معاينة من الهيمنة إلى الإبادة:  الصناعة العسكرية في إسرائيل منذ 1948

الصناعة العسكرية في إسرائيل منذ 1948
من الهيمنة إلى الإبادة

إسرائيل من أكثر دول العالم عسكرة. ومنذ أمر ديفيد بن غوريون بتأسيس جيش الاحتلال الإسرائيلي في 26 أيار/مايو 1948، غدت المؤسسة العسكرية، ومعها منظومة الأمن الإسرائيلية، المركز الذي تشكَّلت من حوله مؤسسات الدولة وبُناها المالية واقتصادها. وعلى امتداد العقود اللاحقة نما اقتصاد إسرائيل السياسي على مبدأ ناظم واحد: الحرب. ثم أخذ يتحوّل بتغيّر طبيعة الحرب مع تبدّل السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.

في أربعينيات القرن العشرين، تكتّلت المليشيات الاستيطانية الاستعمارية اللامركزية في منشأة مملوكة للدولة ومدارة علناً لإنتاج العتاد الحربي. قيّدت الدولة صادرات هذا القطاع، واستمر هذا التقييد بعد إعلان قيام إسرائيل، إذ أنتجت مصانع السلاح العمومية لأغراض توسعية. في بدايات الحرب الباردة ومرحلة ما بعد الاستعمار، عكست الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية هذا النموذج الاقتصادي. لم تُفضِّل في استيطانها الحرب التقليدية، بل اعتمدت على وحدات صغيرة تنفّذ حملات تطهير عرقي بسلاح خفيف. والحال أنّ إسرائيل استوردت السلاح (لا سيما من فرنسا)، لكنّ تسليح هذه المليشيات اعتمد أساساً على الإنتاج المحلي.

عقب حرب 1973 بين العرب وإسرائيل، ومع تدفّق التمويل العسكري الأميركي، تبدّلت ممارسات الشراء في الجيش الإسرائيلي. دشّن طورٌ جديد من الحرب الباردة تحوّلاً قطاعياً داخل الصناعة العسكرية. كشفت الحرب عن ثغرات فادحة أمام جيوشٍ عربية مسلّحة سوفياتياً. فجاء الردّ بزيادةٍ سريعة وحادّة في استيراد منظومات السلاح الأميركية. استلزم ذلك تعديلاً هيكلياً: لتعزيز الصلة بصناعة السلاح الأميركية، خُصخصت ولُبْرِلَت المنظومة العسكرية المحلية. وفي خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين تحوّل الجيش الإسرائيلي إلى قوّة شرطة استعمارية عالية التقنية تدير سكان غزة والضفة عبر المراقبة والتحكّم. ومع استمرار الواردات الأميركية، أعادت إسرائيل توجيه إنتاجها نحو تقانات تخصصية للمراقبة والسجن. هكذا تبلور تقسيمٌ عالمي جديد للعمل في إنتاج العتاد العسكري، رسمت ملامحه الحرب على الإرهاب والصناعة العسكرية بقيادة الولايات المتحدة إلى أن جاء العام 2023.

فمنذ 7 أكتوبر، سعت صناعة إسرائيل العسكرية إلى استدراك اعتمادها الطاغي على الواردات بزيادة الإنتاج المحلي؛ عودةٌ إلى منطق أمّة ميليشياوية مجندة لعداء دائم

جاءت حملة الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة لتكون قطيعة مع الوضع المستقرّ منذ عقود. فمنذ 7 أكتوبر، سعت صناعة إسرائيل العسكرية إلى استدراك اعتمادها الطاغي على الواردات بزيادة الإنتاج المحلي؛ عودةٌ إلى منطق أمّة ميليشياوية مجندة لعداء دائم. التحوّل نوعيّ وكمّي معاً. ومع توجيه الإنتاج للاستهلاك الداخلي، أعاد المجمع العسكري–الصناعي تشكيل سلّة إنتاجه لتركز على أسلحة منخفضة التقنية مُعدّة للتدمير الصريح والتهجير، أقربَ إلى استراتيجيته التأسيسية.

دولة استعمارية استيطانية

تعود جذور صناعة السلاح الإسرائيلية إلى ما قبل قيام الدولة. أُنشئت شركة «الصناعات العسكرية الإسرائيلية» في العام 1933 (صانعة «ديزرت إيغل» و«عوزي») لتصنع أسلحة خفيفة لتزويد الميليشيات الصهيونية الأولى. صُنِّعت أسلحتها سرّاً، وهُرِّبت، وخُبِّئت على نحو غير قانوني لتستخدمها تلك الجماعات المسلحة. الميليشيات التي صارت لاحقاً جيش الاحتلال الإسرائيلي تسلّحت أساساً برشاشات شتِن وقذائف الهاون ومدرّعات خفيفة - عتاد ملائم لإرهاب المدنيين وفعّال في تطهير فلسطين عرقياً. رجّحت هذه الأسلحة تكتيكات الوحدات الصغيرة والحرب غير النظامية في التضاريس الوعرة، ووافقت عقيدة الحركة العالية والقيادة اللامركزية، لتجسد ما وصفه جنرالات إسرائيل بـ«الجيش الصغير الذكي».

كانت ذهنية المستوطن الجماعي ركيزة عسكرة الحركة الصهيونية وخطط تسليحها وعلاقتها بالسكان الفلسطينيين الأصليين. وبقيادة ديفيد بن غوريون، زعيم حزب العمل والنقابات، احتكرت الدولة صناعة السلاح. دفع هذا الاحتكار القطاعَ العام قدماً، وأُعيد تدوير العائدات إلى البحث والتطوير 1. وأثّر نمطُ خوض الحرب في سياسة التجنيد. ولتحفظ تماسك الوحدات وولائها أُعفت إسرائيل شرائح واسعة من الخدمة الإلزامية (الفلسطينيون واليهود الحريديم ولاحقاً أعداد متزايدة من اليهود العلمانيين). أثمرت الاستراتيجيةُ في 1948 و1956 و1967، إذ استطاعت وحداتٌ خفيفةٌ رشيقة أن تناور جيوشاً عربية أقل تنظيماً. لكن مع اندلاع حرب 1973 انكشفت حدودُها سريعاً.

البنية التحتية للهيمنة

أورثت انتصارات 1967 على مصر وسوريا والأردن ثقة مفرطة لدى النخبة العسكرية الإسرائيلية. لكن حرب تشرين/أكتوبر 1973 حطّمت وهم الاكتفاء الذاتي، ومنها في تصنيع السلاح. كانت مشتريات العراق وسوريا من العتاد السوفياتي، وانفجار عائدات النفط العربية وما جرّه من تدفّق سلاح، تؤذن بتسلّح إقليمي على محاور نزاع شتّى. ومع اندلاع القتال في تشرين الأول/أكتوبر، عجزت الوحدات الخفيفة، بل وتفوّق الجو، عن وقف تقدّم الفرق السورية والمصرية. فاتجهت إسرائيل في أثناء الحرب إلى استيراد السلاح الأميركي، ما فرض تكتيكات جديدة، ومن ثمّ استراتيجية جديدة.

بدأ الاعتماد على التمويل العسكري الأميركي في أوج حرب تشرين، وسرعان ما غدا سمة لازمة لصناعة السلاح الإسرائيلية. وعداءُ إسرائيل البنيويّ للأنظمة العربية الاشتراكية المموّلة سوفياتياً جعلها وكيلاً طبيعياً لمصالح واشنطن في الحرب الباردة. كسبت الولايات المتحدة، بإنقاذها إسرائيل من حافّة الانهيار، أصلاً دولتياً لبسط قوّتها في الشرق الأوسط، وفرصة سانحة لإعادة هيكلة الصناعة العسكرية الإسرائيلية على أسس أولويّاتها الاقتصادية والجيوسياسية.

في الأعوام التالية استخدمت الولايات المتحدة التمويل العسكري للضغط على نوع التقانات والمعدات التي يجوز لإسرائيل إنتاجها محلياً. حدّد البنتاغون مشروعات بحثية عسكرية قد تنافس شركات السلاح الأميركية وتولّى التفاوض على إنهائها. شمل ذلك عملاً على صاروخٍ مضاد للدروع ينافس الصاروخ الأميركي «LAU»، ومشروع السلاح الأبرز «لاڨي»؛ مقاتلةٌ طُوِّرت في الثمانينيات لتتفوّق على «إف-16» من «لوكهيد مارتن»2. وفرض البنتاغون رقابة على صادرات السلاح الإسرائيلية التي تتضمّن تقانة أميركية، وحظَر بيعها لبلدان مثل روسيا والصين.

منذ 1973 صارت إسرائيل أكبر متلقّ للمساعدات العسكرية الخارجية الأميركية في العالم، ومنذ الثورة الإيرانية 1979 أكبر مشترٍ لمعدات السلاح الأميركية في المنطقة بفارقٍ واسع. قدّمت الولايات المتحدة لإسرائيل، منذ اندلاع حرب تشرين، أكثر من 171 مليار دولار من المعونة العسكرية، من دون احتساب التضخّم أو الفوائد 3. هذا التحوّل في أساس الشراء العسكري أعاد توجيه دور المصنِّعين المحليين. فالولايات المتحدة تبقى أكبر مصدّرٍ للسلاح عالمياً، بيد أنّ إسرائيل صارت مُصدِّراً كبيراً بذاتها، مع أعلى معدل صادرات سلاح للفرد عالمياً. لكنّ الصادرات الأميركية تتركّز على دول الناتو، أما صادرات إسرائيل فتتّجه في معظمها إلى دول من خارج الناتو.

أسفر اقترانُ المصالح العسكرية الأميركية والإسرائيلية عن نتيجتين. أولاهما أنّ نفوذ واشنطن أكسب شركات السلاح الخاصة أولوية في مشتريات الجيش على حساب الشركات الحكومية، في خضمّ موجة خصخصةٍ عارمة. تفاقمت ضغوط الخصخصة بفعل التعديلات المؤلمة التي فرضتها الولايات المتحدة على إنتاج السلاح، وبفعل خفض الإنفاق العسكري مع انتهاء الحرب الباردة. وفي 1993 التأمَت لجنةٌ حكومية برئاسة البروفيسور إسرائيل سادان لبحث مستقبل الشراء العسكري، فأوصت بخصخصة الوظائف «الهامشية» من التخزين والتوزيع إلى المشتريات اللوجستية، بل وأمن القواعد نفسه. قُدِّمت المنافسةُ بين مزوّدين مُخصخصين بوصفها وصفةَ تقليل كلفةٍ لا تمسّ الأمن. وكانت الكفاءة كلمةَ السر، لخّصها رئيسُ الأركان آنذاك إيهود باراك بقوله: «كلّ ما لا يطلق النار، أو لا يُعين مباشرةً على إطلاقها، سيُقطَع» 4.

أتاحَت وزارة الأمن الداخلي الأميركية ومناخ الحرب العالمية على الإرهاب فرصةً مثالية لشركات السلاح والأمن الإسرائيلية لتوظيف خبرتها من الأراضي المحتلّة. قدّمت الشركات تلك الأراضي بوصفها ميدانَ اختبار لمنتجاتٍ تُفصَّل على مشروع الأمن الداخلي الأميركي

لم تقف الخصخصة عند صناعة السلاح. فقد شرعت إسرائيل عبر خطة الاستقرار الهيكلي للعام 1985 في خصخصةٍ واسعة لبنية الاتصالات وخدماتها، والخطوط الجوية الوطنية، والقطاع المصرفي، مع خصخصةٍ جزئية للمياه والصحة والموانئ 5. وإلى جانب مجاراة الميول الأميركية، قدمت الخصخصة لنخب الأمن الإسرائيلية فرصاً مجزية لإدارة شركات السلاح الخاصة.

ثانيتهما، تغلغلَت الشركاتُ الخاصة على نحوٍ متزايد في منظومة الحرب العالمية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة. وسارت الخصخصةُ جنباً إلى جنب مع التخصّص في تقانات الحرب السيبرانية، والطائرات المسيّرة الهجومية، والأنظمة الإلكترونية المتقدّمة للمركبات العسكرية 6. وبعد الانتفاضة الثانية وهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، تشاركَت إسرائيل والولايات المتحدة مصلحةَ تطوير منظوماتٍ عالية التقنية للمراقبة والتنظيم والتحكّم.

منذ العام 2001 باعت إسرائيل بين 70% و80% من الأسلحة المصنوعة فيها للخارج. وقد اشتهرت شركات السلاح الإسرائيلية ببيعها لزبائن على الهامش: دول خاضعة لحظر تسلّح، جماعات متمرّدة وميليشيات، دولٍ لا تربطها علاقاتٌ دبلوماسيةٌ مع كبار منتجي السلاح، بل وزبائنَ استخدموا هذا السلاح لاحقاً ضد إسرائيل 7. وقد اكتسبت هذا الصيت في ستينيات القرن الماضي، ذروةِ الحرب الباردة، إذ صدّرت إلى أوغندا وأنغولا وتشيلي وجنوب أفريقيا وسنغافورة وتايوان ونيكاراغوا وغواتيمالا وإيران ما قبل الثورة. ولاحقاً، ومع تغيّر جغرافيا الحروب المشتعلة، تحوّلت صادراتها إلى رواندا ويوغوسلافيا وتركيا وأذربيجان والهند. وفي العقود الأخيرة، راحت دول الخليج تستورد السلاح الإسرائيلي على نحوٍ متزايد. وعلى الرغم من تخلّفها عن كبار المصدّرين من حيث الحجم (كالولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا)، نالت إسرائيل صفةَ أعلى مُصدِّر للسلاح للفرد قرابة العام 2009، عقب اجتياح 2008 لقطاع غزة الذي أودى بحياة زهاء 1400 فلسطيني 8.

في العام 2003 أنشأ الرئيس الأميركي جورج بوش وزارة الأمن الداخلي بميزانية تتجاوز 59 مليار دولار. أتاحَت وزارة الأمن الداخلي الأميركية ومناخ الحرب العالمية على الإرهاب فرصةً مثالية لشركات السلاح والأمن الإسرائيلية لتوظيف خبرتها من الأراضي المحتلّة. قدّمت الشركات تلك الأراضي بوصفها ميدانَ اختبار لمنتجاتٍ تُفصَّل على مشروع الأمن الداخلي الأميركي، وسرعان ما غدت تل أبيب عاصمةً عالمية لقطاع الأمن في صناعة السلاح 9. وكانت سلسلةُ العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان وغيرها نعمةً لهذه الشركات؛ تُسوِّق بعدها معداتِها في المعارض بوصفها «مجرَّبةً في الميدان» 10. وقد صار هذا القطاع «بيزنس» ضخماً وركناً في الاقتصاد الإسرائيلي. في العام 2012 جنت إسرائيل 7.5 مليارات دولار من صادرات السلاح، وفي العام نفسه أفاد وزيرُ الدفاع الأسبق إيهود باراك بأنّ 150 ألف أسرة إسرائيلية تعتمد في دخلها على هذه الصناعة.

العلاقةُ الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة مفتاحُ هذا كلّه. هي علاقةٌ عسكريةٌ في جوهرها؛ تبادُلُ المال والسلاح فيها يضطلع بدورٍ مُنظِّم في الاقتصاد الإسرائيلي. نحو 75% من 3.1 مليارات دولار من المعونة العسكرية الأميركية يُنفق على سلاحٍ أميركي، والباقي على إنتاجٍ محلّي. هذا التوافقُ الدبلوماسي المتعاظم سهّل الاندماج الصناعي: نقلت «ماغنوم ريسيرتش» الأميركية تصنيع مسدسات «ماغنوم» و«ديزرت إيغل» إلى إسرائيل. وحتى اليوم عند شراء سلاحٍ أميركي تُصنع كثيرٌ من مكوّناته في إسرائيل. موّلَت الحكومة أبحاثاً وبرامجَ جامعيةً مشتركة أضفت مسحة شرعيةٍ علمية على تقانات القمع 11. وفي العام 2018 تُوِّجت موجةُ الخصخصة وطلبُ التصدير بشراء إلبِت سيستمز الخاصة شركةَ الصناعات العسكرية الإسرائيلية المملوكة للدولة؛ فغدت إلبِت أكبرَ شركة سلاح في إسرائيل، وجاءت في المرتبة الثامنة والعشرين عالمياً بحلول 2019. ولا تقتصر على البيع المباشر للجيوش، بل تعمل من الباطن لصالح عمالقة مثل جنرال دايناميكس وإيرباص 12. تجسّد إلبِت وجه الصناعة الجديد: تقاناتُ قمع، وخطوطُ منتجاتٍ مكمِّلة - لا منافِسة - للسلاح الأميركي، وصادراتٌ تعوِّل على ما توليه حكوماتُ العالم من قيمةٍ لخبرة إسرائيل في الاحتلال.

في العقود الخمسة بعد حرب تشرين، تحوّلت الميليشيات الاستيطانية الاستعمارية المدعومة من الدولة إلى منظومة عالية التقنية لقمع الفلسطينيين. وفي جيشٍ بات كثيفَ رأس المال، تروِّج شركاتُ السلاح لتقنياتها المتقدمة عبر الهجمات على الفلسطينيين، وعبر المراقبة والتحكّم اليوميَّين 13, 14 .

وإذ تخصص «المختبر» في أنظمة المراقبة وعُدّة مكافحة الشغب وبنية الاعتقال، فقد أنشأ أدواتٍ مثالية لإدامة الاحتلال لكنّها رديئةَ الجدوى في الحرب التقليدية. لم يعد الجيش الإسرائيلي قوّة قتالية؛ بل غدا شرطةً استعماريةً تُقدِّم الردع والإذلال وقمع المقاومة الفلسطينية على التفوّق في ساحة المعركة. وقد دُرِّب عشراتُ الآلاف من حرّاس الأمن الخاص على تطوير هذه التقانات وتشغيلها وصيانتها.

استراتيجية الإبادة

أدخلت هجماتُ 7 أكتوبر إسرائيلَ في أزمةٍ لنموذجها القائم على شرطة عالية التقنية لإحكام السيطرة على تجمعاتٍ فلسطينية مُسيَّجة. تكشف تحقيقاتٌ داخلية مُسرَّبة في آذار/مارس 2025 أنّ ضباطاً استبعدوا إمكانية حدوث هجومٍ فلسطيني، لاعتقادهم بصلابة نظام الردع. وحين بدّدت حماس هذا الوهم، ارتدّت الحكومة اليمينية المتطرفة إلى نمط عتيق من الحرب: استيراد أسلحة ثقيلة من الولايات (مدفعية ودبابات ومسيّرات مسلّحة وقصف بحري ومقاتلات) لتستخدمها في حصار مطوّل على شعب بأكمله.

الإبادة التي تقترفها إسرائيل في غزة، ومعها اجتياح لبنان وغاراتها في سوريا واليمن وإيران، لها سمةٌ جامعة: تجري أساساً بأسلحةٍ مستوردة. وأغلب تلك الأسلحة مدعومة من دافعي الضرائب الأميركيين، في حين تدفع إسرائيل علاوةً على مشترياتها من ألمانيا وصربيا، وعلى نحوٍ متزايد من «بلدان لا تربطنا بها علاقاتٌ دبلوماسية، بينها دولٌ مسلمة في كل القارات»، كما قال مسؤولٌ في المؤسسة الدفاعية لموقع واي نت في تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وبعد 7 أكتوبر، ومع نضوب الذخائر والمعدات، تحوّل سماسرةُ السلاح في إسرائيل إلى منقِّبين في سوقٍ عالميٍّ تضخّمت أسعاره بسبب الطلب الأوكراني؛ يبادلون بمنظوماتٍ عاليةَ التقنية (كالمسيّرات والمعدات المحوسبة) المواد الأساسية من قذائف وبارودٍ ومتفجّرات 15. وبحسب وول ستريت جورنال، كانت الولايات المتحدة قد سلّمت بحلول كانون الأول/ديسمبر 2023 أكثر من 5,000 قنبلة Mk82 غير موجّهة، و5,400 قنبلة Mk84 بزنة 2,000 رطل، و1,000 قنبلة GBU-39 بزنة 1,000 رطل، ونحو 3,000 طقم «JDAM». ومنذ 7 أكتوبر قدّمت واشنطن قرابة 17.9 مليار دولار من السلاح والذخيرة، إضافةً إلى تمويلٍ عسكريٍّ سنوي قدره 3.8 مليارات، و8.2 مليارات من واردات مدفوعة من الشركات الأميركية 16.

لقد نشأت صناعة السلاح لمراقبة مناطقِ الاحتلال في الجنوب العالمي أواخرَ الحرب الباردة، لكنّها اليوم توجه عنايتها إلى الداخل، لتُكمِّل أسطولاً حديثاً من عتاد أميركي الصنع مُعدّ لتعظيم التدمير

أسفر الانتقال إلى استراتيجية تعظيم التدمير عن عودة للتصنيع الحربي المحلي. في مؤتمر مساهمي إلبِت سيستمز لعام 2025 كانت الصورة جلية: لا تزال إسرائيل معتمدةً على الواردات، لكنها تسعى إلى الشراء قدر الإمكان من الشركات المحلية لتفادي أثر اتّساع المقاطعة العسكرية. هبطت حصةُ صادرات «إلبِت» من 79% في الربع الأول 2023 إلى 58% في الربع الرابع 2024. غير أنّ هذا التغير في تركيب الطلب حول المشتري المحلي المؤسِّس لم تُنقِص المبيعات؛ تُظهر تقاريرها المالية أنّ الإيرادات والأرباح التشغيلية قفزت لا بفضل التصدير، بل بفعل «زيادة جوهرية في طلب وزارة الدفاع الإسرائيلية على منتجاتها وحلولها قياساً بما قبل الحرب». أنهت الشركة العام 2024 بأرباح قدرها 1.6 مليار دولار من إيراداتٍ بلغت 6.8 مليارات (مقابل 1.5 ملياراً من 6 مليارات في 2023)، وارتفع رصيد الطلبيات من 17.8 إلى 23.8 مليار دولار. وعلى هذا المنوال تلقّت شركاتُ السلاح الإسرائيلية كلّها سيلاً من طلبات الشراء المحلية 17. وفي أيار/مايو 2025 أصدرت إلبِت أسهماً جديدة بقيمة 588 مليون دولار، ضَمنَها بنك أوف أميركا سيكيوريتيز وجي پي مورغان وجيفريز ومورغان ستانلي.

وكما في المرات السابقة، اقترن هذا التحوّل الاقتصادي بتبدّلٍ في الاستراتيجية العسكرية. ومن الأمثلة الدالّة مدفع سيغما (روئِم) عيار 155 ملم من إلبِت سيستمز. للوهلة الأولى يبدو تطويره مفارقة: إسرائيل تعاني نقصاً حادّاً في قذائف 155 ملم، فلِمَ الاستثمار في مدفعٍ يضاعف وتيرة الإطلاق؟ تكشف ابتكارات سيغما أولويّات أعمق لدى الجيش: مُلقِّمٌ آليّ يخفض طاقم التشغيل من سبعة جنودٍ إلى اثنين لا غير، بما يتيح لوحدات أصغر العمل بأدنى قدر من التنسيق والانضباط. ومع استمرار تدفّق القنابل الأميركية، وتمويل المعونة الأميركية لمشتريات إسرائيل من القذائف عبر العالم، يهيّئ هذا العتادُ الجديد لإعادة تنظيم في استراتيجية الجيش الإسرائيلي.

سيغما سلاحٌ للقصف على طريقة الميليشيات: يعظّم التدمير لكلّ جندي ويُمأسِس انعدام الانضباط الذي طبع حملة إسرائيل في غزة. وهو يجسّد تحوّل الجيش الإسرائيلي: جيشٌ متقدّم تقنياً يعود إلى المدفعية، وتحلّ فيه القوّة النارية محلّ الاستراتيجيا، وتغدو الإبادة بديلاً من الاحتلال.

تُستعمل هذه الأدوات بعقلية الميليشيات الاستيطانية. قال أحد ضباط جيش الاحتلال في تشرين الثاني/نوفمبر: «المدفعية ونيران الدبابات المباشرة أنجع من الأسلحة الدقيقة الباهظة. قتل إرهابي بقذيفة دبابة أو قنّاص يُعَدّ أكثر «مهنية» من صاروخٍ تُطلقه مسيّرة» 18. تُقصف مخيّمات اللاجئين من مسافة الصفر، وتُسوّى مربّعات سكنية بالأرض لاغتيال مقاتلٍ واحد. تُهمَل عقيدةُ الأسلحة المشتركة والضربات الدقيقة الأميركية، ويُستبدَل بها الإفناء العشوائي. لقد نشأت صناعة السلاح لمراقبة مناطقِ الاحتلال في الجنوب العالمي أواخرَ الحرب الباردة، لكنّها اليوم توجه عنايتها إلى الداخل، لتُكمِّل أسطولاً حديثاً من عتاد أميركي الصنع مُعدّ لتعظيم التدمير.

نُشِر هذا المقال في 29 آب/أغسطس 2025 في Phenomenal World، وترجم إلى العربية ونشر في موقع بموجب اتفاق مع الجهة الناشرة. 

  • 1

    Ya’akov Lifshitz, Security Economy, the General Theory and the Case of Israel, Jerusalem: Ministry of Defense Publishing and the Jerusalem Center for Israel Studies (2000). 

  • 2

     Sharon Sadeh, “Israel’s Beleaguered Defense Industry,” Middle East Review of International Affairs Journal, Vol. 5, No. 1, March 2001, pp. 64–77. 

  • 3

    Jeremy Sharp, “US Foreign Aid to Israel: Overview and Developments since October 7, 2023,” https://www.congress.gov/crs-product/RL33222, accessed August 2025. 

  • 4

    Nadir Tzur, “The Third Lebanon War,” Reshet Bet, July 17th, 2011 http://www.iba.org.il/bet/?entity=748995&type=297, accessed December 2013. 

  • 5

    Yael Hason, Three Decades of Privatization [Shlosha Asorim Shel Hafrata], Tel-Aviv: Adva Center (November 2006). 

  • 6

    Sadeh, 2001. 

  • 7

     Jonathan Cook, “Israel Maintains Robust Arms Trade with Rogue Regimes,” Al-Jazeera, October, 2017 https://www.aljazeera.com/news/2017/10/23/israel-maintains-robust-arms-trade-with-rogue-regimes, accessed December 2024. 

  • 8

     United Nations, “5. Estimates of Mid-Year Population: 2002–2011,” Demographic Yearbook, 2013 http://unstats.un.org/unsd/demographic/products/dyb/dyb2011.htm, accessed December 2024; Richard F. Grimmett and Paul K. Kerr, “Conventional Arms Transfers to Developing Nations, 2004–2011, “Congressional Research Service, 7–5700, August 24, 2012; Amnesty International, “Israel/Gaza: Operation ‘Cast Lead’ – 22 Days of Death and Destruction, Facts and Figures,” July, 2009 https://www.amnesty.org/en/wp-content/uploads/2021/07/mde150212009eng.pdf, accessed December 2024. 

  • 9

     Jonathan Cook, “Israel’s Booming Secretive Arms Trade,” Al-Jazeera, August, 2013 https://www.aljazeera.com/features/2013/8/16/israels-booming-secretive-arms-trade, accessed December 2024. Neve Gordon, “The Political Economy of Israel’s Homeland Security/Surveillance Industry,” The New Transparency, Working Paper (April 28, 2009). 

  • 10

    Sophia Goodfriend, “Gaza War Offers the Ultimate Marketing Tool for Israeli Arms Companies,” +972 Magazine, January, 2024 https://www.972mag.com/gaza-war-arms-companies/, accessed December 2024. 

  • 11

     Maya Wind, Towers of Ivory and Steel: how Israeli Universities Deny Palestinian Freedom, Verso (2023). 

  • 12

    Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI) “The SIPRI top 100 Arms-Producing and Military Service Companies, 2020,” SIPRI, December, 2020 https://www.sipri.org/sites/default/files/2021-12/fs_2112_top_100_2020.pdf, accessed December 2024. 

  • 13

    Yagil Levy, Israel’s Death Hierarchy: Casualty Aversion in a Militarized Democracy, New York: NYU Press (2012). 

  • 14

    يشيع استخدام مصطلح «المختبر» الفلسطيني، وهو مصطلح مستخدم في الأدبيات النقدية ومن شركات السلاح الإسرائيلية نفسها.

  • 15

     Hussein, 2024. Yoav Zitun, “From deals in the Third World to dubious brokers: a glimpse into the IDF arms race,” Ynet, November 22nd, 2024, https://www.ynetnews.com/article/h1tefly71g; Cf. https://www.haaretz.com/israel-news/2024-09-27/ty-article-magazine/.highlight/retired-israeli-general-giora-eiland-called-for-starving-gaza-does-he-regret-it/00000192-33f5-dc91-a1df-bffff4930000, accessed January 2025. 

  • 16

     Ellen Knickmeyer, “US spends a record $17.9 billion on military aid to Israel since last Oct. 7,” AP, October 9th, 2024, https://www.ap.org/news-highlights/spotlights/2024/us-spends-a-record-17-9-billion-on-military-aid-to-israel-since-last-oct-7/, accessed August 2025; Hagai Amit, “89 Billion NIS in two years: the numbers behind the buying binge of the IDF in the war,” The Marker, July 27, 2025. https://www.themarker.com/allnews/2025-07-27/ty-article/.highlight/00000198-4735-deec-ab9e-e73f8bc40000, accessed August 2025. 

  • 17

    Yuval Azulay, “Israel’s Arms Industry Profits Soar as Wars Fuel Billion-Dollar Contracts,” Calcalist, August, 2024 https://www.calcalistech.com/ctechnews/article/hkuwdfkic, accessed December 2024. 

  • 18

    Zitun, “From deals in the Third World to dubious brokers: a glimpse into the IDF arms race,” Ynet, November 22nd, 2024, https://www.ynetnews.com/article/h1tefly71g 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.