معاينة beirut one conf

مؤتمر «بيروت 1»
محاولة لتبييض اقتصاد مأزوم

انعقد مؤتمر «بيروت 1» في 18 و19 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي في لحظة إقليمية دقيقة، تتواصل فيها جهود الولايات المتّحدة وإسرائيل وحلفائهما في المنطقة لإرساء أسس ما يسمّونه «الشرق الأوسط الجديد»، أو النظام الإقليمي الخاضع للتفوّق العسكري والتكنولوجي والعقوبات الاقتصادية والحرمان من الحماية والمساعدات. ففي هذه اللحظة، وفي ظل الضغوط القاسية التي يتعرّض لها لبنان والتهديد المستمرّ بتصعيد الحرب عليه ومحاصرته ومنعه من النهوض، تسعى الحكومة اللبنانية إلى إظهار نفسها «مستعدّة» لتولّي عملية الضبط الداخلي ونزع سلاح حزب الله والمخيّمات الفلسطينية وبسط سلطة الدولة على جميع أراضيها والتفاوض مع إسرائيل على ترتيبات سياسية وأمنية تترجم نتائج هذه الحرب وتعفي لبنان من خسائر إضافية وتدمير أكبر. 

أتى مؤتمر «بيروت 1» لإظهار هذا «الاستعداد» على صعيد «إصلاح» الدولة والاقتصاد، أو بمعنى تقني أدقّ، إصلاح السياسات والمؤسّسات لتصبح أكثر استجابة لشروط التكيّف مع «النظام الإقليمي الجديد» والوظائف التي يمكن أن يؤدّيها الاقتصاد اللبناني تحت عنوان «إعادة وصل لبنان بمحيطه العربي والنظام الدولي». 

أتى مؤتمر «بيروت 1» لإظهار هذا «الاستعداد» على صعيد إصلاح السياسات والمؤسّسات لتصبح أكثر استجابة لشروط التكيّف مع «النظام الإقليمي الجديد» والوظائف التي يمكن أن يؤدّيها الاقتصاد اللبناني 

هذا المؤتمر الذي بدأت التحضيرات لانعقاده منذ تشكيل الحكومة الحالية في شباط/فبراير 2025، بعد عدوان إسرائيلي واسع، يستعير اسمه «بيروت 1» من الأدبيات السابقة التي عارضت مؤتمرات باريس 1 و2 و3 و4 (سيدر)، أي عارضت الحصول على دعم خارجي لشراء المزيد من الوقت وتأجيل الانهيار، وطالبت بالعمل على تحقيق توافق داخلي على الإصلاحات المطلوبة وحشد الموارد المحلّية والبناء على المزايا التفاضلية للنهوض بالاقتصاد والمجتمع. إلا أن هذه الاستعارة، التي جاءت مدفوعة بالخطاب السيادي وإعلاء شأن «الدولة»، لم تحمل مضمون الأدبيات السابقة نفسه، فبدا توقيت انعقاد المؤتمر في لحظة فراغ، في قلب مشهد ضبابي، حيث جميع المسارات التي أعلنت الحكومة عن نيّتها السير بها، باتت معلّقة على مسار واحد هو قبول حزب الله بالاستسلام أو جرّ البلاد إلى المزيد من الانهيارات والأزمات على المدى الطويل.

فعلى الرغم من تقديم المؤتمر كمنصّة إنقاذية تستعيد خطاب «السيادة» وتعيد الاعتبار لـ«الدولة»، كشفت النقاشات أن «البعد السيادي» لم يُطرح ضمن رؤية إصلاحية متكاملة بل كمعيار مُسبق للحكم على إمكان حصول لبنان على الدعم وجذب الاستثمار. وبالفعل عبّر ممثلو الجهات الخليجية والعربية المشاركة في المؤتمر وممثلو القطاع الخاص والمؤسسات الدولية والمالية عن هذا الربط بشكل واضح. 

تأكيدات الوزراء بأن لبنان ينفّذ الإصلاحات التي لطالما طُلبت منه، والسير قدماً في ملف «بسط السيطرة»، مثل «تركيب سكانرز في المطار والمرافئ وضبط التهريب»، لم تحل دون تأكيد المشاركين في المؤتمر على أن أي خطوة جدّية ستبقى معلّقة على «الوضع الأمني، ومسألة السلاح، وضبط الحدود، ومنع تهريب المخدّرات». وهذا ما دفع بعض المشاركين من القطاع الخاص إلى التعليق «أن المؤتمر عُقِد قبل أوانه بكثير»، أي أن هناك شروط كثيرة لم تتحقّق لنجاح هذا المؤتمر، ولا سيما في مجال «الأمن»، وهذا ما عبّر عنه المدير العام لشركة «بيمكو» جميل باز، عندما قال أنّ مشاكل لبنان «كبيرة جداً» وأن الدولة «بحاجة لقرارات أكبر»، فـ«من دون احتكار السلاح والقوّة لن يكون هناك استقرار». وهذا ما شدّد عليه المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لـ«إنفوس» راي دبّان، بأنّ «تثبيت الاستقرار شرط لتحفيز الاقتصاد»، فيما أشار رئيس مجلس إدارة «روتانا» ناصر النويس إلى أن «النظام الضريبي جيّد والتسهيلات المالية مشجّعة لكن الأمن مفقود». حتى أن رئيس الهيئات الاقتصادية اللبنانية، رئيس اتحاد غرف التجارة والزراعة والصناعة، محمد شقير كان صريحاً في إشهار خطاب العجز، فـ«قرار دعم لبنان لم يصدر بعد، والجميع ينتظر الاتفاق على القرار 1701»، بينما ذكّر وزير الصناعة جو عيسى الخوري بأنّ «حصرية السلاح بيد الجيش شرط أساسي للدول لمساعدة لبنان»، فيما شدّد رئيس الحكومة نواف سلام صراحة على أنّ لبنان «لن يستطيع جذب الاستثمارات من دون شعور فعلي بالأمن والأمان والاستقرار». وربط هذا الشعور حصراً بـ«بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بقواها الذاتية»، مشيراً إلى بدء انتشار الجيش في الجنوب وصولاً إلى شمال الليطاني، بهدف «احتواء السلاح ومنع استخدامه أو نقله». وبرأيه، فإنّ نجاح هذه الخطة يشكّل الشرط المؤسِّس لـ«بيئة جاذبة للاستثمار».

هل نجح المؤتمر؟

لم يعد الهدف من انعقاد مؤتمر «بيروت 1» واضحاً لكي يجري الحكم عليه. ففي بداية التحضيرات سيطرت قناعات بأن هذه الحكومة ستحظى بدعم خارجي واسع لتمكينها من القيام بعملية الضبط الداخلي، وبالتالي كان الهدف من التحضير له هو الإعلان عن «رؤية الحكومة الاقتصادية» وطرح برنامج للمشاريع والعقود المعروضة أمام المستثمرين من القطاع الخاص، ولا سيما من الخليج. وكانت الفرضيات الشائعة تقوم على أن إقرار الحكومة الورقة الأميركية وحصرية السلاح بيد الدولة، سيُستتبع بالوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل الانتخابات النيابية المقبلة في أيار/مايو 2026، وعقد مؤتمر «دعم لبنان» بمبادرة فرنسية لحشد التمويل الخارجي لإعادة الإعمار وإعادة الهيكلة والاستثمار الأجنبي المباشر.على الرغم من تقديم المؤتمر كمنصّة إنقاذية تستعيد خطاب «السيادة» وتعيد الاعتبار لـ«الدولة»، كشفت النقاشات أن «البعد السيادي» لم يُطرح ضمن رؤية إصلاحية متكاملة بل كمعيار مُسبق للحكم على إمكان حصول لبنان على الدعم وجذب الاستثمار

إذا كان مقياس النجاح أو الفشل مرتبط بالهدف الأول لتحضيرات المؤتمر، فهو فشل فشلاً ذريعاً. فعدا أن جميع الرهانات والفرضيات لم تصحّ حتى الآن، ما زال لبنان في عين العاصفة ولم ترسو أوضاعه على برّ. أمّا إذا كان المقياس هو مساهمة هذا المؤتمر في كسر جمود الانتظار، فلم تُعرض في المؤتمر أي خطّة أو رؤية مقرّة من قبل الحكومة، واكتفى وزير الاقتصاد والتجارة عامر بساط، بوصفه الجهة المنظّمة للمؤتمر نيابة عن الحكومة، باستعراض عناوين عامّة وأفكار تشكّل مسودّة أولية لما يمكن أن تكون عليه خطة الحكومة ورؤيتها، كما اكتفى الوزراء الآخرون باستعراض أفكارهم لما يودّون القيام به في نطاق اختصاص وزاراتهم. كذلك، جاءت مشاركة بعض ممثلي الشركات والصناديق والمؤسسات الدولية أقرب إلى المجاملة والعلاقات العامة والاستطلاع منها إلى الانخراط في ورشة الاستثمار المطلوبة.

ما هي عناوين رؤية الحكومة المؤجّلة؟

عُرِض في «مؤتمر بيروت 1» مساراً افتُرض أن تنفيذه سيعيد تشغيل الدورة الاقتصادية، وفتح الباب أمام استثمارات عربية ودولية، ووضع البلد على سكّة التعافي التدرّجي. يقوم هذا المسار على 3 أعمدة هي: أولاً، سياسات مالية ومؤسّساتية واسعة تشمل القطاع المصرفي والقضاء والهيئات الناظمة والإدارة العامة. ثانياً، استعادة الاستقرار السياسي والأمني عبر بسط سلطة الدولة وبناء بيئة قانونية وضريبية مطمئنة للاستثمار. وثالثاً إعادة وصل لبنان بالعالم العربي والدولي عبر تصحيح العلاقات، وضبط الحدود، والالتزام باتفاق مع صندوق النقد الدولي، واستعادة موقع لبنان كوجهة استثمارية. 

في هذا السياق، قدّم وزير الاقتصاد والتجارة، عامر بساط، في المؤتمر ما اعتبره خارطة طريق تبدأ بحلّ الأزمة المصرفية وإعادة هيكلة النظام المالي، وتوفير الطاقة والاتصالات وخدمات النقل الموثوق بكلفة مقبولة، وإعادة بناء البنية التحتية والمخزون الرأسمالي المتضرّر، وتثبيت الاقتصاد الكلّي عبر اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتحديث الإدارة، ورقمنة الخدمات، وضمان استقلالية القضاء، وبناء بيئة ضريبية وقانونية آمنة وجاذبة للاستثمار. 

إذا كان مقياس النجاح أو الفشل مرتبط بالهدف الأول لتحضيرات المؤتمر، فهو فشل فشلاً ذريعاً أمّا إذا كان المقياس هو مساهمة هذا المؤتمر في كسر جمود الانتظار، فلم تُعرض في المؤتمر أي خطّة أو رؤية مقرّة من قبل الحكومة

وأعلن بساط أن خطّة الحكومة ستتضمّن 243 فعلاً إصلاحياً في 17 قطاعاً، بهدف رفع الناتج المحلي الإجمالي من 30 مليار دولار حالياً إلى 78 مليار دولار بحلول العام 2035، ورفع الصادرات من 3 مليارات إلى 20 مليار دولار. وذلك عبر حشد نحو 74 مليار دولار من الاستثمارات، معظمها من القطاع الخاص، والانتقال من اقتصاد قائم على الاستهلاك والدّين والاستيراد إلى اقتصاد منتج يرتكز على الاستثمار والتصدير والمحاسبة ودولة أكثر فعالية وعدالة. وفي السنة الأولى، وفق ما أعلن البساط، ستعرض الحكومة فرص استثمار في البنى التحتية للطاقة والنقل والأشغال العامة والنفايات الصلبة بقيمة تبلغ 5.789 مليارات دولار.

المناقشات: عرض لائحة مشاريع لا خطة عمل

لم تُناقش خطّة الحكومة أو رؤيتها لأنها ببساطة لم تُعرض على المشاركين كوثيقة، وإنما عُرضت عليهم كلوائح «حاجات» قطاعية قدّمها الوزراء، وخطابات تطمئن المستثمرين على أن الدولة تقوم بالإصلاحات المطلوبة منها، وأنها ستكتفي بدور المراقب والمشرّع فقط. 

1. في الإصلاح المالي: راهن رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد على التوصل إلى اتفاق على برنامج قروض مع صندوق النقد الدولي يساعد في إعادة هيكلة الجهاز المصرفي والديون العامّة، كما أعلن حاكم مصرف لبنان كريم سعيد عن التوجّه إلى إنجاز قانون الفجوة المالية قبل نهاية السنة وإعادة هيكلة المصارف ورسملتها وبقاء الأقوى ضمنها، فيما عبّر وزير المال ياسين جابر عن توجّه لمكافحة اقتصاد الكاش وصولاً إلى إلغائه تدريجياً، فضلاً عن تحقيق فائض أوّلي في الموازنة، وتوسيع الجباية عبر إصلاح الجمارك ومكافحة التهريب ورقمنة القطاع المالي والإداري.

2. في الحوكمة والمؤسسات: أجمع معظم الوزراء الذين عرضوا خططهم على أن الإشكالية الأساسية تتمثّل في ضعف المؤسسات العامة، غياب ثقة المواطن بالدولة وثقة العرب والمستثمرين فيها، وبيروقراطية تُعطّل الاستثمار، إضافة إلى عدم استكمال بنود الطائف المرتبطة ببسط السيادة وفق ما أشار رئيس الحكومة نفسه. عليه، عملت الحكومة على تشكيل الهيئات الناظمة للكهرباء والاتصالات والطيران المدني والقنب الهندي، وتنوي العمل على تعزيز استقلالية القضاء عبر مشاريع تخصّ القضاء العدلي والإداري والمالي بحسب سلام، ورفع مستوى رقمنة الخدمات الحكومية إلى 80% بحلول 2030 بحسب وزير الذكاء الاصطناعي كمال شحادة.

3. في الطاقة: يعاني القطاع من قدرة إنتاجية لا تتجاوز ثلث الطلب، وغياب وقود مستدام، وشبكات متآكلة ما يعيق الاستثمار ويؤخره. وعليه أشار وزير الطاقة جو صدي إلى نيّة إشراك القطاع الخاص في الإنتاج والتشغيل، وفي بناء محطتَي كهرباء تعملان على الغاز بقدرة 1.6 غيغاواط لكلّ محطة بكلفة 2.5 مليار دولار، وتطوير محطّات عائمة لتغويز الغاز أو نقله عبر خطوط برية، وتأهيل شبكة النقل والتوزيع عبر قرض من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار. والهدف تحقيق كهرباء 24/24 بين 2028–2030.

4. في النفايات والمياه والصرف الصحي: تتمثّل الإشكالية في تدهور أنظمة المياه وعدم توفر التمويل الكافي لتأهيل الصرف الصحي. طرح وزير الطاقة استثمارات بقيمة 200–300 مليون دولار لتأهيل موارد المياه، فيما عبّر رئيس مجلس الإنماء والإعمار محمد علي قباني عن وجود مشاريع عالقة لاستكمال شبكات الصرف الساحلية عبر شراكات مع القطاع الخاص بقيمة 550 مليون دولار، وتنفيذ مشاريع قائمة لدى مجلس الإنماء والإعمار بقيمة 100 مليون دولار، إضافة إلى مشاريع للبنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار، وخطط لإدارة النفايات الصلبة بما يفوق 1.6 مليار دولار.

5. في النقل والأشغال العامة: طرح وزير الأشغال العامة والنقل فايز رسامني مشاريع نقل بقيمة 1.63 مليار دولار بالشراكة مع القطاع الخاص، تقوم على إعادة تأهيل مطار بيروت الدولي لرفع قدرته إلى 16 مليون مسافر وتأهيل وتشغيل مطار رينيه معوّض، وتطوير مرافئ بيروت وطرابلس وجونية، فضلاً عن استكمال مشروع الأوتوستراد العربي، وتنفيذ قرض بقيمة 250 مليون دولار لإعادة إعمار البنى التحتية بعد حرب 2023–2024.

6. في الاتصالات: أكّد وزير الاتصالات شارل الحاج أن خطّة وزارته لتحويل الاتصالات من مصدر جباية إلى قطاع محرّك للنمو عبر تطوير الشبكات والاستثمار في شركات الخلوي إلى حين تحرير السوق بالكامل بعد 3 سنوات من الآن وإطفاء دور الدولة التشغيلي. وذلك من خلال تنفيذ القانون 431 وإنشاء شركة ليبان تيليكوم بحلول 2026 لفتح الباب أمام شراكات استثمارية مع القطاع الخاص، وتحديث شبكات الخلوي للوصول إلى تغطية الجيل الخامس بنسبة 70%، وتمديد الألياف الضوئية إلى 500 ألف منزل، وتعزيز الربط الدولي عبر كابل بحري جديد، مع إتاحة خدمات الأقمار الاصطناعية مثل ستارلينك. 

7. في الصناعة: تشمل الإشكاليات كلفة الإنتاج المرتفعة، المنافسة غير الشرعية وممارسات الإغراق، وضعف التمويل، وانعدام البنى التحتية والكهرباء. إلا أن وزير الصناعة جو عيسى الخوري أشار إلى عن وضع خطة صناعية ترتكز على 6 قطاعات أساسية وهي الصناعات الغذائية، والسلع الاستهلاكية، والصناعات الإبداعية، والتكنولوجيا، والصناعات الطبية، والصناعات التحويلية. على أن تشمل الإجراءات إنشاء مناطق صناعية خاصة، تخفيض كلفة الإنتاج عبر تحسين الكهرباء والإنترنت، ودعم البحث والتطوير، والترويج للصادرات عبر اتفاقات تجارية ومراقبة الجودة، فضلاً عن خلق بيئة تنافسية وجاهزة للاستثمار من خلال تعديل الأنظمة والقوانين.

8. في الزراعة: أشار وزير الزراعة نزار هاني إلى أن القطاع الزراعي يواجه تغيّرات مناخية قاسية ونقص في البنى التحتية الخاصة بالتسويق والتصنيع. وأعلن عن خطة زراعية لرفع مساهمة القطاع إلى 12% من الناتج المحلي بحلول العام 2036، من خلال تفعيل السجل الزراعي الذي يضمّ حالياً بيانات لنحو 50% من المزارعين، وتوسيع التكنولوجيا الزراعية، وإنشاء مناطق للتوضيب، والاستثمار في الفواكه الاستوائية والعنب والنباتات الطبية والأسماك، فضلاً عن تنفيذ مشاريع بقيمة 200 مليون دولار لبناء مشاريع زراعية قادرة على التكيّف المناخي وتمويل المؤسسات الصغيرة.

9. في السياحة: طرحت وزيرة السياحة لورا الخازن رؤية تركّز على توجيه الاستثمارات نحو قطاعات تتوافق مع هوية لبنان وموقعه من خلال السياحة الثقافية والبيئية الجبلية وسياحة المؤتمرات، دعم بيوت الضيافة والدروب السياحية، بناء هوية سياحية قائمة على الجودة. 

ماذا يعني كلّ ذلك؟

لا يوجد خلاف على أن ما تتضمّنه لائحة الحاجات المذكورة هو من الضرورات في أي برنامج أو خطّة لتحسين ظروف الاقتصاد اللبناني بعد سلسلة الانهيارات والأزمات التي عانى منها، ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة. وعلى الرغم من إعلان وزير الاقتصاد عامر بساط في اليوم الثاني للمؤتمر عن إبداء نحو 160 شركة اهتمامها بالاستثمار بمشاريع بقيمة 2 مليار دولار موزّعة على 8 قطاعات، إلا أن مؤتمر «بيروت 1» لم ينجح في تقديم الحاجات كخطّة متكاملة للخروج من الوضع القديم إلى وضع جديد، بل قدّمها كاستمرار للسياسات السابقة إنما مع وعد بالكفاءة في التنفيذ. فالخطة غير المُعلنة التي تنتمي إليها هذه اللوائح من المشاريع تعيد التأكيد على الخيارات القديمة من دون تعديلات جوهرية، ولا سيما على صعيد ثلاثة أساسات قام عليها الاقتصاد السياسي للبنان منذ زمن طويل.

أولاً، العروض والمناقشات في مؤتمر «بيروت 1» ركّزت بشكل مبالغ به على الاستثمارات الخاصّة بدلاً من الاستثمارات العامّة، وقدّمت مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ولا سيّما في الخدمات العامّة، كما لو أنها الإصلاح الرئيس الذي يحتاج إليه الاقتصاد اللبناني للإقلاع من جديد. 

تهدف عقود الشراكة إلى تنفيذ مشروعات عامّة أو إدارة وتشغيل مرافق وخدمات عامّة. ظهر هذا النوع من العقود والامتيازات في التسعينيات من القرن الماضي، كردّ فعل على فشل سياسات الخصخصة، وباتت «الشراكة» هي الوصفة الجاهزة التي تفرضها المؤسسات الدولية على الدول الضعيفة، باعتبار ذلك ثمناً ضرورياً لمعالجة أوجه التخلّف والقصور في البنى التحتية والخدمات، حتى ولو كان هذا الثمن يرتّب أكلافاً كبيرة لا تنحصر بالكلفة الأعلى لتنفيذ المشروع عبر الشركات الخاصة بالمقارنة مع كلفة تنفيذها عبر القطاع العام. 

ولكن «الشراكة مع القطاع الخاص» ليست شكلاً جديداً في لبنان، بل أن سكّان هذا البلد اختبروا نتائج هذه العقود في قطاع النفايات والكهرباء والاتصالات والبريد والمقاولات وسوى ذلك من عقود الامتيازات الموروثة من الانتداب الفرنسي في بدايات القرن العشرين... وكانت النتيجة الأبرز التي عاني منها سكان لبنان هي في اضطرارهم إلى دفع أعلى كلفة للحصول على حق أو خدمة بأقل جودة ونوعية وكفاءة.

ثانياً، طغت الشعارات على الخطاب المقدّم في المؤتمر، مثل شعار «الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج» و«استبدال نموذج النمو بالدين بنموذج النمو المدفوع بالاستثمار». هذه الشعارات جيّدة، ولكن لا منظّمي المؤتمر ولا المشاركين فيه قدّموا تشخيصاً واضحاً لما يعتقدون أنه اقتصاد ريعي، ولا قدّموا تصوّراً لما يعتبرون أنه اقتصاد منتج، كما أنهم لم يوضحوا الوسائل التي يمكنهم اللجوء إليها لنقل الموارد من الريع إلى الإنتاج. 

تجاهل المشاركون في المؤتمر أنّ عروضهم تتناقض أحياناً مع شعاراتهم، فاستبدال النمو بالدَّين بالنمو بالاستثمار بحسب ما قال وزير الاقتصاد عامر بساط، تمّت ترجمته بعقود الشراكة التي تنطوي على تحويل جزء من الدين العام إلى التزامات مخفية تُدفَع لاحقاً

في هذا السياق، غاب عن المؤتمر أي إشارات واضحة حول النظام الضريبي، باستثناء ما عبّر عنه وزير الاقتصاد عن ضرورة «الانتقال إلى نظام ضريبي جاذب للاستثمار»، ولا عن السياسات الصناعية وتوجيه الائتمان ودعم الزراعة والتنمية الريفية والأقطاب المدينية واستخدامات الأراضي… بل تمّ التركيز على فتح الأسواق القائمة ووضع الأصول الموجودة تحت تصرّف القطاع الخاص وتحديداً الأصول العامّة في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات والنفايات الصلبة، بدلاً من توجيهه نحو فتح أسواق جديدة وخلق أصول إضافية تساهم في زيادة ثروة لبنان لا إعادة توزيع الثروة الموجودة على أصحاب رأس المال. وفي هذا الإطار، لم يجد وزير الصناعة أي تعارضاً في قوله أن «الشخص يمكن أن يكون تاجراً وصناعياً في الوقت نفسه»، في تجاهل كامل لشروط تعزيز الصناعة على حساب التجارة أو تحويل الاقتصاد من مستورد إلى مصدّر.

إلى ذلك، تجاهل المشاركون في المؤتمر أنّ عروضهم تتناقض أحياناً مع شعاراتهم، فاستبدال النمو بالدَّين بالنمو بالاستثمار بحسب ما قال وزير الاقتصاد عامر بساط، تمّت ترجمته بعقود الشراكة التي تنطوي على تحويل جزء من الدين العام إلى التزامات مخفية تُدفَع لاحقاً، بدل أن تظهر مباشرة في الموازنة. فالدولة، بدل أن تستدين وتنفّذ مشروعاً وفق الآلية التقليدية – دفتر شروط، مناقصة، تنفيذ، ودفع مباشر – ستعقد اتفاقاً طويل الأمد مع شركة خاصة تتولّى التمويل والتنفيذ، وتستعيد أموالها وأرباحها من خلال أحد مسارين: إمّا تسديدات سنوية من الدولة كأقساط تمتدّ سنوات طويلة، تُسجَّل في الموازنة كـ«نفقة» بدل أن تُسجَّل كـ«دَيْن»، ما يخفي جزءاً من العجز والفوائد، أو عبر منح الشركة حقّ جباية إيرادات عامة (رسوم، تعرفة خدمات، إلخ) مباشرة من الناس، ما يعني عملياً نقل جزء من المال العام إلى القطاع الخاص لسنوات طويلة. وجوهر المشكلة ليس في أن القطاع الخاص ينفّذ المشاريع – فهذا يحصل أصلاً في الآلية العادية – بل في التلاعب بالمحاسبة العامّة عبر إخفاء الدَّين وتجميله، وفي التنازل عن دور الدولة في تحديد حاجاتها وشروط المشاريع، لأن عقود الشراكة غالباً تُصاغ بما يناسب المستثمر أكثر مما يناسب المصلحة العامة. والنتيجة أن الدولة لا تربح «استثمارات مجانية» كما يروّج، بل تدفع الكلفة نفسها وأكثر أحياناً وبأقل شفافية. عدا أن عقود الشراكة طويلة الأمد تُنتج احتكارات خاصّة لأن المستثمر يسيطر وحده على قطاع أو خدمة لسنوات. باختصار: الشراكة كما تُطرح في لبنان ليست طريقة لخلق رأس مال ثابت، بل آلية محاسبية – سياسية لنقل الدَّين إلى الظلّ، ومنح القطاع الخاص امتيازات طويلة الأمد على حساب المصلحة العامة.

ثالثاً، طغى على مؤتمر «بيروت 1» الخطاب التكنوقراطي، إذ تستبطن الرؤية التي طرحها الوزراء المشاركين، وهم أساساً شخصيات آتية من القطاع الخاص أو تحمل خبرات تقنية، أنّ المشكلة الأساسية في لبنان هي سوء الإدارة، وغياب الكفاءة، وهيمنة «طبقة سياسية» «لا تعرف» أو «فاسدة» أو «غير مؤهلة»، وأن الحلّ يكمن في استبدالها بتكنوقراط يمتلكون خبرات تقنية وقدرة على «إدارة الدولة كما تُدار الشركات». بهذا المعنى، تُعاد صياغة الأزمة العميقة التي يعيشها لبنان كمسألة تقنية أكثر منها بُنيوية، كأنّ الانهيار لم يكن نتاج نموذج اقتصادي–سياسي متجذّر يُنتج اللامساواة، ويعمّق الفقر، ويحابي القطاعات المالية والريعية والخدمية على حساب الإنتاج، ويشجّع على الهجرة، بل مجرّد نتيجة لأخطاء في الإدارة أو فساد في التنفيذ. 

يبدو من نتائج المؤتمر أن كلّ ما في الأمر، والإصرار على عقد المؤتمر على الرغم من الظروف غير المؤاتية والتوافق الداخلي المفقود وضبابية المشهد والاختلالات الإقليمية، هو للقول إن «الحكومة جاهزة  ولكن الحق على الظروف»

هكذا، يبدو مؤتمر «بيروت 1» أقرب إلى عملية إعادة تلميع (rebranding) لاقتصاد مأزوم، بدل أن يشكّل مدخلاً لتحوّل فعلي. فغياب الرؤية، واستمرار التعويل على الأدوات نفسها التي صنعت الانهيار، والرهان على مزاج استثماري خارجي غير مضمون، جميعها تجعل من المؤتمر منصّة دعائية أكثر منه خطوة إصلاحية ما لم تُقرن بقطيعة واضحة مع السياسات السابقة وإعادة تعريف حقيقي لدور الدولة. 

يبدو من نتائج المؤتمر أن كلّ ما في الأمر، والإصرار على عقد المؤتمر على الرغم من الظروف غير المؤاتية والتوافق الداخلي المفقود وضبابية المشهد والاختلالات الإقليمية، هو للقول إن «الحكومة جاهزة  ولكن الحق على الظروف».