، وليس إلى أيّ تدهور في تراكم رأس المال الإنتاجي.

يرفض المؤلفون قانون ماركس المتعلّق بانخفاض الربحية باعتباره ذا صلة بأزمات الرأسمالية الحديثة. ويكتنف رفضهم تحليل متناقض ومحيّر للقانون وتأثيره على تراكم رأس المال. أولاً، لدينا وجهة نظر انتقائية: «كان الأداء الضعيف للتراكم في العقد الأول من القرن الـ21 يرجع جزئياً إلى كبح الطلب الكلّي مع تنفيذ دول من المركز لسياسات تقشّفية، لكن الأمر الأهم (التشديد لي) كان الضعف الكامن في جانب الإنتاج». إذاً، السببان صحيحان.

وفقاً لهذه النظرة الانتقائية، عند النظر إلى الطلب والعرض الكلّيين، بالنسبة إلى الاقتصاد السياسي الماركسي، «لا يُمكن فصل الجانبين على نحوٍ كامل». لكن تُقدّم سيرورة التراكم الرأسمالي بوصفها سيرورة يجري فيها الإنتاج «من خلال تشكيل توقعات الطلب وإنتاج ما تنتجه بناءً على تكاليف مستمدّة إلى حدٍ كبير من الأجور الحقيقية والتكنولوجيا. وتساعد خطط المشروع في تحديد الطلب الكلّي في شكل الاستثمار والاستهلاك على حد سواء، لكن إذا لم يأخذ الطلب المتوقع شكلاً مادياً، يجري تقليل الإنتاج. علاوةً على ذلك، يتأثر الدافع نحو الابتكار واعتماد تقنيات جديدة سلباً حين يكون الطلب ضعيفاً على مدى مدة زمنية طويلة». لا يوجد، في هذا التحليل، ذكر لاحتمال أن يؤدي انخفاض في العرض أو الاستثمار أو الربح إلى انخفاض في الطلب الكلّي. لكن يذهب المؤلفون إلى القول إن «الاقتصادات الرأسمالية تعتمد بشكل رئيسي على الإنتاج، حيث يجري توليد القيمة وفائض القيمة. فجانب الإنتاج في نهاية المطاف هو العامل الحاسم في الأداء العام للتراكم الرأسمالي» (التشديد لي مرة أخرى). وهذا محيّر.

ثم يتناول المؤلفون قانون ماركس المتعلّق بمَيْل معدّل الربح إلى الانخفاض وارتباطه بأزمات التراكم والإنتاج في الرأسمالية الحديثة. فيقولون، من جهة، إن «المتغيّر الذي يلخّص على النحو الأكثر إفادةً الظروف الأساسية للعرض الكلّي هو متوسط معدّل الربح، وربح المشاريع غير المالية تحديداً. فنقطة الانطلاق لتحليل ضعف التراكم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هي سلوك الربحية قبل الأزمة الكبرى بين عامي 2007 و2009 وبعدها».

لكن يخبرنا المؤلفون بعدئذ أن قانون ماركس المتعلّق بتحليل معدل الربح «ملتبس» في الواقع. كما ترون، «سوف يعزز معدّل الاستغلال معدل الربح، وربما يكون التأثير أكبر إذا انهار تكوين القيمة. من جهة أخرى، إذا ارتفع تكوين القيمة، سيعطي دفعة هبوطية لمعدل الربح الذي يُحتمل أن يتجاوز الزيادة الناجمة عن ارتفاع معدل الاستغلال، مما يؤدي إلى خفض معدل الربح. لكن مرة أخرى، في ظل افتراضات معقولة حول الحجم، يُحتمل أن يؤدي ارتفاع في الإنتاجية إلى رفع متوسط معدل الربح».  لذا يقبل المؤلفون النبذ النظري المعتاد لقانون ماركس بوصفه «غير محدّد».

ترجع أزمة الرأسمالية في القرن الـ21 بشكل رئيسي إلى «تفكك الرأسمالية المأمولة الذي بدأ في أواخر العقد الأول من قرننا الحالي»، وليس إلى أيّ تدهور في تراكم رأس المال الإنتاجي

مرة أخرى، بالنسبة إلى من يقرأ منكم هذه المدونة على نحوٍ منتظم، تعرفون أن هذا هراء. ببساطة، يرى ماركس أن التراكم الرأسماليّ يأخذ مع مرور الزمن شكل تكوين عضويّ متزايد لرأس المال (أيّ زيادة استثمار في وسائل الإنتاج بالنسبة إلى الاستثمار في توظيف العمالة). إذا كان هذا صحيحاً، سوف يكون هناك ميل لمتوسط معدل الربح نحو الانخفاض. صحيح أن هناك عوامل مضادة مثل ارتفاع معدل استغلال العمّال، أو انخفاض تكاليف وسائل الإنتاج ربما؛ وفي السياق الوطني، هناك ربحية أفضل من التجارة والاستثمار في الخارج أو من المضاربة في القطاع المالي (ما أسماه ماركس رأس المال الوهمي). لكن هذه العوامل المضادة مع مرور الزمن لا تكفي لتعكس الضغط الهبوطي على معدل الربح. شرح ماركس كل هذا جيداً في المجلد الثالث من كتابه رأس المال، الفصول 13-15، وطوّر هذه الأفكار عديد من المؤلفين الماركسيين منذ ذلك الحين.

الحال، إذا قبلتم أن القانون «ملتبس» أو «غير محدد»، فقانون ماركس عديم الفائدة كأداة لتحليل التراكم الرأسمالي وأزمات الإنتاج. لهذا السبب يلجأ المؤلفون إلى نظريات بديلة. أولًا، يرون أن معدّل الربح لا ينخفض سوى بسبب ارتفاع الأجور (وهذه وجهة النظر الكلاسيكية للريكارديين الجدد)؛ وثانياً، لا ينخفض إلا حين يتباطأ نمو إنتاجية العمل أو ينهار.

نصطدم بموقف محيِّر آخر للمؤلفين. فيرون أن «إنتاجية العمل هي محرك الرأسمالية الدافع، ووسيلة ترتفع من خلالها الأرباح وتفوز المشاريع في معركة المنافسة على المدى المتوسط إلى البعيد». حقاً؟ أليس محرّك الرأسمالية هو الأرباح وليس الإنتاجية؟ قلب تحليل المؤلفين ماركس رأساً على عقب. فنظرية ماركس حول التراكم والأزمات تفترض أن ربحية رأس المال تحدّد في النهاية معدّل التراكم في وسائل الإنتاج والتوظيف، من ثم فإن معدل التراكم (أو الاستثمار) هو الذي يدفع إنتاجية العمل. والتناقض الرئيس بالنسبة إلى ماركس هو أن الدافع نحو ربحية أعلى من خلال المكننة ربما يؤدي إلى إنتاجية أعلى، لكنه يؤدي إلى انخفاض الربحية أيضاً. وبذلك تنهار عملية التراكم. أما بالنسبة إلى المؤلفين، العكس هو الصحيح: «مسار متوسط معدل الربح الذي يعكس (التشديد لي مجدداً) القوة الكامنة وراء التراكم» و«يُمكن تحليله على نحوٍ مفيد من خلال حركة الأجور الحقيقية وإنتاجية العمل». إذن يعتمد الربح والربحية على إنتاجية العمل، وليس العكس كما عند ماركس.

يقود هذا المؤلفين إلى القول إنه على الرغم من تباطؤ نمو تراكم رأس المال (الاستثمار في وسائل الإنتاج) على مدار العقود الأربعة الماضية، لم يكن هذا بسبب أي انخفاض في الربحية، على غرار ماركس. الحال، إنهم يزعمون أنه كان هناك «اتجاهاً أفقياً إلى حد ما في الربحية - وربما ارتفاع طفيف - بينما اتبعت مساراً دورياً، يتماشى إلى حد كبير مع التقلبات الاقتصادية الإجمالية». لذا فإن قانون ماركس معيب نظرياً وغير مثبت تجريبياً.

دولة الرأسمالية رسم1

يُمكنني أن أقضي بعض الوقت في المحاججة بهذا الخطأ. لكن لنتأمل رسم المؤلفين البياني أعلاه حول ربحية القطاع الأميركي غير المالي. يتخذ الرسم البياني من العام 1980 بداية، فيتجاهل انخفاض الربحية الهائل منذ منتصف الستينيات إلى أوائل الثمانينيات. والنهج والمصادر التي استُخدمت غير واضحين، على الرغم من ذلك، يُظهر الرسم البياني ذروة في الربحية في العام 2006 قبل الركود الكبير واتجاهاً هبوطياً منذ ذلك الوقت. لكن إذا رجعنا بالبيانات إلى وقت سابق، باستخدام مقياس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للربحية غير المالية، فهي تُنبئنا بقصة أوضح.

دولة الرأسمالية رسم2

بعد رفض (قلب) قانون ماركس للربحية، يستأنف المؤلفون محاججتهم بأن الإنتاجية المنخفضة، وليست الربحية المنخفضة، هي سرّ ضعف الرأسمالية في القرن الـ21. «في خلال عقود من الأمولة، أضعف نمو الإنتاجية الهش «الآلية الداخلية» في بلدان المركز». وبعيداً من الربحية، يركّز المؤلفون على الطلب الكلّي باعتباره المشكلة. «كان الطلب الكلّي في بلدان المركز ضعيفاً على نحوٍ مستمر طوال العقد الأول من القرن الـ21، مع تسجيل القطاع الخاص لنتائج سيئة في الاستثمار والاستهلاك على حد سواء، ومع اتباع عديد من الحكومات لسياسات تقشف مالي». هذه كينزية كلاسيكية.

يتكوّن الطلب الكلّي من الطلبين الاستثماري والاستهلاكي. يرى المؤلفون أن الضعف الملحوظ في الطلب الكلّي يظهر في انخفاض الاستثمار كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.

دولة الرأسمالية رسم3

لكن هل كان هذا الانخفاض في نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي في هذه الحالة، يبطئ نمو الاستثمار على مدى العقود الأربعة الماضية بسبب عدم كفاية الطلب و/أو تباطؤ نمو الإنتاجية، أم أنه كان بسبب ضعف الربحية، لا سيّما منذ أواخر التسعينيات وبالتحديد في القطاعات الإنتاجية؟ كما يُظهر رسم الاحتياطي الفيدرالي أعلاه. ربما تشير الأدلة المقدمة من عديد من الباحثين الماركسيين إلى أن الربحية هي السر. لاحظوا في الرسم البياني أدناه مدى قرب الارتباط بين الحركات في معدل الربح والحركات في الاستثمار التجاري.

دولة الرأسمالية رسم4

يذهب المؤلفون إلى القول إن «النقص في الطلب الكلّي الخاص كان مرئياً أيضاً في الاستهلاك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي». لكن انظروا إلى الرسم البياني الذي يعرضونه لهذا الغرض.

لا يوجد، في الرسم البياني، انخفاض كبير في طلب المستهلكين منذ الثمانينيات، على عكس الاستثمار. وترتفع نسبة استهلاك الولايات المتحدة إلى الناتج المحلي الإجمالي طوال الوقت، وكانت نسبة جميع البلدان الأخرى (باستثناء ألمانيا) ثابتة حتى الركود الكبير. وأظهرتُ أن في كل أزمة تمر الرأسمالية بها منذ العام 1945، ينهار الاستثمار أولاً، وليس الاستهلاك الذي يظل ثابتاً عموماً. إذن ينشأ «الطلب غير الكافي» من الاستثمار، وليس الاستهلاك، في دورة الأعمال الرأسمالية؛ والاستثمار مدفوع بالربحية (السابقة والمتوقعة).

بالنسبة إلى المؤلفين، يُمكن تفسير ضعف الرأسمالية الأخيرة بشكل رئيسي من خلال «التراجع النسبي للأمولة في العقد الأول من قرننا الحالي». لكن مرة أخرى، لا يؤكّد الرسم البياني المقدّم لنسبة ديون القطاع غير المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي هذه السمة.

دولة الرأسمالية رسم5

خلال المدة منذ العام 2002 وحتى العام 2020، ارتفعت نسبة ديون الشركات غير المالية الأميركية إلى الناتج المحلي الإجمالي. ظلت نسبة ألمانيا واليابان في العام 2020 كما كانت في العام 2002. ارتفعت نسبة فرنسا على نحوٍ جنوني. وحدها المملكة المتحدة تُظهر انخفاضاً ملحوظاً. فيقول المؤلفون إن «المضاربات المالية التي شملت الطبقة العاملة في الولايات المتحدة الأميركية - أفقر طبقاتها الحضرية في الغالب – وهي المضاربات التي تركّز على تمويل الظل، كانت المسبب الرئيس للفقاعة الضخمة التي أدت إلى انهيار 2007 - 2009 والأزمة العالمية التي تلتها. ففرادة هذا التطوّر في تاريخ الرأسمالية أوضح من أن يؤكّد عليها». حسنٌ، ها نحن نؤكّد عليها.

إن زعم المؤلفين، في وجهة نظري، أن الضعف الحالي في التراكم الرأسمالي والنمو الاقتصادي والأزمات الكبرى الأخيرة هي نتيجة لنمو إنتاجية منخفض وعدم كفاية الطلب الكلّي وانهيار الأمور هو زعم سطحي في أفضل تقدير، كما أنه محيّر وخاطئ (ماركسياً أقله).

يخصِّص المؤلفون مساحة وفصول كثيرة لاستكشاف صعود القطاع المالي و«تمويل الظل» والنقد الإلزامي المدعوم حكومياً والدعم لـ«شركات زومبي» بمزيد من الديون. هذا تفسير قيّم. لكن يظلّ السؤال المطروح بالنسبة إلي: لماذا توسعت مكونات «الأمولة» إلى هذا الحد في خلال العقود الأربعة المنصرمة؟ يكمن الجواب في الضعف المتزايد للاستثمار الإنتاجي مدفوعاً بالانخفاض في الربحية على المدى الطويل. وأجبر هذا الأمر السلطات النقدية والدولة على أن تتدخل لكي تحاول أن تدعم التراكم الرأسمالي وتخفف تأثير الركود في الإنتاج من خلال «طباعة» النقود وزيادة الائتمان/الدين.

فيما يتعلّق بهذه المسألة، ينتقد المؤلفون بشدة النظرية النقدية الحديثة، على نحوٍ صحيح في رأيي، حيث يقولون إن توسيع الدولة للمال والائتمان لن يكون ضاراً بالاقتصاد الرأسمالي. «أولاً، تقلّل النظرية النقدية الحديثة من شأن مخاطر المضاربة على الأصول المالية المتأصلة في السياسة النقدية التوسعية». والأهم أن «النظرية النقدية الحديثة تتجاهل إلى حد كبير أهمية التدخلات التحويلية للحكومات من جانب العرض الكلّي وتركز على الطلب الكلّي في المقام الأول.  مقترحات النظرية النقدية الحديثة تهدف إلى تغيير توزيع الدخل من دون تغيير أساسي في بنية الإنتاج». هذا صحيح. لكن الآثار المترتبة على تحليل المؤلفين القائل إن الأزمات في الرأسمالية الحديثة هي بشكل رئيسي نتيجة ضعف في الطلب الكلّي ربما تشير أيضاً إلى أن الإنفاق المالي وطباعة الأموال لتعزيز الطلب الكلّي يُمكن له يتلافى الأزمات في ظل الرأسمالية أو يحلها.

يشير ارتفاع التضخم إلى أن الأداء الضعيف للتراكم الرأسمالي في بلدان المركز بعد الأزمة الكبرى في 2007 و2009 لم يكن ببساطة بسبب تقشف مستمر يضغط على الطلب الكلّي. وكانت المشكلة تتعلق بالضعف الكامن في العرض الكلّي؛ إذاً كانت مشكلة بنيوية وعميقة

كما يقودنا تحليل المؤلفين إلى تفسير محيّر لارتفاع التضخم بعد الوباء. فيبدأ المؤلفون بالقول إن «عودة التضخّم يرجع بوضوح إلى دعم الطلب الكلّي الذي نفذته دول المركز في العامين 2020 و2021». إلّا أنها تضيف بعدئذ «لكن على مستوى أعمق، عكس ذلك الأمر الضعف الكامن في جانب العرض والضيق المتأصل من التراكم الذي جرت مناقشته في الفصول السابقة». ألا وهو؟ يتخذ المؤلفون خياراً في النهاية. «يشير ارتفاع التضخم إلى أن الأداء الضعيف للتراكم الرأسمالي في بلدان المركز بعد الأزمة الكبرى في 2007 و2009 لم يكن ببساطة بسبب تقشف مستمر يضغط على الطلب الكلّي. وكانت المشكلة تتعلق بالضعف الكامن في العرض الكلّي؛ إذاً كانت مشكلة بنيوية وعميقة». لكن كيف يتوافق هذا مع الحجة السابقة القائلة إن نقصاً في الطلب الكلّي هو السبب الكامن وراء الأزمات الرأسمالية وليس أيّ مشكلة في جانب العرض؟

يخلص المؤلفون (على نحوٍ صائب) إلى أن «المشكلة الحقيقية كانت في عدم قدرة العرض الكلّي أن يستجيب على نحوٍ متناسب، وفي هذا الصدد ليس للنظرية الكمية للنقود الكثير لتقدّمه». لكن المؤلفون يعدلون عن رأيهم بعدئذ: «كان التضخم في عشرينيات القرن الحالي مدفوعاً بتعزيز الطلب الكلّي، تحديداً مع تفاقم السياسات التوسعية لدول المركز بسبب رفع قيود كوفيد-19 في العام 2021، مما سهّل تعافي الإنفاق الخاص». لكنهم تريثوا قليلاً؛ لم يكن ذلك كثيراً في الواقع. بدلاً من ذلك، «عكست زيادة التضخم في المقام الأول عدم قدرة العرض الكلّي على الاستجابة بالقدر الكافي لاسترداد الطلب. ويرجع ذلك جزئياً إلى اضطراب شبكات الإنتاج في شتى أنحاء العالم». وخمنوا ماذا؟ «كان ذلك أيضاً بسبب ضيق الجانب الإنتاجي العميق - والمرتبط - في دول المركز الذي تجلى في ضعف الربحية وانخفاض نمو الإنتاجية وانتشار لشركات زومبي، كما ناقشناها». لكن في حالة عدم تذكر القراء للعامل النهائي، «كانت عدم قدرة العرض على الاستجابة ترجع إلى الضيق الكامن وراء الرأسمالية المأمولة». وبذلك، نصل إلى دائرة كاملة من دون أيّ إشارة إلى نقطة انطلاق.

من الضروري فهم مسألة الإمبريالية وطبيعتها في القرن الـ21. يتصدى المؤلفون إلى هذه المهمة بقوة. «إن السمة المميزة للنظرية الماركسية الكلاسيكية حول الإمبريالية أنها تربط شكل الإمبريالية ومضمونها بالمصالح الاقتصادية الأساسية لرأس المال». ينقّح المؤلفون، في تحليلها للإمبريالية، وجهة نظرهم السابقة حول الأمولة. «يشكّل سلوك المؤسسات غير المالية الاحتكارية إحدى ركائز الأمولة المعاصرة، لكن يجب التعامل معه بحذر. فمن المضلل، على سبيل المثال، الاعتقاد أن الاحتكارات العملاقة تختار على نحوٍ مستمر بين مجاليّ الإنتاج والتمويل فيما تسعى إلى الربح. ولا يوجد دليل نظامي على أن أرباح المؤسسات غير المالية تميل بشكل كبير نحو الأنشطة المالية، حتى إذا نمت المهارات والأنشطة المالية بين المؤسسات الصناعية والتجارية». بالضبط. تُظهر الأدلة في أماكن أخرى أن الشركات غير المالية متعدّدة الجنسيات لا تجني معظم أرباحها من أنشطة مالية، بل من استثمار إنتاجي تقليدي واستغلال لقواها العاملة، في الداخل والخارج.

أرى أن المؤلفين محقون في رفضهم للمفهوم القديم عن «أرستقراطية عمالية» في بلدان المركز لأنها «لا تتمتع بقدرة كافية على الإقناع في عالم تتفشى فيه النيوليبرالية، مع العمالة غير المستقرة واللامساواة الهائلة ضمن بلدان المركز». لكن يرفض المؤلفون، في المقابل، نظريات البنيوية أو «الاعتمادية» لتفسير استغلال الناس في اقتصادات الأطراف من قِبَل الشركات متعددة الجنسيات في البلدان الإمبريالية. لديّ انتقاداتي الخاصة لتلك النظريات حول الاستغلال الإمبريالي.

لكن يذهب المؤلفون أبعد من ذلك. فجرى رفض نظرية ماركس حول التبادل غير المتكافئ كما تفسر استغلال الأغنياء للاقتصادات الفقيرة. «تُعدّ محاولة تحليل التجارة الخارجية والاستثمار من خلال نشر مخطط ماركس لمساواة معدل الربح المحلي إشكالية على نحوٍ عميق». على ما يبدو، «كافح منظرو التبعية ليقدموا تفسيراً متماسكاً نظرياً وتجريبياً للآليات الاقتصادية التي يجري من خلالها استنزاف الموارد من الأطراف. وربما كانت التفسيرات الأكثر شيوعاً هي «تبادل غير متكافئ« و«الاستغلال المفرط لقوة العمل»، لكن كلاهما لم يكن مقنعاً نظرياً». لم يجر تفسير هذا الرفض، لكن هناك أعمال حديثة كثيرة تُظهر أهمية نظرية ماركس. 

لا يزال الجزء الأكبر من تحويل الأرباح (الثلثان وفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) يجري من خلال التجارة الدولية واسترجاع الأرباح من الاستثمار الأجنبيّ المباشر والاستثمار في المحافظ المالية، وليس من خلال سلاسل القيمة ضمن الشركات متعددة الجنسيات

يعتقد المؤلفون أن تلك النظريات الماركسية الكلاسيكية القديمة عفا عليها الزمن. وأنه كانت هناك «تغيرات كبيرة في تطوّر الرأسمالية منذ أنتج ماركس عمله النظريّ. وتحديداً، جرى تحليل الروابط بين دوائر المشاريع الصناعية والمالية عن كثب من قِبَل ماركسيين كلاسيكيين، ممن كان رأس مال البنوك بالنسبة إليهم يستطيع أن يسيطر على رأس المال الصناعي، وبذلك يستطيع أن يخلق شكل جديد رأس المال المالي». نعود إلى الأمولة مرة أخرى.

«في خلال هذه المدة التي شهدت توسعاً في الأمولة عالمياً أيضاً، تغلغلت شبكات الإنتاج العالمية في الاقتصاد العالمي، أو كما أُشير إليها على نطاق واسع في الأدبيات، سلاسل القيمة العالمية أو شبكات الإنتاج العالمية». نعم، كانت سلاسل القيمة العالمية ضمن الشركات بمثابة سبيل مهم لنقل القيمة أو الأرباح من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية. لكن لا يزال الجزء الأكبر من تحويل الأرباح (الثلثان وفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) يجري من خلال التجارة الدولية واسترجاع الأرباح من الاستثمار الأجنبيّ المباشر والاستثمار في المحافظ المالية، وليس من خلال سلاسل القيمة ضمن الشركات متعددة الجنسيات.

يُعدّ تحليل المؤلفين لصعود الصين مجدِداً على نحوٍ واضح مقارنة بأغلبية وجهات النظر الماركسية. فيرون أن الصين مجرد قوة رأسمالية صاعدة أخرى لا تتمتع بأي سمات مميزة. وكثيراً ما انتقدت هذه الحجج حول الصين في منشوراتي على هذه المدوّنة، لذا لن أتطرق إلى هذه النقاط مرة أخرى. لكن يطرح المؤلفون زاوية مثيرة للاهتمام للرؤية إلى طبيعة الصين: «يختلف أسلوب تدخل الدولة في الصين ومداه اختلافاً عميقاً عمّا تبنته الولايات المتّحدة. تقدّم الدولة الأميركية الدعم لرأسمالية مأمولة من خلال الاعتماد بشكل رئيسي على سيطرتها على النقد الإلزامي، كما تعمل في الوقت نفسه على استغلالها روابطها الوثيقة بالشركات الخاصة. حفزت الدولة الصينية بالطبع صعود الصين الصاروخي في خلال العقود الأربعة الماضية، لكن استندت تدخلاتها إلى الملكية المباشرة والسيطرة على كلٍ من الموارد الإنتاجية والتمويل. ولهذا الاختلاف أهمية كبيرة بالنسبة إلى منافسة الهيمنة الناشئة».

الحال، إن نجاح الصين الاقتصادي ليس نتيجة للتراكم الرأسمالي من أجل الربح من خلال الأسواق، بل نتيجة لاستثمار قادته الدولة لتحقيق النمو وتلبية الاحتياجات الاجتماعية. لا يسيطر الرأسماليون على سيرورة التنمية في الصين: «لا توجد طبقة رأسمالية خاصة مستقلة في الصين تستطيع أن تتحدى بشكل مباشر سيطرة الدولة على جوهر الاقتصاد الصيني». ويحدِّد المؤلفون موقع الصين الآن. «في وقتنا الحاضر، يبدو أن الكتلة الحاكمة الصينية قررت أن تستمر في سيطرة عامة على قوى إنتاجية استراتيجية، السيطرة التي ينظّمها الحزب الشيوعي. لكن الضغط من أجل المضي نحو الملكية الخاصة والسيطرة لم يختف بعد... وإذا سادت الخصخصة بطريقة أو أخرى ضمن صفوف الكتلة الحاكمة وتصدّرت المشهد طبقة برجوزاية مدفوعة بالربح، يصعب أن نرى كيف يُمكن أن يستمر التحدي الصيني لهيمنة الولايات المتّحدة».

يرى المؤلفون ربحية رأس المال في الصين بوصفها مؤشراً رئيساً؛ وهو أمر مدهش نظراً إلى رفضهم الربحية بوصفها ذات صلة بالاقتصادات الرأسمالية الكبرى. «أحد العوامل المهمة هو التوقعات المتغيّرة للمشاريع غير المالية، بما فيها الشركات الرائدة المملوكة للدولة، في المدة التي تلت الأزمة الكبرى في 2007 و2009. وبدأ جانب العرض في الاقتصاد الصيني يُظهر أعراض ضعف، وهي أعراض انعكست في انخفاض الربحية». لكن المؤلفون يقولون إن انخفاض الربحية يرجع مرة أخرى إلى تباطؤ النمو في إنتاجية العمل، وليس العكس.

يذكّر المؤلفون، في الختام، القرّاء بهدف الكتاب: أن يطوروا تحليلاً واضحاً لرأسمالية اليوم ليروا السبيل نحو استبدالها باشتراكية. عمّ يدافعون؟ تخطيط ديمقراطي «مع تولي الدولة والقطاع العام دوراً قيادياً في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع. ويجب تغيير ميزان القوى في عملية صنع القرار الاقتصادي وفقاً لذلك، وخلق أسس اجتماعية لمواجهة الأزمة البيئية بطريقة متماسكة وواعية اجتماعياً، وهو أمر يتعذر على رأس المال أن يقوم به».

إن كتاب حالة الرأسمالية تمرين في التحليل الجاد، وفيه الكثير لنتعلمه ونناقشه. بهذا المعنى، لا بد أن يُقرأ الكتاب، حتى لو كنت أختلف في مواضع عديدة مع وجهة نظر المؤلفين حول أسباب الأزمات في الرأسمالية، وطبيعة الاستغلال الإمبريالية ودور التمويل.

نشر هذا المقال على مدوِّنة The Next Recession في 28 آذار/مارس 2024، وترجم أعيد نشره على موقع صفر بالاتفاق مع الكاتب.