تسليع ركام غزّة
- الحروب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل أيضاً بالسياسات الاقتصادية والتمويل المشروط والمعونات التي تُعيد تشكيل المجتمعات على صورة السوق العالمي. وبينما يتراكم الركام، تتكدّس الأرباح في مكانٍ آخر، وتبقى المدينة شاهدة على مفارقة مريرة: أن يُعاد بناؤها لتُهدم من جديد، لا بالحرب هذه المرة، بل بالسياسات التي تلبس قناع الإعمار.
- النيوليبرالية لا تُعيد بناء المدن فحسب، بل تُعيد تعريف مفهوم «الحرب» ذاته. فالحرب لم تعد تُفهم فقط كحدث تدميري ينتهي بالسلام، بل كعملية مستمرة تُتيح إعادة إنتاج رأس المال من خلال الدمار نفسه. الدمار هنا ليس نهاية، بل بداية دورة اقتصادية جديدة، حيث تُخلق الأرباح من تحت الركام. من هذه الزاوية، يتحوّل العنف إلى بنية إنتاجية، وتصبح الأزمات شرطاً لاستمرار النظام الاقتصادي العالمي.
بعد أن بدأت ملامح اتفاقٍ هشّ بين حركة حماس وإسرائيل تلوح في الأفق، تصاعد حديثٌ كثيف عن «إعادة إعمار غزّة» قبل أن يُرفع الركام أو تُوارى الجثث تحت التراب. لم تدخل المدينة بعدُ طور البناء، لكنها أُدرجت سريعاً في حسابات التمويل والمساعدات، في خطابات تتحدّث عن «النهضة» و«الانتعاش الاقتصادي» أكثر مما تتحدّث عن العدالة أو السيادة.
في صباحٍ يتصاعد فيه الغبار فوق أنقاض الأبنية المنهارة، تبدو غزّة وكأنها على وشك أن تتحوّل من مساحةٍ للمعاناة إلى سوقٍ مفتوح للمشاريع الدولية. فقبل أن تبدأ الجرافات عملها، يتحرّك رأس المال باكراً ليضع اليد على ما تبقّى من المكان والذاكرة. ما يُسمّى «إعادة الإعمار» هنا لا يخرج عن منطق النيوليبرالية التي تُحوِّل الكارثة إلى فرصة، وتجعل من الألم استثماراً ومن الدمار مادةً أولية لإنتاج الربح (Klein, 2007). الركام لم يُرفع بعد، لكنه بدأ بالفعل يتحوّل إلى سلعة رمزية في لغة المانحين والمخطّطين، حيث تُصاغ المأساة ضمن جداول مالية أكثر منها ضمن سردية إنسانية.
في هذا السياق، لا تبدو غزّة استثناءً في التاريخ الحديث، بل حلقة جديدة في سلسلة المدن التي أُعيد إعمارها على وقع الأزمات. فكما شهدنا في بيروت بعد الحرب الأهلية، أو في بغداد بعد الغزو الأميركي، أو في نيو أورلينز بعد إعصار كاترينا، تُستدعى لغة الإعمار بوصفها وعداً بالنهضة، بينما تعمل فعلياً على تعميق اللامساواة وإعادة هندسة الفضاء العام لخدمة رأس المال العالمي (Harvey, 2005; Roy, 2016). إنّ خطاب «إعادة البناء» هنا لا يقوم على مفهوم السيادة أو التحرّر، بل على منطق «التنمية المفروضة» التي تندرج ضمن سياسات ما بعد النزاع، حيث تُحوّل المساعدات الإنسانية إلى أدوات لضبط المجتمع وإدارته (Duffield, 2001).
تتجلّى المفارقة الكبرى في أنّ اقتصاد الإعمار في غزّة لا يمكن فصله عن سياق الحصار والاحتلال المستمر، أي إنّه يقوم في ظلّ غياب فعليٍّ لحرية الحركة والسيادة الاقتصادية. فالسياسات النيوليبرالية تُقدّم هنا بوصفها طريقاً إلى «الاستقرار» و«السلام الاقتصادي»، لكنها في الجوهر تعيد إنتاج البنية الكولونيالية نفسها، من خلال تحويل السكان إلى مستهلكين في اقتصاد مراقَبٍ ومجزّأ (Khalidi & Samour, 2011). إنّ المنطق الذي يحكم هذا النموذج هو ذاته الذي صاغه فكر النيوليبرالية منذ سبعينيات القرن العشرين: السوق هو الحل، والمنافسة هي المحرّك، والدولة ليست سوى «مُيسّر» للفاعلين الاقتصاديين الجدد (Dardot & Laval, 2009).
على المستوى السوسيولوجي، يتبدّى هذا التحوّل في الطريقة التي يُعاد بها تعريف الفضاء الاجتماعي بعد الحرب. إذ يصبح «المدني» موضوعاً لعمليات إعادة تنظيم سكاني ومكاني تمارسها المنظمات الدولية والمؤسسات المالية بذريعة إعادة الإعمار (Fassin, 2012). وهنا يبرز ما وصفه بعض الباحثين بـ«العنف الإنساني»، حيث يُمارس القهر من خلال أدوات الرعاية نفسها، ويُختزل الوجود الإنساني في معادلات تقنية تتعلق بالكفاءة والإنتاجية (Agamben, 1998). فالمناطق المدمّرة لا تُرى كأماكن عانت قصفاً وتهجيراً بل كفرص استثمار عقاري أو كمناطق تجريب للحوكمة النيوليبرالية.
في هذا المشهد، تتكثّف رمزية الركام بوصفه استعارة للحداثة المنكسرة. فالمدينة التي تُمحى ثم تُعاد هندستها وفق منطق السوق، تعيش مفارقة مزدوجة: تُقدَّم كمجال للشفاء وإعادة البناء، لكنها تتحوّل في الوقت ذاته إلى مختبر لرأسمالية الكارثة (Klein, 2007). إنّ هذه العملية تُعيد توزيع الأدوار بين الفاعلين المحليين والدوليين: المقاولون والشركات العابرة للحدود يستفيدون من عقود الإعمار، بينما تُقصى المجتمعات المحلية عن تقرير مصيرها، وتُختزل مشاركتها في تلقي المساعدات أو العمل في مشاريع مؤقتة (Brynen, 2000; Le More, 2008).
المناطق المدمّرة لا تُرى كأماكن عانت قصفاً وتهجيراً بل كفرص استثمار عقاري أو كمناطق تجريب للحوكمة النيوليبرالية
ولعلّ المقارنة مع مدن أخرى تُبرز الطابع البنيوي لهذه الظاهرة. ففي بيروت مثلاً، تحوّلت مشاريع «سوليدير» بعد الحرب الأهلية إلى نموذج لإعادة الإعمار القائم على خصخصة الفضاء العام، حيث استُبدل الحي الشعبي بفضاءات استهلاكية مغلقة تخدم رأس المال المحلي والعابر (Davis, 2006). وفي بغداد بعد 2003، ساد خطاب «إعادة البناء الديمقراطي» بينما كانت الشركات الأميركية تحتكر عقود الإعمار وتعيد تشكيل الاقتصاد العراقي على أسس السوق الحرة في غياب تام للمؤسسات المحلية (Chandrasekaran, 2006). هذه النماذج، مثل غزّة اليوم، تُظهر كيف يصبح «الإعمار» أداة سياسية بقدر ما هو عملية تقنية.
إنّ النيوليبرالية لا تُعيد بناء المدن فحسب، بل تُعيد تعريف مفهوم «الحرب» ذاته. فالحرب لم تعد تُفهم فقط كحدث تدميري ينتهي بالسلام، بل كعملية مستمرة تُتيح إعادة إنتاج رأس المال من خلال الدمار نفسه (Mitchell, 2011). الدمار هنا ليس نهاية، بل بداية دورة اقتصادية جديدة، حيث تُخلق الأرباح من تحت الركام. من هذه الزاوية، يتحوّل العنف إلى بنية إنتاجية، وتصبح الأزمات شرطاً لاستمرار النظام الاقتصادي العالمي (Wacquant, 2009; Fassin, 2012).
تشتغل النيوليبرالية على جعل الاستثناء قاعدة، والكارثة سوقاً، والإنقاذ سلعة. وفي غزّة، يتجلّى هذا المنطق في الطريقة التي تُدار بها المساعدات، حيث تُقسّم مشاريع الإعمار إلى برامج تمويل مشروطة تُلزم المؤسسات المحلية بمعايير المانحين. تتسلّل هذه الشروط إلى تفاصيل الحياة اليومية: من إعادة بناء المدارس وفق معايير البنك الدولي، إلى استيراد مواد البناء عبر آليات تخضع للرقابة الإسرائيلية (Roy, 1999; Saito, 2017). وبهذا يتحوّل فعل الإعمار من أفقٍ للتحرّر إلى آليةٍ لإعادة إنتاج التبعية.
لا يمكن فصل هذا الاقتصاد عن سياق أوسع من «الحكامة الإنسانية» التي تدمج المساعدات بالتنمية والأمن في آنٍ واحد (Duffield, 2001; Barnett & Weiss, 2008). هذه المقاربة، التي يُحتفى بها كبديلٍ للحروب التقليدية، تُعيد في الواقع إنتاج منطق السيطرة بوسائل جديدة. فهي لا تسعى إلى إنهاء الحرب بقدر ما تسعى إلى إدارتها، وتحويلها إلى حالةٍ دائمةٍ من «الطوارئ الطبيعية» (Calhoun, 2010). في ظلّ هذا المنطق، يصبح السلم ليس سوى شكلاً آخر من أشكال الحرب تُدار عبر الاقتصاد بدل المدفع.
من هنا، يمكن القول إنّ «إعمار غزّة» ليس مشروعاً خارج السياسة بل هو في صميمها. فكل لبنة تُوضع في جدارٍ جديد تحمل معها رؤية محددة لمستقبل المدينة وسكانها: من يملك، ومن يقرّر، ومن يُقصى. وبينما يُروّج للإعمار كرمزٍ للأمل، يرسّخ في الواقع منطق السوق الذي يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، بين الفضاء والسلطة. إنها عملية «إعمار بلا عدالة»، حيث يُبنى الدمار على أسس السوق (Harvey, 2005; Dardot & Laval, 2009; Roy, 2016).
إنّ ما يجعل المشهد الغزّي اليوم ذا دلالة عالمية هو أنّه يُكثّف في مساحة صغيرة كل التناقضات الكبرى للعصر النيوليبرالي: المساعدات التي تُعيد إنتاج التبعية، التنمية التي تُفاقم الفقر، والإعمار الذي يُرسّخ الدمار. فكما تقول التحليلات المعاصرة، النيوليبرالية ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل «عقلانية عالمية» تُعيد تشكيل الدولة والمجتمع والإنسان وفق منطق السوق (Biebricher, 2021; Brown, 2015). في هذا السياق، لا يصبح الركام مجرّد شاهد على العنف، بل مادة أولية لاقتصاد جديد يقوم على تحويل الألم إلى فرصة.
إنّ إعادة الإعمار في غزّة، مثلها مثل بيروت وسراييفو وبغداد، تُظهر كيف يُختزل المستقبل في معادلة الربح والخسارة، وكيف تُفرغ مفاهيم العدالة والسيادة من مضمونها. فالحروب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل أيضاً بالسياسات الاقتصادية والتمويل المشروط والمعونات التي تُعيد تشكيل المجتمعات على صورة السوق العالمي. وبينما يتراكم الركام، تتكدّس الأرباح في مكانٍ آخر، وتبقى المدينة شاهدة على مفارقة مريرة: أن يُعاد بناؤها لتُهدم من جديد، لا بالحرب هذه المرة، بل بالسياسات التي تلبس قناع الإعمار.
اقتصاد الكارثة: حين تُحوّل المأساة إلى سوق
في أعقاب الحرب المدمّرة على غزّة، وبين ركام لم يُرفع بعد وغبار لم يهدأ، بدأت تظهر ملامح خطاب جديد يتحدث عن «فرص الإعمار» و«الانتعاش الاقتصادي»، كأنّ الكارثة قد أنهت مهمتها وآن أوان استثمارها. لم تُستكمل بعد عمليات انتشال الجثث، لكن الحسابات المالية للإعمار انطلقت باكراً، محمّلة بوعود «الاستقرار» و«السلام الاقتصادي» التي تتقاطع مع الرؤية النيوليبرالية للعالم ما بعد الحرب (Harvey, 2005; Klein, 2007). وفي هذا المشهد، ليست غزّة استثناءً، بل تكثيفٌ مكثّف لعقلانيةٍ سياسية–اقتصادية ترى في الدمار مرحلةً انتقالية نحو دورة جديدة من الربح، حيث يُعاد تدوير الأنقاض كمواد أولية لرأس المال، وتُحوّل المعاناة إلى مشروع استثماري دولي (Fassin, 2012; Schuller & Maldonado, 2016).
هذا التحول ليس مجرّد صدفة بل نتيجة منطق مترسّخ في قلب النيوليبرالية: تحويل الاستثناء إلى قاعدة، والألم إلى سلعة، والدمار إلى مورد اقتصادي (Dardot & Laval, 2009; Boltanski & Chiapello, 1999). فبعد كل حرب أو زلزال أو مجاعة، يُعاد تنظيم المجال الاجتماعي وفق لغة الكفاءة والمردودية، وتُقدّم «إعادة الإعمار» بوصفها بديلاً عن العدالة وحلاً تكنوقراطياً لمعاناة سياسية (Duffield, 2001; Barnett & Weiss, 2008). في غزّة، يبدو هذا المنطق أكثر قسوة لأنه يعمل فوق أرضٍ لم تخرج بعد من حالة الإبادة نفسها، بل ما تزال فيها البنى التحتية للحياة، مثل الماء والكهرباء والسكن والغذاء، أدوات حرب مستمرة (Brown, 2015). الحرب لم تنتهِ فعلاً؛ هي فقط غيّرت شكلها، لتعود في صورة هندسية ومالية وإدارية، تحكمها منظمات التنمية والبنوك والمانحون الدوليون.
تُعيد النيوليبرالية هنا إنتاج مفهوم الإبادة ضمن منطق السوق، إذ لا يُنظر إلى التدمير كجريمة بل كمرحلة تمهيدية لإعادة البناء والاستثمار (Klein, 2007; Dardot & Laval, 2009). ويكشف خطاب بعض الزعماء الغربيين هذا الانزلاق الأخلاقي، كما في تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي تخيّل «تحويل غزة إلى منتجع سياحي جميل على شاطئ المتوسط» بعد انتهاء الحرب. هذه الجملة العابرة تختزل منطق المرحلة بأكمله: تحويل المكان الذي شهد المجازر إلى فضاءٍ للتسلية، وإعادة ترميز الخراب بلغة الجمال والربح. هنا لا تُمحى الذاكرة فقط، بل يُعاد تشكيلها ضمن سردية السوق، حيث يصبح المستقبل مشروطاً بالاستثمار لا بالعدالة (Foucault, 2004; Brown, 2015).
تلك الرؤية هي الامتداد الطبيعي لما سمّته بعض التحليلات «رأسمالية الكارثة» (Klein, 2007)، وهي نمط من الاقتصاد السياسي لا ينتظر الأزمات بل يُنتجها، لأنّ الكارثة هي الشرط الذي يتيح له التجدّد. فكما حدث في نيو أورلينز بعد إعصار كاترينا، أو في بغداد بعد الغزو الأميركي، أو في بيروت بعد الحرب الأهلية، تُحوَّل الكارثة إلى فرصة لتطبيق إصلاحات هيكلية لم تكن ممكنة في الظروف العادية: خصخصة الخدمات، تحرير الأسواق، وإعادة صياغة الفضاء العام بما يتناسب مع مصالح رأس المال العالمي (Peck, 2010; Hibou, 2011). في هذه البيئات، الكارثة ليست حادثاً طارئاً بل «مختبراً للنيوليبرالية» (Beck, 2006; Biebricher, 2021).
في غزّة، يأخذ هذا المختبر شكله الأكثر حِدّة. فالمكان محاصرٌ منذ سنوات، مُقطّع الأوصال، تُراقَب مواده الأساسية، ويُدار اقتصاده عبر بوابات أمنية. حين يُطرح «الإعمار» في هذا السياق، لا يمكن فصله عن منظومة السيطرة ذاتها، حيث تصبح المساعدات مشروطة سياسياً، ويُستخدم التمويل أداة لتأديب المجتمع وضبطه. فكل مشروع بناء جديد، وكل شحنة إسمنت تدخل، تمرّ عبر قنوات تحددها ذات القوى التي دمّرت المدينة (Roy, 2016; Le More, 2008). بذلك، يتحوّل الإعمار إلى امتداد للحرب بوسائل أخرى، ومرحلة «ما بعد الإبادة» إلى شكل جديد من إدارتها.
الأنثروبولوجيا السياسية لهذه الحالة تكشف أنّ ما يُسمّى «المساعدات الإنسانية» ليس فعل خيرٍ بريئاً، بل منظومة حكمٍ تنتج تبعات جديدة (Agier, 2008; Fassin & Pandolfi, 2010; Redfield, 2013). فالمخيمات ومراكز الإغاثة والمشاريع الصغيرة الممولة خارجياً ليست وسائل للبقاء فقط، بل أدوات لإعادة تنظيم المجتمع حول منطق «الاحتياج الدائم». يتمّ بذلك تحويل السكان إلى موضوعٍ للإدارة التقنية، تُقاس حاجاتهم بالمعايير الكمية نفسها التي تُقاس بها كفاءة الاستثمار. هذا ما يجعل من «اقتصاد الكارثة» بنية أخلاقية بقدر ما هو بنية مادية: فهو يُعيد تعريف العلاقة بين الضحية والفاعل، بين المعونة والسيطرة (Fassin, 2012; Schuller & Maldonado, 2016).
إنّ ما يميّز مرحلة ما بعد الحرب في غزّة هو أنّها لا تنطلق من الصفر، بل من العدم: من مدينة مُفرغة من بنيتها التحتية ومن مقوّمات السيادة. هذا «العدم المعماري» يشكّل الشرط المثالي لتجريب مخططات الإعمار الممولة دولياً، التي تهدف، في الخطاب المعلن، إلى «تحسين المعيشة»، لكنها عملياً تعيد إنتاج التبعية البنيوية، إذ تضع القرار الاقتصادي والسياسي في يد المانحين والمؤسسات الدولية (Duffield, 2001; Barnett & Weiss, 2008). هنا تلتقي النيوليبرالية مع منطق الاستعمار المتأخر: إعادة بناء المستعمَرين وفق المعايير نفسها التي دمّرتهم (Mitchell, 2011; Bayart, 2008).
بعد كل حرب أو زلزال أو مجاعة، يُعاد تنظيم المجال الاجتماعي وفق لغة الكفاءة والمردودية، وتُقدّم «إعادة الإعمار» بوصفها بديلاً عن العدالة وحلاً تكنوقراطياً لمعاناة سياسية
وعلى المستوى الرمزي، تحمل مشاريع الإعمار وعداً كاذباً بـ«النهضة»؛ فهي لا تستند إلى فكرة العدالة الانتقالية أو المساءلة، بل إلى حسابات التكلفة والعائد. كل حجر يوضع في جدار جديد يُحسب في جداول التمويل، لا في ميزان الذاكرة. لذلك يمكن القول إنّنا لا نعيش مرحلة «إعادة إعمار» بقدر ما نعيش مرحلة «إعادة استثمار في الإبادة»، حيث يُعاد استغلال ما دمّرته الحرب من أجسادٍ وأماكن وذكريات (Wacquant, 2009; Brown, 2015). تُصبح الإبادة في هذا المنظور ليست نقيض الحياة، بل جزءاً من دورتها الاقتصادية: تُحطَّم الأجساد والمنازل لتُعاد بناؤها في السوق العالمي بوصفها موارد وفرصاً ومشاريع تنموية (Tsing, 2015; Appadurai, 1996).
في هذا الإطار، تنقلب وظيفة «الإنقاذ» من عملٍ إنساني إلى عملٍ إداري، وتتحول «إعادة الإعمار» إلى سياسة إنتاجية لإعادة إنتاج ذات المنظومة التي صنعت الدمار (Dean, 2010; Fassin, 2012). فحين يُختزل الحطام في أرقام إحصائية، وتُحوَّل المأساة إلى جداول تمويل، يغيب المعنى الإنساني ويبقى الحساب الاقتصادي. وبذلك، تكتمل دورة رأسمالية الكارثة: الحرب تُنتج الركام، الركام يُنتج المساعدات، والمساعدات تُنتج السوق. وبين هذه الحلقات، لا يبقى للعدالة مكان.
إنّ تصريحات ترامب التي تتخيّل غزّة «منتجعاً سياحياً» بعد الحرب تعبّر بوضوح عن هذا الخيال الاقتصادي الجديد، الذي لا يرى في الأرض سوى مساحة استثمار، وفي البحر سوى واجهة عقارية. هذا الخيال، وإن بدا ساذجاً، هو جوهر النيوليبرالية حين تواجه الخراب: تحويل المأساة إلى لوحة جميلة تُباع في المزاد العالمي (Klein, 2007; Dardot & Laval, 2013). فهو خيالٌ لا يطيق الفراغ، لأن الفراغ في منطقه خسارة، ولذلك لا بدّ أن يُملأ بسرعة بالمشاريع والصفقات، لا بالذاكرة أو العدالة. هكذا، بعد كل حرب على غزّة، تُفتَح ورشات الكلام عن «الأمل» و«النهضة»، بينما يبقى الركام ماثلاً كشاهد على تواطؤ صامت بين العنف والسوق.
وبينما يُعاد رسم خرائط المدينة وفق معايير المانحين، يُعاد أيضاً رسم حدود السياسة والأخلاق. لم يعد السؤال: كيف نمنع الحرب القادمة؟ بل: كيف نُدير نتائجها بطريقة أكثر «فاعلية» و«استدامة». إنها النيوليبرالية في لحظة انتصارها الأشدّ سخرية: حين تَحوّل الإبادة من جريمة إلى فرصة، ومن مأساة إلى مشروع تنموي. في هذه اللحظة، تدخل غزّة، ومعها العالم، طوراً جديداً من اقتصاد ما بعد الحرب، حيث تُجنى محاصيل الإبادة بآليات السوق، ويُعاد بناء الدمار ليُعاد تدميره مجدداً باسم التقدّم والازدهار.
الإعمار كأداة للهيمنة: من المساعدات إلى الضبط النيوليبرالي
بعد أن خمدت أصوات الانفجارات في غزّة، لم يعمّ الصمت بقدر ما عمّ خطابٌ جديد، منمّق بلغة التنمية والحوكمة، يتحدث عن «إعادة الإعمار» بوصفها أفقاً للخلاص. لكن خلف هذه اللغة التقنية يختبئ منطقٌ آخر، أكثر تعقيداً وأقلّ براءة: منطق السيطرة عبر المعونة، وإعادة إنتاج السلطة من خلال المساعدة. فالإعمار، في زمن النيوليبرالية، لا يبدأ حين تتوقف الحرب، بل حين تبدأ المؤسسات المالية والدولية في وضع خرائطها للمدينة، كما لو كانت مساحة تجريب إداري واجتماعي (Duffield, 2001; Barnett & Weiss, 2008). في غزّة، تُرسم هذه الخرائط على ركام لم يُرفع بعد، وتُدار برامج الإغاثة بوصفها مختبراً لتقنيات الحكم الحديثة التي تزاوج بين الأمن والتنمية.
التحول هنا ليس من الحرب إلى السلم، بل من القصف إلى الإدارة، ومن القوّة العسكرية إلى الحوكمة البيروقراطية. فحين تضعف الأدوات الخشنة للعنف، تتقدّم أدوات أكثر نعومة: التمويل، المشروطية، والتقارير التقنية التي تحدّد «قابلية» كل مشروعٍ للتمويل. إنها إعادة إنتاج للعنف نفسه بأدوات إجرائية (Dean, 2010; Foucault, 2004). ما كان يُدار بالدبابة يُدار اليوم بالمنحة، وما كان يُفرض بالحصار يُفرض عبر «آليات الشفافية والمساءلة»، التي تضع المجتمع المحلي تحت مجهر دائم من المراقبة المؤسسية. المفارقة أنّ هذه الرقابة تُمارَس باسم «التمكين».
منطق الإعمار في غزّة اليوم لا يهدف إلى تمكين السكان بقدر ما يهدف إلى ضبطهم داخل حدود يمكن التحكم فيها، بحيث تبقى البنية المادية للحياة رهينة التمويل الخارجي
لا أحد ينكر حاجة غزّة إلى الإعمار، لكن السؤال ليس في الحاجة، بل في من يعرّفها، ومن يموّلها، ومن يتحكّم في شروطها. فالمساعدات الدولية لا تأتي في فراغ، بل محمّلة بنظام من القيم والمعايير يقدّم نفسه كعالميٍّ ومحايد، بينما هو مشبع بمنطق السوق والعقلانية الإدارية النيوليبرالية (Hibou, 2011; Dardot & Laval, 2009). ما يُسمّى «بناء القدرات» ليس سوى إعادة تشكيل للبنى المحلية بما يتوافق مع مصالح المانحين، وتحويل لاقتصاد المقاومة إلى اقتصاد قابل للقياس والإدارة. هكذا يُعاد ترتيب العلاقة بين المركز والهامش: لم تعد القوة تمارس بالاحتلال المباشر، بل بوسائل «التنمية» التي تفرض شروطها بوصفها بديهيات لا جدال فيها (Ferguson, 1994).
في كل مشروعٍ للإعمار، تُنقل السلطة تدريجياً من المجال السياسي إلى المجال التقني. يحلّ المهندسون والمستشارون الدوليون محلّ السياسيين المحليين، وتصبح القرارات الكبرى عن مستقبل المدينة مسائل «فنية» تتعلق بالبنية التحتية أو إدارة المخلفات أو كفاءة الطاقة. هذا ما يسميه البعض «نزع التسييس عن التنمية»، وهي آلية مركزية في السلطة النيوليبرالية (Li, 2007; Crouch, 2011). فالسياسة تُختزل في الإدارة، والصراع في المؤشرات، والعدالة في الاستدامة. في هذا السياق، تتحول العدالة الاجتماعية إلى ملفّ تنموي، وتُصبح المقاومة «إشكالية أمنية» تحتاج إلى «معالجة هيكلية».
وفي خلفية كل ذلك، تتعزّز شبكة كثيفة من العلاقات المالية التي تربط المانحين بالمستفيدين، والمنظمات الدولية بالسلطات المحلية، عبر سلسلة طويلة من الإجراءات التي تُعيد تعريف مفهوم «الاستقلال». فالاعتماد على المعونة لا يخلق تبعية مالية فقط، بل تبعية معرفية أيضاً: من يملك البيانات يملك القرار. هذا ما وصفه بيير بورديو (1998) بوصفه «الهيمنة الرمزية»، أي القدرة على فرض تعريف معين للواقع بحيث يبدو طبيعياً وضرورياً في آنٍ. في حالة غزّة، يُفرض هذا التعريف من خارجها: تُختزل المدينة في «ملف إنساني» بينما تُمحى خلفه جذور الأزمة السياسية التي أنتجت الكارثة.
وتتعمّق المفارقة حين نلاحظ أن الخطاب الإنساني، الذي يُفترض أن يكون نقيضاً للعنف، يتحوّل إلى جزءٍ من بنيته. فالمؤسسات التي تتدخل باسم «الإنقاذ» تُعيد في الواقع إنتاج نظام المراقبة والسيطرة، عبر قواعد التمويل والتدقيق التي تضع الفاعلين المحليين في موقع المنفّذ لا الشريك (Fassin, 2012; Agier, 2008). «الإعمار» يصبح فعلاً فوقيّاً، لا ينبع من المجتمع بل يُسقط عليه. وهنا تتجلى الصيغة النيوليبرالية للهيمنة: الهيمنة عبر الرعاية. فبدلاً من فرض السيطرة بالقوة، تُفرض عبر المعونة، وبدلاً من الاحتلال العسكري، يُمارس احتلال إداري واقتصادي ناعم يُبرَّر بضرورات «التنمية» و«المسؤولية المشتركة» (Barnett & Weiss, 2008).
تتكثّف هذه الدينامية في الفضاء الإنساني–السياسي الذي يسميه ميشيل أغيييه «حكومة اللامكان» (Agier, 2008)، أي الفضاء الذي يُدار فيه السكان لا بوصفهم مواطنين بل كجماعاتٍ تحتاج إلى تنظيم ورعاية. في هذا الفضاء، تُفرّغ السيادة من مضمونها السياسي وتُملأ بإجراءات إنسانية، فيتحول الحكم إلى إدارة للأجساد والأرقام، لا إدارة للمواطنين والحقوق. إنّ منطق الإعمار في غزّة اليوم لا يهدف إلى تمكين السكان بقدر ما يهدف إلى ضبطهم داخل حدود يمكن التحكم فيها، بحيث تبقى البنية المادية للحياة رهينة التمويل الخارجي (Redfield, 2013; Ticktin, 2011).
ومن المفارقات الأكثر قسوة أنّ هذه المنظومة تنتج خطاباً مضاداً يُعيد تأكيد شرعيتها. فحين تُثار الانتقادات ضدّ سياسات المانحين، يُقال إنّ البديل الوحيد هو الفوضى، وإنّ المساعدات على الرغم من نقائصها ضرورية «لإنقاذ الأرواح». لكن إنقاذ الحياة هنا لا يعني تحريرها، بل إدارتها (Fassin & Pandolfi, 2010). فالإنقاذ يصبح وسيلة لإدامة البنية التي أنتجت الخطر، لأن النظام يحتاج دائماً إلى حالة طوارئ كي يبرّر وجوده. وبذلك يتحوّل «الاستثناء الإنساني» إلى قاعدة سياسية دائمة، تُدار عبر سياسات المراقبة والإغاثة.
على المستوى الأنثروبولوجي، يتجسد هذا المنطق في التحوّل من «اقتصاد المساعدة» إلى «ثقافة المساعدة». فالمجتمعات التي تعيش طويلاً في ظل برامج الإغاثة تُعاد صياغة قيمها وعلاقاتها اليومية وفق منطق التمويل، بحيث يُقاس النجاح بقدرة الأفراد على الاندماج في مشاريع المانحين، لا بقدرتهم على تجاوز الحاجة نفسها (Ferguson, 2015; Scott, 1998). في غزّة، يصبح الاعتماد على المعونة جزءاً من الحياة اليومية، منقوشاً في إيقاع السوق المحلية، فيتحول «الطوارئ» إلى وضع دائم ومألوف.
لكن خلف هذه التراتبية الخفية، تتكشف ديناميات مقاومة دقيقة. فالمجتمعات المحلية، وإن كانت محاصَرة داخل شبكات التمويل والمراقبة، تمارس أشكالاً من التحايل والتفاوض تُعيد تعريف العلاقة مع المانحين. غير أنّ هذه المقاومة تبقى محدودة لأنها تُمارس داخل قواعد اللعبة نفسها، أي داخل المنظومة النيوليبرالية ذاتها التي تتيحها وتقيّدها في الوقت نفسه (Brown, 2015; Li, 2007). فحتى التمرّد يُقاس اليوم بمقاييس «الاستدامة» و«الكفاءة»، لا بمقاييس التحرّر.
في النهاية، تكمن المفارقة الكبرى في أن الإعمار الذي يُقدَّم بوصفه فعلاً للشفاء يصبح آلية جديدة للضبط. فبين الخطاب الإنساني الذي يتحدث عن الأمل، والبنية الاقتصادية التي تعيد إنتاج التبعية، تتكشّف معادلة قاسية: كلّما ازداد حجم المساعدات، تقلّصت القدرة على تقرير المصير. بهذا المعنى، الإعمار ليس نهاية الحرب، بل استمرارها بلغة أخرى. وما يبدو ترميماً للمدينة هو في العمق إعادة بناء لمنظومة السيطرة ذاتها، بواجهات أكثر تهذيباً وإشراقاً (Wacquant, 2009; Dardot & Laval, 2013; Brown, 2019).
محو الجغرافيا القديمة التي كانت تعجّ بالحياة غير القابلة للتسليع
في الخيال السياسي والاقتصادي الذي يُنسَج حول غزّة بعد الحرب، تلوح المدينة بوصفها «الموعودة»؛ مدينة يُراد لها أن تُبعث من الركام لتصبح نموذجاً لـ«النهضة»، ولكن على مقاس السوق. فهي لا تُستعاد كما كانت، بل كما ينبغي أن تكون في نظر المستثمرين والمخططين، أي مدينة يمكن التحكم فيها وإدارتها وتحويلها إلى واجهة عمرانية جديدة. في الخطاب الدولي الذي يتصاعد عقب كل حرب، تصبح غزّة أشبه بلوحة بيضاء يُراد رسم «مدينة المستقبل» فوقها، متناسية أنّ هذه البياضات لم تأتِ من فراغ بل من محو متعمّد للذاكرة المكانية والاجتماعية (Harvey, 2012; Lefebvre, 1970/1996). المفارقة أنّ وعود الإعمار هنا تتحدث باسم «الحياة»، لكنها تُصاغ بأدوات تستمد منطقها من الموت نفسه: إذ لا يمكن إعادة بناء المدينة إلّا بعد تدميرها.
حين تتحدّث المنظّمات الدولية عن «إعادة تخطيط غزّة» أو «تحويلها إلى منطقة اقتصادية خاصّة»، فهي لا تطرح فقط مشروعاً عمرانياً، بل رؤية للعالم، حيث يُعاد تعريف الفضاء بوصفه سلعة، والمكان بوصفه مورداً، والسكان كقوة عمل قابلة للإدارة (Brenner & Theodore, 2002; Smith, 1996). هنا يتبدّى جوهر «المدينة النيوليبرالية»: فضاءٌ متنازع بين الذاكرة والربح، بين الجماعة كجسد اجتماعي، والشركة كفاعل عمراني. هذا ما لاحظه ديفيد هارفي حين وصف المدينة الحديثة بأنها مسرحٌ لصراع بين «الحق في المدينة» و«الحق في الاستثمار» (Harvey, 2012). في غزّة، يتخذ هذا الصراع بعداً أكثر مأساوية، لأن الرأسمال لا يكتفي بشراء الأرض، بل يشتري سردية المستقبل نفسها.
يُعاد هنا إنتاج ما أسماه هنري لوفيفر «التملّك الرأسمالي للفضاء» (Lefebvre, 1970/1996): تحويل المكان من مجال للعيش إلى منتج اقتصادي. فالمناطق التي شهدت القصف والتحطيم تُعاد توصيفها في التقارير بوصفها «مناطق قابلة للتنمية الحضرية»، وتُحاط بخرائط استثمارية تفترض أن المدينة يمكن أن تُنزع من تاريخها لتُدرج في دورة الإنتاج العالمي (Brenner, 2014; Logan & Molotch, 1987). بهذا المعنى، يصبح الركام ليس مادةً للبناء فقط بل رمزاً لمحو الجغرافيا القديمة التي كانت تعجّ بالحياة غير القابلة للتسليع.
ما يجري في غزة اليوم يشبه ما وصفه نيل سميث بـ«استراتيجية التمدين العالمية» (Smith, 2002): مشروع شامل لتطويع المدن في منطق العولمة، بحيث تتحول الأحياء المدمّرة إلى مشاريع للقطاع الخاص تُسوّق تحت عنوان «التجديد الحضري». تُعاد صياغة المشهد العمراني كواجهة للتعايش الموعود، بينما تُطمس البنى الاجتماعية التي كانت تعرّف المكان قبل الحرب. وتُستبدل الذاكرة بالجمال المعماري، كما استُبدلت في بيروت القديمة الأسواق الشعبية بمراكز التسوق الحديثة (Zukin, 2010; Van Criekingen, 2020). المفارقة أنّ ما يُقدَّم على أنه «تحديث» هو في جوهره إقصاء للمدينة التي كانت موجودة بالفعل.
في هذا السياق، لا تُفهم المدينة بوصفها كياناً اجتماعياً بل كمخطط اقتصادي خاضع لمقاييس الربحية. فالمشاريع التي تُقدّم على أنها «رؤى حضرية للمستقبل» لا تتحدث عن العدالة المكانية أو الحق في السكن، بل عن «الاستدامة» و«جذب الاستثمارات». يُختزل المكان في أرقام ومخططات هندسية، بينما يُهَمَّش البُعد الإنساني الذي يجعل من المدينة أكثر من مجرد واجهة. كما تقول ساسكيا ساسن، تتحوّل المدن في الاقتصاد العالمي إلى «عُقد مالية» أكثر منها مواطن حياة (Sassen, 2001). في غزة، يُراد لهذه العقدة أن تكون نموذجاً شرق أوسطياً جديداً: منطقة معولمة على أنقاضها المحلية.
وإذا كانت المدن الحديثة تُبنى عادة لتستوعب كثافة السكان، فإنّ المدينة الموعودة في غزة تُبنى لتستوعب كثافة المراقبة. فالتحكم بالمكان هنا ليس مجرد مسألة أمنية، بل اقتصادية أيضاً، إذ ستُخطّط الأحياء وفق معايير تتيح سهولة الإدارة والمراقبة، وتُدمج التكنولوجيا في البنية العمرانية كما في «المدن الذكية» التي تبشّر بها النيوليبرالية (Cheshin & Zvi, 2018; Yiğit et al., 2025). المفارقة أن المدينة الذكية التي يُفترض أن تُعيد للناس حرية الحركة تُعيد إنتاج الحصار، ولكن بوسائل رقمية وبيروقراطية هذه المرة.
تتعمّق هذه المفارقة في الخطاب الثقافي المحيط بـ«غزة الجديدة»؛ فالإعلام الدولي يتحدث عن «تحويلها إلى واحة على المتوسط»، و«جذب الاستثمارات السياحية بعد الحرب»، كما لو أن الكارثة مرحلة ضرورية لبناء «جنةٍ عمرانية». هذا الخطاب ليس بريئاً، إنه استمرار لما وصفه مانويل كاستيلز بـ«المدينة كفضاء للتدفقات» (Castells, 2010): مدينةٌ تُبنى لتخدم رأس المال العابر للحدود، لا سكانها. ومن خلال هذه اللغة الجذابة – «التنمية»، «التحول»، «الانفتاح» – تُخفي النيوليبرالية بنيتها الاستعمارية الجديدة التي توظّف العمران لإعادة إنتاج السيطرة لا لكسرها (Brenner & Schmid, 2014; Bayart, 2008).
تُخفي النيوليبرالية بنيتها الاستعمارية الجديدة التي توظّف العمران لإعادة إنتاج السيطرة لا لكسرها
أما على المستوى السوسيولوجي فتتجلّى المفارقة الكبرى في أنّ هذه المشاريع تُروّج باسم «الحق في المدينة»، لكنها عملياً تنفي هذا الحق عن سكّانها الأصليين. فـ«الحق» هنا لا يعود حقاً جماعياً في المشاركة أو التقرير، بل حقّاً مشروطاً بالقدرة على الاستثمار أو الدفع (Harvey, 2012; Fainstein, 2012). تُصبح العدالة المكانية امتيازاً اقتصادياً، ويُعاد توزيع الفضاء وفق منطق السوق، بحيث يُفتح للمستثمر ويُغلق في وجه اللاجئ.
في مقابل هذه المدينة النيوليبرالية المتخيّلة، تستمر المدينة الواقعية في الوجود كجسد جريح، يحمل ذاكرة الدمار والتهجير. لكنّ هذه الذاكرة تُعامل بوصفها عائقاً أمام «التنمية» التي تحتاج إلى نسيان منظّم لتبدأ من جديد. وهنا تبرز ما سمّاه غي دوبور «مجتمع المشهد» (Debord, 1967): حيث يتحول كل شيء إلى عرض مرئي، بما في ذلك إعادة الإعمار نفسها. في غزّة، تُستبدل المأساة بالمشهد العمراني، ويُعاد تغليف الألم في صور لامعة لمشاريع مستقبلية تحجب المأساة لا لمعالجتها بل لبيعها من جديد.
تتجاوز هذه العملية حدود الجغرافيا لتصبح ظاهرة كونية، إذ تتكرّر أنماط «المدينة بعد الكارثة» في أماكن أخرى: من نيو أورلينز بعد كاترينا، إلى لشبونة بعد الحرائق، إلى ساو باولو بعد تفكيك الأحياء الفقيرة (Rolnik, 2013; Caldeira, 2000). المدن التي تمرّ بالدمار تُحوّل إلى مختبرات للنظام الاقتصادي العالمي، تُجرّب فيها أدوات «التحوّل الحضري» و«الإنعاش الاقتصادي»، وغزة ليست سوى أحدث تجليات هذا المختبر. لكن خصوصيتها أنها ليست مدينة ما بعد الكارثة فحسب، بل مدينة ما بعد الإبادة، مدينة تُبنى على حدود الأخلاق والسياسة، حيث يصبح الإعمار وعداً مشوباً بالخطيئة.
في النهاية، «المدينة الموعودة» ليست وعداً بالخلاص بل وعدٌ بالاستثمار. فهي تُبنى على أنقاض لم تُمحَ من الجغرافيا فقط بل من الذاكرة أيضاً. وكما يقول نيل سميث، «كل عملية تجديد حضري هي عملية استبدال اجتماعي» (Smith, 1996). في حالة غزّة، هذا الاستبدال لا يعني تغيير السكان فقط بل تغيير المعنى ذاته للمدينة. من فضاء للعيش المشترك، إلى مساحة مسوَّرة بالربح، من مأوى للذاكرة إلى منصة للعرض. إنها المدينة التي يُراد لها أن تنجو، لكن بالقدر الذي يجعلها مربحة.
الحياة بين الركام والكلمات: الإعمار كزمنٍ للعيش بعد العنف
في غزة اليوم، لا يبدو الإعمار فعلاً هندسياً بقدر ما هو فعل لغوي، محاولة للعثور على كلمات جديدة للعيش بعد أن خذلت اللغة نفسها. فالمجتمع الخارج من الحرب لا يرمم بيوته فقط، بل يحاول أن يعيد بناء معناه للعادي، لما يمكن تسميته «حياة» بعد أن فقدت الحياة يقينها. كما تبيّن فينا داس، فإن العنف لا يختفي بانتهاء الحرب، بل ينزل إلى عمق اليومي، إلى تفاصيل العيش التي تحمل آثار الصدمة في الكلام والنظرة والصمت. بهذا المعنى، يصبح الإعمار في مجتمع مصدوم ليس فقط إعادة بناء للمكان، بل اختباراً لقدرة البشر على استعادة العادي في زمن لم يعد يعرف العادية.
تعيش غزة بعد الحرب في منطقة رمادية بين الخراب والوعود. على السطح، تُعرض المشاريع والخطط الهندسية والتمويلات الدولية، وكأن الزمن عاد إلى الاستقامة. لكن تحت هذا السطح، يعيش الناس على حافة هشاشة دائمة: البيوت التي بُنيت بسرعة تُذكّر بما سقط، والطرق الجديدة تمرّ فوق أماكن لم تُمحَ من الذاكرة بعد. وكما تقول داس، فإن ما بعد العنف ليس مرحلة منسية، بل استمرارٌ له في شكل أكثر خفاء: حين يصبح الصمت نفسه نوعاً من الخطاب، وحين تتحوّل إعادة البناء إلى طقس للتغطية على الجرح لا لمداواته (Das, 2007).
الإعمار في غزة، إذن، هو لغة مزدوجة: لغة رسمية تتحدث عن الأمل والتنمية، ولغة يومية تتحدث عن النجاة، عن محاولة البقاء وسط عالمٍ فقد منطقه. في الأولى، تُقاس الأشياء بالأموال والعقود، وفي الثانية تُقاس بقدرة الناس على تحمّل الذاكرة. بين هاتين اللغتين تنشأ المفارقة الكبرى: كيف يمكن للمدينة أن تُبنى بينما لا يزال سكانها يعيشون في زمن الانهيار؟ كيف يمكن للإسمنت أن يعيد للناس الثقة في أرض كانت قبل شهور ساحة موت؟ إنّ الإعمار هنا لا يمحو الكارثة، بل يضيف طبقة جديدة من الغموض فوقها.
المجتمعات الخارجة من الصدمات الكبرى لا تعود ببساطة إلى «الوضع الطبيعي»، لأن العنف يتسرّب إلى اللغة نفسها التي نحاول عبرها وصفه. الكلمات التي تُستخدم لوصف الألم تصبح هي نفسها علامات على الفقد. في غزة، يظهر هذا التسرب في الخطاب العام عن الإعمار: فالكلمة نفسها، «إعمار»، تحمل وعداً بالحياة، لكنها في الوقت ذاته تذكّر بالموت الذي استدعاها. من هنا، يتحوّل الإعمار إلى مرآة للصدمة: كلما ازدادت المشاريع، ازدادت الحاجة إلى الكلام عنها، كأن البناء لا يكتمل إلا عبر تكرار سردية النهوض التي تُخفي تحتها هشاشة لم تُلتئم.
التقارير التي تُعدّها مؤسسات التمويل تتحدّث عن أعداد الوحدات السكنية، لكنها لا تعرف كيف تُحصي الغياب، ولا كيف تدرج الألم ضمن الميزانية
المدينة التي تعيش بعد الإبادة ليست جغرافيا فقط بل نصّ مفتوح من العلامات، تُكتب فيه الطبقات المعمارية فوق الطبقات النفسية. كل حائط جديد في غزة هو شاهدٌ مزدوج: على الرغبة في البقاء، وعلى استمرار الشرط الذي جعل البناء ضرورة. فالمجتمع الذي يُطالَب بالنهوض سريعاً هو نفسه الذي لم يُمنح وقتاً للحزن ولا مسافةً للتأمل. وكما تقول داس (Das, 2007)، «حين يطلب منك العالم أن تمضي قدماً، تظلّ الحياة مشدودة إلى ما لم يُقل بعد». في هذه المسافة بين القول والكتمان، بين الترميم والنسيان، يعيش الناس في ظلّ «الحياة بعد العنف» — حياةٌ لا تنفصل عن جرحها بل تتكيّف معه.
ما يجعل تجربة غزة فريدة هو أنّ الإعمار فيها يُدار بلغة تقنية باردة تحاول أن تُنظم الفوضى، لكن هذه اللغة نفسها عاجزة عن استيعاب ما هو بشري فيها. التقارير التي تُعدّها مؤسسات التمويل تتحدّث عن أعداد الوحدات السكنية، لكنها لا تعرف كيف تُحصي الغياب، ولا كيف تدرج الألم ضمن الميزانية. ومع ذلك، تستمر الحياة. الناس يعيدون بناء بيوتهم بوسائل بسيطة، يزرعون في الحديقة الصغيرة بقايا شجرة نجت من القصف، ويعلّقون على الجدران صوراً لبيوتهم القديمة. هذه التفاصيل الصغيرة هي «المكان الذي تعود فيه الحياة إلى العادي من دون أن تُشفى منه تماماً».
الإعمار في غزة، في جوهره، ليس حدثاً عمرانياً بل مسار أخلاقي. إنه سؤال عن كيفية العيش بعد أن تمّ تفكيك شروط العيش ذاتها. حين يختلط الأمل بالوجع، يصبح البناء فعل مقاومة لا ضدّ الدمار فحسب، بل ضدّ النسيان. لكن هذا البناء ليس نهائياً، بل هشّ كالحياة نفسها. فكما تقول داس، الحياة بعد العنف ليست استمرارية بسيطة، بل إعادة تشكيل للمعنى في عالمٍ تغيّر جذرياً. وهكذا، كل جدار يُقام في غزة هو محاولة لإعادة نطق ما لا يُقال: إن الحياة، على الرغم من كل شيء، ما زالت ممكنة، ولكن بثمن جديد.
ربما هذا هو الدرس الأعمق الذي تقدّمه غزة للعالم: أنّ الإعمار لا يُقاس بعدد الأبنية، بل بقدرة الناس على إعادة تعريف الحياة في مواجهة العبث. في المدن التي مرت بالعنف، لا يوجد «نهاية سعيدة» كما في خطاب المانحين، بل عملية بطيئة من التعلم على الكلام مجدداً، على تسمية الأشياء التي نجت من النار. وكما تكتب داس (Veena Das, 2007)، «أن نحيا بعد العنف يعني أن نصنع عالماً جديداً بالكلمات، لا بالجدران فقط». وفي هذه الكلمات، تُختصر مفارقة غزة: مدينة تُبنى بالحجر واللغة معاً، وكل حجر فيها يحمل صدى كلمة لم تُقل بعد.
المراجع
Agier, M. (2008). Managing the undesirables: Refugee camps and humanitarian government. Polity Press.
Appadurai, A. (1996). Modernity at large: Cultural dimensions of globalization. University of Minnesota Press.
Barnett, M., & Weiss, T. G. (Eds.). (2008). Humanitarianism in question: Politics, power, ethics. Cornell University Press.
Beck, U. (2007). World at risk. Polity Press.
Boltanski, L., & Chiapello, È. (1999). Le nouvel esprit du capitalisme. Gallimard.
Bourdieu, P. (1998). Contre-feux: Propos pour servir à la résistance contre l’invasion néo-libérale. Liber-Raisons d’agir.
Brenner, N., & Theodore, N. (Eds.). (2002). Spaces of neoliberalism: Urban restructuring in North America and Western Europe. Blackwell.
Brown, W. (2015). Undoing the demos: Neoliberalism’s stealth revolution. Zone Books.
Caldeira, T. P. R. (2000). City of walls: Crime, segregation, and citizenship in São Paulo. University of California Press.
Dardot, P., & Laval, C. (2009). La nouvelle raison du monde: Essai sur la société néolibérale. La Découverte.
Das, V. (1995). Critical events: An anthropological perspective on contemporary India. Oxford University Press.
Das, V. (2007). Life and words: Violence and the descent into the ordinary. University of California Press.
Debord, G. (1967). La société du spectacle. Buchet-Chastel.
Duffield, M. (2001). Global governance and the new wars: The merging of development and security. Zed Books.
Fassin, D. (2012). Humanitarian reason: A moral history of the present. University of California Press.
Ferguson, J. (1994). The anti-politics machine: “Development,” depoliticization, and bureaucratic power in Lesotho. University of Minnesota Press.
Foucault, M. (2004). Naissance de la biopolitique: Cours au Collège de France (1978–1979). Gallimard / Seuil.
Harvey, D. (2005). A brief history of neoliberalism. Oxford University Press.
Harvey, D. (2012). Rebel cities: From the right to the city to the urban revolution. Verso.
Hibou, B. (2011). La bureaucratisation du monde à l’ère néolibérale. La Découverte.
Lefebvre, H. (1970/1996). Le droit à la ville / Writings on cities (E. Kofman & E. Lebas, Trans.). Blackwell.
Li, T. M. (2007). The will to improve: Governmentality, development, and the practice of politics. Duke University Press.
Logan, J. R., & Molotch, H. L. (1987). Urban fortunes: The political economy of place. University of California Press.
Mitchell, T. (2011). Carbon democracy: Political power in the age of oil. Verso.
Rolnik, R. (2013). Guerra dos lugares: La colonisation de la terre et du logement à l’ère de la finance. Boitempo.
Sassen, S. (2001). The global city: New York, London, Tokyo (2nd ed.). Princeton University Press.
Smith, N. (1996). The new urban frontier: Gentrification and the revanchist city. Routledge.
Tsing, A. L. (2015). The mushroom at the end of the world: On the possibility of life in capitalist ruins. Princeton University Press.
Van Criekingen, M. (dir.). (2020). Le capital dans la cité: Une encyclopédie critique de la ville. Éditions Amsterdam.
Wacquant, L. (2009). Punishing the poor: The neoliberal government of social insecurity. Duke University Press.
Zukin, S. (2010). Naked city: The death and life of authentic urban places. Oxford University Press.