لماذا لم تنجح الرهانات اللبنانية على حل أزمة الكهرباء عبر مشاريع الربط والاستجرار من الخارج؟
انشغل لبنان في الأشهر القليلة الماضية بالحديث عن عرض قبرصي لاستجرار الكهرباء من الجزيرة عبر كابل بحري يربط البلدين. وعلى الرغم من أهمّية المشروع الإستراتيجية، وإمكانية ربط لبنان المستقبلي بالقارة الأوروبية، أثار توقيته جدلاً واسعاً في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة تقنين قاسية ومستمرّة، واعتماد متزايد ومُكلف على مولّدات الأحياء. يُضاف إلى ذلك عدم شمول الطرح أية تفاصيل عن كلفته، وكلفة الكهرباء التي ستنتج عنه، ومدى تأثيرها على كلفة الكهرباء الإجمالية.
في الواقع، أعاد ذلك إلى الأذهان التجارب السابقة التي عاشها لبنان منذ العام 2021، والوعود التي قُطِعت للمساعدة على استيراد الغاز من مصر عبر خط الغاز العربي والكهرباء من الأردن مروراً بسوريا. مرّت سنوات قبل أن يكتشف لبنان صعوبة تنفيذ هذه المشاريع، فمصر أصبحت مستورداً للغاز لا مصدّراً له، وهي اليوم تعتمد بشكل مفرط على الغاز الإسرائيلي وعلى استيراد الغاز المسال، في حين أن استيراد الكهرباء من الأردن باهظ الثمن وعرضة لمخاطر أمنية في الجنوب السوري.
من هنا، يُصبح من الصعب الحديث عن ربط كهربائي منتج وفعّال من دون إصلاح البنية الإنتاجية للكهرباء في لبنان، واللجوء إلى الحلول الداخلية أوّلاً لتأمين الحاجة الطاقوية بدل استمرار الاعتماد على الخارج، كما وتطوير الشبكة العامّة وتحضيرها لأي ربط مقبل.
أولاً، الربط الكهربائي مع قبرص يصلح على المدى الطويل ولا يُعالج الأزمة الكهربائية القائمة
في خلال زيارة رئيس الجمهورية، جوزاف عون، إلى قبرص في تموز/يوليو الماضي، أبدى الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليدس، استعداده لمدّ كابل بحري يربط قبرص بلبنان لتزويد الأخير بالكهرباء، وتمّ الاتفاق على فتح خط تنسيق مباشر بين وزيري الطاقة في البلدين لمتابعة هذا الملف.
في الحقيقة، لم تكن الفكرة وليدة الساعة، إذ أن مشروع إنشاء كابل بحري كان جزءاً من المناقشات طوال العامين الماضيين على مستوى تجمّع Mediterranean Transmission System Operators Med-TSO، الذي نشأ لتسهيل تكامل النظام الكهربائي بين دول البحر الأبيض المتوسط، إلّا إنها المرّة الأولى التي يُبحث هذا الموضوع على مستوى الرؤساء. على الرغم من ذلك، لا يمكن اعتبار المشروع إلّا تخطيطاً للمدى البعيد يمكن تحقيقه بحلول العام 2040. إذ انّ هناك 3 دراسات جدّية تتعلق بلبنان في Med-TSO، إثنان منها طويلة الأمد وتربط لبنان بكلّ من قبرص وتركيا، فيما الثالثة متوسّطة المدى وتتعلّق بتطوير الربط الكهربائي مع الأردن.
ومن المعلوم أيضاً أن قبرص بصدد تطوير كابل بحري يربط الجزيرة بكلّ من اليونان وإسرائيل، والمعروف بـ Great Sea Interconnector بطول 1,200 كيلومتر وكلفة تناهز 2,3 مليار دولار. وعلى الرغم من الإعلان عن العام 2027 كموعدٍ لتشغيله، إلّا أن المشروع لا يزال يواجه الكثير من العقبات، وتحديداً في ما يتعلّق بالتمويل وترسيم الحدود البحرية والدور التركي المعارض.
إذاً، يمكن للمشروع أن يشكّل تحوّلاً في النظام الطاقوي المحلّي، الّا أنه أتى في خضمّ أزمة طاقة بنيوية يعاني منها اللبنانيون منذ عقود، وهي تحتاج أوّلاً إلى تطوير معامل الإنتاج الحالية، وبناء معامل جديدة تعمل على الغاز والاستفادة من قدرة الطاقات المتجدّدة المتاحة لسدّ الفجوة الإنتاجية. وفي حال اصطُحب ذلك بتطوير شبكات النقل والتوزيع، عندها يصبح الربط الكهربائي مجدياً ومستداماً، ويأتي مكمّلاً ومساعداً في أيام الذروة، وداعماً الأمن الطاقوي للبلاد، إذ لا ينهار النظام الكهربائي برمّته في حال استحال استجرار الطاقة من قبرص، أو غيرها، لأسباب تقنية أو مالية أو مناخية وحتى سياسية محتملة.
ثانياً، استجرار الكهرباء من الأردن مكلف ومحفوف بالمخاطر
يذكّر هذا الطرح بموضوع استجرار الكهرباء من الأردن الذي عُمل عليه في السنوات السابقة. ففي كانون الثاني/يناير 2022، وقّع لبنان اتفاقية مع الأردن لاستجرار ما بين 150 و250 ميغاواط من الكهرباء عبر خطوط الربط الكهربائي عبر سوريا، من منطلق أن لدى الأردن فائض من الكهرباء المنتجة من الطاقة المتجدّدة التي يمكن تزويد لبنان بها. وقد تمّ الاتفاق على تأهيل شبكات الكهرباء في كلّ من الأردن وسوريا ولبنان، كما على إعطاء سوريا كمّيات من الكهرباء الذي تمرّ عبر أراضيها بدل الدفع نقداً، وهي عبارة عن 8% من الكهرباء المنقولة.
وفي نظرة تفصيلية إلى السعر المحدّد لنقل الكهرباء، فقد نصّت الاتفاقية على أسعار تبدأ عند عتبة 12 سنت للكيلوواط ساعة في حال كان سعر برميل النفط أقل من 80 دولاراً، ويمكن أن تصل إلى ما يزيد عن 16 سنت للكيلوواط ساعة في حال تخطّى سعر البرميل 80 دولاراً، وهي أسعار باهظة مقارنة بأسعار إنتاج المعامل الحالية، وتُصبح غير تنافسية إذا ما قورنت بأسعار إنتاج الطاقات المتجدّدة في لبنان. من هنا، يجدر إعادة النظر بهذه الأسعار اليوم خصوصاً بعد سقوط النظام السوري وزوال العقوبات عن سوريا والبحث جدّياً بموضوع الأسعار، طالما أن ما يرسله الأردن إلى لبنان هو فائض الطاقة المتجدّدة والتي يجب أن تكون كلفتها أرخص.
ثالثاً، استجرار الغاز المصري لم يعد خياراً بعد تحوّل مصر إلى مستورد صافٍ
من جهة أخرى، وبعد أشهر من توقيع الاتفاقية مع الأردن، وقّع لبنان في حزيران/يونيو 2022 عقداً مع مصر لاستيراد حوالي 650 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي عبر سوريا من خلال خط الغاز العربي لمدّة 10 سنوات، وذلك لتشغيل معمل دير عمار شمال لبنان على الغاز وزيادة 3 إلى 4 ساعات من التغذية الكهربائية. أتى ذلك بعد أشهر على إطلاق وعد أميركي من السفيرة الأميركية السابقة دورثي شيا في آب/أغسطس 2021 بالمساعدة على تخطّي العقبات المتّصلة بالعقوبات الأميركية المفروضة على سوريا لاستيراد هذا الغاز، وقد تضمّن الوعد تأمين التّمويل اللازم لذلك من خلال البنك الدولي.
تخلّلت الفترة الممتدّة بين الوعد والتوقيع مفاوضات شاقة بين لبنان والبنك الدولي، إذ اشترط هذا الأخير لائحة من الشروط التي يتعيّن على الحكومة اللبنانية القيام بها قبل الموافقة على تمويل المشروع، وُضعت في حينه في خانة «الإصلاحات الضرورية»، ومن أبرزها وضع خطّة محدّثة لقطاع الكهرباء، إلغاء دعم التعرفة الكهربائية، إجراء تدقيق مالي في حسابات مؤسّسة كهرباء لبنان ووضع مسار تعيين الهيئة المنظّمة لقطاع الكهرباء على السّكة.
بالفعل، أقرّت الحكومة السابقة خطّة جديدة لقطاع الكهرباء في آذار/مارس 2022، كانت إحدى ركائزها الأساسية موضوعي استيراد الغاز من مصر والكهرباء من الأردن. بالإضافة إلى ذلك، رُفع دعم التعرفة الكهربائية في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، ووُضعت الشروط الأخرى حيّز التنفيذ في الحكومة الحالية. إلّا أن كلّ ذلك لم يسمح بوصول الغاز، إذ كلّما تقدّم لبنان خطوة، أُضيفت شروط إضافيّة من البنك الدولي، كضرورة القيام بتقييم أمني ودراسة الجدوى السياسية قبل الشروع بالتمويل. تضمّن العقد تفاصيل السعر الذي سيُباع الغاز على أساسه للبنان، مع الأخذ بالاعتبار إعطاء سوريا كميّات من الغاز الذي يمرّ عبر أراضيها (In-Kind Gas) بدل دفع قيمته بالدولار الأميركي لتفادي التعامل المالي مع النظام السوري السابق، والتي تُقدّر بحوالي 52 مليون متر مكعب (8% من كميّة الغاز المباعة). تمّ ربط سعر الغاز ببرميل النفط العالمي، وحُدد سعر الوحدة الحرارية البريطانية mmBTU من الغاز ليتراوح بين 7 دولارات كسقف أدنى و10.25 دولاراً كسقف أعلى.
الأمر الذي لم يتطرّق إليه المفاوضون عند توقيع العقد كان إنتاج مصر من الغاز الطبيعي في تلك الفترة وتوقّعاته للسنوات المقبلة. فبعد وصوله إلى ذروته في العام 2021، بدأ إنتاج مصر من الغاز يتضاءل بشكل كبير بدءاً من العام 2022 بسبب انخفاض الإنتاج في حقل ظهر وحقول دلتا النيل القديمة، الأمر الذي ألقى بظلاله على قطاع الكهرباء أيضاً. ففي خلال الفترة الممتدّة بين 2022 و2023، أنتجت مصر حوالي 6.2 مليار قدم مكعب في اليوم من الغاز، في الوقت الذي كانت حاجتها لتأمين الكهرباء تصل الى نحو 5.9 مليار مكعب في اليوم، ناهيك عن الاعتماد المفرط على استيراد الغاز الإسرائيلي. واستمرّ هذا الانخفاض في الأعوام اللاحقة، وفي خلال الأشهر الثماني الأولى من العام 2023، تراجع المتوسط الشهري لإنتاج الغاز في مصر بنسبة 10%، ومن ثم أتت تداعيات حرب الإبادة على غزّة وأحداث المنطقة لتعقّد المشهد، فاضطرت مصر إلى إيقاف صادراتها نحو أوروبا نتيجة الحاجة لسدّ الطلب على الكهرباء، وها هي اليوم تُبرم صفقات طويلة الأجل بحوالي 3 مليارات دولار مع شركة شل، و8 مليارات دولار مع أرامكو وشركات أخرى وذلك لاستيراد الغاز الطبيعي المسال (LNG)، في حين يواصل إنتاج الغاز انخفاضه إلى أقل مستوى له منذ نيسان/أبريل 2016.
لم تعد مصر إذاً قادرة على تأمين حاجاتها من الغاز، فكيف لها التصدير عبر خط الغاز العربي، وكيف للبنان الاعتماد على ذلك في سلّم أولوياته وصرف المجهود التقني والدبلوماسي من أجل تحقيق ما لا يمكن تحقيقه.
بالمحصّلة، صرف البنك الدولي النظر عن المشروعين لاقتناعه بصعوبة تنفيذهما، وقد تمّ تحويل القرض الذي كان مخصّصاً لهما إلى الطاقة المتجدّدة ومشاريع مرتبطة بمؤسسة كهرباء لبنان، وبدأ التفاوض على شروطه إلى أن وقّع لبنان على قرض بقيمة 250 مليون دولار في خلال اجتماعات الربيع 2025 في واشنطن.