تاريخ شعبي لكفاح السود

  • مراجعة لكتاب أوليفيي مايو «من روزا براكس إلى القوّة السوداء: تاريخ شعبي لكفاح السود 1940-1970» الذي يقلب تاريخ كفاح السود في الولايات المتّحدة، كما نعرفه، رأساً على عقبّ. إذ يتناول تاريخ حركة الحقوق المدنية من الأسفل، ويسلّط الضوء على التوترات التي سادت داخل الحركة النضالية السوداء وحولها في عقود ما بعد الحرب، وسعي المكارثية إلى تهميش اليسار الأسود، وإبعاد النساء إلى الخلفية ومحوهن من السرد التاريخي.

إن كتاب أوليفيي مايو، الصادر حديثاً بعنوان «من روزا براكس إلى القوّة السوداء: تاريخ شعبي لكفاح السود 1940-1970» عن منشورات جامعة رين الفرنسية، يقلب تاريخ كفاح السود في الولايات المتّحدة، كما نعرفه، رأساً على عقبّ. فقد كُتبت قصة حركة الحقوق المدنية في الولايات المتّحدة، كما يقول مايو، منذ فترة طويلة من خلال شخصيات قادتها، وعلى العكس من ذلك، يقترح هذا الكتاب تناول هذا التاريخ من الأسفل، من خلال إعطاء صوت للممثلات والممثلين المنسيين في حركات تحرير السود والنساء والناشطين اليساريين، من أجل تسليط الضوء على التوترات التي سادت داخل الحركة النضالية السوداء وحولها في عقود ما بعد الحرب. فقد كانت احتياجات النضال تميل إلى تقليل الانقسامات الطبقية والجنسانية وكذلك التوترات بين الأجيال. فيما سعت المكارثية إلى تهميش اليسار الأسود، وإبعاد النساء إلى الخلفية ومحوهن من السرد التاريخي. مستنداً إلى دراسة قصص الناشطين وأرشيف الصور الفوتوغرافية، يقدِّم هذا الكتاب تاريخاً جديداً لهذا المد الأسود، الذي لم يغيير الولايات المتّحدة فقط بل امتد نحو العالم. 

لقد نوقشت نضالات الأميركيين من أصل أفريقي في الخمسينيات والستينيات ضد الفصل العنصري وجميع أشكال التمييز على نطاق واسع سواء على الساحة السياسية أو في المجال التاريخي، وكانت موضوعاً لتمثيلات شعبية متنوّعة. لسنوات عدّة، وسّع المؤرخون أبحاثهم من وجهة نظر الفترة والمساحات وكذلك الممثلين والممثلات الذين تم أخذهم بالاعتبار. ومع ذلك، فإن رؤية هذه التعبئة في الولايات المتحدة - وفي فرنسا أيضاً - لا تزال في كثير من الأحيان مقتصرة على حركة الحقوق المدنية، وعلى عدد قليل من القادة، وعدد قليل من الأماكن الرمزية، عادة في الجنوب. هيمنت على السرد شخصيات أيقونية مثل مارتن لوثر كينغ، أو مالكولم إكس، أو جون لويس، أو جيسي جاكسون، وغيرهم. وقد أدّى ذلك مع مرور الزمن إلى محو التاريخ المعقّد للناشطين الآخرين وخصوصاً تاريخ المنظّمات السوداء ذات النزعات الأكثر راديكالية، على الرغم من مساهمته الأساسية في الكفاح. وغالباً ما عزّزت الثقافة الشعبية، من خلال الإنتاج السينمائي المتكرّر بالإضافة إلى العديد من الكتب، هذه الصورة الضيّقة، وساهمت في خلق البطلات والأبطال والأساطير، وبالضدّ من ذلك، محو ذكر المئات من الأبطال المجهولين، كما تقول، هيلين لو دانتيك لوري، في مقدّمتها للكتاب.

نساء بلا تاريخ

في العام 1955، رفضت روزا باركس التخلّي عن مقعدها في حافلة يعقل داخلها بين البيض والسود. ما زالت هذه الحادثة الفارقة حاضرةً بقوة في السرد التاريخي السائد عن حركة الحقوق المدنية الأميركية ونضالات السود ضدّ نظام التمييز العنصري. لكنها حادثة مُعلّقة، يتيمة وبلا تاريخ ولا مستقبل. لقد حصر السرد السائد باركس في هذه اللحظة، من دون أن يكشف لنا أنها كانت ومنذ سنوات صباها المبكر ناشطةً في مجابهة التمييز العنصري وكفاح علنياً وسرياً ضد المكارثية. بعد العام 1956، يبدو أن روزا باركس كانت ضحية النسيان الجماعي لسنوات عديدة. في خلال المسيرة إلى واشنطن في العام 1963، تروي كيف «تم طردها من الموكب». وكانت قد دخلت إلى جزء منه حيث كان من المفترض أن يرتدي المتظاهرون ملابس بلون معين، وهي لم تكن ترتديها. لقد تم طردها، من دون أن يتم التعرّف إليها، قبل أن تتمكّن من مواصلة العرض مع المغنية أوديتا هولمز. هناك عوامل مختلفة تساهم في نسيان روزا باركس: فهي امرأة، من دون شهادة جامعية، ولا زوج مشهور بين قادة الحركة. لكن قبل كل شيء، فإن آرائها السياسية أكثر راديكالية من الصورة الأيقونية التي تجمّدت فيها. فهي لم تخفِ أبداً آرائها التي كانت أكثر تقدّمية من آراء العديد من القادة.

تحت وطأة ضغوط الحرب الباردة والهوس بالشيوعية، مارس القادة على رأس حركة الحقوق المدنية سياسة «الاحترام» لتجنّب الاندماج مع اليسار الراديكالي المحظور آنذاك، ولإظهار رغبتهم في الاندماج في المجتمع الأميركي ونظامه

يكشف عمل أوليفيي مايو، من خلال تحليل المقالات والدراسات والخطب، عن عملية إبعاد النساء إلى الخلفية داخل الحركة السوداء منذ فترة طويلة وطمس دورهن، تماماً كما تم طمس قصتهن كجزء من السرد السائد. وباستثناء الثلاثي، روزا باركس، وفاني لو هامر، وأنجيلا ديفيس، كانت النساء الأميركيات من أصل أفريقي غائبات إلى حد كبير عن التأريخ والذاكرة الجماعية حتى التسعينيات. وقد ركّز السرد السائد على تاريخ القادة الذكور، أو المنظّمات التي يقودها الرجال.

تحت وطأة ضغوط الحرب الباردة والهوس بالشيوعية، مارس القادة على رأس حركة الحقوق المدنية سياسة «الاحترام» لتجنّب الاندماج مع اليسار الراديكالي المحظور آنذاك، ولإظهار رغبتهم في الاندماج في المجتمع الأميركي ونظامه، وكانوا موافقين على ثقافة المحافظة الأميركية السائدة حتى ذلك الوقت. 

لقد محى هذا المنطق المهادن مكانة المرأة من السرد الذي سيطر لفترة طويلة، وكذلك مكانة كل الفئات المختلفة ثقافياً. وفقاً للأعراف الاجتماعية الحالية في المجتمع الأميركي، غالباً ما كان للنساء أدوار مصاحبة وداعمة، بما في ذلك المهام الموكلة إليهن في المنظّمات الناشطة، والتي أعادت إنتاج تلك المخصّصة للنساء في المجتمع. إن تعريفات الرجولة السوداء وضرورات السماح للرجال الأميركيين من أصل أفريقي باستعادة دور الزوج ومقدّم الموارد الذي قوّضه التمييز، عزّزت نهج محو مطالب المرأة. في المقابل يكشف الكتاب عن صورة أكثر تعقيداً توضح أن العديد من النساء الأميركيات من أصل أفريقي أدّين أدواراً رئيسة في مواقع ومنظّمات مختلفة لكن دورهن بقي غير مرئي وغير موثق بالشكل الكافي أو متجاهل.

عصر القوة السوداء

بعد العام 1964، أصبحت التوتّرات داخل الحركة أكثر وضوحاً، سواء فيما يتعلّق بأهداف النضال أو مكانة الناشطين. لم تعد لجنة التنسيق الطالبية اللاعنفية مُعبّرة عن تطلّعات قطاع واسع من الشباب السود، بسبب ضيق الأفق وخفوت الأمل بتغيير جذري في سلوك السلطة «البيضاء المهيمنة». في ذلك الوقت ظهر شعار «القوة السوداء»، الذي أطلقه ستوكلي كارمايكل في حزيران/يونيو 1966 في غرينوود، ميسيسيبي، ليعكس حالة ذهنية جديدة، مع ظهور منظّمات قومية سوداء جديدة وتحوّل منظّمات أخرى إلى الراديكالية. بعضهم كان ماركسياً، والبعض الآخر لاهوتي متشدّد، مثل جماعة ضريح السيدة العذراء السوداء، التي أسّسها في ديترويت ألبرت ب. كليغ الابن (1911-2000).

بعد العام 1965، وكما لاحظ جون لويس – أحد القادة السود - «كان هناك تغيير جذري بين شعبنا (…) أعتقد أن الناس يبحثون عن نوع ما من الهوية ويجدونها الآن». شكّل نجاح السيرة الذاتية لمالكوم إكس، التي نُشرت في العام 1965 بعد اغتياله، دافعاً لهذه الموجة من البحث عن فخر أسود جديد. صفحاتها الأولى التي قال فيها مالكولم حاولت بكل الوسائل أن أكون أبيضاً، رسخت شعوراً غير مسبوق، ومازال قوياً، لدى الفرد الأسود بأنه يبدّد وقته في محاولة الاندماج. وعلى المستوى السياسي، يتردّد صدى استنكاراته للنخبة السوداء بين الشباب في الأحياء الفقيرة. أولئك الذين يسميهم «البرجوازيين السود» هم «راضون عن أنفسهم ومليئون بالأفكار الخاطئة، وهم من نوع السود الاندماجيين نفسه المهووسين بمكانتهم». التقى مارتن لوثر كينغ بمالكولم إكس في مناسبة واحدة فقط، ولم يكن لديهما الوقت سوى لتبادل بضع كلمات. ويحلِّل رحلة مالكولم إكس كنتيجة للنظام العنصري: «نتاج الكراهية والعنف (…) إن الرجل الذي عانى من عذاب معرفة اغتصاب جدّته ومقتل والده بسبب النظام الاجتماعي القائم لا يمكنه بسهولة قبول هذا الأمر أو المطالبة بالاندماج فيه». يدرك كينغ تماماً أن نفاد الصبر ينمو مع بطء تحقيق وعود التغيير في الواقع، كان تطوّر القومية السوداء علامة على السخط العميق، وإحباط العديد من السود من استمرار التمييز العنصري.

أهم ما يكشفه الكتاب هو الآليات التي يعتمدها المجتمع السياسي والأكاديمي المهيمن لإنتاج الإجماع. والأكثر وضوحاً بينها هي الآليات السياسية. فقد تسبّبت المكارثية وانتصار الإجماع الليبرالي في اختفاء اليسار الأسود من المشهد لفترة طويلة

وعلى الرغم من شهرة مالكوم الشخصية، كان السرد السائد لحركة النضال السوداء تبجيلياً لفائدة مارتن لوثر كينغ، في مقابل تصوير مالكوم على أنه متمرّد بلا طائل أو ثمار. إن أهم ما يكشفه هذا الكتاب هو مختلف الآليات التي يعتمدها المجتمع السياسي والأكاديمي المهيمن لإنتاج الإجماع. والأكثر وضوحاً بينها هي الآليات السياسية، فقد تسبّبت المكارثية وانتصار الإجماع الليبرالي في اختفاء اليسار الأسود من المشهد السياسي والتذكاري وحتى التاريخي لفترة طويلة. لقد أدّت الإجراءات القمعية في الأعوام 1945-1960 إلى اختفاء الحركات الراديكالية من خلال إسكاتها وتهميشها. كما تم تنقيح تاريخ حركة الستينيات وتعديله وإعادة كتابته، ما أدّى إلى حجب حقيقة أن المطالب الاشتراكية كانت في قلب هذه الحركة. 

كما اختفى المنظور الأممي الذي ربط بين النضال الأميركي الأسود والنضال ضد الاستعمار، والذي سلّط الضوء على الجذر المشترك لهذه الاضطهادات وتم استيعابه في الخطاب الماركسي. وأخيراً، تم تهميش المحاولات الرامية إلى تحديد سياسة طبقية بدلاً من سياسة عرقية، مع تراجع المنظمات العمالية نفسها عن الكفاح ضد الفصل العنصري. تصف كاثرين كولومب صعود حركة الحقوق المدنية الكلاسيكية كنتيجة وليس سبباً لتراجع الحركة العمّالية . ولم تتخذ الحركة مسارها المألوف إلا بعد خنق التطلّعات الراديكالية وكسر نواقل السياسة الطبقية مع التركيز على الحقوق الفردية. ولذلك فإن الأسئلة الطبقية لا تظهر إلا من خلال المنظور العرقي الثقافي. وعلى حد تعبير ستيوارت هول، يصبح العرق هو الطريقة التي يتم من خلالها تجربة الطبقة والتعبير عنها. وبالتالي، فقد فضّلت القوى السياسية المهمينة القادة الأكثر استعداداً للتوصّل إلى حلول وسط، وفرضت بعض الخيارات وبعض الجهات الفاعلة نفسها. لكن الخيارات المرفوضة، أي الجهات المهمّشة، أدّت دوراً أساسياً وغير معروف. إن الهامش الراديكالي الذي يمثلونه، والذي يشكل تهديداً وحافزاً للمعتدلين، لم يكن خالياً من العواقب على مسار الأحداث. ومن دون أصواتهم الراديكالية، لم تكن الحلول المعتدلة لتنتصر. علاوة على ذلك، فإنها تسلّط الضوء على الخيارات السياسية للماضي وتكشف كيف تم تشكيل الحركة وتحديد حدودها في الجانب العنصري وحده. 

إن نهج الهيمنة البيضاء البرجوازية الذي توهم أنه قد أزاح قضايا الطبقة والبعد الأممي عن الحركة النضالية السوداء، لا يقوم إلا بأنصاف تدابير، تحجب ولا تنهي هذه الأبعاد الأساسية في الحركة التقاطعية السوداء. فقد كشفت أزمات السنوات الأخيرة، مع حركة «حياة السود مهمة»، إلى أي مدى كانت النتيجة السياسية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عبارة عن ملاحقةٍ للسراب، وهي نتائج التوجّه الليبرالي الذي اتبعته تيّارات الأغلبية في حركة الحقوق المدنية. وكانت أساليبهم وأهدافهم محدودة بسبب قبولهم إطار الإجماع الليبرالي… غالباً ما يُكتب التاريخ ضد المهزومين، الذين لم يبق لهم سوى الذاكرة، الأمر الذي يتحوّل إلى ساحة للمواجهة. لا يزال الواقع الاجتماعي والعنصري للولايات المتحدة المعاصرة يعيد أشباح الماضي، والاستخدامات المعاصرة للتاريخ تحولها إلى ساحة معركة لصراعات الذاكرة، على حد تعبير الكاتب أوليفيي مايو.