
من وادي السيليكون إلى جبهات القتال: صعود السوق العسكري المدني
في ليلة باردة من ليالي شباط/فبراير 2024، ضربت غارات جوية أميركية أهدافاً في العراق وسوريا واليمن. لم تعتمد العمليات التي نفذتها قوات القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) هذه المرة على الاستخبارات التقليدية فقط. شارك مشروع «مِافن» (Project Maven)، الذي طورته شركات تكنولوجيا مدنية أميركية، في تحديد هذه الأهداف بدقة متناهية باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الأقمار الاصطناعية والاتصالات والمراقبة، وتسهيل اتخاذ القرارات العسكرية بسرعة وكفاءة غير مسبوقة. ما بدا ضربة عسكرية دقيقة، كان في جوهره إشارة إلى تحوّل أوسع: التكنولوجيا التي وُلدت في وادي السيليكون أصبحت لاعباً مركزياً في صناعة القرار الحربي.
التكنولوجيا في قلب المعارك
منذ ظهور المجتمعات الأولى، دفعت الحروب عجلة الابتكار التقني. عملت الإمبراطوريات دائماً على تطوير أدوات تمنحها أفضلية في ساحات المعركة، من الرماح الحديدية والعجلات، إلى البارود والطائرات والرادارات. يكشف تاريخ الصراع البشري استثماراً متواصلاً في التكنولوجيا لأهداف عسكرية، مع بقاء معظم الابتكارات محصورة في القطاع الدفاعي التقليدي.
كسرت تحولات القرن الحادي والعشرين هذا الحاجز، فقد برزت شركات التكنولوجيا المدنية بقوة في قلب الصناعات العسكرية. لم تعد الجيوش وحدها تقود سباق التطوير. باتت شركات، مثل «غوغل» و«مايكروسوفت» و«أمازون» و«بالانتير»، تنتج تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة وتطورها، لتصبح البنية الرقمية المدنية جزءاً أساسياً من المنظومة القتالية الحديثة.
ارتفعت الاستثمارات الضخمة في قطاع تكنولوجيا الدفاع بمعدل يقارب 18 ضعفاً في خلال العقد الأخير
تمظهر هذا التحول بوضوح مع مشروع «مافن» في العام 2017، حين دخل البنتاغون في شراكة مع «غوغل» لتوظيف الذكاء الاصطناعي في تحليل الصور الجوية وتحديد الأهداف العسكرية. انسحبت «غوغل» لاحقاً تحت ضغط موظفيها، إلا أن شركات مدنية أخرى دخلت مباشرة في سلسلة التوريد العسكري، ما أدى إلى اعتماد واسع على تقنيات سُوقت أصلاً لتسهيل الحياة اليومية.
في العام 2019، أطلق الجيش الإسرائيلي مشروع «نيمبوس» (Nimbus) مع «غوغل» و«أمازون» بعقد قيمته 1.2 مليار دولار، بهدف بناء بنية تحتية سحابية متقدمة تعتمد الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وتشغيل الخوارزميات في الزمن الحقيقي، بما في ذلك مراقبة الفلسطينيين وتصنيف السكان وتحليل الصور والاتصالات. لاحقاً، دخلت شركات مثل «مايكروسوفت» وOpenAI شريكاً في تحديث هذه البنية.
في شباط/فبراير 2022، مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا، ظهر الدور المحوري لشركات التكنولوجيا الأميركية الخاصة في الحروب الرقمية، عندما قدّمت «سبايس إكس» المملوكة من إيلون ماسك، خدمة الإنترنت الفضائي «ستارلينك» للجيش الأوكراني بعد ضرب البنية الرقمية المحلية. في خلال أيام، انتشرت آلاف أجهزة الاستقبال، ما أتاح للجيش الأوكراني مرونة استراتيجية غير مسبوقة في الاتصال وتنسيق العمليات الميدانية.
بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، دخل الاعتماد الإسرائيلي على الخوارزميات السحابية مستوى جديداً. تجاوز حجم البيانات المخزنة على خوادم «مايكروسوفت» 13.6 بيتابايت، أي 350 ضعف حجم مكتبة الكونغرس الرقمية. ازداد استخدام الذكاء الاصطناعي من «مايكروسوفت» وOpenAI نحو 200 مرة في خلال الأشهر الأولى للحرب مقارنة بما قبلها، ما ظهر في تسارع وتيرة العمليات العسكرية وارتفاع غير مسبوق في أعداد الضحايا المدنيين.
صعود السوق العسكري المدني
شهدت خصخصة الحرب تصاعداً واضحاً مع دخول شركات التكنولوجيا العملاقة إلى قلب السوق العسكري العالمي. حصدت شركات التقنية عقوداً عسكرية بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار بين 2018 و2022 من وزارة الدفاع الأميركية ووكالات الاستخبارات، ما وضعها في موقع الشريك الأساسي في إنتاج أدوات الحروب الحديثة وإدارتها. حظيت شركات ناشئة في وادي السيليكون باستثمارات ضخمة لتطوير تقنيات عسكرية متقدمة؛ على سبيل المثال، جمعت شركة Skydio نحو 740 مليون دولار وقُدّرت قيمتها بـ2.5 مليار دولار لتصنيع طائرات من دون طيار تعتمد الذكاء الاصطناعي وتُوردها للجيوش في الولايات المتحدة وأوكرانيا.
تزايد دور القطاع الخاص في صناعة الحروب فتح الباب أمام نشوء ما يسمى بـ«المجمّع الرقمي العسكري الصناعي»، فتحولت شركات التقنية إلى مقاولي دفاع رئيسيين، وأصبحت منصاتهم وخدماتهم الرقمية جزءاً من البنية التحتية للجيش الأميركي وحلفائه. تعزّزت سلطة هذه الشركات عبر تدفق موظفين وخبراء بين القطاعين العسكري والتقني، ما أدى إلى تقاطع المصالح وتكريس نموذج «الأبواب الدوارة» بين رأس المال التكنولوجي والمؤسسة العسكرية.
جعل غياب إطار تنظيمي دولي جامع هذه الشركات تتحول إلى دول داخل الدولة، وتخضع البيانات لسياسات خاصة تضعها إداراتها بعيداً من الرقابة الديمقراطية التقليدية
ارتفعت الاستثمارات الضخمة في قطاع تكنولوجيا الدفاع بمعدل يقارب 18 ضعفاً في خلال العقد الأخير، بحسب تقرير Bain & Company، ما دفع الكثير من الشركات الناشئة للتركيز على تزويد الجيوش والحكومات بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات وتوجيه الطائرات المسيّرة. جعل هذا النمو السريع الحاجة إلى استمرار الصراع دافعاً اقتصادياً مركزياً، إذ ترتفع أرباح الشركات كلما تصاعدت التهديدات الأمنية وزادت الطلبات على الحلول التقنية المتطورة.
النظام الرقمي
يشير المفكر السياسي الأميركي ومؤسس مجموعة Eurasia Group، إيان بريمر، إلى أن العالم يشهد اليوم مرحلة جديدة تتشكل فيها معالم «النظام الرقمي العالمي». في هذا النظام، لم تعد السلطة الحصرية في يد الدول والحكومات. تدير شركات التكنولوجيا العملاقة وتتحكّم في البنية التحتية الرقمية حول العالم، فصارت تمتلك مفاتيح الإنترنت والحوسبة السحابية والمنصات الاجتماعية والذكاء الاصطناعي. تفرض هذه الشركات القواعد، وتراقب المعلومات، وتتحكم في التواصل، وتستطيع حجب أو تسريب البيانات أثناء الأزمات والحروب. جاء المثال الأبرز عندما منحت سيطرة إيلون ماسك وشركة «سبايس إكس» على شبكة «ستارلينك» في أوكرانيا القطاع الخاص القدرة على تعطيل أو تفعيل الإنترنت عن منطقة حرب كاملة، ما أظهر كيف أصبحت الشركات قادرة على التأثير المباشر في سير الصراعات الدولية. على الهامش، يُنصح بمشاهدة فيلم Mountainhead من إخراج جيسي أرمسترونغ، لأنّه يقدّم تصوراً جريئاً ومختلفاً لعالم وذهنيات النخبة التكنولوجية، ويمنح المشاهد نافذة فريدة على ما يدور خلف كواليس صناعة السلطة الرقمية.
يصف بريمر هذا الواقع بـ«النظام التكنوقطبي» (Technopolar Order)، عندما تتقاسم الدول السيادة مع شركات مثل «مايكروسوفت» و«أمازون» و«أبل» و«غوغل» و«ميتا» و«بالانتير». تجاوزت هذه المنصات الرقمية سلطة الحكومات في مناسبات عديدة. تصدر مجالس إدارات شركات خاصة اليوم قرارات مثل حجب حسابات رؤساء دول أو تعديل تدفق الأخبار والمعلومات في خلال الانتخابات والأزمات.
جعل غياب إطار تنظيمي دولي جامع هذه الشركات تتحول إلى دول داخل الدولة، وتخضع البيانات لسياسات خاصة تضعها إداراتها بعيداً من الرقابة الديمقراطية التقليدية. يقترح بريمر تأسيس «منظمة بيانات عالمية» (World Data Organization) تهدف إلى فرض حوكمة دولية على الشركات والمنصات التقنية، لضمان الشفافية، وحماية الحقوق الرقمية، ومواجهة مخاطر الاحتكار والهيمنة المعلوماتية.
يمتد النظام الرقمي العالمي وفق بريمر إلى معايير الأمن والسيادة والصراع السياسي. تنتقل السلطة من يد السياسي التقليدي إلى يد المبرمج والمدير التنفيذي.
«بالانتير»: تعزيز «الدولة الأمنية الرقمية»
بعد عقود من التورّط في مشاريع مثل «مِافن»، تستمر «بالانتير» في توسيع نفوذها داخل الولايات المتحدة، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من بنية الدولة الأمنية. أبرز المشاريع الجارية حالياً هو ImmigrationOS، منصة متطورة تعمل مع وكالة الهجرة والجمارك (ICE) لتجميع قواعد بيانات المهاجرين وربطها ببيانات ديموغرافية وبيومترية، تحت حجّة تسريع عمليات الترحيل ومكافحة ما يسمى «التهديدات الداخلية». دفعت هذه المنصة منظمات حقوقية ومنتقدين لحمل شعارات مثل «بالانتير تدعم وكالة الهجرة والجمارك» في خلال احتجاجات طالت مراكز الشركة في نيويورك وسانتياغو.
أثار المشروع قلق برلمانيين وأجهزة رقابية بشأن إمكانية تشكّل قاعدة بيانات ضخمة تتجاوز إطار القانون عن صفة المراقبة التي يُفترض حصرها بالمجرمين. وعلى الرغم من نفي الشركة، تميل هذه الخطوات نحو بناء دولة أمنية آلية تعتمد على خوارزميات تتنبأ بالهجرة وتحدّد مصير الأفراد من دون رقابة أو شفافية حقيقية.
خلف هذا التمدد التقني الهائل، تقف شبكة من رأس المال التكنولوجي والسياسي يقودها أحد أشهر المستثمرين في وادي السيليكون، بيتر ثيل، مالك «بالانتير» والمعروف بتوجهاته المحافظة وسعيه لتوسيع نفوذ القطاع الخاص على حساب القطاع العام. لم تتوقف علاقة ثيل بنائب الرئيس الأميركي جاي دي فانس عند حدود الدعم المالي، فقد بدأت منذ سنوات حين عمل فانس في صندوق استثمار مملوك لثيل Mithril Capital Management، ثم أصبح لاحقاً من أكثر المقربين له فكرياً وسياسياً.
لم يكتفِ النظام الرقمي المعولم بتقويض الحوكمة التقليدية، إنما انتقل إلى مرحلة إنتاج منظومة سيطرة جديدة عابرة للدول، تحتكر المعرفة والتقنية وتفرض شروطها على بقية العالم من دون حسيب أو رقيب
منذ ذلك الوقت، شكل الرجلان محوراً لتحالف رأس المال الرقمي والسياسة الشعبوية في الولايات المتحدة. في انتخابات 2022، ضخ ثيل أكثر من 15 مليون دولار لدعم صعود فانس إلى مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، ثم أعاد تفعيل هذه الشبكة في خلال حملة الانتخابات الرئاسية 2024. بفضل هذا الدعم والعلاقات الواسعة مع شبكات المال والنفوذ التكنولوجي، صعد فانس إلى مركز نائب الرئيس، ليصبح اليوم شريكاً محورياً في صناعة القرار في البيت الأبيض.
لم يقتصر هذا التحالف على الداخل الأميركي. يرتبط ثيل وفانس أيضاً بعلاقات وثيقة مع إيلون ماسك. يجمع الثلاثة توجه فكري مشترك عن تعزيز «السيادة التقنية» والاستثمار في مشاريع الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية خارج الرقابة الحكومية التقليدية. ثيل، المعروف بعدائه للبيروقراطية الحكومية وإيمانه بمنطق «الانضباط الرأسمالي»، يجد في فانس الواجهة السياسية القادرة على ترجمة هذه الرؤية إلى مشاريع تشريعية وإجراءات تنفيذية. أما ماسك، فكان المزود اللوجستي والبنية التحتية الرقمية (عبر ستارلينك) التي استخدمتها الحكومة الأميركية في الأزمات والصراعات، كما في أوكرانيا والشرق الأوسط.
يحوّل توسع هذه الشبكة التكنولوجية السياسية شركات مثل «بالانتير» من أدوات دعم عسكرية أو استخباراتية إلى فاعل مركزي في صياغة سياسات الأمن الداخلي والخارجي. ويُعمّق هذا النموذج مخاوف الحركات المدنية من أن تتحول الدولة إلى جهاز مراقبة تديره شركات القطاع الخاص تحت غطاء من الشرعية الانتخابية والإعلامية.
مأزق النظام الدولي
تبدو فكرة الحوكمة العالمية لتقنيات الذكاء الاصطناعي العسكري اليوم شعاراً فارغاً أمام مشهد تزداد فيه موازين القوة اختلالاً لصالح رأس المال الرقمي والمجمع العسكري الصناعي العالمي. يكشف تقرير معهد «ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي» (SIPRI) كيف ينهار مشروع التنظيم الدولي مع أول اختبار جدي للمصالح الإمبريالية، وكيف تُختطف كل محاولة لبناء منظومة رقابية لصالح فئات تحتكر المعرفة والثروة والأمن وتحوّل الحرب إلى سلعة عابرة للحدود.
الحواجز التي تمنع ولادة إطار عالمي حقيقي تبدأ من بنية النظام الرأسمالي ذاته. القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، ترى في السيطرة التقنية مفتاحاً للهيمنة السياسية والعسكرية على العالم. كل قوة تسعى لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها في الصناعة الأمنية والهجومية، وتُعطي الأولوية لمصالحها الاستراتيجية على حساب أي التزام أممي حقيقي أو مراعاة لحاجات المجتمعات المستضعفة. تشدّد الصين في المقابل على مبدأ السيادة الرقمية، وتشارك في النقاشات الدولية حول الحوكمة، مع تمسكها بحرية القرار الوطني في تطوير التقنيات الناشئة. كل اتفاق دولي يُطرح للنقاش يتحول سريعاً إلى حلبة صراع بين مراكز القوة القديمة والجديدة، وتُدفن أصوات الجنوب العالمي والدول النامية تحت ثقل الحسابات الجيوسياسية، فتجد نفسها رهينة لشروط وأسعار وقيود تفرضها شركات السلاح والتقنية.
الإيقاع الجنوني للتطور التكنولوجي، وفق تقرير SIPRI، يجعل من المستحيل عملياً صياغة قواعد مُلزمة تتناسب مع الواقع المتغيّر. تتبدّل التقنيات كل عام، وتخرج الابتكارات الجديدة إلى السوق بوتيرة تعجز المؤسسات الدولية عن مواكبتها. حتى تلك اللجان أو المؤتمرات التي تعقدها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تبقى حبيسة توصيات عامة أو مناشدات خجولة، في غياب آليات تنفيذ فعّالة أو قدرة حقيقية على الرقابة. أي اتفاق يُوقّع اليوم يُهدَّد بالتقادم بعد أشهر قليلة، ويتحوّل بسرعة إلى ورقة بيروقراطية في أرشيف المؤسسات الدولية.
من جهة أخرى، كسّر صعود الشركات العملاقة العابرة للحدود فكرة السيادة الوطنية وأعاد تعريف من يمتلك سلطة القرار في قضايا الحرب والسلام. لم يعد دور عمالقة التقنية يقتصر على تطوير أدوات مدنية أو بيع خدمات سحابية. تتحكم هذه الكيانات اليوم في البنى التحتية للمعلومات والأمن، وتمتلك من الموارد البشرية والتقنية والمالية ما يفوق قدرات أغلب الدول. يوضح التقرير كيف تُملي هذه الشركات سياساتها على الحكومات من خلال الضغط الاقتصادي واللوبيات، فتُعطل أو تُفصّل التشريعات بحسب مصالحها. يطغى منطق السوق على كل اعتبار أخلاقي، ويصبح الاستثمار في الحروب والذكاء الاصطناعي العسكري خياراً استراتيجياً لضمان تدفق الأرباح وتعزيز نفوذ رأس المال التقني العالمي.
يفاقم انعدام الثقة بين القوى الكبرى الأزمة ويحول دون بناء منظومة أممية فعالة. كل محاولة لعقد اتفاق دولي تنتهي إلى سباق محموم لاحتكار التقنية وفرض معايير مزدوجة. ترفض الدول الكبرى تسليم مفاتيح القوة الرقمية لأي طرف، وتشترط الحفاظ على «تفوقها النوعي»، فتنتهي المفاوضات غالباً إلى تعطيل كل إطار رقابي أو تحويله إلى وثيقة شكلية لا تملك أي سلطة فعلية. تشكك القوى الصاعدة في التزام خصومها وتخشى أن تصبح معايير الشفافية والمساءلة أدوات للهيمنة أو الابتزاز السياسي.
تعمّق المأزق العالمي مع غياب تعريف دقيق للذكاء الاصطناعي العسكري وحدوده، فتختلط التقنيات المدنية بالتطبيقات القتالية وتصبح القوانين حبراً على ورق. يمنح هذا الفراغ القانوني الشركات والحكومات مساحة واسعة للمناورة ويحول أي محاولة للحوكمة إلى عملية تفاوض عبثية لا تهدف سوى لإضفاء شرعية وهمية على واقع السيطرة والاحتكار. يلمّح تقرير SIPRI إلى أن كل طرف يفسّر القواعد كما يشاء، ويفصّل التشريعات وفق أولوياته وحاجته للحفاظ على موقعه في سباق التسليح الرقمي.
تسقط الحوكمة الدولية لتقنيات الحرب الرقمية في اختبار رأس المال حين تغيب الرقابة الشعبية والمؤسسات الديمقراطية عن صناعة القرار. تُقصى المجتمعات المهمشة من نقاشات الأمن والسيادة لصالح تحالف غير معلن بين النخب التكنولوجية وأجهزة السلطة التقليدية. كلما توسّعت الخصخصة وتعمقت هيمنة الشركات، صارت الحروب مشاريع اقتصادية عابرة للقارات، وأصبحت القرارات المصيرية حول مصير المجتمعات رهينة مصالح المستثمرين ومديري المنصات الرقمية. يصير الأمن العالمي نفسه خدمة تباع وتشترى في بورصات وادي السيليكون، بينما تزداد فجوة العدالة وتتآكل سيادة الشعوب تحت سطوة الخوارزميات ورأس المال التقني.
بهذا المشهد، تبدو فكرة الحل الدولي مجرد وهم أو واجهة تروّج لها القوى المسيطرة لإخفاء حقيقة سيطرة رأس المال على كل مفاصل الحرب والسلام. لم يكتفِ النظام الرقمي المعولم بتقويض الحوكمة التقليدية، إنما انتقل إلى مرحلة إنتاج منظومة سيطرة جديدة عابرة للدول، تحتكر المعرفة والتقنية وتفرض شروطها على بقية العالم من دون حسيب أو رقيب.