انهيار الصهيونية
- انهيار مشروع دولة لا يتبعه دائماً بديل أفضل. في مناطق أخرى في الشرق الأوسط رأينا كيف يمكن أن تكون النتائج دموية ومستنزفة لفترة طويلة. في هذه الحالة، سيكون الأمر مسألة تفكيك استعمار، وقد أظهر القرن الماضي أنّ الواقع ما بعد الاستعمار لا يحسن دائماً الحالة الاستعمارية
- على مدار أكثر من 56 عاماً، كانت ما سُمِّيَت «عملية السلام» سلسلةً من المبادرات الأميركية-الإسرائيلية طُلِبَ من الفلسطينيين التفاعل معها. اليوم، يجب أن يحل محل «السلام» عملية تفكيك استعمار، ويجب أن يكون الفلسطيني قادراً على بلورة رؤيته للمنطقة.
يمكن تشبيه هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بزلزال يضرب مبنى قديم. كانت الصدوع قد بدأت تظهر بالفعل، لكنّها أضحت الآن مرئية بوضوح في أسس المبنى نفسه. فبعد أكثر من 120 عاماً على تأسيس المشروع الصهيوني في فلسطين – والقائم على فكرة فرض دولة يهودية على بلد عربي مسلم وشرق أوسطي – هل يمكن أن يواجه هذا المشروع احتمال الانهيار؟ من الناحية التاريخية، توجد مجموعة من العوامل قد تتسبّب في انهيار الدولة. قد تنهار بفعل هجمات مستمرة من الدول المجاورة أو عن حرب أهلية مزمنة. وقد تنهار بعد تفكّك المؤسّسات العامة وعجزها عن تقديم الخدمات للمواطنين. وفي غالبية الأحيان، تبدأ عملية الانهيار كعملية بطيئة من التفكّك تكتسب زخماً مع مرور الوقت، ثم في فترة قصيرة، تسقط البنى التي كانت تبدو ذات يوم صلبة وراسخة.
تكمن الصعوبة في رصد المؤشرات المبكرة. وهنا، سأجادل بأنّ هذه المؤشرات باتت في حالة إسرائيل أوضح من أي وقت مضى. نحن نشهد عملية تاريخية – أو بعبارة أدق نشهد بداياتها – من المرجح أن تتوّج بزوال الصهيونية. وإذا صحّ تشخيصي، فنحن على أعتاب مرحلة خطيرة. إذْ ما أن تدرك إسرائيل حجم الأزمة، فإنّها ستطلق العنان لقوة غاشمة لا تتورّع عن أي شيء لمحاولة احتوائها، كما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في أيامه الأخيرة.
انقسام المجتمع اليهودي الإسرائيلي
يتمثّل المؤشر الأول في انقسام المجتمع اليهودي الإسرائيلي. إذ يتكون حالياً من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة. وينبع هذا الانقسام من التناقضات الكامنة في تعريف اليهودية كقومية. بدت الهوية اليهودية في إسرائيل في بعض الأحيان مجرد موضوع نقاش نظري بين الفصائل الدينية والعلمانية، لكنّها أضحت الآن صراعاً على طبيعة المجال العام والدولة. ولا تقتصر هذه المعركة على وسائل الإعلام فحسب، بل تدور في الشوارع أيضاً.
أزعم أنّ مزيجاً متفجراً من هذه المؤشرات سيتسبب عاجلاً أم آجلاً في تدمير المشروع الصهيوني في فلسطين. حين يحدث ذلك، يجب أن نأمل بوجود حركة تحرير قوية جاهزة لملء الفراغ
يمكن تسمية المعسكر الأول «دولة إسرائيل». ويتكوّن من اليهود الأوروبيين العلمانيين والليبراليين من الطبقة المتوسطة في الغالب – وليس حصراً – وذريتهم، أصحاب الدور الحيوي في تأسيس الدولة في العام 1948 وظلوا مهيمنين داخلها حتى نهاية القرن الماضي. لا تنخدع بدفاعهم عن «القيم الديمقراطية الليبرالية»، فإنَّه لا يؤثّر في التزامهم بنظام الفصل العنصري المفروض، بطرائق مختلفة، على جميع الفلسطينيين بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وكل ما يريدونه أن يعيش المواطنون اليهود في مجتمع ديمقراطي تعدّدي يستثني العرب.
يتمثَّل المعسكر الآخر في «دولة يهودا» التي ظهرت بين المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة. تتمتع هذه الدولة بمستويات متزايدة من الدعم داخل البلاد وتشكِّل القاعدة الانتخابية التي أمَّنت فوز نتنياهو في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022. ويتزايد تأثيرها في الصفوف العليا للجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن بشكل متسارع. تسعى دولة يهودا إلى تحويل إسرائيل إلى ثيوقراطية تمتد على كامل فلسطين التاريخية. لتحقيق ذلك، تعتزم تقليل عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى، وتفكر في بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى. يؤمن أعضاؤها بأنّ هذا سيمكِّنهم من تجديد العصر الذهبي للممالك التوراتية. واليهود العلمانيون في نظر هؤلاء هراطقة كالفلسطينيين إذا رفضوا الانضمام إلى هذا المسعى.
بدأت الصدامات الحادة بين المعسكرين قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبدا في الأسابيع الأولى من الهجوم أنّهما وضعا خلافاتهما على الرفّ في مواجهة عدوٍ مشترك. لكن كان هذا محض أوهام. فقد عادت المواجهات إلى الشارع، وما من بوادر تشي بالمصالحة بين الطرفين. والنتيجة الأرجح تتبدّى أمام أعيننا. فقد غادر نصف مليون إسرائيلي، من أتباع معسكر «دولة إسرائيل»، خارج البلاد منذ تشرين الأول/أكتوبر، وهذا مؤشر على أنّ «دولة يهودا» تبتلع البلاد. وهذا مشروع سياسي لن يقبله العالم العربي على المدى الطويل، وربما العالم أجمعه.
الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية
يتمثَّل المؤشر الثاني في الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية. لم تبدِ الطبقة السياسية أي خطة لتحقيق التوازن في المالية العامة وسط الصراعات المسلحة المستمرّة، بل اعتمدت بازدياد على المساعدات المالية الأميركية. تراجع الاقتصاد بنحو 20% في الربع الأخير من العام الماضي؛ ومنذ ذلك الحين، بقي الانتعاش هشّاً. لن يتمكّن تعهّد واشنطن بتقديم 14 مليار دولار من عكس هذا الاتجاه. على العكس، سوف يتفاقم العبء الاقتصادي إذا اتبعت إسرائيل نيّتها في الحرب مع حزب الله وزادت من النشاط العسكري في الضفة الغربية، في وقت بدأت فيه بعض الدول - من بينها تركيا وكولومبيا - بفرض عقوبات اقتصادية.
غادر نصف مليون إسرائيلي من أتباع معسكر «دولة إسرائيل» خارج البلاد منذ تشرين الأول/أكتوبر، وهذا مؤشر على أنّ «دولة يهودا» تبتلع البلاد، وهذا مشروع سياسي لن يقبله العالم العربي وربما العالم
تتفاقم الأزمة بسبب عدم كفاءة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي يحوّل الأموال باستمرار إلى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، لكنه يبدو عاجز عن إدارة وزارته. يتسبّب الصراع بين «دولة إسرائيل» و«دولة يهودا»، إلى جانب أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، في نقل بعض النخب الاقتصادية والمالية لرأسمالها خارج الدولة. ومَن يفكرون بنقل استثماراتهم يشكّلون جزءاً كبيراً من الـ20% من الإسرائيليين الذين يدفعون 80% من الضرائب.
تزايد عزلة إسرائيل الدولية
يتمثّل المؤشر الثالث في تزايد عزلة إسرائيل الدولية، إذ تتحوّل تدريجياً إلى دولة منبوذة. بدأ هذا التحوّل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر لكنّه ازداد حدةً منذ بدء الإبادة الجماعية. ينعكس ذلك في المواقف غير المسبوقة لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. سابقاً، تمكّنت حركة التضامن العالمية مع فلسطين من حشد الناس للمشاركة في مبادرات المقاطعة، لكنّها فشلت في الدفع باحتمال فرض عقوبات دولية. في معظم البلدان، لا يزال دعم إسرائيل راسخاً بين المؤسسات السياسية والاقتصادية.
في هذا السياق، يجب النظر إلى القرارات الأخيرة لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية - ارتكاب إسرائيل ما قد يرقى إلى إبادة جماعية، ووجوب وقف هجومها على رفح، ووجوب اعتقال قادتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب - على أنّها محاولة للإنصات لآراء المجتمع المدني العالمي، بدلاً من مجرد عكس آراء النخبة. لم تخفّف هذه المحاكم من الهجمات الوحشية على سكان غزة والضفة الغربية، لكنّها ساهمت في زيادة حدة الانتقادات الموجهة للدولة الإسرائيلية، الآتية بشكل متزايد من الطبقات العليا والدنيا على حد سواء.
التغيير الجذري بين الشباب اليهود حول العالم
يتمثّل المؤشر الرابع في التغيير الجذري بين الشباب اليهود حول العالم. بعد أحداث الأشهر التسعة الماضية، يبدو أنّ العديد من هؤلاء مستعدٌ الآن للتخلي عن ارتباطه بإسرائيل والصهيونية والمشاركة بنشاط في حركة التضامن مع فلسطين. كانت الجاليات اليهودية، لا سيما في الولايات المتحدة، تمنح إسرائيل حصانة فعّالة ضد النقد. وفقدان هذا الدعم، أو على الأقل فقدانه جزئياً، له تداعيات كبيرة على مكانة البلاد العالمية. لا يزال بإمكان لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) الاعتماد على المسيحيين الصهاينة لتقديم المساعدة وتدعيم صفوفها، لكنّه لن تكون منظمة قوية من دون قاعدة يهودية كبيرة. إنّ قوة اللوبي آخذة في التراجع.
ضعف الجيش الإسرائيلي
يتمثل المؤشر الخامس في ضعف الجيش الإسرائيلي. لا شك أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قوة قوية تمتلك أسلحة متطورة. بيد أنّ حدوده انكشفت في 7 تشرين الأول/أكتوبر. يشعر العديد من الإسرائيليين بأنّ الجيش كان محظوظاً للغاية، حيث كان يمكن للوضع أن يكون أسوأ بكثير لو انضم حزب الله إلى هجومٍ منسق. منذ ذلك الحين، أظهرت إسرائيل أنّها تعتمد باستماتة على تحالف إقليمي، بقيادة الولايات المتحدة، للدفاع عن نفسها ضد إيران التي شنّت هجوماً تحذيرياً عليها في نيسان/أبريل باستخدام قرابة 170 مسيّرة بالإضافة إلى صواريخ باليستية وموجّهة. بات المشروع الصهيوني يعتمد، أكثر من أي وقت مضى، على التسليم السريع لكميات هائلة من الإمدادات من الأميركيين، ولولاها ما أمكنه حتى محاربة جيش صغير من المغاوير في الجنوب.
يشعر العديد من الإسرائيليين بأنّ الجيش كان محظوظاً للغاية، حيث كان يمكن للوضع أن يكون أسوأ بكثير لو انضم حزب الله إلى هجومٍ منسق
تسود الآن قناعة واسعة الانتشار بين السكان اليهود في البلاد بعدم استعداد إسرائيل وعجزها عن الدفاع عن نفسها. أسفر ذلك عن ضغوط كبيرة لإلغاء الإعفاء العسكري لليهود الحريديم - المعمول به منذ العام 1948 - وبدء تجنيدهم بالآلاف. لن يُحدث هذا فرقاً كبيراً في ساحة المعركة، لكنّه يعكس حجم التشاؤم بالجيش - ليعمّق بدوره الانقسامات السياسية داخل إسرائيل.
تجدد الطاقة بين الجيل الشاب من الفلسطينيين
يتمثَّل المؤشر الأخير في تجدد الطاقة بين الجيل الشاب من الفلسطينيين. يبدو هذا الجيل أكثر وحدة وترابطاً ووضوحاً بشأن آفاقه مقارنةً بالنخب السياسية الفلسطينية. وبما أنّ سكان قطاع غزة والضفة الغربية من بين أصغر السكان سناً في العالم، فإنّ هذه الفئة الجديدة ستكون لها تأثير هائل في مسار معركة التحرير. تكشف لنا المناقشات بين مجموعات الشباب الفلسطيني عن انشغال الشباب بإقامة منظمة ديمقراطية حقيقية - إما منظمة التحرير الفلسطينية مجدّدة أو إقامة منظمة جديدة كلياً - تسعى إلى رؤية تحرّرية تقف على النقيض من حملة السلطة الفلسطينية للاعتراف بها كدولة. ويبدو أنّهم أميل إلى حل الدولة الواحدة وليس نموذج الدولتين المرفوض.
هل سيكون هذا الجيل قادراً على تنظيم استجابة فعّالة لأفول الصهيونية؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه. فانهيار مشروع دولة لا يتبعه دائماً بديل أفضل. في مناطق أخرى في الشرق الأوسط - مثل سوريا واليمن وليبيا - رأينا كيف يمكن أن تكون النتائج دموية ومستنزفة لفترة طويلة. في هذه الحالة، سيكون الأمر مسألة تفكيك استعمار، وقد أظهر القرن الماضي أنّ الواقع ما بعد الاستعمار لا يحسن دائماً الحالة الاستعمارية. وحدها إرادة الفلسطينيين يمكنها توجيهنا إلى الاتجاه الصحيح. أزعم أنّ مزيجاً متفجراً من هذه المؤشرات سيتسبب عاجلاً أم آجلاً في تدمير المشروع الصهيوني في فلسطين. حين يحدث ذلك، يجب أن نأمل بوجود حركة تحرير قوية جاهزة لملء الفراغ.
على مدار أكثر من 56 عاماً، كانت ما سُمِّيَت «عملية السلام» - وهي عملية لم تؤدِ إلى نتيجة - سلسلةً من المبادرات الأميركية-الإسرائيلية طُلِبَ من الفلسطينيين التفاعل معها. اليوم، يجب أن يحل محل «السلام» عملية تفكيك استعمار، ويجب أن يكون الفلسطيني قادراً على بلورة رؤيته للمنطقة، وأن يُطلب من الإسرائيليين التفاعل مع هذه الرؤية. سيمثِّل هذا المرة الأولى، على الأقل منذ عقود عديدة، التي تأخذ فيها الحركة الفلسطينية الزمام في تقديم مقترحاتها لفلسطين بعد الاستعمار وخارج نطاق الصهيونية (أو أياً كان مسمى هذا الكيان الجديد). وفي مبادرتها هذه، قد تلتفتُ ربما إلى أوروبا (ربما إلى كانتونات سويسرا ونموذج بلجيكا)، أو بالأحرى إلى البنى القديمة في البحر الأبيض المتوسط الشرقي، حيث تحوّلت الجماعات الدينية المعلمنة إلى جماعات عرقية وثقافية تعيش جنباً إلى جنب على أرض واحدة.
وسواء رحب الناس بالفكرة أو انفضوا عنها، فإنّ انهيار إسرائيل بات وارداً. وهذا الاحتمال يجب أن يوجه النقاش طويل الأمد حول مستقبل المنطقة. سيفرض هذا الموضوع نفسه على الأجندة مع إدراك الناس أنّ المحاولة التي استمرت لقرن من الزمن، بقيادة بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة، لفرض دولة يهودية على بلد عربي تقترب ببطء من نهايتها. كانت هذه المحاولة ناجحة بما يكفي لخلق مجتمع من ملايين المستوطنين، العديد منهم الآن من الجيل الثاني والثالث. لكن وجودهم لا يزال يعتمد، كما كان عند وصولهم، على قدرتهم على فرض إرادتهم بالقوة على ملايين السكان الأصليين الذين لم يتخلّوا قط عن نضالهم من أجل تقرير المصير والحرية في وطنهم. في العقود المقبلة، سيضطر المستوطنون للتخلي عن هذا النهج وإظهار استعدادهم للعيش كمواطنين متساوين في فلسطين محررة بعدما فككت الاستعمار.
نشر هذا المقال في Sidecar في 21 حزيران/يونيو 2024، وترجم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.