
مشروع موازنة 2026:
5 مؤشرات على زيف ادعاءات الحكومة اللبنانية
في ظل أزمة اقتصادية متواصلة في لبنان منذ العام 2019، وحرب إسرائيلية مدمّرة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ونقص فادح في البنى التحتية والخدمات العامّة والحماية الاجتماعية، يُتوقّع من مشروع موازنة الحكومة اللبنانية لعام 2026 أن يعكس الحدّ الأدنى من الحاجات التمويلية لإعادة الإعمار ودعم الأسر المعيشية وتنشيط الاقتصاد. إلا أن المشروع الذي رفعته وزارة المال إلى مجلس الوزراء يبدو كأن لا علاقة له بكل ذلك، إذ أن 88.9% من النفقات المرصودة في المشروع هي نفقات جارية، في حين أن 11.1% فقط مخصّصة للاستثمارات العامة والصيانة والاستملاكات، وأكثر من نصف النفقات الجارية هي مخصّصات ورواتب وأجور ومنافع للعاملين في الخدمة العامّة، وهي زهيدة جدّاً بسبب انهيار قيمتها الحقيقية وامتناع الحكومة عن تصحيح سلسلة الرتب والرواتب، في حين أن نحو 20% من النفقات الجارية هي مواد وخدمات استهلاكية وفوائد على الدين الحكومي، من ضمنها نحو 200 مليون دولار لتسديد فوائد قروض خارجية (ما عدا سندات اليوروبوند). وبالتالي، لا يبقى من نفقات الموازنة سوى الربع لتوزيعها على كل الحاجات الأخرى في الاقتصاد، والبنية التحتية، والحماية الاجتماعية، والدفاع والأمن، والصحّة، والتعليم وغيرها.
1- إعادة الإعمار والاقتصاد
أحدثت الحرب الإسرائيلية المتواصلة على لبنان خسائر وأضرار كبيرة، قدّرها البنك الدولي بنحو 8.5 مليار دولار، منها 3.2 مليار في قطاع السكن، وتسبّبت في تهجيرِ آلاف الأسر. تضاف هذه التداعيات إلى خسائر كبيرة لحقت بالاقتصاد اللبناني و«رأسماله» المادي والبشري نتيجة الانهيار النقدي والمصرفي والاقتصادي منذ العام 2019، وما تبعه من ارتفاع في معدّلات البطالة والهجرة والتضخّم وتدهور الظروف المعيشية للشريحة الأكبر من السكان.
مع ذلك، لم يلحظ مشروع موازنة العام 2026 أي اعتمادات لإعادة الإعمار ولا لمواجهة المشكلات المتراكمة التي يواجهها الاقتصاد اللبناني، بل اكتفى بما هو دارج منذ سنوات طويلة، أي تخصيص بعض الاعتمادات الهزيلة للاستملاكات العائدة إلى مشاريع لإنشاء بعض الطرق ومرفأ سياحي في جونية، بالإضافة إلى تكاليف الصيانة وبعض التجهيزات البسيطة.
وعلى الرغم من أن الشؤون الاقتصادية (وفق التصنيف الوظيفي) نالت 10.7% من مجمل نفقات الموازنة، إلا أن قيمتها الفعلية تراجعت بنسبة 57% عمّا كانت عليه في العام 2018، أي من 1.4 مليار دولار إلى 602 مليون دولار. وأكثر من ذلك، خصّص 85% من هذه النفقات لتنفيذ استملاكات لإنشاء طرق ومرافئ وإنشاءات مائية وصيانتها. أمّا قطاعياً فقد توزّعت هذه النفقات كالآتي: أشغال الطرق (43.7%)، إدارة وتنمية قطاع الاتصالات (35.9%)، التجارة والتوزيع وإدارة المشاريع (9.6%)، الطاقة (5.3%).
2- الدفاع والأمن والتسليح
على الرغم من دخول اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل حيز التنفيذ في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، استمرّت إسرائيل بانتهاك الاتفاق ونفذّت أكثر من 3,500 خرق له حتى حزيران/يونيو الماضي، ولا تزال تحتل نقاط حدودية عدّة. وبالإضافة إلى الاعتداءات الإسرائيلية، تلوح مخاطر أمنية على الحدود الشرقية والشمالية، بعد اندلاع اشتباكات في آذار/مارس الماضي بين عشائر لبنانية وقوات موالية للسلطة السورية الجديدة.
أمام هذه التحدّيات الأمنية التي تترافق مع مساعي الحكومة لحصر السلاح بيد الدولة، لم يخصّص مشروع الموازنة اللبنانية لعام 2026 سوى 1.1 مليار دولار للدفاع العسكري والأمن الداخلي والعام، بالمقارنة مع 2.8 مليار دولار في العام 2018، أي بتراجع 60.7%. علماً أن النسبة الأكبر منها، أي 80.2% تذهب لتسديد رواتب العسكريين والقوى الأمنية والمنافع الاجتماعية المخصّصة لهم، في مقابل 5% مرصودة لصيانة المنشآت العسكرية والتجهيز، أي أن الحكومة تريد من الجيش والقوى الأمنية احتكار السلاح ولكنها تتقاعس عن رصد الاعتمادات المطلوبة للتسليح والتطوير العسكري. وللمقارنة، تشير ورقة صادرة عن مبادرة سياسات الغد إلى أن «إسرائيل تنفق أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً على البحث والتطوير العسكري بحسب بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام». وفي حين أنّ «لبنان يُنفق نحو 10,600 دولار سنويّاً على كل جندي، تنفق إسرائيل 273,560 دولاراً».
3- الحماية الاجتماعية
ارتفع معدّل الفقر النقدي في لبنان أكثر من 3 أضعاف في خلال العقد الماضي بحسب البنك الدولي، ليطال في العام 2022 نحو 44% من مجمل السكان بالمقارنة مع 12% في العام 2012. وبحسب البنك الدولي أيضاً، فإن 73% من اللبنانيين ومجمل السكان غير اللبنانيين تقريباً يعيشون حالياً في حالة فقر على المقياس متعدّد الأبعاد.
وعلى الرغم من ذلك، لا يتضمّن مشروع موازنة العام 2026 أي مخصّصات لبناء شبكة للحماية الاجتماعية، ويحصر دور الدولة الاجتماعي بوصفها «صاحب عمل»، أي مسؤولة عن العاملين لديها فقط من دون سائر السكان.
ووفق التصنيف الوظيفي لنفقات الموازنة، يصنّف المشروع نحو 1.7 مليار دولار كنفقات للحماية الاجتماعية، وهي تقل بنحو 47% عن النفقات المرصودة في موازنة العام 2018 حين بلغت 3,2 مليار دولار، ما يعكس تآكلاً حاداً في الإنفاق العام، ولا يواكب تنامي الحاجات بعد الأزمات النقدية والاقتصادية والمصرفية والعدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. وأكثر من ذلك، يظهر التوزيع داخل هذا البند أن الإنفاق على الحماية الاجتماعية لمجمل السكان زهيد، إذ تستحوذ رواتب التقاعد في القطاع العام التي تغطي نحو 2.5% من مجمل السكان على نحو 38% من مجمل هذه المخصّصات، تليها خدمات اجتماعية غير مصنّفة بنسبة 33.5% وهي في الواقع المساعدات الاجتماعية التي تقدّمها الحكومة للعاملين في القطاع العام كبديل عن تصحيح أجورهم، ومن ثمّ مساهمات الدولة في تغطية نفقات المرض والعجز (22.2%) وهي تعبّر في جزء منها عن مساهمة الدولة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي تتخلّف عن دفعها بالأساس، والجزء الأخر لضمان موظّفيها في الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة.
4- الصحّة
ارتفعت تكاليف الرعاية الصحّية في لبنان بأكثر من 50% منذ العام 2019، فيما تشير دراسة أعدّتها اللجنة الفنية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى تراجع عدد الأدوية التي يغطيها الضمان الاجتماعي من 21.8 وحدة دواء لكل مريض في العام 2018 إلى 0.8 وحدة فقط في العام 2023. وبالنتيجة بات أكثر من 80% من السكان محرومين من أي تأمين صحي ولا قدرة لهم على الحصول على رعاية جيدة.
مع ذلك، لم يخصّص مشروع موازنة العام 2026 أكثر من 408 ملايين دولار للصحة، بالمقارنة مع 720 مليون دولار في العام 2018، أي بتراجع بنسبة 33%. وتستحوذ نفقات الاستشفاء على 65.5% من مجمل هذه المبالغ، علماً أن 85% تتم في المستشفيات الخاصة الباهظة الكلفة ولا يستفيد منها إلا قلّة من السكان، وتخصّص 32.7% من الإنفاق الصحي لتسديد نفقات الخدمات والمواد الاستهلاكية في المراكز الصحية العمومية، فيما يخصّص 0.11% للصيانة والتجهيز فقط.
5- التعليم
يواجه التعليم في لبنان أزمة شاملة، من تراجع التمويل وغلاء المعيشة، إلى الحروب والنزوح التي عطلت فعلياً تعليم عشرات آلاف الأطفال. وبينما حافظ التعليم الخاص نسبياً على دوره واستحوذ على 70% من الطلاب، تراجع التعليم العام بشكل كبير في الجودة والتغطية. ولا تقتصر أزمة التعليم على الهوّة الراسخة بين التعليم العام والخاص، بل تنسحب إلى القدرة إلى الوصول إلى التعليم نفسه التي نشأت في أعقاب الأزمة الاقتصادية، إذ حذّرت يونيسيف من أن 3 من كل 10 طلاب وطالبات توقفوا عن التعليم منذ بدء الأزمة في العام 2019، و4 من كل 10 أسر قلّصت الإنفاق على التعليم لشراء الضروريات الأساسية.
أمام هذه اللامساواة الفاقعة في القدرة على الوصول إلى التعليم التي تهدّد جيلاً بكامله، لم يخصّص مشروع موازنة العام 2026 سوى 614 مليون دولار فقط للتعليم، بالمقارنة مع 1.4 مليار دولار رصدت للتعليم في موازنة العام 2018، وهو ما يشكّل تراجعاً بنسبة 56%. علماً أن 73.6% منها تذهب لدفع الرواتب والأجور والمنافع الاجتماعية للأساتذة والعاملين التي تراجعت قيمتها الحقيقية كثيراً بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل الأزمة، ما أثّر على جودة التعليم وتسبّبت بإضرابات طويلة عن التدريس وحرمان الفقراء من أيام دراسية طويلة ستؤثر بشدّة على مستقبل تعليمهم.