معاينة تشريح الموت جوعاً في غزّة

تشريح الموت جوعاً في غزّة

«هذا هو الوقت الذي يتوقّف فيه الأطفال عن البكاء». هكذا وصف طبيب في غزة اللحظات الأخيرة للجوع، حين لا يبقى في الجسد ما يكفي من طاقة حتّى لذرف الدموع. صمتٌ أثقل من الصراخ، سكونُ أرواحٍ تُسحب منها الحياة قطرة قطرة.

يعلم الأطباء أن الجوع يختلف عن المجاعة. فالجوع ألم عابر، أما المجاعة فهي اللحظة التي يبدأ فيها الجسد بافتراس نفسه: ينخفض سكر الدم، تذوب العضلات، تنهار المناعة، تتوقف الجروح عن الالتئام، وحتّى القلب يتفكّك ليُحوَّل إلى طاقة. يصف الأهل أبناءهم وهم يتقلّصون أمام أعينهم، أصواتهم تخفت كأن الحياة نفسها تنسحب منهم.

ما يحدث في غزّة ليس مأساة طبيعية، بل جريمة متعمّدة. إنه تشريح حيّ للمجاعة، يُعاين في البيوت والعيادات والمخيّمات. كل عارض جسدي هو أيضاً مقياس لسياسة حرمان إسرائيليّة مُمنهجة تستهدف مجتمعاً كاملاً في أبسط شروط بقائه: الغذاء.

المؤشّرات الأولى: الجسد في الانحدار

تبدأ المجاعة بهدوء. يتسرّب الوزن بلا قصد، ويتلاشى المخزون من القوّة، ويستقرّ الإرهاق. ينخفض سكّر الدم، فيسقط الناس في دوار أو إغماء داخل المستشفيات والشوارع. يبرد الجسد سريعاً، وفي ليالي غزة القاسية يصبح الارتعاش عذاباً، إذ لم يعد الجسم قادراً على توليد الدفء.

يشهد الأطباء في غزّة على هذا الانحدار يومياً. يقول الدكتور حسن خلف، اختصاصي الطب الداخلي في مستشفى الحلو في مدينة غزة: «المرضى الذين كانت حالتهم مستقرّة بدأوا بالتدهور، وهم الآن على حافة الانهيار». يصل مرضى السكري المحرومون من الأنسولين في حالة حماض كيتوني قاتلة، إذ يتحوّل الدم إلى وسط حامضي حين يحرق الجسم الدهون بدلاً من السكر. تُنقَذ حياتهم لساعات أو أيام، لكنهم يخرجون من المستشفى بلا دواء، لينتكسوا من جديد.

ما يحدث في غزّة ليس مأساة طبيعية، بل جريمة متعمّدة. إنه تشريح حيّ للمجاعة، يُعاين في البيوت والعيادات والمخيّمات. كل عارض جسدي هو أيضاً مقياس لسياسة حرمان إسرائيليّة مُمنهجة تستهدف مجتمعاً كاملاً في أبسط شروط بقائه: الغذاء

حتى المناعة تنهار. يطول الزكام، تستعصي الالتهابات البسيطة، وتتحوّل الجروح الصغيرة إلى عجز دائم. هذه ملامح الحياة اليومية لمليوني شخص في غزة. تبدأ المجاعة بشكلٍ خافت، وسرعان ما تتحوّل إلى تآكل بطيء للصحة والكرامة.

أرواح هشّة: الأطفال والأمهات

الأطفال أول الضحايا. فاحتياجاتهم الأيضية أكبر، ولا تحتمل أجسادهم النامية الحرمان الطويل. يوقف سوء التغذية البروتيني–الطاقي النمو، ويضعف المناعة، ويؤخّر التطوّر الحركي والمعرفي. ويحمل الطفل الذي يُحرَم في سنواته الأولى من الغذاء أثراً لا يُمحى: قصر قامة، هشاشة أمام الأمراض، عمر أقصر، وذاكرة وقدرة تعليمية أضعف.

تقول هداية المطوعي: «ابني محمد، 18 شهراً، يعاني من سوء تغذية، ولا يتجاوز وزنه 6 كيلوغرامات. إنه متعب، ولم يعد قادراً على الوقوف أو الجلوس بسبب نقص الطعام». كلماتها نذير لتلف جيل بأكمله.

يفترس الجوع الأمهات أيضاً. إذ يعتمد الإرضاع على توافر البروتين والسعرات الحرارية، وعندما يغيبان، يجفّ الحليب. وينهار الرُضّع الذين يعتمدون كلياً على الرضاعة الطبيعيّة بدورهم نحو سوء التغذية. وتشير عيادات أطباء بلا حدود الميدانيّة في غزّة إلى أن أكثر من ربع الأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل أو المُرضعات يعانون حالياً من سوء تغذية حاد.

هنا يتلاشى الحد الفاصل بين الأم والطفل: كلاهما ينهكه الحرمان ذاته، ويُربَطان في حلقة جوع واحدة، حيث يستهلك جسد الآخر. وحين يعجز جسد الأم عن العطاء، يبدأ جسد الرضيع بالذبول.

انهيار الأنظمة: الصحة على حافة الهاوية

كلما تعمّقت المجاعة، ازداد انهيار جهاز المناعة. تتحوّل التهابات تنفسية بسيطة إلى أمراض مزمنة، وتنتشر التهابات جلدية بلا علاج، وأمراض الإسهال التي تزول عادة في خلال أيام تصبح مهدِّدة للحياة. يوقف نقص البروتين إنتاج الأجسام المضادة وكريات الدم البيضاء، فيترك الجسد بلا دفاع. تتحوّل الجروح الصغيرة، التي كانت تلتئم سريعاً، إلى تقرّحات أو غرغرينا، تُفضي إلى عجز دائم أو إلى الموت.

في مستشفيات غزة، يتضاعف هذا الانحدار مع الإرهاق ونفاد الموارد. يحذّر الدكتور حسن خلف من أنّ الطواقم الطبّية «تعمل وهي جائعة ومرهَقة، في ظروف لا إنسانية ومن دون موارد أساسية، ما يهدّد بانهيار ما تبقى من مستشفيات». فكيف لطبيب أن يعاين الجوع ذاته الذي يعاني منه بنفسه؟

حتى المناعة تنهار. يطول الزكام، تستعصي الالتهابات البسيطة، وتتحوّل الجروح الصغيرة إلى عجز دائم. هذه ملامح الحياة اليومية لمليوني شخص في غزة. تبدأ المجاعة بشكلٍ خافت، وسرعان ما تتحوّل إلى تآكل بطيء للصحة والكرامة

المراكز القليلة لتثبيت التغذية بالكاد تستمر. الوقود شحيح، والحاضنات وأجهزة المراقبة متوقفة، والرفوف التي كان يفترض أن تحوي حليباً علاجياً أو بسكويتاً عالي الطاقة فارغة. يُقال للأمهات اللواتي يحملن رُضّعاً هياكل عظمية إن لا شيء متاح. في هذه الظروف القاهرة، يستحيل حتى البدء بالبروتوكولات لعلاج سوء التغذية الحاد.

أما المصابين بأمراض مزمنة، فيسرّع الجوع وفاتهم. تقول ميساء إليان كامل إليوة، مريضة بسرطان الدم في الـ38 من عمرها، «تدهورت صحّتي بشدة بسبب الجوع ونقص العلاج. فقدت 20 كيلوغراماً في شهر واحد… لم يعد يؤمّن المستشفى لي العلاج ولا حتى المسكّنات. يخاطر ابني بحياته يومياً ليجلب لي ولإخوته رغيف خبز من نقاط توزيع مؤسّسة غزة الإنسانية». 

وجبات الكفاف والموت البطيء

حتى عندما يتوافر الطعام في غزّة، فإنه غالباً غير كاف لإبقاء المرء على قيد الحياة. في غزة اليوم، تقوم الحياة على مطابخ خيرية توزّع أوعية من ماء الأرز أو مرق العدس. تمنح هذه الوجبات سعرات حرارية محدودة، لكنها لا توفّر البروتينات أو المغذّيات الدقيقة الضرورية. ويقود الاعتماد المطوّل عليها إلى نقص حادّ في المغذيات، وفقر الدم، ونقص فيتامين A، وسوء تغذية بروتيني–طاقي. ينجو الجسد بالكاد، لكنه يذوي ببطء.

تكشف شهادات النازحين هذا الانحدار. يقول سليم إبراهيم مسلم عسفور، البالغ من العمر 75 عاماً والنازح في خان يونس: «كانت وجباتنا تتكوّن أساساً من الفاصوليا المعلّبة والبازلاء والحمص والعدس. وعندما يتوافر الخبز أمتنع عنه وأتركه لأطفالي. أقول لنفسي: أنا عجوز، دعوا الأطفال يعيشون».

يتلاشى الحد الفاصل بين الأم والطفل: كلاهما ينهكه الحرمان ذاته، ويُربَطان في حلقة جوع واحدة، حيث يستهلك جسد الآخر. وحين يعجز جسد الأم عن العطاء، يبدأ جسد الرضيع بالذبول

لا يقتصر النقص على الطعام، بل يشمل أيضاً وسائل إعداده. تحرق كثير من العائلات الورق والملابس القديمة والبلاستيك وحتى الأحذية لطبخ ما تبقّى. والطعام القليل بالأساس يزداد رداءة حين يُطهى على دخان سام أو لا يُطهى إطلاقاً.

تُرى النتائج في ارتفاع معدّلات الوفيات. كل شهر يُقضى على مزيد من الناس بالمجاعة، ومعظمهم أطفال. بعضهم كان يعاني أصلاً من أمراض سابقة، وهي الحجة التي يكرّرها المسؤولون الإسرائيليون، لكنها لا تغيّر الحقيقة: الأكثر هشاشة يموتون أولاً، كعصافير منجم الفحم، يرسلون إنذاراً عمّا ينتظر الجميع.

المراحل النهائية للمجاعة

قبل الانهيار الأخير، يدخل الجسد مرحلة الهزال الشديد (الكاشيكزيا)، حيث تختفي العضلات والدهون فلا يبقى سوى العظام. يقول سليم عسفور: «كنت أزن 75 كيلوغراماً، خسرت 30، والآن عظامي بارزة… لقد التهم الجوع جسدي».

من هنا يمتدّ التآكل إلى باطن الجسد. بعد أن يستهلك الجسم الدهون والعضلات، يبدأ بالتضحية بأعضائه الحيوية: الكبد، والكلى، وحتى القلب. تختفي البروتينات من الدم، يظهر تورّم في الساقين والقدمين، يتباطأ النبض، ويصبح التنفّس سطحياً. تنكمش الحياة إلى أدنى وظائفها، وتصبح كل حركة معركة مُنهكة.

الأكثر هشاشة يموتون أولاً، كعصافير منجم الفحم، يرسلون إنذاراً عمّا ينتظر الجميع

يعكس الجانب النفسي أيضاً هذا التفكّك الجسدي. يبدأ بهوس بالطعام، ثم يأس، ثم صمت حين لا تبقى طاقة لمصارعة الجوع. تقول فتحية، والدة الطفلة أحلام: «ماتت ابنتي وهي تتوق إلى طعام لم تستطع الحصول عليه ولم أستطع أن أوفره لها». هي طفلة كان الثلاسيميا عندها مستقراً لسنوات، انهارت حالتها بسرعة بعدما جعل الحصار الإسرائيلي عمليات نقل الدم مستحيلة، واقتصر غذاؤها على خبز العدس والتوابل.

إن رُفع الحصار غداً

حتى لو فُكّ الحصار وتدفّق الطعام، فلن يكون التعافي ببساطة إطعام الجائعين. فالأجساد التي وصلت إلى مراحل متقدّمة من المجاعة قد تواجه خطراً قاتلاً يُعرف بمتلازمة إعادة التغذية. إذ إن الجسم الذي تكيّف طويلاً مع الندرة ينهار عند عودة الكربوهيدرات والبروتين، تتحرّك الشوارد فجأة في الدم، وقد يتوقف القلب، ليموت الجيّاع من الجوع بسبب الغذاء نفسه.

يتطلّب علاج هذه المتلازمة مراقبة دقيقة وموارد مفقودة في غزة: فحوصات مخبرية متكررة يومياً، مكملات وريدية من الفوسفات والبوتاسيوم، ورعاية طبية لصيقة. يمكن إدارة هذه المخاطر في المستشفيات المجهّزة، لكن في أجنحة غزّة المنهكة، بلا وقود أو معدات أو كوادر كافية، يصبح العلاج شبه مستحيل.

للمجاعة قاموسها الطبي: الكاشيكزيا، فشل الأعضاء، متلازمة إعادة التغذية. لكن في غزة، لها وجوه وأسماء: طفل ضعيف لا يقوى على الجلوس، أم جفّ حليبها، مريض يفقد وزنه كما يفقد الأمل، شيخ يتخطّى وجباته ليترك الطعام لأبنائه. هؤلاء ليسوا حالات علميّة أو إحصاءات مجهولة، بل أرواح تنهار بفعل حرمان متعمّد من الغذاء

أما الأطفال الذين تقطّع نموّهم، فلا تعوّضه وفرة الغذاء. يمكن للتغذية أن تمنع مزيداً من التدهور، لكنها لا تستعيد السنوات الضائعة. الطفل الذي لم يتعلم الحبو أو الكلام في وقته المناسب سيحمل هذا التأخّر معه إلى المراهقة والرشد. حتى لو توفر الطعام غداً، ستظل ندوب المجاعة محفورة في أجساد أهالي غزّة مدى الحياة.

جريمة على مرأى من العالم

للمجاعة قاموسها الطبي: الكاشيكزيا، فشل الأعضاء، متلازمة إعادة التغذية. لكن في غزة، لها وجوه وأسماء: طفل ضعيف لا يقوى على الجلوس، أم جفّ حليبها، مريض يفقد وزنه كما يفقد الأمل، شيخ يتخطّى وجباته ليترك الطعام لأبنائه. هؤلاء ليسوا حالات علميّة أو إحصاءات مجهولة، بل أرواح تنهار بفعل حرمان متعمّد من الغذاء.

المجاعة ليست مجرّد حالة بيولوجية، بل فعل عنف إسرائيلي محفور في الأجساد. الشهادة عليها بداية، وفهمها طبيّاً يمكّن التعاطف، لكن إيقافها هو الواجب الإنساني الوحيد.