معاينة قلق في أسواق النفط العالمية

قلق في أسواق النفط العالمية
الأسعار والإمدادات تحت مرمى النيران

ارتفعت أسعار النفط لليوم الثالث على التوالي بالترافق مع توقّعات عن استعداد إسرائيل لشنّ ضربة انتقامية ضدّ إيران في أعقاب الردّ الإيراني غير المسبوق بالصواريخ الباليستية على إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي. وبحسب بلومبرغ، وصل سعر برميل خام برنت إلى ما يقرب من 75 دولاراً صباح اليوم، بعد أن استقرّ في خلال الفترة السابقة على مستوى 70 دولاراً أو أقل، فيما تجاوز سعر برميل خام غرب تكساس الـ 71 دولاراً. وتعدّ نسبة هذه الارتفاعات هي الأعلى منذ ما يقرب من العام. 

سعر برميل خام برنت

تستحوذ منطقة الشرق الأوسط على نحو ثلث العرض العالمي من النفط. وفي أواخر آب/أغسطس وصل الإنتاج اليومي للنفط في إيران إلى 3.2 مليون برميل بحسب رويترز وهو ما يشكّل أكثر من 3% من مجمل الطلب العالمي اليومي. وبالتالي، إن تهديد إسرائيل بضرب منشآت إنتاج النفط الإيرانية أو منشآت التكرير فيها، والذي قد يستثير رداً إيرانياً بإغلاق طرق الإمداد عبر مضيق هرمز أو ضرب منشآت النفط السعودية، يثير مخاوف التجّار على استقرار التدفّقات واستقرار الأسعار. 

تقول مجموعة «سيتي غروب» الأميركية إن ضرب إسرائيل للمنشآت النفطية الإيرانية يهدّد بحرمان الأسواق من 1,5 مليون برميل من النفط المنتج يومياً، أمّا استهداف منشآت التكرير فقط فقد يخرج نحو 300-400 ألف برميل يومياً من الأسواق، وفي الحالتين لن يبقى ذلك دون تأثير كبير على أسعار النفط، إذ يشير المحلّل في «بلومبرغ إنتليجنس»، هينيك فونغ، إلى أن «المستثمرين قد يتخلّوا عن رهاناتهم في انخفاض الأسعار، وبالتالي قد يدفعون أسعار النفط صعوداً بسبب مخاطر الحرب التي تتوسّع في منطقة الشرق الأوسط، ليصل سعر برميل النفط إلى 80 دولاراً قريباً».

لم يفقد سعر النفط قوّته كمقياس للمخاطر الجيوسياسية وخصوصاً في الشرق الأوسط. في الواقع، لا يزال طيف حرب العام 1973 يثير الخوف من أن تؤدّي الصراعات في الشرق الأوسط إلى إحداث اضطرابات اقتصادية في بقية العالم. ففي خلال تلك الحرب، فرضت الدول العربية المنتجة للنفط حظراً على توريد نفطها، وعلى أثره ارتفعت أسعار النفط بنسبة 233% في الأشهر الاثني عشر التي أعقبت الهجوم الذي شنّته الجيوش العربية على إسرائيل. 

على الرغم من ارتفاع أسعار النفط بنحو 5% في غضون ثلاثة أيام، وهو أعلى مستوى في 12 شهراً، لكنه لا يزال مُنخفضاً بنسبة 11.5% منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. ويقول جون أوثرز من «بلومبرغ» إن «أسعار النفط الخام قد لا تتضاعف أربع مرات، كما حدث في العام 1973، ولكن إذا كانت إسرائيل وإيران تطلقان الصواريخ على بعضهما البعض، فقد ترتفع أسعار النفط بما يتماشى مع ما حدث بعد غزو العراق للكويت في العام 1990. ومع نقطة بداية أعلى كثيراً اليوم، فإن ارتفاعاً بهذا الحجم قد يرفع أسعار النفط إلى 150 دولاراً للبرميل». 

باستثناء فترات وجيزة من الارتفاعات بعد «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ظل النفط عموماً مقيداً بنطاق محدّد طوال عام تقريباً من حرب الإبادة. لقد أدّى فائض العرض إلى جانب ضعف الطلب مع خروج الاقتصاد العالمي من الوباء إلى انخفاض الأسعار على الرغم من تصاعد التوترات. 

تتحدّث بلومبرغ عن وجود أكثر من علامة على احتمال حدوث وفرة مستقبلية قريبة في الإمدادات. ففي نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، قرّرت «أوبك +» أن تستعيد بعضاً من طاقتها الإنتاجية المتوقفة، ومن المقرّر أن تبدأ الزيادة في الإنتاج بدءاً من كانون الأول/ديسمبر المقبل بعد تأخير دام شهرين. وفي الوقت نفسه، أظهرت البيانات الرسمية الأميركية ارتفاعاً في مخزونات الخام بشكل غير متوقّع بنحو 3.9 مليون برميل الأسبوع الماضي، وهي أكبر زيادة لها في خلال الأشهر الخمسة المنصرمة.

بمعنى آخر، تمتلك أوبك طاقة نفطية فائضة كافية لتعويض غياب كامل الإمدادات الإيرانية إذا ضربت إسرائيل منشآت تلك الدولة، يقول أمريتا سين المؤسّس المشارك لشركة إنرجي آسبكتس «من الناحية النظرية، إذا فقدنا كل الإنتاج الإيراني، وهو ليس الافتراض الأساسي لدينا، فإن أوبك+ لديه طاقة فائضة كافية لامتصاص الصدمة». وبحسب رويترز، يخفض تحالف أوبك+، الذي يضم منظمة أوبك وحلفاء من خارجها من بينهم روسيا وكازاخستان، الإنتاج منذ سنوات لدعم الأسعار في ظل ضعف الطلب العالمي. وبالتالي، فإن التحالف لديه قدرة إنتاج احتياطية بملايين البراميل. ويبلغ إجمالي التخفيضات التي ينفذها منتجو أوبك+ حالياً 5.86 مليون برميل يومياً. وتشير تقديرات المحللين إلى أن السعودية قادرة على زيادة الإنتاج بثلاثة ملايين برميل يومياً وأن الإمارات قادرة على زيادته بواقع 1.4 مليون برميل يومياً. وعقدت دول أوبك+ اجتماعاً يوم الأربعاء لمناقشة الالتزام بتخفيضات الإنتاج. 

لكن استمرار هذا الوضع يعتمد على مدى تصعيد الصراع. ومن السيناريوهات المحتملة التي تعرضها بلومبرغ «هو إلحاق ضرر اقتصادي بصناعة النفط الإيرانية التي تشكل نحو نصف ميزانية طهران». 

يقول جيوفاني ستونوفو المحلل لدى «يو.بي.إس» لرويترز إنه في حين أن لدى أوبك طاقة فائضة كافية لتعويض خروج الإمدادات الإيرانية، فإن معظم هذه الطاقة موجود في منطقة الخليج في الشرق الأوسط وربما يكون هو الآخر عرضة للخطر إذا تصاعد الصراع. ولفت إلى أن «القدرة الفائضة المتاحة فعلياً ربما تكون أقل بكثير إذا تجدّدت الهجمات على البنية التحتية للطاقة في دول المنطقة»، مضيفا أن الغرب ربما يضطر إلى اللجوء للاحتياطيات الاستراتيجية إذا حدثت اضطرابات حادة.

صحيح أن بنية إيران النفطية، التي تضم حقول نفط ضخمة وأنابيب ومحطات تصدير ومصافي، قد تكون هدفاً مغرياً لضربات إسرائيلية، لكن الخبراء يحذّرون من أن هذه الخطوة قد تأتي بنتائج عكسية. تشكل صناعة النفط الإيرانية دعامة أساسية لاقتصادها، وعلى الرغم من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى لسنوات، لا تزال إيران تصدّر بين نصف إلى ثلثي نفطها، ومعظم هذا النفط ينتهي به المطاف في الصين. لقد ارتفعت واردات الصين من النفط الإيراني بشكل مستمر في السنوات الأخيرة، لتصل إلى نحو 1.8 مليون برميل يومياً. وهو ما يعني أن أي تعطيل لتصدير النفط الإيراني سيؤثر بشكل كبير على اقتصاد طهران كما سيضر باقتصاد الصين (ثاني أكبر اقتصاد بالعالم)، وسيضر بالتالي بالاقتصاد العالمي.

أيضاً، تبرز مخاوف إضافية من استفزاز إيران بهذا المورد الحيوي بالنسبة إليها، إذ في حال ردّت على أي تصعيد إسرائيلي ضدّها، يقول زياد داود من «بلومبرغ إنتليجنس» أنه سيكون «هناك خطر أوسع على الإمدادات، عبر الموانئ والسفن التي تبحر على الطرق المزدحمة. وإذا حاولت إيران إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره ربع النفط المنقول بحريا عالميا، فإن التأثير على تدفقات النفط سيكون عميقاً». ويتابع بأن «وفرة العرض الحالية لا يمكن أن تحل محل الانقطاعات المحتملة من مجلس التعاون الخليجي، وإيران، والعراق». 

وبما أن نحو خمس النفط العالمي يأتي من منطقة الخليج، فإن هناك خطر كبير بارتفاع الأسعار بشكل كبير إذا تفاقم الصراع. ويشير داود إلى «أن تكرار الهجوم على منشآت أرامكو كما حصل في العام 2019، والذي أدى إلى توقف ما يقرب من نصف الإمدادات السعودية ليس مستبعداً». 

أيضاً تلاحظ «بلومبيرغ» أن قطع إمدادات النفط الإيرانية سيجبر المصافي الصينية على زيادة مشترياتها من الموردين الرئيسيين الآخرين، بما في ذلك روسيا. وهذا التحول قد يؤدي إلى دعم مالي أكبر لجهود روسيا الحربية في أوكرانيا، ما يزيد تعقيد المشهد الجيوسياسي الأوسع.