معاينة gaza tents & water

متلازمة غيان-باريه في غزّة
كيف حوّلت إسرائيل مرضاً قابلاً للعلاج إلى قاتل جماعي؟

شهدت غزة تفشّياً غير مسبوق لمتلازمة غيان-باريه خلال الأشهر الأربعة الماضية، وهو اضطراب عصبي نادر، يمكن أن يؤدي إلى شلل تامّ وموت محقّق في حال عدم توافر العلاج. 

حوّلت إسرائيل هذه الحالة الطبية القابلة للعلاج إلى حكم بالإعدام، عبر تدمير النظام الصحّي في قطاع غزّة وتحويل مستشفياته إلى أنقاض ومحاصرته بمنع إدخال الأدوية والمستلزمات الأساسيّة. ووفقاً لتقريرٍ جديد صادرٍ عن منظمة الصحة العالمية، نتج الارتفاع المفاجئ في حالات متلازمة غيان-باريه عن انهيار النظام الصحي بالكامل، إذ تتقاطع العدوى مع الحصار والدمار لتعيد أمراضاً نادرة إلى الواجهة. 

كيف جعلت إسرائيل هذا التفشي حتمياً؟ وكيف حوّلت مرض قابل للعلاج إلى قاتل جماعي؟ وكيف يعكس تفشّي الشلل في غزة الشلل السياسي والأخلاقي في العالم؟

مرض نادر تفاقمه الإبادة

1. ما هي متلازمة غيان-باريه؟

هي اضطراب مناعي ذاتي يهاجم فيها الجهاز المناعي الأعصاب الطرفية، وغالباً ما يُستثار بعد عدوى بكتيريا العُطيفة الجَيجونية (Campylobacter jejuni)، التي تنتقل عبر المياه أو الأغذية الملوثة، أو بعد أمراض فيروسية مثل الإنفلونزا وكوفيد-19. يبدأ المرض عادةً بضعفٍ في الأطراف ويمتدّ صعوداً نحو الوجه والجذع، وقد يصل في الحالات الشديدة إلى العضلات المسؤولة عن التنفس، ما يفرض الدخول إلى العناية الفائقة واستخدام أجهزة التنفس الاصطناعي.

في الأوضاع الطبيعية، تُسجَّل حالة أو حالتان فقط لكل 100 ألف شخص سنوياً، أي نحو 40 حالة كانت متوقعة في غزة سنوياً. لكنّ منظمة الصحة العالمية وثّقت 123 حالة في 4 أشهر فقط. ويعكس هذا الارتفاع الحاد بنحو 9 أضعاف بيئة صحيّة مدمّرة صُمّمت لتحفيز تفشي المرض في غزّة حتّى أصبحت الأمراض النادرة شائعة.

2. الصرف الصحي والاكتظاظ يخلقان البيئة المثالية لتفشّي العدوى

دمّرت إسرائيل شبكات المياه والصرف الصحي بشكل منهجي، ما أدّى إلى انتشار البكتيريا المسبّبة لمتلازمة غيان-باريه، إذ تبيّن أن نصف المصابين أصيبوا بعدوى معوية سابقة. كما حوّلت الملاجئ المكتظة والنزوح الجماعي الأمراض التنفسية إلى مصدر إضافي للعدوى. ترافقت هذه العوامل مع سوء تغذية مزمن وتجويع منظّم أضعف مناعة الغزاويين. 

3. منع الدواء يجعل العلاج مستحيلاً والموت محتوماً

يُعدّ علاج متلازمة غيان-باريه بسيطاً نسبياً في الأنظمة الصحّية المعاصرة. تُعالج الحالات الشديدة بالغلوبولين المناعي الوريدي (IVIG)، وهو علاج فعّال يوقف الهجوم المناعي على الأعصاب، بينما يُستخدم تبادل البلازما كبديل لتصفية الأجسام المضادة. لكنّ الحصار الإسرائيلي جعل هذه العلاجات شبه مستحيلة. فبحلول تمّوز/يوليو 2025، نفدت مخزونات الغلوبولين المناعي بالكامل، ولم يتلقَّ العلاج سوى مريضاً واحداً من أصل 40 قبل انقطاع الإمدادات تماماً.

تتراوح معدلات وفيّات المصابين على الصعيد العالمي ما بين 3% و7%، إلا أن هذا المعدل بلغ 13.8% في غزة، أي ضعف المتوسط العالمي على الأقل، وربما الضعفين. لا يعود هذا إلى طبيعة المرض، بل إلى تفكيك متعمّد للبنية العلاجية. فقد دمرت إسرائيل المستشفيات وحرمت المصابين والمرضى من الأدوية والمستلزمات، وقُتلت الطواقم الطبية، لتصبح كل حالة شلل حكماً بطيئاً بالموت. وحتى بعد إدخال منظمة الصحة العالمية مرشّحات لتبادل البلازما، لم يُسمح بدخول الغلوبولين نفسه. هكذا لم تعد الوفيات في غزة نتيجة المرض، بل نتيجة الحصار الذي يفاقم المرض عن سابق تصوّر وتصميم.

4. حرمان الناجون من العلاجٍ والتجهيزات يبقيهم مشلولين

حتى الناجون من متلازمة غيان-باريه في غزة لا ينجون فعلياً. يحتاج التعافي من المرض إلى أشهر من إعادة التأهيل والعلاج الفيزيائي لاستعادة الحركة، وإلى أجهزة مساعدة كالعكّازات والكراسي المتحركة لتعويض فقدان الوظيفة العصبية. في غزة، حيث المستشفيات مدمّرة ومراكز التأهيل شبه غائبة، يصبح هذا التعافي مستحيلاً تقريباً. وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، لم يتعافَ تماماً سوى 5 مرضى فقط، بينما يعيش الباقون في شلل جزئي دائم، محرومين من العلاج الفيزيائي والأجهزة الطبية والإشراف الصحيّ. الكراسي المتحركة معدومة، والمراكز القليلة المتبقية معزولة أو مدمّرة، فيما تتزايد الحاجة اليها يوماً بعد يوم.

لا يختلف الوضع بالنسبة إلى العاملين الصحيين. يعمل الأطباء والممرضون بلا كهرباء ولا مستلزمات طبية ولا أمان شخصي، بعد أن قُتل عدد كبير منهم في غارات إسرائيلية استهدفت المستشفيات عمداً. ومن تبقّى يواجه إنهاكاً جسدياً ومعنوياً مريراً، مجبرين على اتخاذ قرارات مستحيلة بين مريض يُمنح جهاز التنفّس الأخير وآخر يُترَك ليموت.

لكنّ الأشدّ فداحة هو أثر المرض على الأطفال. نحو 39% من الحالات في غزة هم من الأطفال الأكثر هشاشةً مناعياً وعصبياً. لا يحتاج هؤلاء إلى أسابيع من الرعاية، بل إلى سنوات من إعادة التأهيل المستمر في نظام صحيٍّ لم يعُد قادراً على تقديم أبسط أشكال العلاج.

5. نشر الأمراض كأداةٍ للتطهير العرقي

تفشّي متلازمة غيان-باريه في غزة ليس حادثاً عارضياً، بل هو دليل آخر على سياسة إسرائيل الممنهجة لتحفيز المرض وتحويله إلى أداة للإبادة البطيئة، كما سبق أن اقترح الجنرال الإسرائيلي المتقاعد جيورا إيلاند في تشرين الثاني/نوفمبر 2023. 

يكاد يكون سكان غزّة كلّهم مصابين بأمراض جرثومة تنفسيّة وهضمية، وتتفشّى الكوليرا وشلل الأطفال، ويضاف الآن مرض نادر إنّما قابل للعلاج حوّلته ظروف الحياة الرديئة في غزّة إلى وباءٍ مميت.

إنّ تدمير شبكات الصرف الصحي، واستهداف المستشفيات، والحصار على الإمدادات الطبية اندمجت جميعها في آلية واحدة للتسبّب بالإعاقة الجسدية، بالإضافة إلى مئات حالات البتر والشلل الناتجة عن تفشّي شلل الأطفال في تموز/يوليو 2024. 

مع ذلك، لا تبشّر الهدنة المعلَنة بتحسّنٍ يُذكر، إذ لا تسمح إسرائيل بدخول سوى 300 شاحنة مساعدات يومياً، وهو رقمٌ لا يغطّي جزءاً يسيراً من الحاجة. كما أنّ إعادة الإعمار ليست مطروحة بجدية، فمن المستبعد أن ترضخ إسرائيل إلى إعادة إعمار غزّة بعد أن سعت إلى تدمير كلّ شبر من القطاع. بل من المتوقّع أن تسعى إلى استغلال الكارثة الصحية التي خلقتها كذريعة لإتمام هدفها الأساسي وهو تطهير غزّة من سكّانها الفلسطينيين.