معاينة خوارزميات مقاومة الإبادة: تيك توك VS نتنياهو

هكذا دواليك
خوارزميات مقاومة الإبادة: تيك توك VS نتنياهو

عندما يتحدّث بنيامين نتنياهو عن نموذج «إسرائيل-سبارتا»، بوصفها القوة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط والمتمتعة بقدرات تكنولوجية هائلة، فإنه يشير في الواقع إلى نموذج أصبح شبه معزول دولياً، ومتهماً على نطاق عالمي بارتكاب جرائم التطهير العرقي، ويعاني بشكل متصاعد من صعوبات في إيجاد أسواق وشركاء تجاريين. مع ذلك، لا يعني هذا الانعزال، بأي شكل من الأشكال، أن قدرة نموذج «إسرائيل-سبارتا» على شنّ الحروب وارتكاب المجازر قد ضعُفت أو تراجعت.

وفي دلالة واضحة على هذه العزلة، اختتم نتنياهو خطابه الأخير - أمام قاعة شبه خاوية من مندوبي الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم 26 أيلول/سبتمبر الجاري - بمزيد من الوحدة، ليدخل التاريخ - وفقاً لتقرير نشرته الصحيفة الإسرائيلية «جيروزاليم بوست» - كصاحب الخطاب الذي سجّل أعلى نسبة مقاطعة في تاريخ اجتماعات الجمعية العامة السنوية. 

غير أنه وجد لاحقاً جمهوراً مصغياً في جلسة حوارية خاصة جمعته بعدد من المؤثّرين الأميركيين الداعمين لإسرائيل. وهناك، تحدّث بارتياح عمّا يُثقل صدره من هموم، وأعرب عن قلقه البالغ من الحضور المتنامي للخطاب المناصر للفلسطينيين على منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما على «إكس» (تويتر سابقاً) و«تيك توك». إنّ ما يبتغيه نتنياهو، في جوهر الأمر، هو «عسكرة» هاتين المنصتين والهيمنة عليهما، بهدف القضاء على المحتوى المقاوم لعمليات الإبادة، الذي يشكّل أداة دعائية بالغة الفعالية تساهم في زيادة عزل «إسرائيل-سبارتا» التي يسعى إلى تشييدها على أنقاض الشعب الفلسطيني وبالعدوان على شعوب المنطقة من بيروت إلى دمشق وصولاً إلى الدوحة.

لا يعني هذا الانعزال، بأي شكل من الأشكال، أن قدرة نموذج «إسرائيل-سبارتا» على شنّ الحروب وارتكاب المجازر قد ضعُفت أو تراجعت

في خلال اجتماعه مع عددٍ من المؤثّرين، حدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رؤية حكومته لوسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها سلاحاً أساسياً مكمّلاً للجهود العسكرية، وذراعاً رئيساً لضمان قدرة إسرائيل على الحفاظ على دعم قاعدتها الأساسية في الولايات المتحدة الأميركية. يجب السيطرة على «تيك توك» ومن بعدها «إكس» والتحكّم بهما، هكذا حدّد أمر مهماته. وكان نتنياهو يشير في حديثه إلى القرار التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سيسهل عملية نقل ملكية «تيك توك أميركا» إلى تحالف من المستثمرين الأميركيين، يتقدّمهم رجل الأعمال لاري إليسون، المدير التنفيذي لشركة «أوراكل»، والمعروف بدعمه الكبير لإسرائيل وبنيامين نتنياهو شخصياً. كما يضم التحالف عائلة «موردوخ» صاحبة الإمبراطورية الإعلامية العملاقة التي تشمل قناة «فوكس نيوز» وصحيفة «نيويورك بوست»، والموالية بشكلٍ مطلق للسياسات الإسرائيلية. بالإضافة إلى مايكل ديل، مؤسس ورئيس شركة «ديل» للتكنولوجيا، والمعروف بدعمه الواسع لقدرات الجيش الإسرائيلي التقنية، خصوصاً في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والتجهيزات التكنولوجية.

يمثل هذا الحل، في جوهره، الخيارَ العملي لتجنّب حظر التطبيق في الولايات المتحدة الأميركية - وهو المشروع الذي بدأ في خلال فترة الرئيس جو بايدن - تحت ذريعة الحفاظ على الأمن الوطني الأميركي الذي تهدّده - وفقاً لهم - سيطرة شركة صينية على هذا الحجم الهائل من البيانات.

لماذا يريد ترامب ونتنياهو السيطرة على تيك توك أميركا؟ 

تعود جذور منصة «تيك توك» إلى العام 2017، عندما قامت الشركة الصينية «بايت دانس» (ByteDance) بدمج تطبيقي «Musical.ly» و«Douyin». وكان تطبيق «Musical.ly» مُتخصصاً في إنتاج ونشر مقاطع الفيديو القصيرة التي تتيح للمستخدم تصوير نفسه أثناء مزامنة الشفاه (Lip Sync) لأغنية أو مقطع من فيلم أو مسرحية أو حتى خطاب. ويمكن اعتباره أول تطبيق يعيد إنتاج تجربة «الكاريوكي» رقمياً وبشكل فردي. واستحوذت «بايت دانس» على هذا التطبيق في العام 2017 بصفقة بلغت قيمتها نحو مليار دولار. أما التطبيق الثاني Douyin، الذي أطلقته «بايت دانس» في السوق الصينية في العام 2015، فقد صُمم لنشر الفيديو القصير أيضاً وحقّق نمواً واسعاً داخل الصين.

وبهذا الدمج، وُلدت «تيك توك» كأول منصة غير غربية تخترق السوق العالمية لوسائل التواصل الاجتماعي بقوة، ووصل عدد مقاطع الفيديو التي تم تحميلها من التطبيق إلى نحو مليار فيديو بحلول العام 2018. كما قفز عدد المستخدمين النشطين شهرياً من 55 مليوناً في بداية العام 2018 (بعد الإطلاق العالمي) إلى أكثر من 500 مليون بحلول نهاية العام 2019، ووصل حالياً إلى نحو 1.6 مليار مستخدم نشط شهرياً، وهو لا يزال أقل من منافساتها مثل «إنستغرام» التي يبلغ عدد مستخدميها نحو 3 مليارات وفقاً لأحدث تقارير شركة «ميتا».

وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى من حيث عدد المستخدمين، إذ يتراوح عددهم بين 136 مليون و170 مليون مستخدم نشط شهرياً، ما يعني أن المنصة تصل إلى نحو نصف عدد السكان. وتأتي بعدها إندونيسيا في المرتبة الثانية بحوالي 108 ملايين مستخدم، ثم البرازيل (92 مليوناً)، فالمكسيك (85 مليوناً)، فباكستان (66 مليوناً). وتتصدّر مصر الدول العربية بحوالي 41 مليون مستخدم، محتلة المرتبة التاسعة عالمياً. أما في أوروبا، فيتجاوز عدد المستخدمين النشطين شهرياً الـ 200 مليون مستخدم. 

مستخدمو تيك توك في أميركا، من هم؟

بشكلٍ عام، يُعدُّ المراهقون والشباب الشريحة الأكثر استخداماً لمنصة «تيك توك» في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يشكل المستخدمون دون سن الـ34 ما يزيد عن ثلثي إجمالي المستخدمين الأميركيين (67%) في العام 2024.

خوارزميات مقاومة الإبادة: تيك توك VS نتنياهو

واللافت أن التوزيع الديموغرافي يُظهر ارتفاعاً ملحوظاً في نسب استخدام «تيك توك» بين الأميركيين من أصول لاتينية (49%) والأميركيين من أصول أفريقية (39%)، بالمقارنة مع نسبة 28% بين الأميركيين البيض. ويبرز الرقم الأكثر أهمية في نسبة الاعتماد على المنصة كمصدر للأخبار السياسية، إذ تشير البيانات إلى أن نسبة الأميركيين البالغين الذين يتلقون أخبارهم عبر «تيك توك» قفزت من 3% في العام 2020 إلى 20% في العام 2024. وبات 1 من كل 5 مواطنين أميركيين يعتمد على «تيك توك» كمصدر أساسي للأخبار.

وتكمن المفارقة في أن أكثر من 55% من إجمالي مستخدمي «تيك توك» الأميركيين يحصلون على معلوماتهم الإخبارية من المنصة، بالمقارنة مع 22% في العام 2020، ما يمثل أعلى معدل نمو مقارنة بمنصات أخرى مثل «فايسبوك» و«يوتيوب» وحتى «إنستغرام».

وبالتعمّق في التحليل الديموغرافي، نجد أن 43% من الأميركيين دون سن الثلاثين (أي 4 من كل 10) كانوا يستخدمون «تيك توك» للحصول على الأخبار في العام 2024، بعد أن كانت النسبة 9% فقط في العام 2020. أما فئة المراهقين (13-17 سنة) فتمثل الشريحة الأكثر استخداماً للتطبيق، إذ أظهرت البيانات أن 6 من كل 10 مراهقين أميركيين يستخدمون «تيك توك» بانتظام، مع تسجيل نسبة 16% منهم لاستخدام شبه دائم طوال اليوم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه النسبة ترتفع إلى أكثر من 25% بين المراهقين من أصول لاتينية وأفريقية، بالمقارنة مع 8% بين أقرانهم البيض. كما ترتفع نسبة الاستخدام بين المراهقين ذوي الميول الديمقراطية (76%) بالمقارنة مع نظرائهم الجمهوريين (43%).

تيك توك كساحة مقاومة 

بات تطبيق «تيك توك» ساحة رقمية فريدة للمقاومة والتعبير، حيث يتفوّق الخطاب الليبرالي والمناصر للقضية الفلسطينية بشكل لافت، بالمقارنة مع منصات التواصل الاجتماعي الأخرى. ففي حين تتصدّر الآراء اليسارية الليبرالية المشهد على التطبيق، تشكّل الرواية الفلسطينية ومناصروها الحصة الأكبر من المحتوى السياسي الدولي المنشور.

تُظهر البيانات هذا التفوق بشكل صارخ. ففي دراسة، قامت بها لورا إدلسون من جامعة نورث إيسترن في بوسطن، شملت أكثر من 280 ألف منشور من الولايات المتحدة بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024، سجّل المحتوى المناصر للفلسطينيين حوالي 170 ألف منشور، في مقابل 9 آلاف منشور فقط داعم لإسرائيل وحوالي 100 ألف منشور يمكن تصنيفهم محايدين. والأكثر إثارةً أن هذا المحتوى حصد 236 مليون مشاهدة، بينما لم يتجاوز المحتوى الإسرائيلي 14 مليون مشاهدة وحظي المحتوى المحايد بحوالي 492 مليون مشاهدة.

أدى هذا التأثير إلى حالة من الذعر في الأوساط الإسرائيلية والأميركية الموالية لها. فبينما حذّر الباحث شلومو مايتال، كبير الباحثين في معهد نيمان لدراسات البيانات، من أن إسرائيل تخسر «معركة السيطرة على جيل كامل من الأميركيين»، فهي قادرة على ردع صواريخ حماس لكنها أعجز من السيطرة على «تيك توك». ووصل الضغط إلى حد إرسال مذكرات دبلوماسية أميركية، تذكر برسالة إيمانويل ناحسون المسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتي تلقى باللوم على خوارزميات «تيك توك» في «تحريض الشباب الأميركي». ولم يعد الهدف خافياً، إذ اعترف السيناتور ميت رومني صراحة أن منع التطبيق يهدف إلى «الحد من الدعاية المناصرة للفلسطينيين في أميركا».

ترامب عبّر عن رغبته في تحويل مجمل المحتوى الذي تتم مشاركته عبر التطبيق إلى بروباغندا لمشروعه السياسي، قبل أن يتأسف عن عدم استطاعته القيام بذلك

رداُ على هذه الاتهامات، أشارت إدارة «تيك توك» إلى أن توجّهات الشباب الأميركي كانت منحازة للقضية الفلسطينية منذ العام 2011، أي قبل ظهور التطبيق نفسه، ما يبرئ خوارزمياتها التي تعكس ببساطة اهتمامات المستخدمين الحقيقية عبر صفحة «For You».

ما العمل؟

في حفل التوقيع على القرار التنفيذي الذي قضى بتحويل ملكية «تيك توك أميركا» إلى تحالف رجال الأعمال الأميركيين، لم يشارك أي ممثل عن شركة ByteDance الصينية مالك التطبيق كما لم يكن هناك أي حديث عن كلفة الصفقة ولم تجري أي تعديلات قانونية في الصين. إلا أن ترامب عبّر عن رغبته في تحويل مجمل المحتوى الذي تتم مشاركته عبر التطبيق إلى بروباغندا لمشروعه السياسي، قبل أن يتأسف عن عدم استطاعته القيام بذلك وإضراره بالتعاطي «العادل» مع الجميع. 

تبدو محاولة تحويل «تيك توك» إلى منصة للبروباغندا الأميركية-الإسرائيلية، كما هو مخطط له، تحدياً صعباً. فجوهر عمل هذه التطبيقات قائم على «الأثر الشبكي»، أي ضرورة تقديم محتوى يلاقي رواجاً بين المستخدمين لضمان استمرارهم على المنصة. إعادة برمجة الخوارزميات لن تكون كافية لوحدها لكبح جماح المحتوى الفلسطيني الذي يحظى بشعبية هائلة. كما أن التاريخ يُظهر أن المستخدمين، وخصوصاً جيل «زي»، لديهم مرونة كبيرة للانتقال إلى منصات بديلة إذا ما شعروا بتزييف حريتهم أو تحيز المنصة، ما قد يُفقد «تيك توك» الأميركي أهم أصوله: قاعدة مستخدميه النشطين.