Preview التقشف

فوائض الموازنة العامّة اللبنانية
التقشّف والتعقيم في خدمة السياسة النقدية

في ظل أسوأ أزمة يواجهها سكّان لبنان، عمدت الحكومة في العامين 2023 و2024 إلى جمع فوائض مالية كبيرة في الموازنة العامّة، بلغت قيمتها نحو 81 ألف و381 مليار ليرة لبنانية. وفي هذا الوقت، كانت ودائع القطاع العام (الحكومة والمؤسّسات العامّة) تتراكم باطراد لتبلغ في نهاية آب/أغسطس الماضي نحو 512 ألف و367 مليار ليرة في مصرف لبنان المركزي، ونحو 74 ألف و257 مليار ليرة في المصارف التجارية (في نهاية حزيران/يونيو الماضي)، أي أن القطاع العام يمتلك الآن سيولة بقيمة 586 ألف و624 مليار ليرة، أي ما يعادل 6.5 مليار دولار على سعر 89 ألف و500 ليرة للدولار الأميركي الواحد.

تحقّقت الزيادة الأكبر في ودائع القطاع العام لدى الجهاز المصرفي في السنة الأخيرة، إذ ازدادت ودائع القطاع العام لدى البنك المركزي بين آب/أغسطس 2023 و2024 بقيمة 377 ألف و711 مليار ليرة في مصرف لبنان. وازدادت ودائع القطاع العام لدى المصارف التجارية بين حزيران/يونيو 2023 و2024 بقيمة 54 ألف و733 مليار ليرة. أي أن ما يصل إلى 74% من ودائع القطاع العام المُكدّسة في حسابات مصرف لبنان والمصارف التجارية جرى جمعها في الأشهر الـ12 الماضية.

التقشف في الموازنة

ماذا يعني ذلك؟

يعترف وزير المال اللبناني، يوسف خليل، في تقريره عن مشروع موازنة العام 2025، بتسخير السياسة المالية في خدمة السياسة النقدية على حساب حاجات الدولة والاقتصاد والمجتمع. فقد ورد في التقرير أن الحكومة تضع على رأس أولوياتها «توفير فائض في أرصدة حسابات الخزينة» و«استقرار سعر الصرف ودعم السلطات النقدية في تعزيز الاحتياطي بالعملات الأجنبية». وعلى الرغم من أن وزير المال يبرِّر الحاجة إلى تحقيق الفوائض بـ«مواجهة المخاطر القائمة والايفاء بالالتزامات»، ويعدِّد استخداماتها مثل «تفادي ضغوط تهدّد الاستقرار» و«تسديد مستحقّات قائمة على الدولة» و«عدم مراكمة المتأخرّات»، لكن تكشف التجربة حتّى الآن أن الفوائض المالية المحقّقة لم توضع في مواجهة المخاطر القائمة، لا في مواجهة تداعيات الحرب الإسرائيلية، ولا في مواجهة انهيار مستوى معيشة أكثرية الأسر التي خسرت قيمة أجورها ومدخراتها في آنٍ معاً، بل أدّت دوراً شبه وحيد في امتصاص السيولة بالليرة اللبنانية عبر جباية الضرائب والتعرفات وتعقيمها في البنك المركزي، أي أن الفوائض المُحقّقة كان هدفها الرئيس دعم السياسة النقدية بحجّة استقرار سعر الصرف.

في الواقع، كان تعطيل «الدولة» هو الثمن الذي جرى دفعه لتحقيق الفوائض المالية في هذا العام والعام الماضي، أو لنقل ما كان موجوداً من هذه الدولة حتى لحظة الانهيار الكبير في خريف العام 2019. فحجم الموازنة العامّة المقترح لعام 2025 يقلّ عن 4.8 مليار دولار، ولن يرتفع إلا بمقدار مليار دولار عن الانفاق العام المتوقّع في هذا العام (نحو 3.8 مليار دولار)، ولكن إذا جمعنا موازنات الأعوام الخمسة التي أعقبت الانهيار (2020-2024) فلن يصل مجموعها إلى حجم موازنة عام واحد كعام 2018 أو 2019.

يتطرّق نائب رئيس مجلس الوزراء، سعادة الشامي، إلى السياسة المالية التقشفية المتّبعة، في سياق ملاحظاته على مشروع موازنة العام 2025. ويعتقد أن «ثمن ثبات سعر الصرف هو تقييد الإنفاق على الخدمات العامّة المهمّة جداً لحياة المواطن»، ويتساءل «ما هو هدف وزارة المالية بالتعاون مع مصرف لبنان بالنسبة إلى سياسة سعر الصرف؟ لأن التثبيت قد يؤدّي إلى أضرار جسيمة في المستقبل، وخصوصاً أننا دفعنا أثماناً غالية لهذا التثبيت في الماضي، وقد ساهم إلى حدّ كبير في الوصول إلى الأزمة الاقتصادية التي نعاني منها اليوم. يجب أن نعمل على سياسات مالية ونقدية تؤدّي إلى استقرار في سعر الصرف وليس تثبيته، بمعنى آخر يجب على البلد ألّا يقع كلّه رهينة لثبات سعر الصرف».

بالفعل، لم يجرِ توظيف الفوائض المالية لتمويل خطّة الطوارىء الحكومية في مواجهة الحرب الإسرائيلية واحتمالات توسّعها، ولم يجر استخدامها لشراء الفيول أويل لمؤسّسة كهرباء لبنان على الرغم من إلغاء الدعم وزيادة الأسعار على كاهل الأسر، ولم توظّف هذه الفوائض في دعم مجّانية التعليم بل تمّ نقل جزء من كلفة التعليم الرسمي إلى الأسر الفقيرة ما يعرّضها لارتفاع معدّلات التسرّب المدرسي وعمالة الأطفال. وبالطبع، لم تُوظّف في دعم التغطية الصحّية، فحتى الأسر المشمولة بأنظمة الضمان الصحّي باتت محرومة من التغطية بسبب عجز المؤسّسات الضامنة وتحميلها جزءاً مهماً من الخسائر المالية وامتناع الحكومة عن دفع المستحقّات عليها… يمكن استكمال الأمثلة من هذا النوع التي تبيّن الحاجة الملحة لتوظيف هذه الفوائض في توفير احتياجات السكان وحمايتهم، إلا أن ما جرى حتى الآن وسيجري في ظل مشروع موازنة العام 2025 هو استخدام أدوات السياسة المالية، ولا سيما الإيرادات العامّة ومراكمة المتأخرات في الإنفاق العام والتقشّف في الموازنة، من أجل امتصاص الليرات في التداول وتمكين البنك المركزي من شراء العملات الأجنبية لزيادة احتياطياته منها.

يقوم البنك المركزي ببيع العملة اللبنانية لشراء الدولارات، وبالتالي بناء احتياطياته الأجنبية. ولأن البنك المركزي يضطر في سبيل ذلك إلى وضع المزيد من الليرات في التداول، فإن المعروض النقدي يتوسّع، ويصبح هناك حاجة لامتصاص كمّيات من النقود لمنع التأثير على سعر الصرف. وعلى الرغم من بناء الاحتياطيات الأجنبية والحدّ من وتيرة التضخّم وانخفاض سعر العملة المحلّية يعدّ هدفاً مطلوباً في ظروف معينة، إلا أن المشكلات التي تنجم عن التعقيم بواسطة السياسة المالية تكون أكبر من الإيجابيات المزعومة في السياسة النقدية، ويكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على النمو الاقتصادي والاستهلاك ومستوى المعيشة والخدمة العامّة.