معاينة damage lebanon

كيف تضخّم الحكومة اللبنانية عوائق إعادة الإعمار؟ 4 أدلة من الواقع

التزمت الحكومة اللبنانية في بيانها الوزاري في شباط/فبراير 2025 «بالإسراع في إعادة إعمار ما دمّره العدوان الإسرائيلي وإزالة الأضرار»، وبعد نحو 9 أشهر من تشكيل هذه الحكومة، اضطر رئيسها نواف سلام إلى الرد على منتقدي تقاعسها، وكرّر في مقابلة مع قناة «الميادين» أن «إعادة الإعمار ليست وعداً بل عهداً». 

في الواقع وعلى الأرض، لم يظهر أي تحرّك جدّي للحكومة للمباشرة بإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الإسرائيلية منذ بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أي قبل عام تقريباً. فهي لم تضع أي سياسة أو برنامج لإيواء النازحين الذين دمّرت مساكنهم، إذ لا يزال يوجد 64,417 نازحاً ونازحة مسجلين حتى اليوم. كما أن مجلس الوزراء لم يعلن أي خطّة لإعادة بناء المساكن المدمّرة، ولم يعلن أي سياسة للتعويضات أو أي برامج للبناء والترميم ولو على الورق، ولم تفعل الحكومة شيئاً سوى تضخيم العوائق الخارجة عن إرادتها، عبر التذرّع بالوضع الناشىء جنوب نهر الليطاني حيث يفرض الاحتلال الأسرائيلي حظراً على أعمال البناء، وعدم وجود التمويل الكافي في خزينة الدولة وعدم قدرة الحكومة على الاستدانة. 

فهل حقاً أن الحكومة ليس بيدها حيلة؟

فيما يلي 4 أدلة على أن الحكومة اللبنانية تضخّم العوائق التي تعترضها.

أولاً، البناء ممنوع على الحدود، ولكن ماذا عن بقية المناطق؟

تشير إحصاءات «جمعية مؤسّسة جهاد البناء الإنمائية» حتى نيسان/أبريل 2025 إلى أن 37% من المباني المتضرّرة تقع جنوب نهر الليطاني، أي أن 63% من المخزون السكني الذي يحتاج إلى إعادة بناء وترميم يقع خارج المنطقة التي تريدها إسرائيل منزوعة الحجر والبشر وليس السلاح فقط.

1

ثانياً، كلفة إعادة الإعمار مرتفعة، ولكن لدى الدولة ما يكفي للبدء؟

تقدّر كلفة اعادة الإعمار بما بين 7 مليارات إلى 7.5 مليارات دولار وفق تقديرات «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»، و11 مليار دولار وفق البنك الدولي. لا شك أن الظروف القائمة في لبنان لا تسمح للحكومة باعتماد خطّة تعتمد على التمويل الداخلي وحده، ولكن الحكومة تستبعد كل المصادر الداخلية وتربط إعادة الإعمار بالتمويل الخارجي فقط، وهو كما بات واضحاً ومعلناً مشروط بجملة واسعة من الشروط السياسية والاقتصادية.

تملك الدولة وسائل مختلفة لم تضعها على طاولة البحث، منها الوسائل الضريبية. إن إعلاء شأن المصلحة العامّة وفرض غرامات جدّية على التعديات على الأملاك العمومية وأملاك الدولة الخاصة والأملاك البلدية والمشاعات ومخالفات البناء والتنظيم المدني واستخدامات الأراضي والمقالع والكسارات والمرامل ومصانع الإسمنت والملوّثين والحائزين على امتيازات من الدولة، يسمح في سنة واحدة بحشد موارد كبيرة يمكن تخصيصها لتمويل خطط وبرامج وسياسات محددة في إطار إعادة الإعمار.

وتحتفظ الدولة بودائع لدى مصرف لبنان بقيمة تصل إلى 8.2 مليارات دولار، بتذرّع وزير المال ياسين جابر في مقابلة مع صحيفة «الأخبار» أن هذه الأموال مودعة بالليرة اللبنانية، وأن ضخّها في السوق قد يؤثر على سعر الصرف. إلا أن التقديرات تفيد أن ثلث هذا المبلغ مودع بالدولار، كما أنه من غير المعقول أن تزعم الدولة أنها عاجزة عن شراء بعض الدولارات عبر مصرف لبنان بالتدريج وضمن تدخلات مدروسة لا تؤثّر على سعر الصرف، وهذا ممكن في اقتصاد يكاد يكون مدولراً بالكامل، وتدخلات يومية لمصرف لبنان لشراء الدولارات وبيعها وضخّها بطرق مختلفة من تسديد أجور موظفي الدولة بالدولار بدلاً من الليرة. 

ويمكن للحكومة أن تعيد ترتيب أولويات إنفاقها وتحوّل بعض النفقات إلى تمويل خطط وبرامج معينة في سياق إعادة الإعمار، ولا سيما أن احتياطي الموازنة يكون وفيراً عادة ما يسمح بتحويل المزيد من النفقات إلى جهود الإسكان والبناء.

2

ثالثاً، الورشة المطلوبة ضخمة، ولكن البناء يرتفع طابقاً فوق طابق؟

تتعامل الحكومة مع إعادة الإعمار كملف واحد كبير، إلا أنه ليس كذلك، فإعادة الإعمار هي عبارة عن ملفات متعددة ومتنوعة. يمكن، على سبيل المثال، تقسيم إعادة إعمار المباني السكنية إلى ملفات فرعية عدّة، منها: ملف الترميم الجزئي المتعلق بالإصلاحات البسيطة للمنازل. وملف الترميم الإنشائي المتعلق بإصلاح المباني ذات الأساسات المتصدّعة. وملف الهدم الجزئي المتعلق بالأضرار في الأقسام المشتركة للمباني مثل المصاعد وغيرها. وملف الهدم الكلي المتعلق بالوحدات المدمرة كلياً أو الآيلة إلى السقوط… وكل ملف من هذه الملفات يتطلّب أعمالاً محددة وتمويلات مختلفة ومنفصلة. وبعض هذه الأعمال أنجزها حزب الله وأعفى الدولة منها، وبعضها يمكن للدولة إنجازه بقدراتها الخاصة ومصادر تمويلها المتاحة.

تشير تقديرات المنظمة الدولية للهجرة إلى أن 85% من النازحين حالياً يقيمون في منازل مستأجرة، سواء على حسابهم الخاص أو بدعم مالي من حزب الله، كذلك سدّد حزب الله تعويضات طالت أكثرية المساكن التي تحتاج إلى إصلاحات بسيطة، وبالتالي أعفى الدولة حتى الآن من تحمل كلفة هذين الملفين.

يشير مدير عام «المركز الاستشاري للأبحاث والتوثيق»، عبد الحليم فضل الله، إلى أن كلفة الترميم الإنشائي لا تتعدّى 150 مليون دولار أميركي، وهي كفيلة بتأمين السكن لنحو 7 آلاف إلى 8 آلاف عائلة، ينفق حزب الله على كل منها ما بين 5 آلاف و6 آلاف دولار سنوياً كبدلات استئجار منازل بديل مؤقتة.  

وفي حال أضيفت أكلاف عمليات الهدم الجزئي، فسترتفع الكلفة الإجمالية إلى ما بين 200 و250 مليون دولار، ويرى فضل الله أن التمويل اللازم لأعمال مثل الترميم الإنشائي والهدم الجزئي مثلاً يمكن تأمينه من خلال خفض النفقات الاستهلاكية في الموازنة، ولا سيما استهلاك المحروقات والورق والمصاريف المكتبية.

معاينة 3

رابعاً،  الدولة  عاجزة عن التمويل، لكن أليست قادرة على التنظيم والتيسير؟

تزعم الحكومة أنها غير قادرة على التمويل، ويتساءل فضل الله باستغراب: «أليست قادرة على التنظيم؟»، في إشارة إلى إمكانية إصدار المراسيم والمعايير التي تُسهّل عملية إعادة الإعمار وتُزيل القيود البيروقراطية عنها. لنأخذ التعويضات على سبيل المثال، لم تضع الحكومة حتى الآن نظاماً يحدّد الآلية التي يستفيد بموجبها كل متضرّر من الحرب وفق حجم الضرر الذي وقع على أملاكه ونوعه. ويشير فضل الله إلى أن رئيس الجمهورية أعدّ مسودة لملف التعويضات، على الرغم من أن ذلك ليس من اختصاصه، وقد أُرسلت المسودة إلى رئاسة الحكومة لكنها لم تُعتمد بعد، وللمقارنة فقد صدر نظام التعويضات فوراً بعد حرب تموز/ يوليو 2006.

صدر قانون للتسوية، الذي يتيح لأصحاب المنازل المخالفة التي تضرّرت تسوية أوضاعهم عن طريق دفع غرامة مالية، إلا أنه صدر عن مجلس النواب باقتراح نيابي ولم يحل إليه من مجلس الوزراء، علماً أنه تأخر 7 أشهر قبل صدوره، في حين أن إصداره في خلال حرب 2006 كان أسرع بكثير.

كما تتأخّر الحكومة ومجلس النواب في إصدار قانون لإنشاء الصندوق المستقل لاستقبال مساعدات إعادة الإعمار، والذي أشار إليه البيان الوزاري بالقول: «ستعمل الحكومة على الإسراع في إعادة إعمار ما دمّره العدوان الإسرائيلي، وإزالة الأضرار، وتمويل كل ذلك بواسطة صندوق مخصّص لهذه الحاجة الملحّة، يمتاز بالشفافية ويسهم في إقناع المواطنين بأن الدولة تقف إلى جانبهم ولا تميز بينهم». ويشير فضل الله إلى أن هذا القانون سيكون ذا فائدة كبيرة، إذ سيفتح المجال أمام المغتربين للمساهمة في تمويل مشاريع وبرامج إعادة الإعمار.

لم تتقاعس الحكومة في إعداد القوانين الميسّرة لعملية إعادة الإعمار، بل عمدت أيضاً إلى سنّ قوانين تهدف إلى عرقلتها، وتكشف المرحلة الراهنة عن مساعي واضحة لتجفيف كل المصادر المحتملة لدعم إعادة الإعمار، مثل قرار مصرف لبنان رقم 170، الذي يحظر إدخال أي أموال إلى القطاع المصرفي اللبناني، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إذا كان مصدرها هيئات أو منظمات لبنانية خاضعة لعقوبات دولية، ولا سيما تلك الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC). وقد صدر هذا القرار أساساً لضبط قنوات تمويل إعادة الإعمار التابعة لمؤسسات حزب الله، إلا أنه امتد ليشمل جهات أخرى ناشطة بفعالية في جهود إعادة الإعمار. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تذرّع شركة «Whish Money» بهذا القانون، لإقفال حسابات عدد من الجهات الإغاثية العاملة في المناطق المتضررة، ومن بينها جمعية «وتعاونوا»، وهي جمعية مسجّلة رسمياً لدى وزارة الداخلية وتحمل علم وخبر قانوني، وتُعد من أبرز الجهات العاملة في الجنوب، إذ تواصل منذ وقف إطلاق النار جمع التبرعات وتقديم الدعم للأهالي المتضررين من الحرب.

تتجاوز إجراءات الدولة مجرد تقييد التمويل لتصل إلى العرقلة الفعلية، إذ قامت قوى الأمن الداخلي بعرقلة جهود الأهالي الذين يحاولون إعادة تشييد منازلهم في الجنوب، وشمل هذا التضييق أيضاً أشخاصاً يستكملون البناء على الرغم من حملهم تراخيص قانونية صادرة وفق الأصول. وفي بيروت، أقدمت قوى الأمن الداخلي على منع جمعية «فرح العطاء» من استكمال أعمال ترميم الأبنية في شارع المأمون في منطقة البسطة، حيث دمّرت إسرائيل 4 مبانٍ بالكامل. وجاء المنع بحجة وجود مخالفات بسيطة، كإضافة القرميد أو تركيب واجهات زجاجية على الشرفات، في وقتٍ تعج فيه بيروت بمخالفات وتعديات أكبر بكثير من دون أي تحرك مماثل.