الأوضاع الصحيّة للنازحين: بين الضعف البنيوي والفشل الإداري
يرتّب النزوح الكثيف الناتج عن العدوان الإسرائيلي على لبنان تبعات صحيّةً، قد تتحوّل إلى مخاطر جديّة يصعب ضبطها في حال بقيت التدخّلات قاصرة عن احتوائها. فعلى الرغم من توقّع الازمة منذ بداية الحرب قبل اكثر من سنة، الا ان استجابة الحكومة اللبنانية لم تكن استباقيّة، وتشوبها عيوب جسيمة تزيد من المخاطر بدلا من تقليصها.
المشهد العام
تسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان بتهجير اكثر من 896,315 شخص داخل لبنان حتى 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وبحسب تقرير الأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع، لجأ 188,292 منهم فقط (نحو 21% من النازحين) إلى 1,016 مركز إيواء استحدثتها الحكومة اللبنانية في بعض مراكز التعليم والمباني الحكوميّة، وقد وصل نحو 90% منها إلى قدرتها الاستيعابية القصوى.
من الواضح ان الحكومة اللبنانية فشلت في التحضير للاستجابة لأزمة النزوح وفق الخطّة التي أعدّتها. فعلى الرغم من توقّعها تهجير 1.5 مليون شخصاً، لم تلحظ عدداً كافياً من مراكز الإيواء ولم تجهّز هذه المراكز باي خدمات سحتاج اليها النازحون داخليا، علما ان الغالبية العظمى من النازحين لم يلجأوا إليها أساساً.
أوضاع النازحين الصحيّة في مراكز الإيواء
حتى الآن، لم تنشر الجهات المعنيّة اي معطيات عن أحوال النازحين الصحية في مراكز الإيواء. لتوضيح الصّورة، أجرى موقع "صفر" مقابلتين مع منسقة الشؤون الاجتماعية في خلية الطوارئ في محافظة بيروت، د. سهير الغالي، ومع احد المسؤولين في الادارة الحكومية الذي فضّل عدم ذكر اسمه.
الاكتظاظ
يشكّل الاكتظاظ المعضلة الأكثر خطورة على صحّة النازحين. بحسب سهير الغالي. يتراوح عدد النازحين في كل مركز ايواء من مراكز بيروت بين 100 نازح في الحد الادنى و2,000 نازح (في مركز العازاريّة في وسط بيروت على سبيل المثال). يعود الاكتظاظ في منطقة بيروت إلى موجات التهجير العديدة من الضاحية الجنوبية للعاصمة وحاجة النازحين إلى البقاء قريباً من أماكن عملهم في بيروت ومحيطها. فمع غياب برنامج دعم مالي واسع وكافٍ للنازحين، قد يكون من الصعب إعادة توزيعهم إلى مراكز ايواء في مناطق أخرى بعيدة عن بيروت ومحيطها القريب، لان ذلك سيزيد من هشاشتهم الاقتصادية.
بحسب المسؤول في الادارة الحكومية، أعطيت كل عائلة نازحة غرفةً واحدةً بغضّ النظر عن حجم الغرفة وعدد افراد العائلة. وقد يتراوح عدد الافراد في الغرفة الواحدة من 4 إلى 15 شخصاً. ارتكز هذا الاجراء على معايير اجتماعية لابقاء العائلات مع بعضها، لكنّه يرتّب مخاطر صحيّة، اذ ان الاكتظاظ داخل الغرف يحدّ من القدرة على التباعد الاجتماعي، ويحفّز انتقال العدوى بين الأفراد، كما أنه يخفّض القدرة على الالتزام بممارسات النظافة الشخصية. فقد لوحظ مع بداية فصل الخريف تفشياً واسعاً للأمراض التنفسيّة الجرثوميّة خصوصاً بين الأطفال.
يشير المسؤول في الادارة الحكومية إلى عدم فرض معايير للنظافة على العائلات النازحة في مراكز الايواء. وقد أطلقت منظّمة "أطباء العالم" مبادرة لمعالجة تدهور معايير النظافة في هذه المراكز، اذ عرضت دفع 12 دولار يوميّاً للنازحين الذين يتطوّعون لتنظيف المراكز التي تأويهم. لكن إقبال النارحين على هذه المبادرة بقي محدودا، وفق ما ادلى به المسؤول نفسه، وبالتالي بقيت مسألة نظافة مراكز الايواء من دون حلّ قابل للتعميم.
الصرف الصحي
لم تجهّز الحكومة مسبقاً مراكز الايواء، ومعظمها مباني مدرسية غير صالحة للسكن، ولا سيما في مجال الصرف الصحي. فهذه المباني تفتقد إلى العدد الكافي من المراحيض وتجهيزات الاستحمام، علما انه كان امام الحكومة سنة كاملة لتقوم بذلك قبل ان تتفاقم أزمة النزوح مع تصعيد العدوان الاسرائيلي اعتبارا من منتصف ايلول/ سبتمبر الماضي.
يشير المسؤول في الادارة الحكومية إلى أن عمليّة تجهيز الحمامات وإمدادها بالمياه الساخنة من قبل منظمات غير حكوميّة قيد التنفيذ الآن، أي بعد شهرين على تصعيد العدوان وتوسّعه. لكن لا تمتد عمليّة التجهيز إلى سائر مراكز الإيواء، وتبقى المراكز في المناطق الريفيّة بشكلٍ خاص مهملة. كما أن عدد المراحيض المتوافرة غير كافٍ على المدى المتوسط. فعلى سبيل المثال، يستعمل 25 فرداً تقريباً مرحاضاً واحداً في مركز بئر حسن. وبحسب معايير المياه والصرف الصحي والنظافة المعتمدة من قبل منظمات الاغاثة الدولية، فان توفير مرحاض واحد على الاقل لكل 50 شخصاً في حالة الطوارئ هو مقبول لفترة مؤقتة يجب الا تتجاوز 6 اشهر. لكن على الادارة ان تخفّض هذا المعدّل في خلال هذه الفترة ليصل الى اقل من 20 شخصا، اذا كانت أزمة اللجوء طويلة الأمد.
تسبب غياب تجهيزات النظافة بظهور حالات جرب وقمل بين النازحين، لكن الرصد والمعالجة السريعة التي قامت به وزارة الصحّة حدّت من التفشي السريع في ظروف الاكتظاظ.
الغذاء
أكّدت د. الغالي ألّا نقصا فادحا في غذاء النازحين في مراكز بيروت، اذ يحصل 90% منهم على وجبة واحدة يومياً على الأقل. وتساعد المنظمات غير الحكومية والمبادرات الفرديّة في تأمين الغذاء إلى النازحين، فيما تبحث الحكومة في إنشاء مطابخ إجتماعيّة لتلبية الحاجات الغذائيّة. في المقابل، يعاني النازحين غير المقيمين في مراكز الإيواء من صعوبة الوصول إلى الغذاء الكافي، اذ يصعب على المنظمات غير الحكومية التعرّف عليهم والوصول إليهم.
ذوو الاحتياجات الخاصّة
يتفق المسؤول الحكومي والدكتورة الغالي على أن المسألة الأكثر تعقيداً في ادارة النزوح هي تلبية احتياجات الفئات الخاصة من النازحين، مثل الكبار في السن والأفراد ذوي الاحتياجات الخاصّة. فهم بحاجة إلى معاملة خاصة على الصعد كافّة: من تجهيز المراكز لتسهيل تنقّلهم فيها، إلى العلاجات الخاصّة التي يحتاجون إليها، وحاجتهم الى نظام غذائي خاص بهم.
تفتقد المراكز ووزارة الشؤون الاجتماعية إلى التجهيزات والموارد البشرية الكافية لتقديم الرعاية المتخصصة لهذه الفئات. على سبيل المثال، لا يوجد مراحيض يمكن للمقعدين أو العجزة استخدامها، كما لا يوجد علاجات للمصابين بالتوحّد، ولا يتوافر مقدمي رعاية للعجزة. وقد لاحظ العاملون الاجتماعيون تدهوراً جسديّاً وذهنيّاً حادّاً عند الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة، كما أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية حملة تطوّعية مع طلاب العمل الاجتماعي لتعويض النقص الحاد في اليد العاملة المتخصصة في رعاية هذه الحالات.
يعكس هذا النقص في خضم حالة الطوارئ النقص العام وطويل الأمد في الرعاية المتخصصة التي طالما عانى منها لبنان. إلّا أن النزوح الكثيف تسبب في تركيز عدداً كبيراً من هذه الحالات الخاصّة في مراكز بيروت، ويتمّ البحث حالياً عن حلّ عمليّ مثل إنشاء مركز يجمع الحالات الخاصّة بشكلٍ حصريّ.
الرعاية الصحية
ربطت وزارة الصحّة كل مركز إيواء بمركز رعاية صحيّة أوليّة، يؤمّن غالبيّة الأدوية لعلاج الأمراض المزمنة التي يعاني منها النازحين واللقاحات للأطفال، وتؤمّن أيضاً فحوصات مخبرية مجانيّة عند الحاجة. كما عمدت إلى نقل المصابين بمرض السرطان والفشل الكلوي إلى مراكز قريبة من مستشفى لتلقي علاجاتهم.
تعتبر هذه الإجراءات جيّدة لكنها غير كافية لأسباب عديدة. أولاً، تبعد مراكز الرعاية الأولية عن مراكز الإيواء، وقد تصل إلى اكثر من 20 دقيقة بالسيارة، ما يجعل البعض عاجزا عن الوصول إليها. ثانياً، يتفاوت توفّر الأدوية بين المراكز، اذ لا تحصل بعض المراكز، خصوصاً الريفيّة منها، على أي أدوية. ثالثاً، تبقى كل هذه الخدمات محصورة بالنازحين في مراكز الإيواء فيما يعاني حوالي 80% من النازحين الباقين من صعوبات عديدة في الوصول إلى الرعاية الصحية.
ولا يحصل النازحون على رعاية استشفائيّة طارئة في المستشفيات الحكومية أو الخاصة. فعلى الرغم من إعلان وزارة الصحة تكفّلها في تغطية الحالات الطبية الطارئة للنازحين، تطلب المستشفيات تكاليف إضافية تعجيزيّة خصوصاً إذا لم تؤد هذه الحالات الطارئة إلى دخول المستشفى. وقد أعلن وزير الصحة في 18 تشرين الثاني/نوفمبر أن وزارة الصحة سوف تتعاون مع 27 مستشفى حكومي و17 مستشفى خاص لتغطية 70% من فاتورة الرعاية الصحية الطارئة التي لا تؤدي إلى إدخال المريض النازح إلى المستشفى. لم تُنشر لائحة المستشفيات حتى اليوم. وقد حُدد مبلغ 50 دولار كسقف للتغطية، ما يطرح تساؤلات حول كفايتها لتغطية التكاليف العلاجية الطارئة. تجدر الإشارة أيضاً إلى غياب فادح لمشاركة القطاع الاستشفائي الخاص الذي كان يقدّم 85% من الخدمات الصحية قبل الحرب، فيما مشاركته في الاستجابة للأزمة اليوم محدوداً جدّاً.
الصحّة النفسية
تقديم الرعاية الصحية النفسيّة هي أيضاً من المسائل التي يصعب حلّها بحسب د. الغالي. فقد لاحظ العاملون الاجتماعيون بوادر فاشيّة في أمراض الصحّة التفسيّة بين النازحين، لا سيما حالات التوتّر والاكتئاب، خصوصاً عند الكبار في السن، والتبوّل اللاإرادي عند الأطفال، كما لاحظوا تفاقم الحالات المشخّصة مسبقاً.
يصعب تشخيص تفشّي الأمراض النفسية بين النازحين بسبب نقص حاد في الأطباء النفسيين وعلماء النفس. يُعتبر التأكد من التشخيص المسبق أساسيا لتفادي إعطاء بعض الأدوية التي قد تسبب أو تحفز الإدمان. ويُعتبر النازحون من أكثر الفئات عرضةً للأمراض النفسيّة الناتجة عن صدمات الحرب، والخوف من الاستهدافات، ووفاة المقربين، وخسارة المنازل، والأعمال.
تشير د. الغالي إلى تطوّع عالمة نفسيّة في إحدى المراكز، الا ان النازحين تحفّظوا على استشارتها خوفاً من البوح بمعلومات حساسة.
تشكّل الأمراض النفسية أزمة فعليّة ذات تبعات اجتماعية وصحيّة طويلة الأمد. ويسير النقص العام في الأطباء النفسيين في لبنان مع غياب التغطية الصحية للعلاج النفسي، ونقص في التوعية حول الصّحة النفسيّة.
أين الدولة من كلّ هذا؟
أسست الحكومة خليّة طوارئ لتنسيق أعمال الوزارات المختصة والجمعيات غير الحكوميّة للاستجابة للأزمات الناتجة عن الحرب. يعتبر هذا التنسيق أساسيا لترشيد استخدام الموارد واستخدامها على أوسع نطاق ممكن. لكن اللافت أن الغالبية الساحقة من الخدمات والمساعدات المقدمة إلى النازحين هي من قبل جمعيات غير حكومية ومبادرات فردية، فيما تقديمات الدولة تبقى محدودة جدّاً، على الرغم من توفّر الموارد المالية والمساعدات الدوليّة التي تصل إلى مطار بيروت.
واللافت أيضاً أن غالبيّة الصعوبات التي تواجهها إغاثة النازحين اليوم هي من المشاكل البنيويّة، التي طالما كانت موجودة في نظام الحماية الإجتماعيّة اللبناني، من التقشّف في الإنفاق العام إلى الاعتماد المفرط على المنظمات غير الحكوميّة والقطاع الخاص الذي يتوارى عن الأنظار في الأزمات الوطنيّة، وغياب أنظمة الرعاية للامراض المزمنة والصحّة النفسيّة.
تقول الدكتورة الغالي أن دور الدولة في إغاثة النازحين يقتصر على التنسيق. فيما يقول المسؤول الحكومي أن الكثير من المساعدات التي يلتقط المعنيون الصّور امامها في مطار بيروت لا تصل إلى مراكز الإيواء.
اظهرت السلطات الحكومية مهارة في إحصاء الوفيات والجرحى وتنسيق عمل المنظمات غير الحكومية، لكن فشلت في مواجهة التداعيات واكتفت بدور المراقب والمنسّق والمتسوّل لإغاثة 20% من النازحين فقط.