دليلك للتغلُّب على النيوليبرالية

  • مراجعة لكتاب «متروكون في الخلف: اقتصاد جديد للأماكن المُهملة» لبول كوليير الذي يوجّه الاتهام إلى اقتصاديي التيار السائد الذين ينتمي إليهم بالإضافة إلى السياسيين قصيري النظر والبيروقراطيين النخبويين، لدورهم في خلق العالم غير المتكافئ وغير المساواتي بالشكل الراديكالي الذي نعيش فيه. 

 

في كتابه «متروكون في الخلف: اقتصاد جديد للأماكن المُهملة»، يُقرّ الاقتصادي بول كوليير بأنه «كان عليّ مواجهة هذه الحقيقة غير المريحة: إن الأفكار التي كنت أعتبرها حقائق راسخة في علم الاقتصاد، والتي علّمتُها بالفعل، بحاجة إلى مراجعة راديكالية». والواقع أن كوليير، وهو اقتصادي تنموي معروف ينتمي إلى التيار السائد من الاقتصاديين، يستخدم كتابه الجديد لتوجيه الاتهام إلى مهنته، بالإضافة إلى السياسيين قصيري النظر والبيروقراطيين النخبويين - لدورهم في خلق العالم غير المتكافئ وغير المساواتي بالشكل الراديكالي الذي نعيش فيه.

تتلخّص حجة كوليير في أن مزيجاً من الإهمال المخزي والسياسات الهدّامة، التي فرضتها نخب سياسية واقتصادية محلية ودولية، كان السبب في تقسيم العالم إلى قسمين. فمن ناحية، هناك أماكن ناجحة ازدهرت في مواجهة العولمة (المراكز الحضرية بشكل عام التي تحتوي على تركيزات عالية من العاملين في المجالات المعرفية). ومن ناحية أخرى، هناك أماكن «متروكة في الخلف» جُرِفَت إلى حد كبير على يد الأماكن الأخرى الأكثر ازدهاراً.

تتنوّع الأماكن المتروكة في الخلف بشكل هائل، من «المليار الذين هم في القاع» - 60 دولة تخلّفت بشكل أكبر عن بقية العالم على مدى العقود القليلة الماضية - إلى مدن ذات دخول متوسطة ومرتفعة تخلّفت عن الركب مقارنة ببقية البلد. ويشمل هذا المعسكر الأخير مجموعة من المناطق، من جنوب يوركشاير في إنكلترا إلى الساحل الكاريبي في كولومبيا.

يرسم كوليير رابطاً مباشراً بالاستياء الذي يشعر به مَن يعيشون في الأماكن المهملة تجاه الأماكن المزدهرة اقتصادياً. ويحذّر من أنه إذا لم يُعَالَج هذا التوتر، فإن مستقبلاً يسيطر عليه ديماغوجيون يمينيون أكثر نجاحاً سيأتي عاجلاً أم آجلاً

لا يتوسّع كوليير في وصف العواقب الخطيرة لعالم يُحرم فيه المليارات من أي أمل في حياة أفضل. وعلى خُطى العديد من المعلِّقين على السياسة الأميركية الذين يُعزون صعود «الترامبية» إلى السخط المتزايد تجاه نخب الولايات الساحلية التي تسخر من معاناة الولايات الأميركية غير الساحلية، يرسم كوليير رابطاً مباشراً بالاستياء الذي يشعر به مَن يعيشون في الأماكن المهملة تجاه الأماكن المزدهرة اقتصادياً. ويحذّر من أنه إذا لم يُعَالَج هذا التوتر، فإن مستقبلاً يسيطر عليه ديماغوجيون يمينيون أكثر نجاحاً سيأتي عاجلاً أم آجلاً - مع عواقب كارثية على المجتمع.

ومع ذلك، هناك استثناءات لتزايد اللامساواة العالمية، ويخصِّص كوليير الكثير من كتابه «متروكون في الخلف» لتوثيق هذه الاستثناءات. لقد تغلّبت بيتسبرغ،1  ورواندا ما بعد الإبادة الجماعية، والصين ما بعد ماو، على الصعاب. وبدلاً من «الانحدار» نحو حلقة مفرغة من الانحطاط الاقتصادي والاجتماعي، «صعدت» هذه الأماكن المتروكة في الخلف. ويُحاجِج كوليير بأن دراسات الحالة هذه يمكن أن تقدم نماذج إيجابية لقسم كبير من العالم غير القادر حالياً على الحفاظ على مستويات معيشة لائقة.

أصولية السوق والغطرسة العلمية

تقع الأماكن المتروكة في الخلف ضحية إجماع دام عقوداً من الزمن بين صُنّاع السياسات وخبراء التنمية. أصرّ هذا الإجماع على تحرير الأسواق من التدخل الحكومي وسعى بأقصى درجة إلى التقليل مما اعتبره أنصاره تشويهاً اقتصادياً ناجماً عن التخطيط الاجتماعي وغيره من التدخلات الاقتصادية التي تقودها الدولة. ونتيجة لهذا، ظل قسم كبير من العالم واقعاً في قبضة أصولية السوق لعقود من الزمن.

عُزِّز هذا الإجماع حول السوق الحرة من قِبل اقتصاديين تنمويين ذوي حيثية ولكن مُضلَّلين في كثير من الأحيان. استخلص هؤلاء توصيات سياساتية واسعة النطاق استناداً إلى تحليلات كَمية مُعقَّدة للغاية تعتمد على بيانات لا يمكن تعميمها على معظم الأماكن المتروكة في الخلف. وعلى وجه الخصوص، لإجراء اختبارات إحصائية صارمة لتقييم مدى فعالية الإصلاحات القائمة على السوق على المؤشرات الاقتصادية، يحتاج الاقتصاديون إلى بيانات عالية الجودة لا يمكن توفيرها إلا من قِبل البلدان التي لديها بالفعل الشروط المسبقة للنجاح الاقتصادي - على سبيل المثال، الحكم الناجع.

في النهاية، وباستثناء طفرة السلع التي يصل عمرها إلى عقد من الزمن والتي بدأت في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأفادت الجميع بشكل مؤقَّت - خصوصاً البلدان منخفضة الدخل في أفريقيا وآسيا الوسطى التي تعتمد على بلدان أخرى لتوفير السلع - فإن عقوداً من إصلاحات السوق في أفقر 60 دولة جعلتها بشكل أكبر متخلّفة عن بقية دول العالم من حيث التنمية الاقتصادية وجودة الحياة.

إن عقوداً من إصلاحات السوق في أفقر 60 دولة جعلتها بشكل أكبر متخلّفة عن بقية دول العالم من حيث التنمية الاقتصادية وجودة الحياة

لكن لم تختر كل المناطق المتروكة في الخلف المسارَ الذي رسمه التيار الاقتصادي السائد. في الولايات المتحدة، على الرغم من عقود من الإجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي عن ضرورة السماح للسوق باختيار الفائزين والخاسرين اقتصادياً في أعقاب تراجع التصنيع، قرّر الزعماء المحليون في بيتسبرغ تجاهل إملاءات الاقتصاديين الأرثوذكسيين. ونتيجة لذلك، انتقلت بيتسبرغ من مدينة مدمرة اقتصادياً في الثمانينيات إلى المدينة الثانية عشرة من حيث النجاح في الولايات المتحدة اليوم.

وفي مقارنة أخرى ذات دلالة، يصف كوليير المسارات المتباينة لجنوب يوركشاير في إنكلترا - التي كانت ذات يوم مركزاً مزدهراً لصناعة الصلب - في أعقاب تراجع التصنيع وألمانيا الشرقية بعد سقوط الشيوعية. في العام 1990، كانت ألمانيا الشرقية في وضع اقتصادي أسوأ كثيراً من وضع جنوب يوركشاير، وفي حين أن الأولى اليوم تزدهر فإن الأخيرة لا تزال تعاني. والتفسير الرئيس لهذا الاختلاف، وفقاً لكوليير، هو أن الحكومة البريطانية اتَّبعت مقاربة راديكالية موجهة نحو السوق في التعامل مع المناطق المتروكة في الخلف، الأمر الذي أدى في الأساس إلى جرفها اقتصادياً. قاد ذلك إلى هروب رؤوس الأموال على نطاق واسع، وزيادة البطالة، وانخفاض الأجور، ومجموعة من العلل الاجتماعية المرتبطة بكل ذلك. وعلى النقيض من ذلك، اتخذت حكومة ألمانيا الغربية - على عكس كل النصائح التي قدمها الاقتصاديون في ذلك الوقت - قراراً سياسياً بعدم السماح لشرق ألمانيا بالفشل، وبالتالي استثمرت بكثافة في دعم التعافي الاقتصادي فيما كان يُدعى في السابق جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

وعلى نحو مماثل، في حين تعرّضت صناعات الصلب في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للدمار بسبب السياسة النقدية المتشددة والمنافسة الكورية، اتخذ الألمان خياراً سياسياً بالحفاظ على القدرة التنافسية في هذا القطاع من خلال الدعم الحكومي. باختصار، وجهة نظر كوليير هي أن أصولية السوق لم تكن حتمية، وأن البلدان والمناطق التي قاومت المنطق «البروكرَستيزي» 2  الذي يتبناه التيار السائد من الاقتصاديين وصُنَّاع السياسات كانت قادرة في كثير من الأحيان على الإفلات من فخ الانحدار الاقتصادي والاجتماعي.

 التجريب الراديكالي والسيطرة المحلية

لو كان مُجرّد تجاهل نصيحة الاقتصاديين كافياً لمساعدة البلدان المتروكة في الخلف، لرأينا المزيد من قصص النجاح. لكن كوليير يُحاجِج بأن ما يهم أكثر من السياسات المحدّدة التي تُسَن هو اتباع مقاربة براغماتية قائمة على التجربة والخطأ تؤدي إلى اتخاذ إجراءات حكومية مناسبة للخصائص المحددة لكل مكان. يُندِّد كوليير بالاستراتيجيات الاستدلالية التي تولِّد توصيات على أساس المبادئ الاقتصادية العامة التي غالباً ما تفشل في مراعاة خصوصيات المكان والزمان. وبدلاً من ذلك، يناشد القادة أن يُلاحِقوا المسار الاستقرائي الأكثر تواضعاً المتمثل في التجريب العملي، والتقييم المؤقت، والتعديل - ثم التكييف والتكرار حتى تُحدَّد وتُصقَل السياسات الأكثر مُلاءمة.

إن كتاب «متروكون في الخلف» مليء بدراسات الحالة المفعمة بالحيوية التي تجسّد اقتراح كوليير البسيط من الناحية النظرية ولكن الشّاق من الناحية العملية. على سبيل المثال، يتحدث عن الإصلاحات الاقتصادية المبكرة التي قام بها دنغ شياو بينغ، الذي حَوَّل الصين إلى مختبر للتجارب البراغماتية. لقد عَيَّن دنغ كبار المديرين الاقتصاديين في البلاد رؤساء حزبيين محلّيين في مناطق الصين الأربعين وأصدر تعليماته لكل واحد منهم بتجربة السياسات التي من شأنها تحسين النمو الاقتصادي ومستويات المعيشة محلياً. وبمرور الوقت، حُلِّلت التجارب الناجحة ووسِّع نطاقها، ودُرِّسَت التجارب غير الناجحة للتوصّل إلى الدروس المستفادة، وابتُكِرَ تدريجياً نموذج اقتصادي جديد ناجح بشكل خيالي استناداً إلى المعرفة والتجارب المحلية.

ووفقاً لكوليير، فإن المثال الأكثر تواضعاً ولكن الذي يحظى بتأثير كبير هو تجربة إصلاح الرعاية الصحية في رواندا بعد الإبادة الجماعية. في جهودها الرامية إلى توسيع نطاق الخدمات الطبية لتشمل المناطق الريفية، أدركت الحكومة الرواندية بسرعة أن شبكة الطرق غير الكافية في البلاد من شأنها أن تجعل النقل البري للدم باهظ التكلفة. واستجابةً لذلك، أبدع البيروقراطيون بشكل رائد في استخدام الطائرات المُسيَّرة لتوفير الإمدادات الطبية - التي تشتد الحاجة إليها - إلى المناطق الريفية التي كان إرسال الإمدادات إليها عبر الشاحنات المبرَّدة مُكلفاً للغاية. تعلّمت شركة «أمازون» كيفية توصيل الطرود بالطائرات المُسيَّرة وتعلَّم «البنتاغون» إسقاط القنابل بالطائرات المُسيَّرة، لكن هذه السلطات المحلية فقط هي التي اختارت استخدامها لتحسين الصحة العامة.

فرضت حكومة المملكة المتحدة في لندن على الحكومات المحلية نهجاً واحداً لا يُراعي التنوع في التعامل مع التنمية الاقتصادية، مما أجبر المسؤولين المحليين على تنفيذ استراتيجيات اقتصادية لم تترك مناطقهم إلا في مزيد من التخلُّف مقارنة بلندن الكبرى المزدهرة اقتصادياً

ومن العناصر ذات الصلة لتحقيق النجاح في الأماكن المتروكة في الخلف اتخاذ القرارات بشكل لامركزي ووضع سلطة اتخاذ الخيارات بشأن الاحتياجات المحلية مباشرة في أيدي المجتمعات المحلية. وهناك لازمة شائعة في جميع أنحاء الكتاب وهي أن الأماكن المتروكة في الخلف لا يمكن ببساطة إنقاذها من خلال تدخلات من أعلى إلى أسفل من المناطق الأكثر ثراء أو الخبراء الاقتصاديين الذين لديهم معرفة قليلة بالسياق المحلي - بل إن هذه التدخلات غالباً ما تؤدي إلى نتائج عكسية.

على سبيل المثال، فرضت حكومة المملكة المتحدة في لندن على الحكومات المحلية نهجاً واحداً لا يُراعي التنوع في التعامل مع التنمية الاقتصادية، مما أجبر المسؤولين المحليين، مثل مسؤولي جنوب يوركشاير، على تنفيذ استراتيجيات اقتصادية لم تترك مناطقهم إلا في مزيد من التخلُّف مقارنة بلندن الكبرى المزدهرة اقتصادياً. وقد أدت مركزية صنع القرار هذه، جنباً إلى جنب مع الحصة غير المتناسبة من البيروقراطيين المقيمين في لندن المسؤولين عن مؤسسات الدولة الرئيسة، إلى اختلال هائل في توازن القوة والنفوذ، وهو ما ساعد لندن والمناطق المحيطة بها على الازدهار في حين عانت البقية. في المقابل، يوضح كوليير أن الانتعاش الاقتصادي الملحوظ في ألمانيا الشرقية لم يُسهَّل فقط من خلال السخاء الاقتصادي الألماني الغربي، ولكن بشكل حاسم من خلال الطريقة اللامركزية التي وزِّع بها هذا الدعم، مما سمح للمسؤولين المحليين، والمجتمع المدني، وقادة الأعمال بالتجريب واتخاذ قرارات تتوافق بشكل أفضل مع مجتمعاتهم.

أهمية القيادة

بينما يُقلِّل معظم الاقتصاديين وعلماء السياسة من أهمية القيادة، يُحاجِج كوليير بأن القيادة الفعالة غير الأنانية لديها القدرة على تغيير المسارات الاقتصادية والاجتماعية لأي بلد بشكل جذري. وهو يرى أن القيادة الفعالة قادرة على التصدي للعديد من التأثيرات السلبية الناجمة عن الاضطرابات الاقتصادية في الأماكن المتروكة في الخلف.

يُحاجِج كوليير بأن السبب الرئيس وراء معاناة المجتمعات المتروكة في الخلف يرجع إلى اليأس الجماعي والصراعات بين مجموعات المجتمع المختلفة التي تلوم بعضها البعض على مشاكلها - وليس القوى الاقتصادية والسياسية الخارجية المسؤولة بالفعل. وتتلخص الخطوة الأولى في التصدي لهذه الحلقة المفرغة من الانحدار في صياغة هوية جماعية فعَّالة وروح تضامنية مجتمعية قادرة على تقليل التوترات بين مكوِّنات المجتمع وتعزيز الشعور المشترك بالتضحية بالنفس على المدى القصير لبناء الأساس للنجاح على المدى الطويل.

السبب الرئيس وراء معاناة المجتمعات المتروكة في الخلف يرجع إلى اليأس الجماعي والصراعات بين مجموعات المجتمع المختلفة التي تلوم بعضها البعض على مشاكلها - وليس القوى الاقتصادية والسياسية الخارجية المسؤولة بالفعل

كوليير يقدِّم لي كوان يو في سنغافورة، ويوليوس نيريري في تنزانيا، وسيريتس خاما في بوتسوانا كقادة نجحوا في تشكيل هويات وطنية قوية وتحالفات سياسية دائمة عبر الطبقات والإثنيات في مجتمعات منقسمة ومتعددة الأعراق بمساعدة كادر متخصص للغاية من المهنيين الذين أُخضِعوا لمعايير مُساءلة صارمة. وقد أدى هذا الشعور بالهوية الوطنية والتضحية المشتركة بالنفس إلى تسهيل ظهور روح مجتمعية كان الناس في ظلها على استعداد لتقديم تضحيات شخصية في الوقت الحاضر من أجل تحقيق أهداف اقتصادية أطول أمداً.

بشكل استفزازي إلى حد ما ولكن على نحو متسق مع أقواله الأوسع ضد فرض نماذج التنمية الاقتصادية والسياسية الغربية ذات المقاس الواحد على البلدان المتروكة في الخلف، يشيد كوليير بهؤلاء القادة لأنهم فهموا ضرورة تأجيل الديمقراطية من أجل منع سيطرة النخب الفاسدة التي تسعى فقط إلى تحقيق مصلحتها الخاصة، كما حدث في أماكن مثل بوروندي وملاوي. بالنسبة إلى كوليير، تُظهِر هذه التجارب أن الديمقراطية الانتخابية وحدها ليست ضرورية ولا كافية لمساعدة البلدان المتروكة في الخلف على تحقيق النجاح.

السياسة والحجم

بشكل إجمالي، يُعَد «متروكون في الخلف» كتاباً مثيراً للتفكير ومنفتحاً بشكل منعش، وسيجد القُرَّاء اليساريون العديد من الأسباب لنقده، لكنهم مع ذلك سيستفيدون من التعامل معه بجدّية. تبدو بنية الكتاب في بعض الأحيان فضفاضة بعض الشيء، حيث تُجمَع دراسات الحالة المُفيدة بالفعل معاً بخطوط رفيعة، في حين كان من الأجدر ربما دمجها عبر الفصول لتحقيق مزيد من الاستفادة. لكن بنية الكتاب الحماسية إلى حد ما تعكس بقوة أطروحة كوليير الواسعة عن أهمية الإجابة على الأسئلة الكبيرة بشكل جيد وليس بشكل دقيق.

ومع ذلك، فإن «متركون في الخلف» مُقيَّد بفهم مؤلِّفه التكنوقراطي للتغيير السياسي، وبالتالي، استخفافه بحجم التحول السياسي المطلوب لازدهار الأماكن المتروكة في الخلف.

السياسة حاضرة بوضوح في أعمال كوليير. وهو يناقش بانتظام أهمية إيجاد استراتيجيات لبناء تحالفات سياسية فعالة من أجل التغيير، ويشدد على دور اختلال توازن القوى الإقليمية والطبقية في خلق وتعزيز اللامساواة بين الأماكن المتروكة في الخلف والأماكن المزدهرة.

ومع ذلك، وبعيداً عن مناقشة الصدفة السعيدة المتمثلة في وجود زعيم بعيد النظر مثل لي أو نيريري، فإن كوليير لا يقول إلا أقل القليل عن الكيفية التي يمكن بها تغيير علاقات القوة. والواقع أنه حتى عندما يتحدث كوليير عن أهمية الحركات الاجتماعية في توليد التغيير السياسي، فإنه يقدمها وكأنها ثروات من الموارد الطبيعية تمتلكها البلدان أو لا تمتلكها. على سبيل المثال، يتحدث كوليير عن كيفية ظهور حركة اجتماعية في السودان عام 2021 لعبت دوراً مهماً في إسقاط حكومة عمر البشير. لكنه لا يذكر شيئاً عن كيفية حدوث تلك الحركة أو سببها، أو الظروف التي سمحت بها، مما يترك لدى القارئ انطباعاً بأن الأشخاص العاديين ليس لديهم سوى القليل من القدرة على التأثير على التغيير السياسي.

ومع ذلك، في الوقت نفسه، يبذل كوليير جهوداً كبيرة في مناقشة أهمية تنمية شبكات مجتمع مدني كثيفة لتعزيز الروابط المجتمعية ونقل السيطرة على عملية صنع القرار الاقتصادي إلى المجتمعات الأكثر تأثراً بتلك القرارات. وهو يعتقد بوضوح أن الناس العاديين قادرون على الانخراط في العمل الجماعي التحويلي، ولكن على ما يبدو فقط بطريقة غير سياسية وغير صراعية.

ونتيجة لذلك، يتجاهل كوليير فعلياً حقيقة مفادها أن التغيير السياسي الهادف لا يتطلب التعاون والتضامن الجماعي فحسب، بل وأيضاً النفوذ. إن استعداد النخب الاقتصادية لقبول الضرائب والحقوق العمالية من الممكن أن يتغيَّر بمرور الوقت، وهو بالفعل يتغيَّر. ويشير كوليير بحق إلى أن هذا الاستعداد يمكن زيادته من خلال تطوير روابط مجتمعية قوية عابرة للطبقات وشعوراً مشتركاً بالأولويات.

يتجاهل كوليير فعلياً حقيقة مفادها أن التغيير السياسي الهادف لا يتطلب التعاون والتضامن الجماعي فحسب، بل وأيضاً النفوذ

ومع ذلك، فإن تفعيل الخير في طبيعة النخب الاقتصادية يتطلَّب عادة أيضاً وجود منظمات مستقلة قوية تمثل العمال (على سبيل المثال، النقابات) وتجبر قدرتها على تقليل الأرباح من خلال النشاط الاحتجاجي الصناعي الشركات فعلياً على قبول قدر أكبر من المسؤولية الاجتماعية. يُشكِّل التعاون الطوعي والقيم المشتركة جزءاً مهماً من القصة، لكن كوليير لا يعترف بأن التعاون والتغيير في الأعراف يعتمدان أيضاً على التهديدات الموثوقة التي يشكلها أولئك الذين لا يملكون السلطة ضد أولئك الذين يملكون السلطة.

أحد الأمثلة التوضيحية لهذا الإغفال في تحليل كوليير هو مناقشته لـ«نادي الروتاري» في أوائل القرن العشرين. بناءً على الأبحاث الأخيرة التي قام بها عالم السياسة روبرت بوتنام، يُحاجِج كوليير بأن التحول الذي نراه بعيداً عن القِيَم الفردية ونحو القيم المجتمعية في الولايات المتحدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين يمكن تفسيره من خلال الزيادة الهائلة في الجمعيات التطوعية المشابهة لـ«نادي الروتاري»، الذي تأسس عام 1904. لا أشك في أن هذه الفرضية صحيحة جزئياً على الأقل، ولكن من المحير إلى حد ما أن كوليير لم يذكر حقيقة أن الفترة المعنية تغطي السنوات نفسها التي تفجَّرت فيها الحركة العمالية الأميركية. على الرغم من أن هذا مجرد تخمين من جهتي، فإنني سأكون مندهشاً للغاية إذا كان لتطور جمعيات تطوعية مثل «نادي الروتاري» أي شيء يقترب من التأثير الذي أحدثته النقابات - مع قدرتها على تحفيز المزيد من السلوكيات الاجتماعية الإيجابية من جانب أصحاب العمل - في السياسة والمجتمع والثقافة الأميركية خلال هذه الفترة.

وعلى نطاق أوسع، فإن تركيز كوليير على التدخلات السياسية المنفصلة التي يمكن أن تحرك الأمور في اتجاه إيجابي متواضع بالنسبة إلى الأماكن المتروكة في الخلف يميل إلى حجب التغييرات الأكثر جذرية في السلطة السياسية داخل وعبر معظم البلدان، والتي قد تكون مطلوبة لدى ما هو أكثر من أقلية ذكية من الأماكن المتروكة في الخلف للخروج من غياهب النسيان عبر انتهاج سياسات مغايرة. إحقاقاً للحق، فإن هذه مشكلة يعترف بها كوليير، ويُحاجِج بأن الحركات صغيرة النطاق في الاتجاه الصحيح من الممكن أن تكون المحفزات التي تضع دورات حميدة جديدة من التنمية الاقتصادية والمجتمعية موضع التنفيذ في الأماكن المتروكة في الخلف. ومن المؤكد أن الأمثلة العديدة التي قدمها من عدة قارات تضفي بعض المصداقية على هذه النظرية.

في نهاية المطاف، فإن مجموعة أدوات كوليير الخاصة بالأماكن المتروكة في الخلف لا تتناسب بشكل كافٍ مع حجم المشكلات التي تواجهها هذه المجتمعات. وبمقارنة وضعنا اليوم بشكل واضح مع وضع ثلاثينيات القرن العشرين، يُقرُّ كوليير بأن معالجة الكساد الاقتصادي واللامساواة المتوطنة لم تكن ممكنة إلا من خلال خلق شعور كبير بالإلحاح الوطني من خلال «الصفقة الجديدة»3  وشعور بالهوية الجماعية المشتركة من خلال تجربة الحرب العالمية الثانية. إن استحضار قادة ذوي رؤية مثل لي ونيريري يوفر بعض الإحساس بحجم التحول السياسي المطلوب، ولكن من غير الواضح كيف يمكن تطبيق هذه الأمثلة المرتبطة بدول سلطوية في مرحلة ما بعد الاستقلال على سياق الديمقراطيات المعاصرة ذات الدخول المتوسطة ​​والمرتفعة التي تواجه مستويات عالية بشكل خطير من اللامساواة والاستقطاب السياسي بين المناطق المتروكة في الخلف والمناطق الغنية.

إن وصفات كوليير السياسية، على الرغم من كونها بنَّاءة بلا أدنى شك بالنسبة إلى العديد من صناع السياسات في الأماكن المتروكة في الخلف، لا يمكن ترجمتها بسهولة إلى سياسة تجتذب بشكل عميق مجتمعات الطبقة العاملة في مرحلة ما بعد الصناعة في الولايات المتحدة وأوروبا وخارجهما، والتي تشعر بالإرهاق والخيانة والإحباط. للوصول بفعالية إلى هذه المجتمعات، قد يكون من الضروري اتباع مقاربة سياسية أكثر صراحة تُحدِّد أسماء الشركات والأعداء السياسيين (وإن بشكل مبسَّط) الذين قادونا إلى ما نحن عليه اليوم، والذين لا يمكن هزيمتهم إلا من خلال شعور جديد بالهوية الجماعية يقوده أبطال مؤسَّسيون أقوياء (أي نقابات) قادرين على سد الانقسامات العديدة التي تقف في طريق تضامن الطبقة العاملة.

نُشِر هذا المقال في Jacobin في 11 حزيران/يونيو 2024، وترجم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. 

  • 1مدينة في ولاية بنسلفانيا - المترجم.
  • 2نظام يفرض التماثُل أو المطابقة ويتجاهل التنوع. اشتُق المصطلح من بروكرَست، وهو لص في الأساطير اليونانية كان يجبر المسافرين على الاستلقاء على سرير ويجعلهم ملائمين له من حيث الأبعاد عن طريق مَط أطرافهم أو قطعها - المترجم.
  • 3سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والمالية والقانونية ومشاريع الأشغال العامة أشرف عليها الرئيس فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة بين عامي 1933 و1938 لإنقاذ البلاد من «الكساد الكبير» - المترجم.