معاينة children protest lebanon

كيف يبدو مستقبل أطفال لبنان بعد عقدين؟

يدخل أطفال لبنان عالم 2050 من باب ضيّق، ليس لأن بلدهم يفتقر إلى القدرات البشرية – فهو كان يوماً أحد أكثر البلدان تعليماً في المنطقة – بل لأن المسار البنيوي جعل الطفولة اللبنانية تقف على تقاطع ثلاث قوى جارفة: انكماش ديموغرافي غير مسبوق، مخاطر مناخية متفاقمة لا قدرة للمؤسّسات على التعامل معها، وتقدّم تكنولوجي عالمي سريع مقابل بنية تحتية وطنية متآكلة. 

هذه ليست «مخاطر مستقبلية»، بل حقائق بدأت تتكوّن منذ سنوات، وباتت تُشكّل الإطار الذي سيحدّد فرص أطفال لبنان في البقاء والتعلّم والنجاة من الفقر والنزاع. بحسب التقرير الأخير الصادر عن منظمة يونيسيف بعنوان «مستقبل أطفال لبنان»، الذي يصيغ صورة قاتمة عن المستقبل مفادها أن لبنان يتّجه نحو نقطة انعطاف ديموغرافية–اجتماعية، لن يكون ممكناً بعدها ترميم ما يتداعى إلا بتحويل جذري في السياسات. وبحسب تقرير يونيسف، لا يتحدّد مستقبل أطفال لبنان بالظروف الخارجية وحدها، بل بتفاعل هذه الظروف مع بنية داخلية مأزومة، ومؤسسات تتراجع قدرتها على العمل، ومجتمع يواجه ثلاثة عقود من التآكل الاقتصادي والاجتماعي.

infog

1. لبنان خارج عالم متغيّر

تتسارع ثلاث موجات عالمية ستحدّد شكل الطفولة في العقود المقبلة: الموجة الديموغرافية، والموجة المناخية، والتحوّل التكنولوجي. وعلى الرغم من أن هذه التحوّلات تشمل كل دول العالم، إلا أن أثرها يصبح مضاعفاً في دولة هشّة مثل لبنان، حيث تتراجع المؤسّسات، وتتآكل البنى التحتية، وتتسع الفجوات الاجتماعية والاقتصادية.

تبدو الموجة الديموغرافية الأكثر تأثيراً على لبنان. هبط معدّل الخصوبة في لبنان من 2.5 طفل لكل امرأة في العام 2000 إلى 1.6 في العام 2025، مع توقّعات بأن يواصل الهبوط حتى 1.24 في العام 2050. في المقابل ارتفع متوسط العمر الوسيط من 23 سنة في العام 2000 إلى 28.6 سنة في العام 2024، مع ارتفاع نسبة من هم فوق 65 عاماً إلى 10%. وهذا التحوّل، الذي لا يشبه البلدان العربية الشابة بقدر ما يشبه دولاً تشيخ سريعاً مثل كوريا الجنوبية وإيطاليا. ويترافق هذا الواقع مع هجرة شبابية واسعة. صحيح أن الهجرة ليست ظاهرة جديدة في لبنان ولكن مستواها الحالي تحوّل إلى نزيف بنيوي. في الخلاصة، وبحسب يونيسيف، كل طفل في العام 2050 سيعيش في مجتمع أقل إنتاجية، وأقل قدرة على التمويل، وأكثر عرضة لشيخوخة لا يملك مؤسسات قادرة على خدمتها. 

الموجة المناخية ليست أقلّ قسوة. فبحسب المؤشر العالمي لمخاطر المناخ على الأطفال، يصنَّف لبنان ضمن البلدان ذات الخطر «الشديد جداً» لجهة ندرة المياه، بدرجة 9.4 من أصل 10. تترافق هذه الندرة مع ارتفاع حرارة غير مسبوق، حيث يُتوقَّع أن تصبح 65% من أيام السنة «شديدة الحرارة» بحلول نهاية القرن. ويمهّد ذلك إلى انتشار أمراض منقولة بالحشرات، وزيادة حالات الجفاف، وتدهور نوعية الهواء والمياه، ما يجعل الأطفال – الأكثر حساسية بيولوجياً – الحلقة الأضعف في سلسلة هشّة بالأساس. غير أن المشكلة ليست في المناخ وحده، بل في منظومة غير قادرة على إدارة المياه، ولا على حماية الغذاء، ولا على مواجهة الصدمات البيئية، ما يحوّل كل موجة حرّ أو كل موسم شحّ أمطار إلى أزمة إنسانية.

أما الموجة التكنولوجية، فتكشف مفارقة لافتة: لبنان هو بلد يتمتع بتغطية 4G تقارب 92%، لكنّه غير قادر على الاستفادة منها بسبب انقطاع الكهرباء، وارتفاع كلفة الاتصال، وتراجع التمويل في المدارس الرسمية ما يمنع أي استثمار حقيقي في التعليم الرقمي. إلى ذلك، تحتل البلاد المرتبة 105 عالمياً في الجاهزية للذكاء الاصطناعي، وهي مرتبة متدنية للغاية، ما يعني أن التكنولوجيا التي يفترض أن تكون فرصة للّحاق بالعالم ستصبح سبباً إضافياً لاتساع الفجوة بين من يستطيع الوصول إلى المعرفة ومن يُقصى عنها. 

2. طفولة تحت الضغط

تُظهر البيانات الصحية التي تعرضها «يونيسيف» تراجعاً خطيراً في المؤشرات التي كانت تُعتبر إنجازات ثابتة، ففي غضون 5 سنوات فقط تراجعت المكاسب المحقّقة على مدى 40 عاماً: ارتفع معدّل وفيات الرضّع، الذي كان 7 لكل ألف ولادة في منتصف العقد الماضي، إلى 11 في العام 2023. وهذا الارتفاع ليس مجرد رقم، بل انعكاس لانهيار منظومة الرعاية الأولية، وتراجع اللقاحات، وتدهور الأمن الغذائي. إلى ذلك، تشير سيناريوهات 2050 إلى أنه في حال استمرار الوضع الحالي، ستبقى نسبة نجاة الأطفال محدودة، كما سيتراجع العمر المتوقع عند الولادة إلى 83 سنة للنساء و79 سنة للرجال. وهذا يخفي فجوة ضخمة في جودة الخدمات الصحية، وفي العدالة في الحصول عليها، وفي القدرة على منع الوفيات الناتجة عن أمراض يمكن علاجها بسهولة.

في التعليم، تظهر الصورة الأكثر قتامة. فالمدرسة التي كانت تمثّل «شبكة الأمان» الوحيدة للأطفال، تحوّلت إلى مساحة غير مستقرة. أدّت الأزمات المتتالية – الاقتصادية، الوبائية، والعدوان الإسرائيلي الأخير – إلى تعطّل التعليم لأكثر من نصف مليون طفل. وبدأت الأسر، تحت ضغط الفقر، إخراج أطفالها من المدرسة لإشراكهم في سوق العمل. 16% من الأسر اعترفت بأن أطفالها اضطروا للعمل للمساعدة في الدخل. وهذا الانقطاع لا يعني فقدان سنة دراسية فقط، بل انهيار مسار حياة كامل، خصوصاً أنه يترافق مع انهيار قدرة المدارس الرسمية وهجرة الأساتذة نتيجة تآكل الرواتب بحكم الأزمة الاقتصادية.  إلى ذلك تظهر توقعات العام 2050 فجوة خطيرة في فرص التعلّم: ففي حال بقاء الوضع على حاله، ستبقى نسبة الشباب الذين لا يتجاوز تحصيلهم المرحلة الابتدائية عند 11%، وهو المستوى الحالي، أما نسبة الذين سيصلون إلى التعليم العالي فلن تتجاوز 37%. ويعني ذلك أن لبنان، في حال لم يغيّر مساره، سيتجه نحو مجتمع غير متعلم، ما سيعيد إنتاج مجتمع يعاني من فقر معرفي، وفجوة مهارية لا يمكن لأي اقتصاد أن ينهض معها.

الفقر نفسه لم يعد ظاهرة عابرة بل أصبح حالة بنيوية. تشير تقديرات 2022 إلى أن 44% من السكان يعيشون تحت خط الفقر النقدي. وبحسب التوقعات التي يرسمها التقرير، قد ينخفض هذا المعدّل إلى 19% في أفضل الحالات بحلول 2050، أو يرتفع إلى أكثر من 50% إذا استمرّ الوضع الحالي. مع ذلك، تعد مسألة الفقر في لبنان خطيرة للغاية لأنها لا تنحصر بفقر الدخل فقط، بل تتقاطع مع انهيار الخدمات ولا سيما التعليم والصحة والمياه والكهرباء والحماية الاجتماعية، ما يخلق شكلاً مركباً من الحرمان يصعب فصله. فالنظام الاجتماعي الذي تطوّر بعد أزمة 2019 هو نظام هش وبطيء ولا يزال غير قادر على التحوّل إلى حماية حقيقية بسبب البرامج المتفرقة ضعيفة التمويل وغير المؤاتية للأطفال. 

تضيف الحرب طبقة إضافية من الهشاشة. لقد أدّى العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ أواخر 2023 إلى نزوح واسع، وتوقّف المدارس، وتدهور البنية الصحية والمائية. وحتى بعد وقف إطلاق النار، بقيت آثار النزاع واضحة على الأطفال، سواء من خلال اضطراب الصحة النفسية، أو من خلال الانقطاع التعليمي لدى أكثر من 50% من اللاجئين، أو من خلال الخوف المستمر من تجدّد المواجهات نتيجة استمرار إسرائيل بخرق اتفاق وقف إطلاق النار. في النتيجة، لا ينتهي النزاع عند حدود الخط الأزرق، إنه يؤثر على كل مناطق البلاد من خلال تعطيل الاقتصاد، وإضعاف الدولة، واستنزاف الموارد.

3. ثمن التقاعس 

على الرغم من أن مستقبل لبنان ليس قدراً محتوماً، إلا أن الاتجاهات الحالية تشكّل مساراً واضحاً نحو انهيار طويل المدى. ففي حال استمر المسار الحالي، سيعيش أطفال لبنان بعد نحو عقدين في مجتمع قليل الإنجاب وكثير الشيخوخة، كون الهرم السكاني يتّجه نحو الانقلاب، وسيصبح عدد المسنين أكبر من قدرة المجتمع على رعايتهم. كما سيعيشون في ظل نظام تعليمي شبه منهار يتحوّل إلى منظومة تعجز عن توفير التعليم الأساسي، ما يجعل ثلث الأطفال خارج المدرسة والبقية في تعليم بلا جودة، وهو ما سيخرج جيلاً كاملاً من دائرة الاقتصاد. كما سيتعاملون مع نظام صحي هشّ تنهار فيه اللقاحات وتزيد سوء التغذية، فيفتقر إلى قدرته على منع الأمراض السهلة العلاج، وتصبح كل صدمة مناخية مصدر تهديد مباشر لحياة الأطفال.

أيضاً، سترتفع معدلات الفقر، وقد يصبح أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. وستبقى الهجرة خياراً إلزامياً للشباب، ما يسرّع عملية إفراغ البلد من موارده البشرية. وسيتحوّل النزاع إلى عنصر دوري يقوّض أي محاولة للاستقرار أو الإصلاح. أما المخاطر المناخية، فستواصل التصاعد لتفرض واقعاً بيئياً غير قابل للإدارة، في بلد يعاني أصلاً من ضعف البنى التحتية المائية والكهربائية.

النتيجة المتوقعة ليست فقط تراجع جودة حياة الأطفال، بل تراجع مستقبل لبنان نفسه. فالطفولة ليست قطاعاً من قطاعات الدولة؛ إنها المؤشر الأدق على ما إذا كان بلد ما يمتلك مستقبلاً قابلاً للحياة.