معاينة ترياق ضدّ السعادة

ترياق ضدّ السعادة

  • مراجعة لكتاب أوليفر بوركمان «الترياق: السعادة لمن لا يحتملون التفكير الإيجابي» الذي يقلب مفهوم السعادة رأساً على عقب: بدل أن يكون التفاؤل طريقاً للراحة، يكشف أن الهوس بها قد يجعلنا أكثر بؤساً. ينتقد بوركمان صناعة السعادة في زمن الرأسمالية المتأخرة، حيث تُباع في منتجات وكورسات وكأنها مهارة فردية، بينما الحقيقة أن القلق جزء من بنيتنا والظروف أعمق من مجرد «تفكير إيجابي». 

في السنوات الأخيرة، تحوّلت السعادة من حالة إنسانية عابرة إلى سلعة شعبية تُباع في منشورات المؤثرين على إنستغرام، تُلقن في ورش العمل وتُسوق من خلال كل شيء تقريباً من صابون الاستحمام إلى الشاي الأخضر. في هذا المناخ الذي يُطالبنا بالتعامل مع ذواتنا كمشاريع تحت الإنشاء لا تنتهي، جاء كتاب أوليفر بوركمان «الترياق: السعادة لمن لا يحتملون التفكير الإيجابي» (2012) كنسمة هواء معاكسة، أو كصوت يذكّرنا بأن القلق والخيبة والتشاؤم ليسوا أعطالاً في النفس، بل جزءاً من بنيتها الأصلية.

منذ صدوره، حظي الكتاب باحتفاء واسع، ولا يزال اليوم يستحق إعادة القراءة، لأنه ينتقد خطابات التنمية الذاتية ونصائح من نوع «فكر بإيجابية» التي تبدو أمام واقع أكثر قسوة وتعقيداً مجرد هراء. بوركمان، الصحافي البريطاني المعروف بكتاباته الساخرة، لا يقدّم حلولاً بالضرورة بقدر ما يقدم تفكيكاً للوهم نفسه: أن السعي الدؤوب وراء السعادة والتفاؤل المستمر قد يجعلنا أكثر بؤساً. ببساطة، كما يقتبس: «إسأل نفسك هل أنت سعيد؟ وستتوقف عن كونك كذلك». 

ما الذي نعنيه أصلاً حين نتحدث عن السعادة، أهي شعور لحظي أم وهم اجتماعي نُقنع أنفسنا بأنه غاية الوجود؟

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، حين أطلق عالم النفس الأميركي مارتن سيلجمان حركة «علم النفس الإيجابي» سُوّقت السعادة على أنها «مهارة» يجب إتقانها، وقوة يجب تنميتها. وحوّل خبراء التنمية الذاتية والكوتشينغ هذه الفكرة إلى عقيدة شبه دينية: تخلص من أفكارك السلبية، تخيّل النجاح وسيأتيك، آمن بنفسك وسيتحقق كل ما ترغب فيه. لكن ما يغفله هذا الخطاب أن الحياة لا تُدار بتصوراتنا الداخلية وحدها، وأن العالم الخارجي أكثر تعقيداً من أن يُختصر في مجرد رغبات. تقدم العائلة، الحب، الوظيفة، عادة كثالوث النعيم المعاصر، ولكن بوركمان يقلب الطاولة: ماذا لو كان السعي المحموم وراء هذا «النعيم» هو ما يُقوض إمكانيته؟ ماذا لو أن الهوس بتعريف السعادة وملاحقتها يجعلها أكثر استعصاء؟ والأهم: ما الذي نعنيه أصلاً حين نتحدث عن السعادة، أهي شعور لحظي أم وهم اجتماعي نُقنع أنفسنا بأنه غاية الوجود؟

عندما تسمح لنفسك بالغرق ستطفو

من خلال مزيج من الرواقية القديمة والحكمة البوذية وعلم النفس المعاصر، وحتى دراسات الأمن ومكافحة الإرهاب، يقدم بوركمان ما يسميه «المسار السلبي» (negative path)، وهو نهج يتبنّى العناصر ذاتها التي نحاول الهرب منها: الفشل والقلق وانعدام الأمن وعدم اليقين. الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لكنها منطقية عند التدقيق: فكلما سعينا لتجنب هذه المشاعر والخبرات، كلما صارت أكثر حضوراً وسطوة في حياتنا، كما يقول: «إن الجهد المبذول لمحاولة الشعور بالسعادة هو في كثير من الأحيان ما يُشعرنا بالبؤس، جهودنا المُستمرة للتخلص من الجوانب السلبية، انعدام الأمن والقلق والتعاسة، هي ما يشعرنا بعدم الأمان والقلق والتعاسة».

للمشككين، يقدّم بوركمان أمثلة تكشف هذه المفارقة، مثلاً، هناك تجربة «الدب الأبيض»: عندما تطلب من نفسك ألا تفكر في دب قطبي لدقيقة واحدة، ستجده يتسرّب إلى ذهنك. وبالمثل، حين تحاول طمأنة صديق قلق بالقول إن أسوأ مخاوفه غير واردة الحصول، فأنت ترسخ لديه، ومن دون قصد، أن تحقق تلك المخاوف سيكون كارثة، ما يضاعف شعوره بالقلق بدل أن يخفّفه. هكذا، يقلب بوركمان المعادلة: نفورنا من «السلبية» لا يحرّرنا منها، بل يضاعفها، وكلّما سعينا للشعور بالسعادة، ازداد وعينا بما ينقصنا، وبما نفشل فيه، وبما نفتقده من كمال أو طمأنينة. 

تستند فكرة بيركمان إلي ما يسميه «قانون الجهد المعكوس» (the law of reversed effort): كلما اجتهدت بوعي محموم في تحقيق شيءٍ ما، كلما قلّ احتمال نجاحك فيه، أو كما يلخصه الفيلسوف آلان واتس: «عندما تحاول البقاء على سطح الماء، تغرق؛ لكن عندما تسمح لنفسك بالغرق، تطفو». ومن هذا المنظور، يرى بوركمان أن معاناة الإنسان الحديثة ليست بالضرورة ناجمة عن الألم أو الخوف نفسه، بل عن مقاومتنا الدائمة له وعن رغبتنا في إحكام السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه. 

نفورنا من «السلبية» لا يحرّرنا منها، بل يضاعفها، وكلّما سعينا للشعور بالسعادة، ازداد وعينا بما ينقصنا، وبما نفشل فيه، وبما نفتقده من كمال أو طمأنينة

على خلاف الصورة النمطية التي تصوّر المتشائمين كمنغمسين في السوداوية، يستعيد بوركمان تراث الرواقية (Stoicism)، الفلسفة اليونانية–الرومانية التي دعت إلى التمييز بين ما هو في وسعنا تغييره وما يتجاوز قدرتنا، مع الاستعداد لتقبّل الظروف الخارجية كما هي. يقتبس من أبيكتيتوس وسينيكا، اللذين شدّدا على أن التفكير في الكوارث ليس مازوخية بل تحضير نفسي. ففي إحدى رسائله إلى لوسيليوس، يكتب سينيكا: «هناك أشياء يحتمل أن تخيفنا أكثر مما تسحقنا، نعاني في الخيال أكثر مما نُعاني في الواقع». من هنا ينبثق ما يسميه بوركمان «التخطيط المسبق للشرور»، أي أن تتخيل أسوأ ما قد يحدث لا لتتغذّى على التشاؤم، بل لتتحرّر من قبضته لاحقاً، كما يقول فـ «السعادة التي نصل إليها من خلال التفكير الإيجابي قد تكون عابرة وهشة»، بينما «يولد التصور السلبي هدوءاً أكثر موثوقيةً بكثير». في عالمنا الحالي حيث يعيش الناس على حافة الدمار والحروب والانهيارات الاقتصادية والتغيرات المناخية، يصبح هذا الموقف شكلاً من أشكال الاستعداد أو تدريب نفسي عملي على استقبال ما لا يمكن تجنّبه، لا استسلاماً للهزيمة، وبالتالي قد لا يكون التشاؤم مجرّد فلسفة بل التفكير المنطقي الوحيد المتاح.

يوسع بوركمان النقاش بمقابلات مع خبراء مكافحة الإرهاب. للوهلة الأولى، يبدو الربط غريباً: ما علاقة السعادة بمكافحة الإرهاب؟ لكن الفكرة أكثر عمقاً مما تبدو. هؤلاء الخبراء، الذين يتعاملون مع حالات خطف واحتجاز وتفجيرات واغتيالات، يعيشون في ظروف يسيطر عليها الاحتمال الدائم للفشل، حيث لا مجال لترديد شعارات التفاؤل لتفادي الكوارث. لذلك، يطوّرون عقلية واقعية تقوم على توقع الأسوأ والاستعداد له، وعلى بناء القدرة على مواجهة المأساة الحتمية. لا شك أن حياتنا اليومية، هي كذلك مليئة بالمخاطر المحتملة: مرض، خسارة عمل، فشل علاقة، أزمات مالية، بالتالي فالسبيل الأكثر عقلانية للتعامل مع هذه الحياة ليس بإنكار هذه المخاطر أو تمييعها بالتفاؤل، بل التعايش معها بوصفها جزءاً من التجربة الإنسانية. كما يقول بوركمان: «يكمن الأمان الحقيقي في تقبّل انعدام الأمان من دون قيود. في إدراك أننا لا نقف أبداً على أرضٍ صلبة، ولن نستطيع ذلك أبداً». 

يتطرّق الكتاب كذلك للفلسفة البوذية التي ترى أن الزوال هو الحقيقة الكبرى، وأن الأمان الحقيقي يأتي من إدراك هشاشة الحياة نفسها. الألم بهذا السياق هو حتمي، أما المعاناة فتنبع من تعلّقاتنا ومحاولاتنا الفاشلة لتثبيت ما هو متحرك. نحن لا نتألم فقط لأننا نفقد، بل لأننا نتشبث بما لا يمكن الحفاظ عليه، ولأن محاولة حماية أنفسنا من الألم يجعل الألم مضاعفاً، كما في الحب، حيث يستحضر اقتباس رائع من سي. إس. لويس: «أن تحب يعني أن تكون عُرضة للجرح، إن أردت أن تضمن بقاء قلبك سليماً، فعليك ألا تهبه لأحد. ولكن في ذلك الصندوق (المأمون، المظلم، الساكن، الخالي من الهواء) سيتحول قلبك، لن يُكسر، لكنه سيغدو غير قابل للكسر، غير قابل للاختراق، لا سبيل إلى إصلاحه».  يأخذ بوركمان هذا الاقتباس بوصفه درساً وجودياً أو ثمناً لحياة كاملة، فنحن لا نستطيع أن نُحب من دون أن نعرّض أنفسنا للخسارة والألم، الحياة التي تُدار خلف جدران الخوف قد تحمي القلب من الكسر، لكنها تحرمه أيضاً من إمكانية الفرح.

السعادة كمشروع فردي مُكلف

ما يميز كتاب «الترياق» ليس نقده لموضة التنمية الذاتية، بل في تقديمه نقداً ثقافياً لمرحلة الرأسمالية المتأخرة، فالهوس بالسعادة ليس نزعة شخصية أو مجرد عادة فردية، بل هو صناعة ضخمة تتغذّى على القلق البشري، فشركات التجميل تدعي بأن منتجاتها تمنح «الثقة الداخلية» والمنصات الرقمية تبني خوارزمياتها على مقارنة لا تنتهي بين حياتنا وحياة الآخرين، وهناك مقالات وكتب تبيع وهم السيطرة على المصير الشخصي. ضمن هذا العالم، تتحول السعادة إلى مشروع فردي مُكلف، يستهلك طاقتنا وأموالنا ويُبعدنا عن مساءلة جذور البؤس: البطالة، العمل غير المستقر، الضغوط السياسية، تغير شكل الروابط الاجتماعية وغيرها. ما يقوم به بوركمان هو أنه يكشف أن «التفاؤل الإجباري» ليس مجرد نصيحة نفسية بل أيديولوجيا سياسية، وسيلة لإلقاء اللوم على الفرد بدل مساءلة البُنى والأنظمة. إذا كنت تعاني القلق أو الشعور بالنقص والإحباط، فالمشكلة «فيك» لا في ظروفك، في طريقة «تفكيرك» لا في واقعك. بهذا المعنى يصبح التفكير الإيجابي نفسه شكلاً من أشكال الإنكار الجماعي (collective denial)، مُسكن لحظي يحجب الألم لكنه لا يعالج أسبابه. هذه الفكرة تتقاطع مع تشخيصات فلاسفة مثل بيونغ-تشول هان في كتابه The Burnout Society الذي يناقش كيف تحول الإنسان من «مُستَغَل» إلى «مُستغل لذاته»، يفرض على نفسه مهام لا تنتهي باسم الحرية والإبداعية والتحقق وتتركه في غاية الانهاك.

ما يقوم به بوركمان هو أنه يكشف أن «التفاؤل الإجباري» ليس مجرد نصيحة نفسية بل أيديولوجيا سياسية، وسيلة لإلقاء اللوم على الفرد بدل مساءلة البُنى والأنظمة

يمتد نقد بيركمان ليشمل تحديد الأهداف (goal setting) وترتيب حياتنا كما نرتب التقويم، وهو ركن أساسي في تقاليد تطوير الذات. ويقول في مقابلة بأن الأهداف الجامدة «قد تُحبط وتُشجع على اتباع أساليب أخلاقية مختصرة» مستشهداً بأبحاث عن هلاك متسلقي جبل إيفرست، جزئياً، بسبب هوسهم بالوصول إلى القمة كهدف فقط، ويقترح بديلاً آخر: لا تقل «سأكتب رواية عظيمة، بل التزم بكتابة 500 كلمة في اليوم» لا تتعلق بالنتيجة النهائية، بل بالعملية، بالحركة اليومية. الأمر نفسه ينطبق على «التأكيدات والتحفيزات الإيجابية» التي يأتي أثرها عكسياً، كما يشير في المقابلة نفسها: «الأشخاص ذوو تقدير الذات المتدني يشعرون بمزيد من السوء حين يكرّرون لأنفسهم جملاً مثل: أنا شخص محبوب، لأن عقولهم تبادر فوراً بتوليد حجج مضادة». بهذا المعنى، يفضح بيركمان خدعة لغوية ونفسية: اللغة المتفائلة والمشرقة لا تُبدّد العتمة بل قد تفضحها أكثر.

هل التشاؤم هو الحل إذاً؟ «التشاؤم الدفاعي»، أي تدريب النفس على تخيل أسوأ السيناريوهات كوسيلة لتقليل وقع الصدمات قد يكون هو الترياق، ولكن بيركمان يؤكد على ضرورة وضع الأمور في نطاقها الصحيح من دون مبالغات، والتمييز بين السيء والكارثي. يقدّم عالم النفس ألبرت إليس، الذي حاوره بيركمان للكتاب، صيغته الخاصة: «حتى التعذيب البطيء، يمكن أن يكون دائماً أبطأ». بمعنى أن هناك دائماً ما هو أسوأ، وأن إدراك تفاوت مستويات الألم يمنحنا قدرة غريبة على تحمل ما هو موجود. الحل الآخر هو التفكير بالموت، بمعنى النظر إلى الموت كبوصلة لترتيب أولويات الحياة، أو كما قال ستيف جوبز في خطابه في حفل تخرج جامعة ستانفورد (المستوحى من الفلسفة الرواقية): «إن تذكر أنك ستموت هو أفضل طريقة أعرفها لتجنّب فخ الاعتقاد بأن لديك ما تخسره».

على الرغم من كل ذلك، فالكتاب ليس تبريراً للكآبة، بل مرآة مضادة للثقافة السائدة. فكرة السعادة نفسها كغاية ذاتية أنانية أكثر من كونها تجربة جَمعية، تستحق إعادة النظر. وربما يجب، كما يقترح عالم النفس بول بيرسال، أن نضع «الرهبة» (awe) في قلب مشاعرنا الأساسية، ذلك المزيج من الدهشة والرعب الذي يُذكرنا بصِغرنا أمام الكون ويكسر وهم السيطرة المطلقة.

لكل من سئم من «الإيجابية السامة» ويريد أن يبرطع في تشاؤمه بسلام، هذا الكتاب ينصفك. في النهاية، كما يردد هاملت: «لا يوجد شيء جيد أو سيئ، لكن التفكير يجعله كذلك».