معاينة منطقة ترامب الاقتصادية في جنوب لبنان:  التطوير العقاري كسياسة أميركية خارجية

هكذا دواليك
التطوير العقاري كسياسة أميركية خارجية
منطقة ترامب الاقتصادية في جنوب لبنان

لا يخفي الرئيس دونالد ترامب هوسه بالتطوير العقاري كمنطلق للنمو الاقتصادي والازدهار. فهو لا ينفك يُعرّف عن نفسه كأحد أقدر القادة على إتمام الصفقات بما يضمن سيناريو الفوز لجميع الأطراف. ففي لقائه برئيس الوزراء الكندي مارك كارني في آيار/مايو الماضي، وأثناء تكراره نيته بضم كندا إلى الولايات المتحدة كالولاية الـ51، شدّد على أن شخصية المُطوّر العقاري هي أكثر ما يمكن أن يعبّر عنه، وبناء على ذلك فإنه لا يرى أي جدوى من المحافظة على هذه الحدود «المصطنعة». وحصل الأمر نفسه في مفاوضاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا في 11 آب/أغسطس الحالي، إذ اعتبر أنه كمطوّر عقاري يعلم أهمية الأراضي التي تتمتع بإطلالة بحرية، ليُذكّر أنه في قاموس التطوير العقاري تعتبر هذه الأراضي من الأغلى والأهم، مشيراً بذلك إلى منطقة ماريوبول التي سقطت بأيدي القوات الروسية في نيسان/أبريل من العام 2022 بعد مقاومة شرسة استمرت لشهور. وهو ما حدث أيضاً في خلال نقاشاته مع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، حين أبدى إعجابه بالشواطئ الكورية وبقدرتها على استقطاب أكبر وأشهر المنتجعات السياحية في العالم. في السياق نفسه، يأتي هوسه بامتلاك غرينلاند التي يُعتقد أنها تصلح لتكون أحد أبرز الملكيات العقارية التي يتوجّب على الولايات المتحدة الاستحواذ عليها، كونها تقف شامخة في خرائط العالم. وهكذا، رأى في غزّة فرصة استثمارية كبرى ومشروعاً سياحياً على المتوسط. وقد انعكس هوس ترامب بالتطوير العقاري على اختياراته للمواقع القيادية في الإدارة، إذ سجّل واحدة من أعلى نسب تعيينات الأثرياء كموظّفين رسميين ووزراء، مع تركّز في تسمية أصدقائه من المطوّرين العقاريين في مواقع بارزة، مثل ستيفن ويتكوف موفده إلى الشرق الأوسط، ومساعده السفير فوق العادة في تركيا توماس برّاك، اللبناني الأصل، ومسؤول ملف سوريا الذي كُلف لاحقاً بمتابعة الملف اللبناني. بالإضافة إلى تشارلز كوشنر، والد صهره جاريد كوشنر، الذي عيّن كسفير في باريس وتسبّب مؤخراً بأزمة دبلوماسية مع الدولة الفرنسية.

فلا قيمة تاريخية ولا شعبية ولا سياسية للأراضي التي تتنازع عليها الدول، وحدها القيمة المضافة الاقتصادية التي يمكن استنباطها لهذه الأراضي هو ما يجب أخذه بالاعتبار

في ولايته الثانية، يرسي ترامب مقاربته الخاصة للعلاقات الدولية، التي ترتكز بشكل رئيس على رؤيته في مجال عقد الصفقات العقارية «الناجحة». وأصبح لهذه المقاربة دبلوماسييها المعيّنين مباشرة من قبله، خصوصاً أت الرجل اتخذ قراراً بإنهاء خدمات 1,350 موظف من وزارة الخارجية في خطوة وصفت بأنها تهدف لإطباق سلطته على البنية البيروقراطية للوزارة وتطهيرها من الدولة العميقة الأميركية. بالنسبة إليه، وتحديداً خارج حدود الولايات المتحدة ومناطق نفوذها الإستراتيجية، وإسرائيل ضمناً، هو لا يعترف بالحدود القائمة بين الدول إلا بما يتماشى مع معايير الربح والخسارة كما يحدّدها. فلا قيمة تاريخية ولا شعبية ولا سياسية للأراضي التي تتنازع عليها الدول، وحدها القيمة المضافة الاقتصادية التي يمكن استنباطها لهذه الأراضي هو ما يجب أخذه بالاعتبار. هكذا، وفي مختلف الصراعات التي تدخّل بها (الهند/باكستان، إيران/إسرائيل، أرمينيا/أذربيجان، والصراع العربي الإسرائيلي تحديداً في غزة ولبنان)، كان يحاول إفهام الجميع، وإن بنسب متفاوتة، بأن «العقاروية السياسية» هي المخرج الأفضل، مع التشديد على مبدأ أن عليهم  تفادي إغضاب الرجل الذي يستطيع أن يدير العالم من خلال التغريدات على منصّة التواصل الاجتماعي الخاصة به. فهو وحده من يستطيع تحريك الأساطيل وشنّ الغارات كوسيلة ضغط قصوى على الأطراف التي يفاوضها، بما فيه مصلحة أميركا أولاً. وكما يراها حصراً. من هذا المنطلق، ما يزال يحاول فرض اتفاق بين روسيا وأوكرانيا يقضي بتنازل فولوديمير زيلينسكي عن حوالي 20% من مساحة أوكرانيا، تضم منطقة الدونباس ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة من حيث البنية الصناعية والموارد الطبيعية، في مقابل حصوله على بضعة أراضي بحرية وإيقاف الحرب. وينسحب الأمر نفسه على الحلّ الذي قدّمه توماس برّاك للأزمة بين أرمينيا وأذربيجان، إذ لا يخرج عن هذا المنطق. والواقع أن الحل الذي سوّقه ترامب للنزاع يقوم على إقامة ممرّ بري، طريق ترامب الدولي للسلام والازدهار، عبر الأراضي الأرمنية ويربط بين المنطقتين الأذربيجانيتين. وقد تعهّدت أرمينيا بمنح حق التطوير العقاري على امتداد المنطقة إلى الشركات الأميركية. ويدخل هذا المخرج في صلب مقاربة ترامب، الغارقة في إيديولوجيا السوق، للدول وأراضيها ومصالحها الوطنية كملكيات عقارية صرف. إلا أن معادلة ترامب السحرية لم تنجح في كلّ مكان، فهو عجز عن الوصول إلى حل مع كوريا الشمالية، وفشل في إتمام صفقة القرن التي عرضها في العام 2020 وقضت بتبادل بعض الأراضي بين الإسرائيليين والفلسطينيين واعتماد منطقة «أبو ديس» عاصمة فلسطينية بديلة عن القدس.

جنوب لبنان كمساحة عقارية

حطّت المقاربة العقارية لإدارة ترامب رحالها مؤخراً في جنوب لبنان. ففي معرض الحديث عن الردّ الإسرائيلي على الورقة التي وقّعتها الحكومة اللبنانية فيما يتعلق بحصر السلاح في أيدي الأجهزة العسكرية والأمنية الشرعية واستكمال تحرير الأراضي اللبنانية وعودة الأسرى، أتى توماس برّاك بمقترح إقامة منطقة ترامب الاقتصادية على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. وبعد حديثه الإشكالي عن احتمال عودة لبنان الى بلاد الشام والتوضيحات التي قدّمها لاحقاً، يأتي دور المناطق الحدودية في جنوب لبنان. إذاً هو يقدّم مخرجاً يرى فيه مصلحة للجميع بمن فيهم بيئة حزب الله، كما حاول تسويق مقترحه كتعويض اقتصادي مباشر لثنيهم عن تموضعهم السياسي.

يعيد المطوّر العقاري توم برّاك إنتاج مواقف سموتريتش الترانسفيرية ولكن بإطار «اقتصادي تنموي» يدّعي عبره إمكانية الوصول إلى سيناريو رابح للجميع

يتقاطع هذا المقترح مع الخطّة الإسرائيلية التنفيذية لتهجير سكّان المنطقة الحدودية اللبنانيين، والتي عبّر عنها صراحة وزير المالية بتسلئيل سموتريش الذي جزم بعدم الإنسحاب من جنوب لبنان واستحالة السماح بإعادة إعمار المنطقة الحدودية. هكذا، يعيد المطوّر العقاري توم برّاك إنتاج مواقف سموتريتش الترانسفيرية ولكن بإطار «اقتصادي تنموي» يدّعي عبره إمكانية الوصول إلى سيناريو رابح للجميع. وإذا ما صحّت التسريبات عن أنه لن يُسمح بملكية فردية لتلك الأراضي، يصبح الخيار الوحيد المتاح للجنوبيين هو أن يعودوا لقراهم كأُجراء عاملين في منشآت اقتصادية تُبنى على أملاكهم بعد أن طردتهم إسرائيل منها وسلبتهم إياها أميركا بحجة التطوير العقاري والدفع نحو النمو والازدهار. تطرح «العقاروية»، إذاً، كحل لمسألة شديدة التعقيد كالصراع اللبناني الإسرائيلي. للفكرة جذورها في صفقة القرن، فمشروع ترامب العقاري الأكبر الذي فشل، والذي كان يطرح مبدأ السلام في مقابل الازدهار الاقتصادي، يقتصر على إنشاء مجموعة من المصانع والمنشآت الاقتصادية، التي يسمح للفلسطينيين  بالعمل فيها كأُجَراء.

توجد مشكلة متعدّدة المستويات في طرح برّاك، فهو من جهة يتعاطى مع حق اللبنانيين بالدفاع عن أرضهم والمتجذر في تاريخهم منذ الحرس الشعبي في الخمسينيات من القرن الماضي، باعتباره خياراً وظيفياً، وكأنهم حملوا السلاح كبديل عن غياب التنمية الاقتصادية وليس للدفاع عن وجودهم على هذه الأرض. وهو من جهة أخرى يحاول، مدفوعاً بالمقارنة «العقاروية» للسياسة، أن يمارس فعلاً يشبه إلى حد كبير المنطق الإقطاعي حين قام بحركة طرد السكان من الأراضي الزراعية - حركة التطويق  الاقطاعية - بعد أن اكتشف معايير استغلال أكثر ربحية في ظل التحولات الصناعية.  هو إذاً، شكل من أشكال التراكم البدائي، بالمعنى الماركسي، لصالح القيمة الأكثر مردودية لهذه الأرض والمرتبطة حصراً بتحقيق أمن الحدود الإسرائيلية. فالجنوب بالنسبة إليه، ليس أكثر من غلاف حدودي ذو وظيفة أمنية، وكما في مختلف التجارب السابقة، يبيع برّاك أوهاماً بالنمو الاقتصادي والازدهار يُغلف بها الجوهر التهجيري لمقاربته. 

لا يمكن القفز عن حقيقة وجود تيار في المشهد اللبناني، يمكن تسميته اصطلاحاً بـ«أورتيغاس Boys»، تيمناً بـ«شيكاغو Boys»، يجمع بين السياسيين والاقتصاديين وكبار المموّلين، ويريد أن يفرض رؤيته على الدولة نفسها قبل أي طرف آخر

وظيفة الحكومات

لمن ستكون السيادة على هذه المنطقة؟ وهل ستوافق إسرائيل على حصر استعمال السلاح فيها بأيدي الشرعية اللبنانية أم تريد أن تشاركها في هذا الحق؟ كيف تنظر الدولة اللبنانية لهذا الأمر؟ لا نعلم تحديداً،  لكن الواضح أن لتصريح ليندسي غراهام، المرافق لبرّاك، من على منبر القصر الجمهوري بُعداً ترهيبياً واضح. إذ عبّر غراهام عن شكل من الاستياء من كلامٍ سمعه من مضيفه عن تمسّك الدولة اللبنانية بحقّها بتحرير الأراضي التي تحتلها إسرائيل وتوسّع رقعتها بشكل يومي. عبّر غراهام بشكل واضح ومباشر عن الوظيفة  التي  حدّدتها الإدارة الأميركية للدولة في لبنان، والتي تقوم على نزع السلاح الذي وصفه «كعدو للشعب الإسرائيلي» وبشكل منفصل عن بقاء الاحتلال أو أي أمر آخر. فقد كان ممتعضاً من وضع مسألة تحرير الأرض اللبنانية على طاولة المفاوضات. فهذا ليس مطروحاً. ولم يأتِ ليفاوض بقدر ما أتى ليضع شروط إعادة إنتاج وظيفة الدولة بعيداً من دورها في صون السيادة وحفظ المجتمع وتأمين العيش الكريم له.  وهذا إن دل على شيء، فهو مؤشر لجوهر العقل الاستعماري الأميركي، الذي لا يستطيع اليوم تحمّل أي فكرة حول حق الشعوب بالسيادة على أراضيها. ولم يكتف غراهام بذلك، بل ذهب بعيداً، حين طرح فكرة توقيع معاهدة دفاع مشترك. هي الوظيفية إذا، تأتي لتستكمل المقاربة «العقاروية». ويطرحها الأميركيون في معرض سعيهم لإعادة تشكيل علّة الدولة، تحديداً في الدول المحاذية لإسرائيل. في السياق عينه، كان لافتاً توجّه أورتيغاس بالتهنئة لحاكم مصرف لبنان، في خلال العشاء الذي سبق الزيارات السياسية، على جهوده الكبيرة في الشأن المالي. لكن لم يأتِ هذا الثناء تقديراً لجهوده في النهوض مالياً ونقدياً بالبلد، بقدر ما كان لدوره، والحديث لأورتيغاس، في مساعدة الإدارة بتنفيذ رؤيتها المتعلقة بالإطباق المالي على حزب الله بشكل خاص. اللافت أن كريم سعيد نفسه كان اقترح في أيلول/سبتمبر من العام الماضي إقامة منطقة عازلة خالية من السلاح  تمتدّ من نهر الدامور حتى الحدود مع فلسطين المحتلّة كمخرج للحل. وفي هذا السياق، لا يمكن القفز عن حقيقة وجود تيار في المشهد اللبناني، يمكن تسميته اصطلاحاً بـ«أورتيغاس Boys»، تيمناً بـ«شيكاغو Boys»، وهم مجموعة من الاقتصاديين التشيليين الذين درسوا في جامعة شيكاغو، وأعادوا تشكيل اقتصاد الدولة في التشيلي في السبعينيات. يجمع هذا التيار في لبنان ما بين السياسيين والاقتصاديين وكبار المموّلين، ويريد أن يفرض رؤيته على الدولة نفسها قبل أي طرف آخر. ولهذا بحث وتحليلٌ آخر.

جوهر العقل الاستعماري الأميركي، لا يستطيع اليوم تحمّل أي فكرة حول حق الشعوب بالسيادة على أراضيها. ولم يكتف غراهام بذلك، بل ذهب بعيداً، حين طرح فكرة توقيع معاهدة دفاع مشترك. هي الوظيفية إذا، تأتي لتستكمل المقاربة «العقاروية»

المعركة اليوم، هي الدفاع عن حق الدولة باحتكار سيادتها على كامل أراضيها وضمان حقوق مواطنيها وحماية أمنهم وممتلكاتهم الخاصة. وهذا ما لا يشكّل بنداً من بنود وظيفة الدولة كجهاز بيروقراطي وأمني وعسكري تريد الإمبراطورية الأميركية إعادة تعريف وظيفته بناء على مصالحها ومقاربتها «العقاروية».