الإمبريالية والرأسمالية وحرب السابع من أكتوبر
تدور تلك الحرب الاقتصادية والجيوبوليتيكية على خلفية تراجع الهيمنة الأميركية اقتصادياً وعسكرياً (بعد المغامرات الفاشلة في العراق وأفغانستان). وهي كذلك تدور على خلفية الصعود المذهل للصين وجنوب شرق آسيا في مجمله.
ما نعيشه الآن في الشرق الأوسط هو صراع ضار، لإعادة ترتيب الأدوار ومستويات الهيمنة الإقليمية، فليست العربية السعودية والإمارات فقط هما اللتان تعيشان تحولاً كبيراً، بل يوجد هناك لاعبون كبار ومتوسطون آخرون كتركيا وإيران.
من الواضح للعيان أن الحرب الدائرة حالياً بين حماس وإسرائيل تختلف نوعياً عن سابقاتها في 2008 و2012 2014 و2021. كانت تلك حروب قصيرة وضحاياها قليلة نسبياً (6400 فلسطيني و300 إسرائيلي في مجمل الحروب الأربعة).
أما الحرب الحالية (والتي ما زالت مستمرة أثناء كتابة هذه السطور – نوفمبر 2024) فقد طالت 13 شهراً، ولا أحد يعلم إلى أي مدى ستستمر، ووصل ضحاياها من الفلسطينيين إلى أكثر من 40 ألف، هذا عدا التدمير الواسع للبنية التحتية والنزوح الواسع للسكان. وعلى الجانب الآخر فإن ضحايا الحرب من الإسرائيليين هم الأعلى على الإطلاق في سلسلة الحروب التي بدأت في 2008، حيث أن الهجوم الحمساوي على إسرائيل يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أسفر وحده عن 1200 قتيل و251 رهينة، هذا بالإضافة إلى 340 جندي إسرائيلي قتلوا أثناء المواجهات المستمرة حتى الآن.
وفقاً لهذه الأرقام فإننا بصدد أطول الحروب الإسرائيلية وأكثرها شراسة منذ نكبة 1948.
وفي ظني أن طول هذه الحرب وحجم ضحاياها يرجع إلى أسباب أبعد من الذعر الذي أصاب إسرائيل جراء نجاح عملية يوم السابع من أكتوبر، بل إنه جزء من استراتيجية إسرائيلية جديدة تختلف عن استراتيجيتها السابقة التي قامت على شن حروب دورية قصيرة هدفها تقليم أظافر حماس في إطار تصور أن في هذا الكفاية لحماية إسرائيل والحفاظ على هيبتها وهيمنتها على منطقة الشرق الأوسط؛ استراتيجية تتعلق بتغيرات طابع الرأسماليات العربية والرأسمالية الإسرائيلية، بل والرأسمالية العالمية بأسرها.
عن النفط وعوامل أخرى
أول ما يتبادر للذهن حين يأتي ذكر الحروب الإسرائيلية العربية هو ثلاثة عوامل رئيسية: حراسة النفط (مصدر الطاقة العالمي الأول)، وحماية طرق المواصلات، خاصة المضائق هرمز وباب المندب وقناة السويس (منافذ رئيسية لتوصيل الطاقة والسلع العالمية في مسارات تحقيق القيمة واستخلاص فائض القيمة)، وتثبيت أقدام إسرائيل في المنطقة (كلب حراسة الإمبريالية في الشرق الأوسط).
هذا صحيح تماماً. فالحروب النظامية التي دارت خلال السبعين عاماً ونيف بين دول الشرق الأوسط، وبينها وبين دول أخرى، كان لها علاقة مباشرة بهذه العوامل، بدءاً من النكبة، ومروراً بحروب 1956 و1967 و1973، وكذلك بحربي الخليج الأولى (1991) والثانية (2003)، حتى حرب الناتو على ليبيا في غمار ثورات الربيع العربي وحرب روسيا في سوريا لاسترجاع بشار الأسد إلى السلطة.
طول هذه الحرب وحجم ضحاياها جزء من استراتيجية إسرائيلية جديدة تختلف عن استراتيجيتها السابقة التي قامت على شن حروب دورية قصيرة
أما السبب في هذا فهو أولاً أن الشرق الأوسط هو مصدر الوقود الأحفوري الأول في العالم. فحتى يومنا هذا تظل المنطقة هي أكبر مصدر للنفط في العالم، هذا بالإضافة إلى أنها صاحبة أكبر مخزون عالمي منه (يصل مخزون العربية السعودية وحدها إلى ما يربو على 267 مليون برميل، ولا يسبقها في ذلك إلا فنزويلا). فإذا أضفنا إلى مخزون السعودية مخزون باقي دول مجلس التعاون الخليجي، تكون نسبة المخزون الشرق أوسطي حوالي 40% من المخزون العالمي.
أما فيما يتعلق بالغاز الطبيعي فإن نسبته الشرق أوسطية تصل إلى 23% من الإجمالي العالمي.
صحيح أن هناك قدر كبير من الخلاف على هذه النسب لأنها مثلاً لا تتضمن النفط الصخري المتركز في الولايات المتحدة، إلا أن الرخص النسبي للنفط الأحفوري والغاز وغير ذلك من العوامل يجعلون الشرق الأوسط هو مصدر الطاقة الأول في العالم.
ثانياً فإنه من الناحية الجغرافية، تعتبر منطقة الشرق الأوسط ممراً عالمياً حيوياً، ليس فقط بغرض تصدير النفط، ولكن بوجه عام كمعبر وسيط بين شمال أفريقيا وحتى آسيا.
وأخيراً، فإن إسرائيل وحمايتها تأتي في إطار أهمية العاملين السابقين، وذلك لأنها الدولة الوحيدة المتماسكة القادرة دومًأ على خوض حرب دفاعاً عن مصالح الرأسمالية العالمية.
الإمبريالية
لكن هذه العوامل الثلاثة، في نظرنا، ليست كافية وحدها لشرح السبب في خوض إسرائيل حرب بهذه الشراسة وهذا الطول. صحيح أنها تلعب دوراً شديد الأهمية في آخر الأمر، لكنها تلعبه في إطار عالمي يعيد تشكيل الرأسمالية العالمية وطبيعتها الجيوبوليتيكية. فلو وضعنا هذه الحرب في إطار الصورة الأوسع سنجد أن هذه العوامل – الماثلة والمستمرة – تدور على أرض تمر بمرحلة تحول كبرى.
وهذا ما يحيلنا إلى النظر بعض الشيء إلى الظاهرة المسماة بالإمبريالية.
كان ماركسيو الربع الأول من القرن العشرين قد دخلوا في جدال حول طبيعة الإمبريالية الرأسمالية التي أصبحت ظاهرة مسيطرة منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. كان الجدال والتنظير يدور بين لينين وروزا لكسمبورغ ورودولف هيلفردينغ ونيكولاي بوخارين وآخرين حول أسباب ومظاهر هذا التطور العالمي.
وقد عدد لينين خمسة عوامل تمثل بالنسبة له تلك الأسباب والمظاهر: أولاً، التعاظم في مركزة وتمركز رأس المال الذي أفضى بدوره إلى تكوين احتكارات كبرى تلعب دوراً رئيسياً في الحياة الاقتصادية؛ امتزاج رأس المال البنكي مع رأس المال الصناعي لتكوين رأس المال المالي (الأوليغاركية المالية)؛ اكتساب تصدير رأس المال، المتميز عن تصدير السلع، مكانة مركزية في عملية تراكم رأس المال على المستوى العالمي؛ تكون جماعات رأسمالية احتكارية على المستوى العالمي تقتسم العالم فيما بينها؛ تقسيم العالم بين الإمبرياليات الكبرى على المستوى الجيوبوليتيكي في شكل الاستعمار الكلاسيكي.
وفي الحقيقة، ورغم أن هذه العوامل الخمسة تكون موجودة، بعضها أو كلها، في البلدان الإمبريالية، إلا أن نقطة الضعف الرئيسية في هذه القائمة هي افتقارها إلى الرؤية الديالكتيكية واعتبار تلك العوامل كلها، بالضرورة، من لوازم الإمبريالية.
ولكن هذا غير صحيح، فإن كانت ألمانيا قد وجدت بها أوليغاركية مالية مسيطرة، فإن بريطانيا لم تكن كذلك، وإن كانت بريطانيا مصدرة لرأس المال على نطاق واسع، فإن ألمانيا افتقرت إلى هذه السمة نظراً لفشلها في استعمار جزءاً من العالم كونها دخلت عالم الإمبريالية متأخرة، وهكذا.
هنا تظهر أهمية التعريف الذي قدمه ديفيد هارفي للإمبريالية الرأسمالية على أنها هيمنة وسيطرة على المستوى العالمي لها جناحين: الأول اقتصادي عادي (التبادل اللامتكافئ)، والثاني جيوبوليتيكي وهو الهيمنة على الأرض والاحتكاكات العسكرية بين الدول الكبرى بطريق مباشر أو غير مباشر.
لقد خصمت سوريا والعراق من الحسبة تماماً، وتحولتا إلى ساحات للحروب الأهلية وعدم الاستقرار. أما مصر فرغم استمرار تماسكها فلم تستطع أن تنجح في تكوين مركز رأسمالي مستقل
ميزة هذا التعريف هي أنه يفرق بين مفاعيل عملية التراكم الرأسمالي على المستوى العالمي، وهي المفاعيل التي تسبب أشكالاً مختلفة من التبادل اللامتكافئ، وبين مفاعيل وأدوار الدولة والسياسة في توزيع ظاهرة الهيمنة على العالم بأشكال مختلفة.
هذا التعريف يترك الطريق مفتوحاً أمام سيناريوهات مختلفة لتكوين الإمبريالية وممارساتها على المستوى العالمي. فبينما مثلاً نجد الصين – حتى الآن – تعتمد على الجناح الأول للتعريف، نجد أن الولايات المتحدة استخدمت يدها العسكرية الخشنة في أكثر من منطقة عبر عمرها الطويل.
وهكذا فإن تعريف هارفي يسمح بتركيبات مختلفة من القوة الاقتصادية والسياسية، ويسمح بتغيرها عبر الزمن اعتماداً على أن الرأسمالية نظام ديناميكي لا يكف عن إعادة تشكيل نفسه مرة بعد مرة.
الإمبريالية الجديدة
الإمبريالية الجديدة، أو إمبريالية النيوليبرالية والتجارة الحرة كما أحب أن أسميها، تعتمد على عملية عالمية الطابع (بعد أن دخل الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الشرقية والصين السوق العالمية) هي تشكيل سلاسل لإنتاج القيمة وتحقيقها وتوزيع الأرباح، في إطار من سياسات محلية نيوليبرالية تفتح الأسواق السلعية والمالية.
فبعد انتهاء الحرب الباردة، وتصور البعض «الخاطئ» أننا نعيش عصر القطب الواحد، وعبر الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية، بدأ يتكشف الشكل الذي أخذته الإمبريالية في عصر النيوليبرالية.
تدور تلك الحرب الاقتصادية والجيوبوليتيكية على خلفية تراجع الهيمنة الأميركية اقتصادياً وعسكرياً (بعد المغامرات الفاشلة في العراق وأفغانستان). وهي كذلك تدور على خلفية الصعود المذهل للصين وجنوب شرق آسيا في مجمله.
وبسبب الفراغ الذي تركه تراجع الهيمنة الأميركية، فإن هذا سمح ليس فقط للصين بالصعود المذهل، بل كذلك فتح الباب أمام ميلاد روسيا جديدة أكثر قوة وأكثر استخداماً لذراعها العسكري في توسيع نطاق هيمنتها العالمية.
ليس هذا فقط، بل إن هذا السياق في مجمله قد سمح للإمبرياليات الإقليمية بالصعود ولعب أدوار غير منكورة في لعبة الهيمنة، غالبَا عن طريق الالتحاق بواحدة من سلاسل إنتاج القيمة وتحقيقها واستخلاص فائض القيمة العالمي.
على أن تلك الإمبريالية الجديدة تتشكل في سياق من الميل طويل الأجل لانخفاض معدلات الأرباح العالمية. وهذا ما يشرح ضراوة التنافس، التي ستتزايد في المستقبل، وما يشرح أيضاً ظاهرة أمولة (financialization) رأس المال العالمي، حيث أن الأمولة هي الوجه الآخر لانخفاض الأرباح، وبالتالي ميل الرأسماليين والاحتكارات الكبرى إلى الاستثمار في الأدوات المالية بدلاً من الاستثمار الصناعي. وفي هذا السياق، فإن عدم استقرار الرأسمالية يزيد مع تزايد أدوات الائتمان ومشتقاتها، مما يعني تبدلات سريعة في المواقع والأدوار على المستوى العالمي.
الإمبريالية الجديدة والشرق الأوسط
من الملحوظ أن الشرق الأوسط له سماته المحددة في شكل علاقته بالإمبريالية العالمية. فالى جانب دور النفط الجوهري حتى اليوم، نجد أنه من أقل المناطق في العالم نجاحاً في تطوير مراكز رأسمالية متقدمة (فيما عدا إسرائيل).
المتأمل لتاريخ الشرق الأوسط منذ السبعينيات وحتى الآن سيسهل عليه أن يرى أن الدول التي كانت صاحبة القوة الأكبر والاحتمالية الأعلى للتطور رأسمالياً كانت هي مصر والعراق وسوريا.
أما الآن فقد تبدل الوضع تماماً، فلقد خصمت سوريا والعراق من الحسبة تماماً، وتحولتا إلى ساحات للحروب الأهلية وعدم الاستقرار. أما مصر فرغم استمرار تماسكها فلم تستطع أن تنجح في تكوين مركز رأسمالي مستقل، ولهذا أسبابه التي لا مجال للحديث فيها الآن.
القوى الصاعدة الآن هي دول الخليج – بالذات العربية السعودية والإمارات وقطر – بجانب إسرائيل.
اعتمدت دول الخليج منذ نشأتها وتقسيمها على يد الاستعمار على النفط الأحفوري، أي على هبة من هبات الطبيعة وليس على التراكم الرأسمالي الموسع كغيرها من الدول.
ووفقاً لماركس فإن هبات الطبيعة تلك لها سعر ولكن ليس لها قيمة. بمعنى آخر، فإن امتلاك هبة من هبات الطبيعة على يد رأس المال الخاص أو العام لا يضيف قيمة (وفائض قيمة) إلى القيمة المنتجة في العالم، ولكن رغم ذلك فإنه لضرورته لعملية الإنتاج الرأسمالي يدخل مجال التبادل ويصبح له سعر، يزيد أو يقل بمقدار الطلب عليه. وهذا ما يفسر التباينات الضخمة في سعر النفط (وشبيهاته من السلع) بين فترة أو أخرى.
وبالنسبة للنفط بالذات، فإنه كهبة من الطبيعة يحتاج إلى قوة عمل محدودة جداً لاستخراجه واستخدامه. فكأنما شيوخ النفط قد كوفئوا بطريق الصدفة بسلعة ذات سعر عال دون الحاجة إلى الدخول في دورات التراكم الرأسمالي. وهذا مثل على التطور المركب واللامتكافئ الذي يعيشه عالم الرأسمالية بلا توقف.
على أي حال، فإن اقتصادات النفط الخليجية هي دول ذات خفة سكانية كبيرة، ولذا فقد اعتمدت على الطبقة العاملة الأجنبية لتبني نفسها. فنسبة السكان الأصليين إلى إجمالي السكان قليلة بشكل ملحوظ. ومن مفاعيل ذلك أن لعبت الإثنية والعنصرية دوراً مركزياً في سياسة الاستغلال الاقتصادي والسيطرة السياسية على الطبقة العاملة الخليجية.
في إطار المساعدات الغربية – الأميركية أولاً – أصبح من الصعب بمكان حل القضية الفلسطينية على غرار الحل الجنوب أفريقي، بل إن الأمر يحتاج إلى ثورة عربية شاملة ومنتصرة لتفكيك الدولة الصهيونية
لكن الأمور تتغير. فكما يطرح تقرير لصندوق النقد الدولي نشر في 28 سبتمبر 2023: «إن اقتصاد العربية السعودية يمر بعملية تحول، حيث أنه يضع موضع التنفيذ إصلاحات هدفها إنقاص الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل، وزيادة المنافسة».وهذا جزء من خطة محمد بن سلمان لتصنيع العربية السعودية، وهي الخطة المسماة «برؤية السعودية 2030».
ويبدو أن هذه الرؤية في طريقها إلى النجاح. حيث أن نسبة نمو القطاع غير النفطي في السعودية تجاوزت نسبة نمو القطاع النفطي منذ سنوات.
لكن رغم الاحتمالية العالية لنجاح سياسة التنويع، إلا أن التذبذب الكبير في أسعار وكميات إنتاج النفط (كنتيجة لتطورات الرأسمالية العالمية) يؤدي بدوره إلى تبدلات كبيرة في نسبة استخراج النفط وبيعه بين عام وآخر. ولذا فرؤية 2030 تخضع، في جانب كبير منها، ليس فقط إلى السياسات الجديدة للعربية السعودية، بل لظروف سوق الطاقة العالمية.
أما عن الإمارات، فهي في وضع مثيل للسعودية من حيث الرغبة في التنويع والإقلال من الاعتماد على النفط. لكن الفارق الوحيد – والكبير – هو أن دبي قد وضعت أقدامها بقوة كمركز مالي في السوق العالمية، في إطار عملية الأمولة الاقتصادية الجارية في العالم كنتاج لسياسات النيوليبرالية.
إذاً فإن ما نعيشه الآن في الشرق الأوسط هو صراع ضار، لإعادة ترتيب الأدوار ومستويات الهيمنة الإقليمية، فليست العربية السعودية والإمارات فقط هما اللتان تعيشان تحولاً كبيراً، بل يوجد هناك لاعبون كبار ومتوسطون آخرون كتركيا وإيران.
إسرائيل والإمبريالية والاستعمار الاستيطاني
تختلف دولة إسرائيل عن أي دولة أخرى في العالم. فهي دولة استعمار استيطاني تعيش في عصر لم يعد فيه مكان لمثل هذه الظاهرة. ومن الواضح طبعاً أن السبب في هذه الاستمرارية هو أنه في نماذج الاستعمار الاستيطاني الأخرى (جنوب أفريقيا مثلاً) كانت أغلبية السكان هي من السكان الأصليين، أما المستوطنين فهم كانوا أقلية، في إطار أن المستوطنين يستغلون السكان الأصليين كطبقة عاملة رخيصة.
أما إسرائيل، فهي على العكس تماماً. فقد اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على سياسة استبعاد العمال العرب واستقدام العمال اليهود. ولذا فلم يكن المشروع الإسرائيلي مشروع استغلال للأغلبية المحلية، بل على العكس كان مشروعاً للطرد والتهجير. وهذا ما نجد أثره في المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن وسوريا، بل وفي غزة الفلسطينية كذلك التي فر إليها أثناء النكبة جزء من سكان فلسطين التاريخية.
إسرائيل دولة دينية، سكانها من اليهود، والفلسطينيون بها مواطنون درجة ثانية. والخطة الإسرائيلية الثابتة (رغم عبث أوسلو وغيرها) هي طرد الفلسطينيين وضم جزء من الضفة الغربية.
في هذا الإطار، وفي إطار المساعدات الغربية – الأميركية أولاً – أصبح من الصعب بمكان حل القضية الفلسطينية على غرار الحل الجنوب أفريقي، بل إن الأمر يحتاج إلى ثورة عربية شاملة ومنتصرة لتفكيك الدولة الصهيونية.
لكن إسرائيل على جانب آخر هي من الاقتصادات المتقدمة في العالم، فترتيبها بين اقتصادات العالم هو الـ26 وفقاً لصندوق النقد الدولي, وذلك رغم أنها دولة قصيرة العمر وتمر بصراع استعماري ضار.
الدول التي كانت مرشحة للتقدم الرأسمالي، استبدلت بغيرها عبر السنوات الأربعين الماضية. وذلك في إطار تحالف استراتيجي بين إسرائيل والإمارات والسعودية بالذات
إسرائيل هي موطن مراكز أبحاث لـ«مايكروسوفت» و«آبل» و«غوغل» وغيرها من كبريات الشركات في العالم، وهي تركز نشاطها في القطاع التكنولوجي المتقدم.
وفي المقابل، كانت إسرائيل في بدء إنشائها «اشتراكية قومية» تتخذ من الكيبوتز نموذجاً لمراكز العمل والمعيشة، وتمتلك الدولة، ممثلة في الهستدروت والوكالة اليهودية والحكومة، أغلب منشآتها الصناعية والخدمية.
لكن بقدوم اليمين الإسرائيلي إلى الحكم – حزب الليكود – في 1977، بدأت التغيرات في الاقتصاد الإسرائيلي، بحيث أنها أصبحت الآن من أكثر الدول النيوليبرالية في العالم، مع بيع الهستدروت لممتلكاته، ومع تحرير التجارة، والخصخصة، وغيرها من سياسات التقشف التي سحبت مكتسبات الطبقة العاملة الإسرائيلية.
لكن رغم ذلك، أي رغم تحول إسرائيل من واحدة من أقل الدول تفاوتاً في توزيع الدخل بين سكانها اليهود إلى واحدة من أكثرها لا مساواة في العالم، إلا أن طبيعة استعمارها الاستيطاني الخاصة تضمن تماسكها داخلياً، بل وتحول سكانها إلى اليمين في اتجاه عداء أكبر للعرب والفلسطينيين. وهذا ما أثبته فشل عملية السلام واستمرار سياسات ضم الأراضي وبناء المستوطنات وغيرها من الظواهر.
اللاتساوي والرأسمالية الشرق أوسطية
رأينا كيف أن الدول التي كانت مرشحة للتقدم الرأسمالي، استبدلت بغيرها عبر السنوات الأربعين الماضية. وذلك في إطار تحالف استراتيجي بين إسرائيل والإمارات والسعودية بالذات. الإمارات كانت قد وقعت اتفاقية تطبيع للعلاقات مع إسرائيل في أغسطس 2020، وكانت العربية السعودية ستتبعها، لولا اندلاع الحرب الأخيرة.
لكن التقارب الإسرائيلي السعودي الإماراتي أقدم كثيراً من توقيع الاتفاقيات. وقد زاد التقارب بعد وصول محمد من سلمان ومحمد بن زايد إلى مراكز السلطة في السعودية والإمارات.
وفي تقديري أنه بالإضافة إلى الذعر الذي أصيبت به إسرائيل جراء أكبر عملية داخل حدودها منذ نشأتها (عملية السابع من أكتوبر)، السبب الأعمق والأكثر جوهرية لطول ووحشية الحرب، وللإصرار على تصفية المقاومة تماماً، هو تطور هذه المراكز الثلاثة للتراكم الرأسمالي غير النفطي، واعتقادها أنه لن يكون ممكناً الوصول إلى أهدافها الاستراتيجية على المستوى الاقتصادي، إلا إذا أعيد ترتيب منطقة الشرق الأوسط وإنهاء عصر التوتر والصراع الدائر بها.
تتطلع هذه الدول الثلاث إلى الالتحاق بالثورة الصناعية والخدمية الجارية حاليا عبر دخولها في سلاسل الإنتاج والتوزيع القائمة. إسرائيل تتطلع إلى الالتحاق بالسيليكون فالي في الولايات المتحدة كحلقة جوهرية ترتبط من ناحية أخرى العربية السعودية والإمارات وصولَا إلى الهند (التي يحكمها الآن حزب شبه فاشي والتي كذلك تنافس الآن كي تصبح مركزاً رأسمالياً متقدماً).
ولإحكام السيطرة، وتثبيت الأقدام بقوة، ترى إسرائيل، بل ودول الخليج في مجموعها، أن اللا تساوي العالمي، الذي يضع، بطريق الصدفة، وعلى يد القوة العسكرية، أهم مراكز الصناعات الإسرائيلية المتقدمة على بعد كيلومترات قليلة من غزة؛ أكبر سجن في العالم، نقول أن إسرائيل ترى أن هذا عامل يهدد بإفشال إندماجها في سلسلة الإنتاج المتقدمة التي قطعت فيها خطوات كبيرة، وذلك بطريق استخدام فقراء العالم وأقلهم تقدمَا لأسلحة الفقراء (مثل الدرونز) للهجوم على المضايق وطرق المواصلات، وتقطيع أوصال سلاسل إنتاج وتوزيع القيمة عالميا.
إن اللا تساوي العالمي ليس ظاهرة محدودة. القصة ليست قصة إسرائيل وغزة، بل علينا أن نضيف إليهم الحوثيين وحزب الله، وقبلهم جميعاً إيران. وفي هذا السياق فإن تشكل تحالف إمبريالي اقتصادي وسياسي كجزء من سلاسل إنتاج وتوزيع القيمة عالمياً ليست أبداً عملية سلمية. فبالإضافة إلى الخطط الطموحة للتصنيع في السعودية والأمولة في الإمارات، وبالإضافة إلى قوة قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل، لابد من خوض حروب الهيمنة، من اليمن إلى ليبيا إلى غيرها من البلدان.
استمرار هذه النيوليبرالية، بل واتساع نطاقها، يتطلب وجود فاعل سياسي قادر على قيادة الطبقات العاملة في اتجاه مقاومة ناجعة وذات شأن
هكذا يتفاعل جناحا الإمبريالية اللذان أشار إليهما ديفيد هارفي في محيط واسع من الاحتكارات ضارية التنافس.
لهذا بالضبط، فإن حرب غزة الحالية تأخذ شكل الإبادة الجماعية. ولهذا بالضبط تتكاثر الاحتكاكات والحروب والمناوشات في الجنوب العالمي، بل حتى في دول كروسيا وأوكرانيا اللتان لا تنتميان إلى هذا الجنوب المبتلى بالإفقار النيوليبرالي.
الطبقة العاملة والرأسمالية العالمية
يمر العالم الآن بأسوأ مراحله ربما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فبينما تعمل إمبريالية التجارة الحرة على نهب شعوب العالم، وبينما يحكم العالم مختلون كبوتين ومودي وترامب، وبينما تهدد النكبات المناخية الكوكب كله، نجد الرأسمالية العالمية، كنظام عالمي، مصممة أن تمضي قدمَا على طريق النيوليبرالية الذي صنع أكثر تفاوت في الدخول شهده العالم منذ ثمانين عامَا على الأقل.
السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو «كيف نقاوم؟»
إذا كانت أحوال الرأسمالية تصنع حركات مقاومة – حماس، الحوثيين، حزب الله – تعمل على تخريب المسار الرأسمالي، فهل هذا يكفي؟
تمثل النيوليبرالية هزيمة تاريخية لقوى العمل والإنتاج لصالح الرأسمالية الإمبريالية. هزيمة مستمرة منذ أربعين عاماً ونيف؛ هزيمة فشلت خلال سنواتها قوى العمل في الدخول إلى التاريخ كفاعل سياسي ذو مشروع استراتيجي لإنقاذ البشرية من الجنون الرأسمالي.
لكن استمرار هذه النيوليبرالية، بل واتساع نطاقها، يتطلب وجود فاعل سياسي قادر على قيادة الطبقات العاملة في اتجاه مقاومة ناجعة وذات شأن. وفي ظني أن شكل وحجم حركات المقاومة الحالي واستراتيجياتها ليس مهيئاً للعب هذا الدور. هذا بينما فقدت الطبقة العاملة صلتها بالسياسة – والسياسة الاشتراكية بالذات – لأسباب وعوامل ليس مكان مناقشتها الآن.
العمل على استعادة قوة الطبقة العاملة السياسة هو طوق النجاة من جحيم الرأسمالية. ولذا فعلى كل ساع إلى إنقاذ العالم من تناقضات وتفاوتات الرأسمالية أن يفكر ملياً ويعمل كثيراً على تحقيق هذا الهدف. فإما ما نحن فيه، وإما البربرية التي نرى أحد مظاهرها في صعود اليمين الذي نراه يتقدم أمام أعيننا عامَا وراء عام.
المصادر
Anne Alexander, Revisiting the dynamics of imperialism in the Middle East, International Socialism, issue 182
David Harvey, The new imperialism, Oxford University press
Guglielmo Carchedi and Michael Roberts, Capitalism in the 21 Century, Pluto Press
Israel’s Bonaparte, Catalyst magazine, Spring 2024
BBC, What is Hamas and is it fighting with Israel in Gaza, 21 October 2024
Worldometer, Oil reserves by country