كيف يُجبر المضمونين في لبنان على شراء المستلزمات الطبية بأسعار مضاعفة؟
منذ انهيار العام 2019، عانى المرضى في لبنان من صعوبات عديدة ومتزايدة في الوصول إلى الرعاية الصحية. وعلى الرغم من أن الوضع بدأ يستقرّ نسبياً بحسب الجهة الدافعة، تبقى كلفة الأجهزة الطبّية، مثل الدعّامات القلبية ومنظّمات ضربات القلب والبراغي والصفائح العظمية، التحدي الأكبر بعد انهيار القدرة الشرائية واستمرار عجز الصناديق الاجتماعية، بما فيها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، عن تغطية نفقاتها.
تترتّب عن ذلك أكلاف باهظة تقع على عاتق نفقات المرضى المباشرة، أو ما يُعرف شائعاً بالفروقات، والتي قد تصل قيمتها إلى آلاف الدولارات.
تكشف دراسة أعدّتها اللجنة الفنيّة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من خلال تحليل لائحة أسعار المستلزمات الطبيّة وهوامش المستوردين وتركيز السوق، كيفية عمل النظام ولماذا تبقى الأسعار مرتفعة. وتُظهر البيانات أن الجهاز الواحد يمرّ عبر 4 طبقات من الزيادات التي ترفع سعره قبل أن يصل إلى المريض.
الزيادة الأولى: يستورد لبنان غالبية المستلزمات الطبّية من مصادر باهظة الثمن
صنّفت الدراسة الأجهزة المغطّاة بحسب البلد المصنّع إلى 3 مجموعات. تضم المجموعة (A) «الدول المرجعية» المعتمدة من وزارة الصحة للتسعير، وتشمل: الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة، إيرلندا، فرنسا، سويسرا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا، اليابان، أستراليا. وتضم المجموعة (B) دولًا غير مرجعية تتوافر فيها أجهزة مكافئة بكلفة أدنى، مثل تركيا، الصين، الهند، كوريا الجنوبية، وبعض دول أوروبا الشرقية. أما المجموعة (C) فتشمل حالات مختلطة أو غير مصنّفة، مثل الأجهزة المجمّعة في أكثر من بلد أو المستوردة عبر موزعين إقليميين في الإمارات أو سنغافورة.
تضم لائحة الضمان 44,686 جهازاً طبياً بقيمة إجماليّة تقارب 20.6 مليون دولار. تهيمن المجموعة (A) على اللائحة من حيث الكميّة والقيمة. فهي تمثل 62.46% من عدد الأجهزة و82.27% من القيمة، بمتوسط 607 دولارات للجهاز الواحد. أي أن غالبيّة المستلزمات الطبيّة المتوفّرة هي من الصنف الأغلى. بينما تمثل المجموعة (B) نحو 35.06% من مجمل الأجهزة و14.27% من القيمة، بمتوسط 188 دولارًا، وهي غالباً ما تكون معدّات ذات جودة موازية للمجموعة (A). بينما تمثل المجموعة (C) نحو 2.48% من البنود و3.46% من القيمة، بمتوسط 641 دولاراً.
يعكس هذا الاعتماد المفرط على الموردين من الدول الغربية كيف يدفع اللبنانيون أسعاراً مرتفعة لشركات أجنبيّة غربية فيما يمكن الحصول على الأدوات الطبيّة ذات الجودة المماثلة من مصادر أرخص.
الزيادة الثانية: يتيح الإحتكار للمستوردين الإبقاء على المستلزمات الغالية
على الورق، نجد 175 مستورداً مسجّلاً، لكن النشاط الفعلي مركّز في أيادٍ قليلة. يسيطر 12 مستورداً فقط على نحو نصف أنواع المستلزمات الطبيّة، ويستحوذ أكبر 10 مستوردين على أكثر من 55% من قيمة السوق. وفي هذا «النادي»، يحتكر مستورد واحد قرابة 11% من قيمة السوق عبر استيراد 9% من أصناف المستلزمات، بينما يستحوذ آخر على 12% من السوق عبر 1% فقط من الأصناف، ما يدل على تخصّصه في استيراد منتجات باهظة الثمن.
فضلاً عن ذلك، يضعف الارتباط الحصري بين المصنّعين العالميين ووكلاء محليين المنافسة. يعتمد حوالي 87% من موزّعي المستلزمات الطبية في السوق اللبنانية على مستورد واحد فقط يزوّدهم بنحو 73% من الأجهزة المتاحة في السوق.
في مثل هذه البُنى الحصرية، تصبح المناقصات الفعّالة شبه مستحيلة، وتُضاف «علاوة احتكارية» تعلو معها الكلفة النهائية على المرضى والجهات الدافعة مثل الضمان الاجتماعي. فبسبب تحديد القانون لهوامش أرباح المستوردين، يفاضل هؤلاء استيراد المستلزمات الباهظة الثمن على رديفها الأرخص لاستخراج ربح مالي أعلى من الهامش المُثبّت قانوناً. كما تتيح لهم البنية الاحتكارية البقاء على هذه المستلزمات الباهظة كونهم لن يواجهوا منافسة من مستوردين أرخص.
الزيادة الثالثة: 1% من المستلزمات تمتصّ ربع الفاتورة
عند ترتيب البنود الـ 44,686 من الأرخص إلى الأغلى، يتبيّن أن أعلى 1% فقط، أي 447 صنفاً من المستلزمات، يستحوذون على نحو 25% من القيمة الإجمالية للائحة (5.15 ملايين دولار). كما تمثل شريحة الربع الأعلى نحو 77% من القيمة الإجماليّة (15.86 مليون دولار). بينما لا تتجاوز حصة الربع الأدنى، أي المستلزمات الأرخص، سوى 1% من القيمة. هذا يعني أن تغيّراً صغيراً في قائمة قصيرة من المستلزمات الطبية الأغلى قادر على قلب الفاتورة كلها.
تتركز الشريحة الأعلى في المستلزمات التي تستخدم في الإجراءات الطبيّة للقلب والجهاز العصبي، حيث تبلغ كلفة القطعة الواحدة منها عشرات آلاف الدولارات. في المقابل، تمثل معدات الجراحة العظمية، مثل البراغي والصفائح، نحو 70% من البنود على اللائحة، لكنها رخيصة نسبياً ولا تؤثر كثيراً على مجموع القيمة.
على سبيل المثال، يوفّر خفضٌ بنسبة 10% على أغلى 1% من المستلزمات الطبية أكثر من نصف مليون دولار، وهو أثر أكبر بكثير من خفضٍ شامل على آلاف المستهلكات الرخيصة.
من هنا، لا يحتاج المستوردون إلا إلى التركيز على مجموعة صغيرة من المستلزمات الغالية لاحتكار سوق المستلزمات الطبية وتحديد أسعارها.
الزيادة الرابعة: هوامش المستشفيات ترفع السعر النهائي
تُسعّر المستلزمات الطبيّة وفق 6 فئات حسب سعر الوحدة. الفئة (A): حتّى 50 دولاراً، الفئة (B) بين 50–100، الفئة (C) بين 100–500، الفئة (D) بين 500–5,000، الفئة (E) بين 5,000–10,000، والفئة (F) فوق 10,000. ويحدّد القانون هوامش قصوى متدرّجة للمستوردين: 20% للفئات (A) و(B) و(C)، و15% للفئة (D)، و10% للفئتين (E) و(F). يضاف إلى تلك الهوامش رسوم استيراد ثابتة، وبذلك يُحدد «سعر البيع» من المستورد.
تُضيف المستشفيات هوامشاً إضافية ترفع السعر النهائي على المرضى وصناديق التأمين. وتُظهر الدراسة أن المستشفيات تضيف نحو 20% على الفئات A وB وC؛ مثلًا، تُباع منتجات الفئة (B) من المستورد بمتوسط 157.74 دولاراً، ومن المستشفى للمريض بنحو 189.29 دولاراً. في الفئتين (D) و(E) تنخفض الهوامش نسبياً إلى 10–15%، لكنها تبقى كبيرة بالقيمة المطلقة: ففي الفئة (D) يرتفع معدّل السعر من 2,030.15 عند المستورد إلى 2,334.67 دولاراً للجهاز في المستشفى؛ والفئة (E) من 10,443.22 إلى 11,487.55 دولاراً للجهاز. وهكذا تتراكم أربع طبقات لرفع أسعار المستلزمات الطبيّة: مصدر عالي الكلفة، وتركّز الاستيراد، وعلاوات احتكار، وهوامش المستشفيات.
يدفع الضمان ضعف ما ينبغي عليه
خلاصة الدراسة أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يدفع، في المتوسط، ضعف الأسعار التي عليه. تقدّم الدراسة سيناريوهان عمليان لخفض الفاتورة إلى النصف تقريباً، شرط تطبيق شفاف وانضباط تنفيذي:
سيناريو الخيار الأرخص: اختيار أقل سعر للجهاز نفسه عندما يتوافر في دولٍ متعددة. تقدّر الدراسة أن اعتماد هذا المبدأ على سلة المشتريات الفعلية يخفض كلفة إنفاق الضمان على المستلزمات الطبيّة من 22.44 مليون إلى 9.90 مليون دولار.
سيناريو شهادة السلامة: اعتماد الشهادة المعترف بها دولياً معياراً حاسماً، وإذا توفّرت شهادات متكافئة لعلامات عدة، يُعتمد السعر الأدنى داخل هذه الفئة. يخفض هذا المبدأ الكلفة الإجمالية إلى نحو 10.68 مليون دولار.
اعتبرت اللجنة أن السيناريو الأول هو الأقل تعقيداً كما أنه الأكثر توفيراً. لكنه يقلّص قيمة أرباح المستوردين والمستشفيات كونه يفاضل شراء المستلزمات الطبية ذات السعر الأكثر انخفاضاً، من دون التفريط بجودتها، ويبقي هوامش الأرباح على حالها. لا شك أن هذا الاقتراح لا يرضي المستوردين ولا المستشفيات.
حاولت إدارة الضمان فرض أمر واقع لتهميش المقترح أعلاه عبر اقتراح تخفيض تغطية الضمان لكلّ المستلزمات الطبية من دون التمييز بأسعارها أو مصادرها أو أصنافها من 90% إلى 60% ورمي الفارق على كاهل المرضى، محافظةً بذلك على أرباح المستوردين والمستشفيات، وإن أتى ذلك على حساب المشتركين، أي الفئة الأكثر هشاشةً. أرجأ البحث في المقترح من قبل مجلس إدارة الضمان، لكن معركة المصالح المهيمنة على حقّ الوصول إلى الرعاية الصحيّة لا تزال في بداياتها.