Preview silicon

كيف بنى البنتاغون وادي السيليكون؟

في هذه الأيام، بدأت شركات التكنولوجيا في التقرّب علناً من قطاع الدفاع. ويذهب إنفاق وزارة الدفاع الأميركية بشكل متزايد إلى شركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك «مايكروسوفت»، و«ألفابت» الشركة الأم لـ«غوغل»، و«أوراكل»، و«آي بي إم». وقد جلَبَت شركة «أوبن إيه آي» مؤخّراً الجنرال السابق في الجيش الأميركي ومدير «وكالة الأمن القومي» السابق بول م. ناكاسوني إلى مجلس إدارتها. ويبدو أن عَشيرة متنامية من «الوطنيين التكنولوجيين» المقيمين في وادي السيليكون، أمثال بالمر لوكي من شركة «أندوريل» ومارك أندريسن من شركة «أندريسن هورويتز»، حريصة على إثبات أن صناعة التكنولوجيا قادرة على تخفيف نقاط الضعف الجيوستراتيجية والاقتصادية للولايات المتحدة، إذا مُنِحَت العقود العسكرية اللازمة للقيام بذلك.

لكن العلاقة العلنية المتزايدة التي يتمتّع بها وادي السيليكون مع البنتاغون ليست تطوّراً مفاجئاً، بل إن وادي السيليكون خَدَمَ وصُنِع من قِبَل الحكومة والجيش اللذين كانا حريصين على ترسيخ الهيمنة على خصومهما في الحرب الباردة وما بعدها. وعلى وجه التحديد، أدّت الأموال الحكومية المكثفة والمواصلة في فترة ما بعد الحرب، خصوصاً التعاقدات العسكرية، إلى إصلاح صناعة التكنولوجيا الأميركية وتطويرها، وتحويل المنطقة الهادئة المحيطة بماونتن فيو في كاليفورنيا إلى مدينة التكنولوجيا الصاخبة التي تعرفها اليوم.

العلاقة العلنية المتزايدة التي يتمتّع بها وادي السيليكون مع البنتاغون ليست تطوّراً مفاجئاً، بل إن وادي السيليكون خَدَمَ وصُنِع من قِبَل الحكومة والجيش اللذين كانا حريصين على ترسيخ الهيمنة على خصومهما في الحرب الباردة وما بعدها

تاريخ وادي السيليكون العسكري

يتلهّف عشّاق صناعة التكنولوجيا إلى عزو نجاح وادي السيليكون إلى ريادة الأعمال في السوق الحرّة، حيث انطلقت الأفكار العظيمة المولودة في مرائب ضواحي كاليفورنيا من خلال العمل الجادّ والمثابرة. في الواقع، تلقّى رواد الأعمال والباحثون في فترة ما بعد الحرب مساعدة من الحكومة الأميركية التي كانت الحريصة على الإنفاق على البحث والتطوير: ففي حربٍ باردةٍ مستمرّة مع الاتحاد السوفياتي، كانت المنافسة في قطاعات التكنولوجيا والفضاء والأسلحة شديدة.

بمرور الوقت، بَلوَرَ الإنفاق الحكومي على البحث والتطوير في عصر الحرب الباردة، والذي جاء في المقام الأول من وزارة الدفاع و«الإدارة الوطنية للملاحة الجوّية والفضاء» (وكالة ناسا)، ما وصفته المؤرِّخة مارغريت أومارا بأنه «مُخطّط» لنجاح وادي السيليكون، إذ عملت شركات مثل «فيرتشايلد سيميكوندكتور» على الحصول على استثمارات خارجية، خصوصاً من خلال العقود الحكومية والعسكرية، التي غذّت النمو واستدامته. ومن خلال هذا «المُخطّط»، كما تُحاجج أومارا، هزّت شركات التكنولوجيا، التي تتّخذ من وادي السيليكون مقرّاً لها والتي ضمنت الاستقرار من خلال التمويل الحكومي، الأسواق القائمة في حين دفعت بتشكيل أسواق جديدة، وبالتالي حقّقت نجاحاً غير مسبوق.

وفي نهاية المطاف، اجتذبت تدفّقات الأموال الجامعات، إذ شجّعت «جامعة ستانفورد» القريبة من وادي السيليكون طلاب الدراسات العليا والأساتذة على إطلاق أبحاثهم وتدريبهم في عالم ريادة الأعمال - من أجل الحصول على عقود الدفاع. وكانت «فاريان أسوشيتس»، التي بدأها باحثون تابعون لـ«جامعة ستانفورد» وأصبحت أول شركة تطرح أسهمها للاكتتاب العام في وادي السيليكون في العام 1956، تصنع أنابيب «الميكروويف» لأغراض عسكرية. وعلى نحو مماثل، حصلت «إس آر آي إنترناشيونال»، وهي شركة فرعية تابعة لـ«جامعة ستانفورد»، على عقود عسكرية لبناء تقنيات عسكرية تطبيقية رئيسة، بما في ذلك أنظمة رادار تخترق الأرض وأوراقالنباتات وأنظمة قيادة وتحكُّم عسكرية حاسمة.

من بين الاختراعات البارزة الأخرى المموّلة من «وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة» الأقمار الاصطناعية العابرة، وهي مقدّمة لـ«نظام تحديد المواقع العالمي» (جي بي إس)

في المجمل، تجلّى الإنفاق التكنولوجي للحكومة الأميركية، خصوصاً الإنفاق العسكري، في عدد لا يحصى من الاختراعات البارزة. على سبيل المثال، بدأ الإنترنت كمشروع بحثي لـ«وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة» يُسمّى «أربانت»، والذي كان أول شبكة لأجهزة الكمبيوتر. وبعد عقود من الزمن، تلقَّى طالبا الدراسات العليا سيرجي برين ولاري بيج تمويلاً من «وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدّمة»، و«المؤسّسة الوطنية للعلوم»، وبرنامج تطوير أطلقه مجتمع الاستخبارات الأميركي سُمِّي «الأنظمة المعلوماتية الرقمية الكبرى» لإنشاء ما سيصبح «غوغل». ومن بين الاختراعات البارزة الأخرى المموّلة من «وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة» الأقمار الاصطناعية العابرة، وهي مقدّمة لـ«نظام تحديد المواقع العالمي» (جي بي إس)، وتطبيق «سيري» الخاص بهاتف «آيفون»، والذي بدلاً من أن يلتقطه الجيش، عُدِّل في النهاية من قِبل شركة «أبل» ليتناسب مع الأغراض الاستهلاكية.

اليوم، لا يزال التأثير الاقتصادي للجيش على منطقة وادي السيليكون وخارجها شيء لا يمكن إنكاره. كانت شركة «لوكهيد للصواريخ والفضاء» ذات يوم أكبر جهة توظيف بمدينة سانيفيل في كاليفورنيا. كما حصلت أكبر 9 شركات مقاولات عسكرية في منطقة وادي السيليكون على أكثر من 11 مليار دولار من عقود الدفاع في العام 1990. وعلى الرغم من انخفاض الإنفاق الدفاعي في الولاية، تظل كاليفورنيا من بين أكبر المتلقين للدولارات العسكرية على مستوى البلاد.

هل هي علاقة متقلقلة؟

على الرغم من العلاقات طويلة الأمد، غالباً ما تُصوّر علاقة صناعة التكنولوجيا بالجيش على أنها علاقة متقلقلة أو غير متسقة. بالفعل، شَهِدَت العلاقة فترات تراجع: فقد تراجعت حوافز وادي السيليكون لمتابعة العقود العسكرية مع توحيد شركات الدفاع الكبرى (الخمس الكبار) في حقبة التسعينيات من القرن الماضي. وتحدّى العاملون في صناعة التكنولوجيا بشكل متزايد التعاون التكنولوجي العسكري، على سبيل المثال، نجح موظّفو «غوغل» في الضغط على الشركة لإنهاء مشاركتها في برنامج الذكاء الاصطناعي العسكري «بروجيكت مافين» في العام 2018.

ومع ذلك، تشير أحداث أخرى إلى وجود رابطة أكثر استقراراً. فبعد انفجار فقاعة «الدوت كوم» في العام 2000، دعمت عقود الدفاع صناعة التكنولوجيا في خلال فترة صعبة امتدّت حتى أحداث 11 أيلول/سبتمبر وتداعياتها السياسية التي أدّت إلى مضاعفة الإنفاق العسكري الأميركي (وعدد المتعاقدين العسكريين) على مدى العقد التالي، حتى مع قيام الكثير من اللاعبين في وادي السيليكون بإبقاء الجيش على مسافة خوفاً من الارتباط بـ «الحروب التي لا نهاية لها» في العراق وأفغانستان.

بعد سنوات كثيرة، في العام 2020، أوضح تقرير لجاك بولسون، وهو موظّف سابق في «غوغل» تحوّل إلى صحافي، أن الانقسام المزعوم بين وادي السيليكون والجيش مبالغ فيه بشكل مزمن. فبدلاً من العمل بشكل علني، كشف تقرير بولسون أن الجيش الأميركي تعاون بشكل سري، ولكن بشكل متكرّر، مع شركات تقنية بارزة من خلال آلاف المتعاقدين من الباطن في خلال معظم العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ما أدّى إلى إخفاء مدى شراكة القطاعين عن موظفي شركات التكنولوجيا والجمهور على حد سواء.

الجيش الأميركي تعاون بشكل سري، ولكن بشكل متكرّر، مع شركات تقنية بارزة من خلال آلاف المتعاقدين من الباطن ما أدّى إلى إخفاء مدى شراكة القطاعين

وفي الوقت نفسه، حظيت «وحدة الابتكار الدفاعي» التابعة لوزارة الدفاع، والتي تتّخذ من وادي السيليكون مقراً لها وتأسّست في العام 2015 لتعزيز التعاون مع شركات صناعة التكنولوجيا وخصوصاً الشركات الناشئة، باستقبال إيجابي في نهاية المطاف على الرغم من الضيق الذي يعاني منه أهل التكنولوجيا من العسكريين، وهي الآن تُوسِّع نطاقها على مستوى البلاد من خلال مراكز جديدة والمزيد من التمويل.

أدَّى الطلب المتزايد من جانب «البنتاغون» على التقنيات التي نمت في وادي السيليكون - كما أظهرتها «وحدة الابتكار الدفاعي» وعزَّزتها الصراعات الناشطة في أوكرانيا وغزة وغير ذلك - إلى تكثيف الهوس العسكري لدى قطاع التكنولوجيا. وفي هذه العملية، أصبح القطاع أقل تسامحاً مع المعارضة: فعندما تحدّى موظّفو «غوغل» و«أمازون» مشاركة الشركتين في «مشروع نيمبوس»، وهو مشروع مشترك لتزويد الحكومة الإسرائيلية بالخدمات التقنية، أنهت «غوغل» عقود أكثر من 50 موظّفاً لمشاركتهم في الاحتجاجات.

وفي الوقت نفسه، يطلب اللاعبون المؤثّرون في مجال التكنولوجيا من العُمّال أن يتّخذوا موقفاً. قال الرئيس التنفيذي لشركة «بالانتير» أليكس كارب في «المنتدى الاقتصادي العالمي» لعام 2023 في دافوس بسويسرا: «نريد [موظفين] يريدون أن يكونوا إلى جانب الغرب. قد لا توافق على ذلك، وحينها، لن تعمل هنا». وبالمثل، قال فينكي غانيشان من شركة «مينلو فينتشرز» ومقرها وادي السيليكون لمجلة «فورتشن»: «نحن بحاجة إلى التعاون والتنسيق مع حكومتنا» في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة. وأضاف: «لا يمكنك أن تكون محايداً في هذا الشأن».

فك تشابك القطاعين التكنولوجي والعسكري

إن العلاقة العلنية المتزايدة بين وادي السيليكون والبنتاغون ليست إنجازاً عفوياً. فالعلاقة طويلة الأمد وعميقة الجذور بين المؤسّسات - والتي حفَّزتها الإنفاقات الدفاعية والبحثية الهائلة في خلال الحرب الباردة، وأصبحت مُقيَّدة بشكل متزايد بـ«الباب الدوار» لهذه القطاعات - تضمن أن يعود التقدّم في قطاع التكنولوجيا التجارية بالنفع على صافي أرباح صناعة الدفاع.

ويتجلّى وضع التكنولوجيا تحت إمرة الجيش بشكل خاص في أهداف مبادرة شراء أنظمة الأسلحة الجديدة التي أطلقها البنتاغون، ووصفها مايكل برينيس، وهو زميل غير مُقيم بـ«معهد كوينسي»، وويليام هارتونغ، وهو زميل أبحاث أول بالمعهد نفسه، بأنها «تُنتِج معدات عسكرية أرخص ومُجهّزة أيضاً بأحدث الابتكارات التجارية».

وبأخذ كل شيء بالاعتبار، فإن حساباً حقيقياً لتجاوزات المجمع الصناعي العسكري يجب أن يفرض أيضاً حساباً داخل صناعة التكنولوجيا. وحتى ذلك الحين، وكما يشير اقتراح إدارة بايدن للميزانية العسكرية الضخمة البالغة 850 مليار دولار لعام 2025، فإن العقود العسكرية الجامحة، خصوصاً لشركات التكنولوجيا والشركات الناشئة، سوف تستمر من دون هوادة. 

نُشِر هذا المقال في Responsible Statecraft في 20 آب/أغسطس 2024.