معاينة أسطول الصمود يعيد رسم خرائط الناشطية العالمية

من تونس إلى غزة
أسطول الصمود يعيد رسم خرائط الناشطية العالمية

من تونس إلى غزة، يبحر أسطول الصمود محمّلاً بما يفوق المساعدات الرمزية والإنسانية، فهو يحمل أيضاً شحنات كثيفة من المعاني السياسية والاجتماعية التي تتجاوز حدود البحر المتوسط. في ظاهره، يبدو المشهد بسيطاً: قافلة بحرية تتجه نحو شاطئ محاصر، وجوه متعددة الجنسيات، أعلام مرفوعة، وشعارات تدعو للحرية. لكن تحت هذا السطح، تتشكل شبكة معقدة من التفاعلات العابرة للحدود، حيث يتقاطع المحلي والعالمي في لحظة واحدة، وحيث تتواجه سرديات الوحدة الأممية مع حقائق الانقسام السياسي والاجتماعي.

هذا الحدث ليس معزولاً عن التحوّلات التي عرفها العالم في خلال العقدين الأخيرين. فقد تغيّرت أشكال التعبئة والنضال مع صعود التقنيات الرقمية، وتوسّع إمكانيات العمل الشبكي، وتزايد الوعي بالترابط بين قضايا العدالة في أماكن متباعدة جغرافياً. ما نشهده اليوم هو موجة متجددة من الناشطية، تعيد استحضار الروح الأممية للحركات اليسارية، لكن بأساليب وأدوات تناسب القرن الحادي والعشرين. في هذه الموجة، تصبح غزة أكثر من مجرد قضية محلية أو إقليمية، بل رمزاً جامعاً لحركات مناهضة الاستعمار والرأسمالية المعولمة وانتهاكات حقوق الإنسان.

غير أن الرمزية التي يحملها الأسطول ليست موحّدة أو متجانسة. فداخل هذا الفضاء الأممي المتحرك، تتعايش تصورات مختلفة لمعنى التضامن وأهدافه. بالنسبة إلى البعض، تمثل غزة خط الدفاع الأول ضد منظومة عالمية غير عادلة، وبالنسبة إلى آخرين هي اختبار لمصداقية المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما يرى فيها آخرون فرصة لإحياء إرث أممي كان على وشك التلاشي. قد تبدو هذه التعددية الفكرية مصدر قوة من حيث الانفتاح، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام التوترات والتأويلات المتباينة، خصوصاً حين تصطدم بالسياقات السياسية المحلية التي يمرّ بها الأسطول.

تونس، كمحطة رئيسة في مسار هذا الحدث، تكشف بوضوح عن هذه المفارقات. فمن جهة، هناك تاريخ طويل من التضامن الشعبي مع فلسطين، تغذّيه ذاكرة نضالية وروابط ثقافية وسياسية عميقة. ومن جهة أخرى، هناك واقع سياسي داخلي معقّد، يتسم باستقطابات حادة بين قوى سياسية واجتماعية متباينة الرؤى والمصالح. في هذا السياق، لا يمرّ الأسطول كحدث إنساني محايد، بل كمثير للتجاذب، حيث يسعى كل طرف لإعادة تأطير معناه بما يخدم موقعه في الخريطة السياسية الداخلية.

المفارقة هنا أن خطاب الوحدة الأممية، الذي يرفعه الأسطول، يواجه على الأرض واقعاً محلياً يعيد إنتاج الانقسامات. فبينما يُنظر إليه في الخارج كمبادرة جامعة، يُقرأ داخلياً بعدسات مختلفة: هناك من يراه امتداداً لمعركة الحرية العالمية، وهناك من يتعامل معه بحذر بوصفه اختراقاً لأجندات خارجية، وهناك من يوظفه في خطاب سياسي ظرفي لتعزيز شرعية أو مواجهة خصوم. هذه الطبقات المتراكبة من المعاني تجعل الحدث متعدد الأبعاد، لا يمكن اختزاله في بعد رمزي واحد.

خطاب الوحدة الأممية، الذي يرفعه الأسطول، يواجه على الأرض واقعاً محلياً يعيد إنتاج الانقسامات. فبينما يُنظر إليه في الخارج كمبادرة جامعة، يُقرأ داخلياً بعدسات مختلفة

كما أن توقف الأسطول في تونس يعيد إبراز مسألة الحدود والسيادة في زمن العولمة الناشطية. فالمبادرات العابرة للقوميات لم تعد تقتصر على نقل الدعم أو الرسائل، بل أصبحت تخلق أحداثاً سياسية كاملة، تفرض على الدول المعنية مواقف علنية أمام جمهور محلي وعالمي في آن واحد. وهذا ما يجعل إدارة هذا النوع من الأحداث تحدياً سياسياً ودبلوماسياً في الوقت نفسه، خصوصاً في دول تشهد تحولات داخلية غير مستقرة.

البعد الآخر الذي يكشفه هذا المشهد هو التداخل بين البنية الشبكية للناشطية الحديثة والرمزية الميدانية للأفعال الاحتجاجية. فالأسطول لا يعمل على مستوى الحضور الفيزيائي فقط، بل على مستوى الفضاء الرقمي الذي يرافقه: صور تبث مباشرة، وسرديات تنتشر عبر وسائل التواصل، وحملات تتضخّم بفعل التفاعل الجماهيري العالمي. وفي هذا الفضاء، تتشكل أشكال جديدة من التضامن، سريعة الحركة وعالية التأثير، لكنها في الوقت نفسه معرضة للتجزئة بفعل التفسيرات المتباينة وتنافس الخطابات.

تصبح غزة، في هذا الإطار، نقطة التقاء بين موروث سياسي ثقيل وتجديد في أنماط العمل النضالي. فهي تحضر في خطاب اليسار العالمي الجديد كرمز مكثف للظلم التاريخي والمقاومة المستمرة، وفي الوقت ذاته، كمجال عملي لتجريب أشكال جديدة من التحالفات والعمل الميداني. هذه المكانة المزدوجة تمنحها قدرة على تحريك مشاعر التضامن العابر للقارات، لكنها تجعلها أيضاً ساحة مفتوحة لصراعات سردية وإيديولوجية.

في النهاية، فإن مرور أسطول الصمود من تونس إلى غزة ليس مجرد خط بحري على الخريطة، بل مسار سياسي ورمزي يكشف عن شبكة معقدة من الروابط والتوترات. إنه لحظة يلتقي فيها الحلم الأممي بالواقع المحلي، وتختبر فيها الشعارات الكبرى على أرضية سياسية واجتماعية مليئة بالتناقضات. في هذه اللحظة، يظهر التضامن ليس كفعل بسيط أو محايد، بل كممارسة سياسية مركّبة، تحمل في طياتها وعود الوحدة كما تكشف حدودها، وتعيد رسم خرائط الناشطية في عالم تتداخل فيه السواحل، وتتصادم فيه الأمواج الآتية من اتجاهات متباينة.

الناشطية العالمية الجديدة والقضية الفلسطينية

عند النظر إلى أسطول الصمود من زاوية أوسع من مجرّد مساره البحري، يظهر الحدث كصورة مركّبة تجمع بين طموح التضامن الأممي وتعرجات الواقع السياسي. فهو يبحر تحت رايات الحرية والمساواة، ويحمل على متنه أشخاصاً قادمين من مشارب فكرية وثقافية متعددة، لكنهم يلتقون في نقطة رمزية واحدة هي غزة، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى محور جامع للناشطية العالمية الجديدة. غير أن هذا الالتقاء لا يحدث في فراغ، بل في فضاء مليء بالتباينات التي تعيد صياغة المعاني في كل محطة يمرّ بها الأسطول.

في هذا المشهد، تتحرك الناشطية العالمية اليوم بآليات تختلف جذرياً عما كان سائداً قبل عقود. لم تعد الحركات الاحتجاجية الكبرى أسيرة الهياكل التنظيمية التقليدية أو الخطابات الأيديولوجية المغلقة، بل أصبحت تعمل من خلال شبكات أفقية، مرنة وسريعة الحركة، قادرة على التكيّف مع الأحداث وتغيير خططها وفق المستجدات. الفضاء الرقمي أتاح لهذه الحركات فرصة غير مسبوقة للانتشار اللحظي ولإعادة إنتاج المعاني بصورة مستمرة، لكن هذا الانفتاح جعل الرسائل أيضاً أكثر عرضة للتغيير والتأويل والتجزئة بحسب السياقات التي تمر بها.

غزة، في هذا الإطار، ليست نقطة جغرافية على خريطة الشرق الأوسط فقط، بل أصبحت رمزاً كثيفاً لمعاني المقاومة ومختبراً لخطاب سياسي جديد، خصوصاً لدى الموجة اليسارية العالمية التي تربط بين النضال الفلسطيني وقضايا أخرى تمتد من مقاومة النيوليبرالية إلى النضالات البيئية. يخلق هذا الربط فضاءً سياسياً واسعاً يلتقي فيه ناشطون من أماكن وتجارب متباينة، لكنهم يعيدون صياغة القضية الفلسطينية بما يتلاءم مع رؤاهم ومرجعياتهم. وهنا، تتولد دينامية تتيح إمكانيات هائلة لتوسيع دائرة التضامن، لكنها في الوقت نفسه تُدخل الحدث في شبكة معقدة من المعاني التي قد تتغيّر جذرياً من ساحة إلى أخرى.

مرور الأسطول بتونس يضع هذه الدينامية على محك التفاعل مع سياق محلي متشابك. فالبلاد التي تحمل في ذاكرتها القريبة تجربة احتجاجية كبرى منذ الربيع العربي، لا تزال تعيش حالة سياسية متقلبة، تتداخل فيها الاعتبارات الأيديولوجية مع الحسابات الاقتصادية والاجتماعية. لا يُستقبل الحدث التضامني القادم من الخارج بوصفه مبادرة إنسانية محضة، بل يتحوّل بسرعة إلى مادة للجدل العام، يتوزّع بين الحماسة الشعبية، والقراءات السياسية المتباينة، والمواقف الرسمية التي تحاول الموازنة بين الرأي العام الداخلي وعلاقات الدولة الخارجية.

يعكس هذا التفاعل كيف يمكن لرمزية أممية أن تتلوّن فوراً بألوان محلية. فالرسالة التي تُرفع على متن الأسطول وتُبث إلى العالم عبر الصور والفيديوهات، تعاد صياغتها على الأرض وفق أولويات وخطابات داخلية، بعضها يستثمر الحدث لتعزيز سردية المقاومة أو إبراز استقلالية القرار الوطني، وبعضها يتعامل معه بحذر باعتباره مرتبطاً بملفات إقليمية حساسة. النتيجة أن الحدث الواحد قد يحمل في الوقت ذاته معنى التحرر الأممي ورمزاً للصراع السياسي المحلي، من دون أن يُحسم أي منهما بشكل نهائي.

الطابع العابر للحدود لهذا النوع من الناشطية يمنحه قوة استثنائية في الحشد والتعبئة، لكنه يضعه أيضاً أمام حدود السلطة والسيادة. فالمسار البحري نفسه يتطلب المرور ضمن أطر قانونية وسياسية، ويستدعي تفاعلاً مع مؤسسات رسمية قد تكون متحمسة أو متوجسة أو حتى معارضة. هذه العلاقة بين الفعل الاحتجاجي العابر للقوميات والبنى السياسية الوطنية تُنتج وضعية دقيقة، حيث يسعى النشطاء للحفاظ على نقاء الرسالة، بينما تضطر السلطات إلى التعامل مع الحدث وفق منطق الموازنة بين الانفتاح والحذر.

غزة أصبحت رمزاً كثيفاً لمعاني المقاومة ومختبراً لخطاب سياسي جديد، خصوصاً لدى الموجة اليسارية العالمية التي تربط بين النضال الفلسطيني وقضايا أخرى تمتد من مقاومة النيوليبرالية إلى النضالات البيئية

في قلب هذا المشهد، يحضر البعد الإنساني والسياسي في آن واحد. فالمشاركون في الأسطول لا يكتفون بتقديم المساعدات أو كسر الحصار، بل يحملون معهم قصصاً وخبرات ومواقف، تلتقي كلها في فضاء ميداني واحد لكنه مفتوح على العالم عبر الوسائط الرقمية. هنا، يصبح البحر ليس فقط مسار عبور، بل مسرحاً لعرض رمزي يُبث لحظة بلحظة، وتتشابك فيه اللقطات البصرية مع الخطابات السياسية، لتنتج مزيجاً يثير التعاطف ويغذي النقاش في الوقت نفسه.

وبينما يتفاعل هذا الحدث مع الجمهور العالمي، فإنه يترك بصمته على المشهد المحلي في تونس، خصوصاً بين فئة الشباب التي ورثت عن العقد الماضي خبرة احتجاجية لكنها تعيش اليوم تحديات جديدة. بعضهم يجد في الأسطول فرصة لاستعادة روح النضال الأممي وربطه بتجاربهم الخاصة، وآخرون يرونه فعلاً رمزياً بعيداً من أولوياتهم اليومية. لا يقلل هذا التباين في الاستجابة من أهمية الحدث، بل يكشف عمق التحولات التي طرأت على الحس السياسي والاجتماعي بعد عقد من الثورات.

هكذا، يبدو أسطول الصمود في رحلته نحو غزة مروراً بتونس أشبه بعدسة تكبّر التفاصيل الدقيقة للعلاقة بين المحلي والعالمي، بين الرمز والواقع، وبين الخطاب الموحد والتأويلات المتعددة. إنه فعل احتجاجي وإنساني في آن واحد، لكنه أيضاً مساحة يتقاطع فيها الحلم بالتغيير مع القيود التي يفرضها الواقع، فيبقى أثره مرهوناً بقدرته على التنقل بين هذه العوالم من دون أن يفقد صوته أو يتشتت معناه.

الشبيبة التونسية بعد الربيع العربي وغزة: التفاعل مع أسطول الصمود

بعد أكثر من عقد على انطلاق الربيع العربي، تجد الشبيبة التونسية نفسها أمام مشهد سياسي واجتماعي واقتصادي يختلف جذرياً عن ذلك الذي شكل لحظة ميلادها السياسي. الجيل الذي كان في طليعة المسيرات والهتافات، وملأ الشوارع بمطالب الحرية والكرامة، يقف اليوم أمام واقع متشابك: أزمات اقتصادية خانقة، مشهد سياسي متقلب، وشعور متزايد بضرورة إعادة ترتيب الأولويات. لكن هذا التحول لا يعني غياب الحضور أو فقدان القدرة على التفاعل مع قضايا تتجاوز حدود البلاد، بل يعكس إعادة تعريف للانخراط السياسي والاجتماعي، بأدوات جديدة وأطر أكثر مرونة.

في هذا السياق، تبرز غزة كمحور رمزي يعيد ربط الشبيبة التونسية بمخيالها الثوري الأول. فالقضية الفلسطينية، التي كانت دائماً حاضرة في الثقافة السياسية التونسية، تستعيد اليوم زخمها عبر مبادرات عابرة للحدود مثل أسطول الصمود. بالنسبة إلى جزء من الشباب، يشكّل وصول هذا الأسطول إلى تونس فرصة لإعادة اختبار شعارات الأممية والتضامن التي رافقت بدايات الثورة، وربط النضال المحلي بقضية يُنظر إليها على أنها امتداد لمعركة الكرامة والعدالة. المشاركة في استقبال القافلة أو التفاعل مع صورها وخطاباتها تمنح هؤلاء إحساساً بالاستمرارية التاريخية، وكأن مسارهم السياسي لم ينقطع على الرغم من التحولات الداخلية.

غير أن التفاعل ليس موحّداً. فبينما يتبنّى بعض الشباب أسطول الصمود كرمز لوحدة النضال العالمي، يراه آخرون فعلاً رمزياً محدود التأثير المباشر على واقعهم المعيشي، أو حتى خارجاً عن أولوياتهم اليومية التي تتركز على البطالة، وغلاء المعيشة، وعدم الاستقرار. هذه الفجوة في التلقي لا تعكس فقط اختلافاً في تقييم الحدث، بل تكشف عن التباين في موقع القضية الفلسطينية داخل سلم أولويات الجيل الجديد. بالنسبة إلى البعض، ما يحدث في غزة هو امتحان أخلاقي وسياسي لا يمكن تجاهله، وبالنسبة إلى آخرين، هو قضية عادلة لكنها ليست ملحّة بالقدر الذي يفرض الانخراط الفعلي فيها.

أدّى الفضاء الرقمي دوراً محورياً في تضخيم حضور القافلة داخل الوعي الشبابي. الصور المباشرة من الميناء، والمقاطع الموثقة لرحلة الأسطول، والخطابات المقتضبة التي يلقيها المشاركون، كلها وجدت طريقها سريعاً إلى شبكات التواصل، حيث أعاد الشباب نشرها وتعليقها وربطها بسرديات أوسع حول المقاومة والعدالة والاستعمار. سمح هذا التفاعل الرقمي بدمج القضية الفلسطينية في المشهد السياسي اليومي للشباب، لكنه في الوقت نفسه أبرز الطبيعة المزدوجة للانخراط: كثافة رمزية عالية في الخطاب، مقابل محدودية في الممارسة الميدانية الفعلية.

يشكّل وصول هذا الأسطول إلى تونس فرصة لإعادة اختبار شعارات الأممية والتضامن التي رافقت بدايات الثورة، وربط النضال المحلي بقضية يُنظر إليها على أنها امتداد لمعركة الكرامة والعدالة

كما أن استقبال القافلة في تونس مثّل لحظة اختبار لعلاقة الشبيبة بالدولة وبالمؤسسات الرسمية. فبينما تحركت مجموعات شبابية لتنظيم فعاليات موازية أو للانضمام إلى الاستقبال، اصطدمت أحياناً بإجراءات تنظيمية أو باعتبارات سياسية ودبلوماسية فرضت قيوداً على التحرك. هذه التجربة أعادت إلى الأذهان دينامية السنوات الأولى بعد الثورة، حين كان الشباب يكتشف أن المجال العام ليس ساحة مفتوحة بالكامل، وأن التعبير عن التضامن يخضع بدوره لمعادلات السلطة والسيادة.

ومن زاوية أوسع، يمكن القول إن غزة عبر أسطول الصمود أصبحت بمثابة مرآة تكشف عن طبيعة التحولات التي طرأت على الحس السياسي للشبيبة التونسية. فبين الانخراط العاطفي والالتزام العملي، وبين الحماسة الرقمية والتأثير الميداني، تظهر طبقات متعددة من الفعل الشبابي، بعضها يلتقي في هدف التضامن العابر للحدود، وبعضها الآخر يبقى أسير الإطار المحلي وقيوده. هذا التعدد يعكس مرونة الجيل وقدرته على إعادة تعريف موقعه في القضايا العالمية، لكنه يفضح أيضاً محدودية القدرة على تحويل التضامن إلى برنامج عمل مستدام.

في النهاية، فإن لقاء الشبيبة التونسية بأسطول الصمود ليس مجرد حدث عابر، بل هو لحظة تكثف فيها الماضي والحاضر: الماضي الذي يحمل ذكرى ثورة أعادت للشباب مكانتهم كمحرك للتاريخ، والحاضر الذي يضعهم أمام سؤال دائم عن جدوى الانخراط السياسي في ظل الأزمات المتشابكة. غزة، عبر هذا الحدث، تعيد فتح النقاش حول علاقة الجيل الجديد بالعالم، وعن الكيفية التي يمكن أن يوازن بها بين التزامه بقضايا كونية، وانشغاله بمعاركه اليومية داخل تونس. وفي هذه المساحة المزدوجة بين المحلي والعالمي، يتحدد شكل الناشطية الشبابية في تونس اليوم، بكل ما تحمله من طموح وتناقض في آن واحد.

التقاء أسطول الصمود بالسياق المحلي: الانقسامات والتوترات

حين يصل أسطول الصمود إلى ميناء تونسي، لا يرسو فقط على شاطئ جغرافي، بل يدخل في قلب شبكة كثيفة من الرموز السياسية والتوترات التاريخية. فالحدث الذي يقدَّم في خطابه العالمي كفعل تضامني مع غزة وكسر للحصار، يجد نفسه فوراً جزءاً من مشهد تونسي مشحون، تتقاطع فيه الحسابات الإيديولوجية مع القيود الدبلوماسية، وتتنازع داخله روايات متضاربة حول معنى الفعل التضامني وحدوده.

في تونس، للقضية الفلسطينية وزن استثنائي في الذاكرة الجماعية، لكن هذا الوزن لا يترجم إلى وحدة في الموقف. فجزء من التيار الإسلامي يرى في فلسطين، وحماس تحديداً، امتداداً طبيعياً لمعركته، سواء من منطلقات عقائدية أو ضمن استراتيجية سياسية أوسع. هذه الصلة التنظيمية والفكرية تجعل استقبال القوافل البحرية أو البرية المتجهة إلى غزة مناسبة لإعادة تثبيت شرعية هذا التيار داخلياً وربط نضاله المحلي بخط مقاومة إقليمي. غير أن هذا الارتباط يفتح الباب أمام خصومه، خصوصاً من النخب الليبرالية، لاتهامه بتسييس التضامن وتحويله إلى أداة لتعزيز نفوذه في المجال العام.

على الضفة الأخرى، يتبنى الرئيس قيس سعيّد خطاباً عالمثالثياً يضع تونس في جبهة الشعوب المناهضة للاستعمار والهيمنة الغربية. في هذا الخطاب، يبدو دعم غزة واستقبال الأسطول جزءاً من رؤية كونية للتحرر الوطني والسيادة الشعبية. لكن هذا الموقف المبدئي يصطدم بإكراهات واقعية: تونس دولة مرتبطة باتفاقيات اقتصادية ومالية مع الاتحاد الأوروبي، ومؤسسات تمويل دولية، وشركاء غربيين يراقبون بدقة كل إشارة قد تُفسر كاصطفاف مع أطراف تعتبرها سياساتها «معادية» أو «غير شرعية». وهنا يصبح على السلطة أن تمارس لعبة توازن دقيقة بين خطابها المناهض للهيمنة، والحفاظ على قنواتها مفتوحة مع شركائها الاقتصاديين.

النخب الليبرالية، خصوصاً تلك التي تربطها علاقات وثيقة بفرنسا أو بالدوائر الأوروبية، تقرأ الحدث من منظور مختلف تماماً. فهي ترى أن أي تضامن مع غزة حين يرتبط برمزية حماس أو بحضور تيارات إسلامية، يتحول إلى خدمة مباشرة لمشروع الإسلام السياسي، الذي تعتبره تهديداً للنموذج المدني الديمقراطي الذي تدافع عنه. لذلك، تميل هذه النخب إما إلى تجاهل المبادرة أو إلى التشكيك في دوافعها، وتقديمها للرأي العام كتحرك يحمل مخاطر سياسية على الداخل، حتى لو كانت دوافعه المعلنة إنسانية.

هذا الانقسام الثلاثي بين إسلاميين، ورئاسة بخطاب سيادي، ونخب ليبرالية متوجسة، ينعكس مباشرة على معنى أسطول الصمود داخل تونس. فمن منظور دولي، هو مبادرة إنسانية مقاومة، لكن من منظور داخلي، هو مساحة مفتوحة للصراع على الشرعية الرمزية. كل طرف يحاول احتكار المعنى وتوجيهه بما يخدم تموقعه: الإسلاميون كجزء من «محور المقاومة»، الرئاسة كمدافع عن السيادة والحق الفلسطيني، الليبراليون كحماة للنموذج المدني ضد ما يرونه اختراقاً إسلاموياً.

الدولة كمؤسسة تجد نفسها في وضع دقيق. فهي مطالَبة داخلياً بإظهار موقف داعم لفلسطين، يعكس عمق الوجدان الشعبي، لكنها في الوقت نفسه مقيدة خارجياً بعلاقاتها الاقتصادية والمالية

الدولة كمؤسسة تجد نفسها في وضع دقيق. فهي مطالَبة داخلياً بإظهار موقف داعم لفلسطين، يعكس عمق الوجدان الشعبي، لكنها في الوقت نفسه مقيدة خارجياً بعلاقاتها الاقتصادية والمالية. كل قرار أو إشارة يمكن أن يحمل كلفة سياسية أو دبلوماسية: الانفتاح الزائد قد يثير حفيظة الشركاء الغربيين، والتحفظ قد يُفسر داخلياً كتخلٍّ عن المبدأ. هذه المعادلة المعقدة تحوّل استقبال الأسطول إلى حدث سياسي عالي الحساسية، لا يمكن التعامل معه بروتوكولياً فحسب.

الإعلام بدوره ليس وسيطاً محايداً، بل فاعلاً يعيد إنتاج الانقسام. المنصات المحسوبة على التيار الإسلامي تمنح الأسطول مكانة رمزية مركزية، تربطه بالمقاومة وتحتفي بعبوره من تونس. المنابر الليبرالية تركز على خلفياته السياسية المحتملة، وتحذر من توظيفه داخلياً. الإعلام العمومي يحاول تقديم تغطية إخبارية متوازنة، لكن في سياق استقطابي، حتى الحياد يُقرأ كتواطؤ أو انحياز مبطن.

هذا التفاعل المعقد بين المبادرة الأممية والسياق المحلي يكشف هشاشة «الإجماع» التونسي حول فلسطين. ففي مستوى الخطاب، هناك اتفاق واسع على عدالة القضية، لكن عند ترجمة التضامن إلى فعل عملي، تبرز الاختلافات الحادة في التفسير والتوظيف. غزة، في هذه اللحظة، ليست فقط موضوعاً للتضامن، بل أداة لإعادة تموضع الفاعلين السياسيين في الداخل، كلٌّ بحسب أولوياته وتحالفاته.

حتى الرأي العام، الذي قد يُتصور أنه كتلة واحدة في هذا الملف، يعكس هو الآخر تعددية في المواقف. هناك من يتبنى الخطاب الأممي من دون شروط، ويرى أن نصرة غزة فوق أي حسابات داخلية، وهناك من يطالب بتأطير هذا التضامن ليبقى بعيداً من الصراعات الحزبية، وهناك من يقف موقف المتفرج، مشغولاً بأزمات البطالة وارتفاع الأسعار أكثر من أي قضية خارجية.

في المحصلة، حين يلتقي أسطول الصمود بالسياق التونسي يتحول إلى مرآة مضخمة لانقسامات البلاد. فهو يكشف كيف أن فعلاً تضامنياً ذا طابع إنساني وأممي يمكن أن يصبح موقعاً لتقاطع الأجندات السياسية، وموضوعاً لإعادة التفاوض على معنى السيادة الوطنية والانتماء العالمي. وفي هذا، يقدم الحدث مثالاً حياً على أن الرموز في السياسة ليست محايدة، بل دائماً محمولة على صراعات القوى التي تحاول امتلاكها وتحديد دلالاتها، حتى لو جاءت من عرض البحر.

الخاتمة

من خلال متابعة مسار أسطول الصمود، يتضح أن ما يبدو في ظاهره فعلاً تضامنياً مباشراً هو في العمق حدث مركّب، تتداخل فيه المستويات العالمية مع المحلية، وتتشابك داخله الخطابات الأخلاقية مع الحسابات السياسية. لقد كشف هذا الحدث عن أن الناشطية الجديدة، في زمن الشبكات والعولمة، لم تعد محصورة في أطر وطنية أو إيديولوجية ضيقة، بل تتحرك عبر فضاءات متعددة، تصوغ نفسها في لحظة عابرة للحدود، لكنها تعاد صياغتها فوراً حين تلتقي بسياقات محلية مختلفة.

غزة، بما تحمله من رمزية كبرى، شكّلت نقطة التقاء لهذه الديناميات. فهي من جهة تستعيد في المخيال اليساري والاحتجاجي معنى المقاومة ضد الاستعمار وعدم المساواة العالمية، ومن جهة أخرى، تتحول في بلدان مثل تونس إلى ساحة تعكس الانقسامات الداخلية أكثر مما توحدها. فبين الإسلاميين الذين يقرؤونها امتداداً لمشروعهم، والرئاسة التي توظفها في خطاب سيادي عالمي، والنخب الليبرالية التي تراها خطراً على مشروعها المدني، يصبح التضامن مع فلسطين فضاءً لإعادة التفاوض على هوية الدولة والمجتمع.

طريق التضامن ليس خطاً مستقيماً بين الموانئ، بل مسار متعرج يعكس كل تعقيدات العالم الذي نعيش فيه

لقد أظهر استقبال الأسطول أن الرمز لا ينتقل خاماً بين الضفاف، بل يمر عبر قنوات متعددة: الإعلام يعيد إنتاجه بطرق متباينة، الدولة تحيطه بقيود السيادة والاتفاقيات الاقتصادية، النخب تؤول دلالاته وفق مصالحها، والجمهور يتفاعل معه بدرجات متفاوتة من الحماسة أو اللامبالاة. هذه الشبكة من التأويلات لا تُضعف الرسالة الأصلية فقط، بل تمنحها أيضاً حياة جديدة، تجعلها قابلة للتوظيف في صراعات أخرى لم تكن في الحسبان.

وإذا كان مرور الأسطول من تونس قد كشف هشاشة الإجماع الوطني حول فلسطين، فإنه في الوقت ذاته أبرز عمق حضورها الرمزي في الوعي الجمعي. فحتى حين يُختلف على طرق التعبير عن التضامن، يبقى المبدأ نفسه خارج دائرة التشكيك، ما يمنح القضية قدرة استثنائية على الاستمرار كمرجعية أخلاقية وسياسية. لكن هذه القدرة لا تلغي المفارقة الجوهرية: أن القضية التي توحّد وجدانياً يمكن أن تفرّق سياسياً، وأن الحدث الذي يحمل رسالة عالمية يمكن أن يتحول إلى مسرح للانقسامات المحلية.

بهذا المعنى، يقدم أسطول الصمود درساً مزدوجاً. فمن ناحية، يبرهن على أن الناشطية العالمية قادرة على خلق لحظات كثيفة، تحشد رموزاً ومعانٍ وتعيد ربط أماكن متباعدة ضمن سردية واحدة. ومن ناحية أخرى، يكشف حدود هذه الناشطية حين تصطدم بواقع الدول والمجتمعات، وما يحمله من إكراهات اقتصادية، وصراعات سياسية، وتنافس على احتكار المعنى. إنه درس في قوة الرموز وهشاشتها في آن واحد، وفي أن طريق التضامن ليس خطاً مستقيماً بين الموانئ، بل مسار متعرج يعكس كل تعقيدات العالم الذي نعيش فيه.

وبذلك، فإن أسطول الصمود ليس مجرد قافلة عابرة، بل علامة على زمن جديد من الناشطية، حيث لا يُفهم التضامن إلا إذا قُرئ في مفارقاته: بين الوحدة والانقسام، بين المبدأ والواقعية، بين الحلم الأممي وحسابات الداخل. هذه المفارقات لا تُضعف مغزى الفعل التضامني، بل تمنحه عمقه الحقيقي، وتؤكد أن غزة لم تعد قضية مقاومة محلية فقط، بل مرآة تكشف عن طبيعة السياسة العالمية والمحلية في آن واحد.