هكذا دواليك
365 يوم من اللاسلم
الحياة في ظلال المسيّرات
منذ سنة، في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وُقِّع اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل. كان اليوم الأخير حفلة جنون أصابت بيروت وضاحيتها الجنوبية والجنوب وصيدا. أطلق أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي بالعربية للجيش الإسرائيلي، أكثر من 80 إنذاراً بالاستهداف. لم تمر بضع دقائق حتى أصبحنا جميعنا هاربين. هل سننجو؟ كان هذا السؤال المسيطر علينا. كنا نخشى أن نُصاب في الساعات الأخيرة قبل دخول الاتفاق حيّز التطبيق. سُدَّت الطرقات بعَصَفِ السيارات فالجميع يبحث عن مكان آمن. في ذلك اليوم، وعلى اختلاف مواقفنا السياسية، أحسسنا بخطر الاستهداف المباشر. أصبحت بيروت بكاملها هدفاً عسكرياً. الجميع من دون استثناء أصبح مهدداً. لا مكان آمناً في المدينة. بقيت في بدارو حتى المساء، حين استطعت التوجّه إلى البيت المؤقت الذي كنا قد لجأنا إليه كونه في منطقة أفضل نسبياً من حيث كنت أسكن. هناك، في الطريق الجديدة، كنت أنتظر أن تمضي ساعات الليل وأنا على ثقة بأنها، وكما في العام 2006، ستكون حافلة.
في التاسعة مساءً، وفي المبنى المقابل مدرسة تأوي نازحين، كان هناك فتية يحتفلون بانتهاء «الحرب». كنت أتأملهم من بعيد، فلاحظت بينهم طفلاً يركض في ممرّات الطابق رافعاً غطاءً أصفر مزهواً به. لم أفهم بداية ما الذي يفعله، لكني انتبهت لاحقاً إلى أنه كان يعبّر عن انتصار ما برمزية اللون الأصفر. لم يجد علماً فحوّل غطاءه إلى موقف سياسي. ما هذه الحاجة الملحة لإعلان انتصار حتى عند الأطفال؟ صوّرت تلك اللحظة ولم أفهمها. لاحقاً، في الثالثة فجراً، تقريباً قبل ساعة من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، دوّى صوت انفجار كبير ناحية منطقة الجناح. كان ذلك «هدية» الوداع للبنانيين. في الرابعة فجراً، «انتهت» الحرب رسمياً، لكن سماء بيروت انفجرت بإطلاق النار ابتهاجاً بوقف إطلاق النار. مفارقة غريبة عجيبة، وكأن الناس يقولون: «وداوني بالتي كانت هي الداء».
ركت الناس منازلها مُجبرة، وتعود إليها باختيارها كفعل أساسي لصيانة وجودها في أرضها. لكن إلى متى؟ إلى متى ستبقى حياة الجنوبيين أسيرة الهجرة المؤقتة والعودة وإعادة الإعمار، ثم المغادرة؟ لا جواب
في السادسة صباحاً، خرجت للتجوّل في شوارع بيروت. في الطيونة، يوزّع فتية صور الأمين العام لسابق لحزب الله، حسن نصر الله، على السيارات. في رأس النبع، عشرات السيارات المحمَّلة بالأثاث تغادر باتجاه الضاحية الجنوبية والجنوب. وفي الطريق إلى الضاحية، يتجه مئات الأشخاص سيراً على الأقدام وفي السيارات. أمّا في الأحياء الطرفية للضاحية فيصعب الدخول بالسيارة لكثافة العائدين. وكعادته، كما في العام 2006، أطلق نبيه بري، الرئيس الأبدي لحركة أمل ومجلس النواب، نداءً للجنوبيين مطالباً إياهم بالعودة إلى قراهم. وكعادتهم، سبقوا دعوته في العودة. هم لا يحتاجون لنداءات مماثلة. تركت الناس منازلها مُجبرة، وتعود إليها باختيارها كفعل أساسي لصيانة وجودها في أرضها. لكن إلى متى؟ إلى متى ستبقى حياة الجنوبيين أسيرة الهجرة المؤقتة والعودة وإعادة الإعمار، ثم المغادرة؟ لا جواب، فهذه، لربما، لعنة الجيرة مع «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط.
المأزق الوجودي: من أسطورة «المنظمة الحديدية» إلى واقع «الدولة الوظيفية»
على ماذا وقعنا؟ سؤال طبع النقاش بشأن الاستهدافات طوال هذه السنة. وكان يأتي ربما من باب السخرية السوداء. وربما كان يعكس، في الحقيقة، حالة عجز عن هضم اللاتوازن الذي نتج عن الجولة الأخيرة من الحرب. فحزب الله لم يعد الكيان نفسه، وإن ثابر على المكابرة وحالة الإنكار، ومهما استمرّت قيادته في الهروب إلى الأمام. والتقاطعات السياسية الداخلية التي تنسجها مع قوى مختلفة هامشية وطرفية، والتنسيق المجتزأ مع مؤسسات الدولة اللبنانية ليس كافياً. لا يمكن التضحية بكل شيء للمحافظة على أسطورة التنظيم الذي لا يُقهَر! القِيادة غير مدركة أن الجاهزية المعنوية ومقاطع الفيديو للمنشآت العسكرية التي يضخّها الإعلام الحربي لا يمكنها أن تغيّر في الواقع الميداني.
لم تعد هناك قوة ردع، على الأقل اليوم! انتهت. هذه حقيقة يجب تقبُّلها والتعامل معها. المسيرات التي يتحكم بها الذكاء الاصطناعي لا تنفع معها القدرية المفرطة. واليقين بالمقدرة مطمئن لقلوب المؤمنين، لكنه غير ناجع في مواجهة الكاميرات الحرارية. أما القوة الجوّية التي تفتك بالناس فهي لا تُردّ بالتكتيك المعتمد ولا بالملاجئ ولا بالمخابئ. فبعد سنة من الحرب، لا تزال القرى مُفرغة، وشباب الجنوب يقدّمون قرابين، ولم تقم قيادة الحزب بتقديم أي تفسير منطقي للناس الذين تُطالبهم بالصبر والكظم على الضيم، في حين لم تتم محاسبة المقصّرين والمسؤولين عن المسار الذي آلت إليه الأمور على مختلف المستويات. هذه المراجعة والمكاشفة هي حاجة وطنية قبل أن تكون حزبية. ويأتي اغتيال هيثم الطبطبائي ليؤكد أن الكلام عن الترميم واستعادة العافية ليس دقيقاً.
الأرض المحتلة من الصعب جداً استعادتها بالمنطق الأمني والسياسي والعسكري وحتى الاجتماعي الذي ساد في الفترة التي سبقت الحرب. فالخطر الإسرائيلي ليس عسكرياً فقط؛ هو متعدّد المستويات والمكوّنات والأهداف، ولا يمكن مواجهته حصراً بقوة عسكرية تتضائل قدرتها أصلاً. والحديث عن ترميم القدرات أصبح مدعاة تندّر ومفرغ من قيمته وذو نتائج عكسية. أما فائض القوة، الذي لطالما كان محل انتقاد، فقد تحوّل إلى جعجعة جوفاء لا تنفك الوجوه الإعلامية للمحور تُردّدها. في الوقت الذي يجب تحرير الحيّز العام من سطوة التوجيه الإعلامي وفتح مساحات النقاش الحر أمام الناس لتشارك في إنتاج الخطاب السياسي الذي تريد. لا يمكن الاستمرار بعقلية الترهيب الفكري لكل من يطرح الأسئلة الصعبة في الوقت الذي وصل الخرق الأمني لمستويات قياسية في جسم لطالما صوّر نفسه بالحديدي.
لا مناص من العودة إلى جوهر فكرة المقاومة، بمعزل عن أي حزب أو حركة أو تنظيم يقودها اليوم، القائم على الحاجة لتوظيف كل الوسائل والموارد المتاحة لتحقيق الهدف بتحرير الأرض والدفاع عنها. وهنا، السلاح هو الأداة وليس الغاية، هو الوسيلة وليس الهدف. لا يمكن الاستمرار بالرؤية الأحادية لوسائل المقاومة وتكتيكات المواجهة. فلا حماية اليوم للبلد ولا للجنوب ولا للبيئة. ونادرة هي الفرص، فحتى الاستسلام نفسه ليس خياراً مطروحاً.
لم تعد هناك قوة ردع، على الأقل اليوم! انتهت. هذه حقيقة يجب تقبُّلها والتعامل معها. المسيرات التي يتحكم بها الذكاء الاصطناعي لا تنفع معها القدرية المفرطة
«ما العمل؟» مرة جديدة، يطرح السؤال نفسه. كيف يمكن إفشال فرصة حكومة نتنياهو للانقضاض على ما تبقى من بنية المقاومة والبلد بشكل عام؟ كيف يمكن عدم مُجاراة السعي الحثيث للإدارة الأميركية ووسطائها المحليين، على اختلافهم، للنجاح في اجتثاث فكرة المقاومة من الخطاب اليومي؟
هناك اليوم من يريد شيطنة فعل المقاومة في شكله الفطري، فمشكلته ليست مع الجهة التي تقودها، أكانت إسلامية أم يسارية أم يمينية؛ هو يريد سَحْب الفكرة من التداول وتحويلها علَّة العلل. هناك من يدعي أن وجود فكرة المقاومة، بحد ذاته، منذ السبعينيات، كان العائق أمام استكمال بناء الدولة العادلة والقادرة والفعَّالة.
لا يقتصر التحدّي اليوم على اتفاقية أمنية أو معاهدة سلام غير عادلة. مسودة «اتفاق 17 أيار» نفسها لم تعد صالحة. والأزمة لا تكمن في التطبيع بحد ذاته، بقدر ما هي مرتبطة بمشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، كما أعلن ويواصل نتنياهو الإعلان عنه، بين مركز تُشكّل إسرائيل نواته الصلبة، ودول طرفية ذات أدوار وظيفية في مجالات الأمن والاقتصاد والطاقة والتجارة الدولية. يتمثل الخطر اليوم في الطرح، على أقلويته، الذي يُقدّم النموذج الحوكمي الإسرائيلي بصفته الخيار الواجب اعتماده كمسار للنهضة التنموية، في مقاربة تدعي الحياد التكنوقراطي لتخفي وراءه الانحياز إلى الجانب المُظلم من الطيف السياسي المهيمن على المنطقة. الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط بنسخته الآتية، يقوم بشكل أساسي على تقسيم أدوار بين مركز، وسيط إمبريالي، وأطراف ذات أدوار خدماتية محضة.
إنها «الدولة الوظيفية» التي تُقدَّم كبديل وحيد في معادلة الطعام والمسكن والشراب، في مقابل «السلام». فلا الأرض، ولا الازدهار الاقتصادي، ولا التنمية مطروحة بشكل واضح كثمنٍ للسلام. فكما في خطة إعادة إعمار غزة وبدعة «منطقة ترامب الاقتصادية» في لبنان، ما يُطرح هو السماح لسكان البلاد بشكل من أشكال الحياة في أرضهم، مقابل خدمات وظيفية محدّدة. لقد أصبحت مفاهيم السيادة الوطنية والحرية والحق في تقرير المصير من الماضي، فالحكم اليوم لمن يتحكم بزرّ الإطلاق للطائرات المسيرة «الذكية»، الأداة البارزة للفتك. من غزة إلى اليمن والعراق ولبنان وسوريا، الخيار المطروح هو نسخة رديئة من نموذج السلطة الفلسطينية، التي أعاد اليمين الإسرائيلي تشكيل دورها ووظيفتها بالحديد والنار، بما يتلاءم مع رؤيته. الاستباحة المطلقة مقابل الحق بالحياة هذا هو الخيار المطروح.
لا يمكن الاستمرار بعقلية الترهيب الفكري لكل من يطرح الأسئلة الصعبة في الوقت الذي وصل الخرق الأمني لمستويات قياسية في جسم لطالما صوّر نفسه بالحديدي
هل تُدرك قيادة الحزب، شأنها شأن من سبقها من قيادات المقاومات، كل هذا؟ لا نعلم. لكن الواضح أن هذه مهمّة أكبر منها، وربّما أكبر من مسألة السلاح نفسه الذي أصبح تفصيلاً في المشهد بكليته. فمسألة التحرير تبقى الأولوية القصوى ما دام الاحتلال قائماً. لكن يبقى السؤال الأبرز: كيف يمكن تقديم خطاب سياسي للداخل اللبناني يُوضح مسارات الأمور، ويُحدّد الأولويات السياسية، ويحاول تحييد البلد – كل البلد – عن المقصلة التي تَنصبها إسرائيل ومن خلفها مندوبو الإدارة الإمبراطورية في أميركا؟ ربما، وبكل بساطة، الحزب ككيان سياسي لبناني ذي امتدادات خارجية، ليس جاهزاً اليوم لمثل هذه التحوّلات. فهو يجمع بين دوره كتنظيم «ما دون دولة» معنيّ بمهمة تحرير الأرض، وبين طبيعته كقوّة مكوّنة وقيادية في نظام سياسي يسعى لإيجاد مكانة له في الشرق الأوسط المقبل. هذه الطبيعة الهجينة كانت نقطة قوّة الحزب وهي اليوم نقطة ضعفه الأكبر. لقد أثبتت نظرية وحدة الساحات فشلها والإصرار على ربط البلد اليوم مع محور متهالك هو فرض أمر إنتحار جماعي.
حرب السرديات ووهم الإنتصار
كان اتفاق وقف إطلاق النار عصيّاً على الوضوح، فكلّ طرف فسّر مضمونه كما يشاء. ليغرق الجميع في ثنائيات قاتلة: جنوب النهر أم شماله، نزع السلاح أم تسليمه، انتصار أم هزيمة، عودة السكان أم استمرار الاحتلال، إعادة الإعمار أم الغرق في الدمار. اُستُتبِعت الحرب العسكرية بأخرى على صعيد السرديات. بسرعة قياسية، وربما قبل انتهاء الحرب نفسها، انتقل الجميع إلى مسألة تقريش نتائجها في معادلات تشارُك القوة والنفوذ الداخليّة. في حرب السرديات هذه، برزت حاجة مُلحّة لدى البعض للانتقام، واستثمار هذه اللحظة التاريخية لتحقيق تغيير نوعي في معادلة القوة المهيمنة.
سَكِرَ البعض من القوى السياسية، السلطوية، بسُطوة التكنولوجيا العسكرية وفداحة الخسائر، وخُيِّل لهم أنهم قادرون على العودة بالزمن إلى الوراء. ظنّوا أنهم المنتصرون في هذه الحرب. عابوا على أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، ادعاءه الانتصار، بينما ادّعوا هم أنفسهم انتصارات وهمية، بدءاً من انتخابات رئاسة الجمهورية، مروراً بالاستشارات النيابية، ووصولاً إلى تشكيل الحكومة وحصتهم الوزارية.
في السنة التي مرّت، هناك من نصّب نفسه منتصراً حاكماً قادراً على قلب المشهد بسرعة قياسية مرتكزاً لدرجة كبيرة على الضغط الخارجي والاقتصاد السياسي للبلطجة الذي تمتهنه إدارة ترامب. سقطت المحرّمات، لربما، وكُثر من وجدوا في الأمر مناسبة لتصفية الحسابات السياسية المتراكمة منذ العام 2005 تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري والإعلان عن التحوّل الكبير في نظام حكم ما بعد الطائف. فالحزب، لم يترك له صاحب في الساحة السياسية ولم يكن أداؤه السياسي في انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 سوى انعكاساً لموقعه السلطوي في منظومة الحكم. لكن مآلات الأمور أثبتت أن المسألة أعقد ممّا يتصوّره البعض في الداخل والخارج. أوصلت انتخابات الرئاسة من حمل رسالة واضحة أن الأمور في لبنان لا تعالج إلا بالحوار، وأن لا مهزوم في الداخل ولا انكسار لأحد. مسار استعادة الدولة لموقعها المركزي في إدارة شؤون البلاد والدفاع عنها هو مسار سياسيٌ مجتمعي لا يمكن مقاربته بعقلية اجتثاثية ولا بفهم تكنوقراطي تقاني لعملية الحوكمة العادلة. بدوره، الجيش اللبناني الذي توكّل مهمّة تنفيذ القرارات الحكومية المتعلّقة بحصر السلاح بيد الشرعية، أثبت وبالممارسة أن الدفاع عن السيادة الوطنية وحماية سلطة الدولة وحفظ السلم الأهلي هي خيارات متلازمة متقاطعة لا يمكن الفصل بينها. فمنذ اللحظة الأولى، كان قرار دخول الدولة إلى المناطق التي ينسحب منها الاحتلال مصحوباً بمواكبة اللبنانيين العائدين إلى قراهم بعد مهلة الستين يوم في كانون الثاني/يناير 2025، ومشاهد الجنود اللبنانيون وهم ينتزعون رموز الاحتلال ويستبدلونها بأعلام لبنان أكثر من معبِّر عن قرار دولتي مركزي بإظهار وجود فعلي وميداني وحامي لعودة الناس إلى القرى وضامن لها.
ما العمل؟ هو السؤال الأصعب اليوم. فمن ذا الذي يمتلك ترف الادعاء بامتلاك حلّ ناجع؟
الحديث عن الدولة وأهميتها وضرورة احتكارها للعنف الشرعي وقوة القهر - وفق التعريف الفيبري الكلاسيكي - يجب أن يُحرَّر من سطوة الخطاب التبشيري. لا يحتاج لبنان إلى مبشّرين جُدد، يحملون شعارات بناء الدولة ويُسقِطونها من دون أي مقاربة مجتمعية، متناسين أن الدولة الحديثة، في رؤية فيبر، هي بناء تاريخي-اجتماعي معقّد، وليست منتجاً جاهزاً يمكن تطبيقه بكبسة زر. هم يذكروننا بشعار الإخوان المسلمين إبّان الربيع العربي، حين اختزلوا المسار الإصلاحي بشعار «الإسلام هو الحل». ما يحتاج البعض إلى فهمه، أن رفعهم لشعار «الدولة هي الحل» ليس كافياً بحد ذاته، إذا لم يَقترن بإعادة تعريف وإنتاج دورها بشكل جذري وبمسار مجتمعي واضح المعالم. هنا تبرز أهمية مقاربة منطق الحكم (Governmentality)، التي تتجاوز فكرة الدولة ككيان جامد إلى دراسة «فنون الحكم» وآلياتها: كيف تُدار حياة السكان؟ بأي تقنيات؟ وأي خطابات تُنتج لترويض الأجساد وتوجيهها؟ إعادة تعريف الدولة يجب أن تشمل مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والصحة، بشكل متوازن بين جميع المكوّنات، لا كجهاز تكنوقراطي قمعي فحسب، بل كشبكة من ممارسات السلطة المنتجة التي تخترق كل مسامات الحياة.
هناك اليوم من يريد شيطنة فعل المقاومة في شكله الفطري، فمشكلته ليست مع الجهة التي تقودها، أكانت إسلامية أم يسارية أم يمينية؛ هو يريد سَحْب الفكرة من التداول وتحويلها علَّة العلل
هذه النظرة اللا-تاريخية لمسار تطور الدولة، والتي تتجاهل كيف أن «العقلانية» الفيبرية نفسها هي نتاج تاريخي محدّد وليست معياراً كونياً مطلقاً، تأتي لتقدّم نفسها مُخلِّصاً للبلاد التي كأنما كانت تعيش في زمن «اللا دولة» بشكله البدائي. من قال إن دولة الطائف كانت «لا دولة»؟ لقد كانت تمثل شكلاً محدداً من «الحوكمة»، شارك فيه الجميع من دون استثناء وارتضوا بتسوياته وغنائمه، وبنظامه الخاص في إدارة السكّان وتوزيع السلطات والريوع على مواقع القوّة. هذه «اللادولة» هي نتاج تقاطع المصالح الكبير الذي أرسِي منذ وصول الرئيس الحريري الأب إلى السلطة وأعيدت صياغته في اتفاق الدوحة واستتبع بالتسوية الرئاسية التي أتت بميشال عون إلى بعبدا.
المشكلة مع هذا الطرح، أنه يُمعن في حرب السرديات القائمة على الثنائيات القاتلة. إنه يعيد تعريف السياسة كفعل مُتَنَزِّه عن أوهام الأخلاقوية، لا بل يفترض حُكماً أن من يخالفه الرأي هو يمارس فعل تعالٍ أخلاقي ليهرب من مواجهة الواقع. هذه النظرة هي عين الفهم التبشيري للسياسة كخطاب تنتجه نخب متنوّرة تدعي احتكار فهم الأولويات الوطنية والحاجة لقيادة المجتمع نحو غد أفضل. لكنه في العمق، يُبرر تموضعات وتقاطعات سياسية يحتاجها في مسار تقريش نتائج الحرب في الداخل. وهو بهذا، لا يطرح بديلاً حقيقياً، بل يستبدل شكلاً من أشكال الحوكمة على الطريقة اللبنانية (حكم الأمر الواقع القائم على التوازنات الطائفية والميليشياوية) بشكل آخر يدّعي «العقلانية» و«الحداثة»، بينما هو في جوهره يستخدم نفس الآليات: إنتاج خطاب ثنائي يفرز الناس بين أطياب متحضّرين مع «الدولة» وأشرار متواطئين مع «اللادولة» كأداة للهيمنة والسيطرة.
أزمة هذا الخطاب، الذي يحاول تسيّد النقاش السياسي، أنه يسعى لفرض معادلة مفادها أن لا صوت يعلو فوق صوت معركته مع تلك «اللادولة». هو غير قادر على رؤية المشهد بكليته، غارق في مسار تحقيق انتصار داخلي في مرحلة ما بعد الحرب، وغير قابل لأي هامش اختلاف. إنه يمارس فعل الإقصاء السياسي لأي خطاب مغاير، كمسار لإنتاج خطابه كحقيقة مطلقة. في الوقت نفسه، يسعى إلى تأسيس «حوكمة» جديدة، تكون فيها "الدولة"، كجهاز بيروقراطي، دائماً بحسب ما يراها، هي الآلية الأكثر فعالية لإخضاع الحياة للسلطة وتدجينها.
حين يصبح القتل استباحةً مألوفة
بعد سنة، في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، بلغت حصيلة اللبنانيين الذين طالتهم الاستهدافات الإسرائيلية حوالي 335 شهيداً و945 جريحاً، من بينهم ما يقارب 127 شهيداً تم التحقّق من كونهم مدنيين وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. وبحسب قوات حفظ السلام (اليونيفيل)، جري توثيق أكثر من 7,300 انتهاك جوي إسرائيلي، فيما تجاوز عدد الأنشطة العسكرية شمال الخط الأزرق 2,400 نشاط. لقد تغير الكثير في هذه السنة، لكن المسيرات الحربية التي لم تغادر سماء لبنان استمرت في تسيّد المشهد، لتُعلن للجميع أن الحرب مستمرة، وأنها، كأداة فتاكة، تُشكل لاعباً سياسياً مركزياً في المشهد اللبناني.
لبنان اليوم مهدد أكثر مما كان عليه منذ سنة، ولا نبالغ إن قلنا إن الوضع أكثر تعقيداً وأشد خطورة حتى من الأيام التي سبقت وقف إطلاق النار. فالبلاد، الغارقة في التشظي السياسي، والتي تقودها حكومة تحتاج إلى المزيد من الوضوح في رؤيتها خارج سياق استكمال مترتبات وقف إطلاق النار ونزع السلاح غير الشرعي وبسط السيادة الكاملة على الأراضي اللبنانية، تقف اليوم أمام خطر وجودي يتهدّد علة وجودها.
من قال إن دولة الطائف كانت «لا دولة»؟ لقد كانت تمثل شكلاً محدداً من «الحوكمة»، شارك فيه الجميع من دون استثناء وارتضوا بتسوياته وغنائمه
يقع لبنان اليوم أسير نظام الشروط الدولية، وتغريدات توماس برّاك، وتقلّبات مورغان أورتيغاس. فلا إعادة إعمار ولا استثمارات ولا أمان ولا نمو اقتصادي ولا سلم أو سلام قبل تنفيذ مجموعة من الشروط التي لا نعلم أين ستنتهي. ومع كل غارة واستهداف، تتعمّق آلية تنميطية تدفعنا دفعاً نحو مسار تطبيعي تعوّدي مع فكرة وجود القاتل ودوره وحرية حركته واستباحاته، حتى أصبحت جزءاً من المألوف. هكذا، يُحمّل الضحية مسؤولية موته، بينما يُؤْنسَنَ القاتل «الذكي» بحجة أنه لا «يُخطئ». وهذا يمثل ذروة الاستلاب والتعوّد على منطق القوة الأحادي الذي يفرضه الجلاد. هذه ليست المرة الأولى التي نتعرّض فيها لهكذا مسار وربما لن تكون الأخيرة. مسار آخر شبيه، مع إختلاف المواقع، يمكن ملاحظته في الفترة التي واكبت الاغتيالات في لبنان عشية 2005-2015. فهكذا يُنتج «العنف الرمزي» الذي يساعدنا على فهم كيفية قيام الأنظمة المهيمنة على انتاج تصوّرات تقبل منطق هيمنتها وتعتبره «طبيعياً». فالعنف لا يقتصر على التدمير المادي فحسب، بل يتعدّاه إلى صنع تصور ذهني يجعل العلاقة القائمة على الإبادة مقبولة. ربما نحن إزاء حالة معكوسة من متلازمة ستوكهولم، حيث لا يتعاطف المضطَهَد مع مضطَهده، بل يتبنى المضطَهَدُ المنطق نفسه الذي يضطهِده به، فيبرر للعنف ويحمِّل الضحية المسؤولية. هذا الانزياح القيمي والسلوكي هو الثمرة الطبيعية لـ «اقتصاد سياسي للعنف» ينتجه الاحتلال ويتم استهلاكه محلياً بدرجات متفاوتة.
في كل هذه المشهدية الكثيفة التعقيد يبقى الجنوبيون وحيدون وثابتون في أرضهم فلا إعادة إعمار ولا رؤية واضحة لكيفية إدارة الأزمة ولا عودة للحياة الاقتصادية ولا يوجد أي ضمانة لسلامتهم. يعيشون في ظلال المسيّرات ويشاهدون أبناءهم يقدّمون قرابين يومية. إلى متى؟! فالفتية الذين كانوا يزهون بوقف إطلاق النار إنما كان فرحين بالعودة إلى الديار والسيارات المحملة بالفرش والتجهيزات المنزلية كانت تحمل الناس لأمانها الطبيعي في أرضها. أما آن الآوان؟