هكذا دواليك
تكنولوجيا المقصلة في ساحات لبنان
أم كامل وأخواتها
أن تزور بيروت اليوم يعني أن تتعوَّد على أصوات «أم كامل» وأخواتها (أي المسيّرات الإسرائيلية كما اعتاد اللبنانيون تسميتها) تجول وتصول من دون رقيب ولا حسيب، فتقصف مبانٍ، وتستهدف أفراد، وتسمع طنين محرّكاتها. منذ عامٍ وأكثر، أصبحت هذه الأجسام الطائرة جزءاً من يوميات سكّان بيروت، داخل السور وخارجه، ومكوناً أساسياً للتلوّث السمعي والضجيج المديني الذي يُصمّ الآذان.
لكل مواطن مقاربته وتفسيره لدوره هذه المسيّرات. تربط صديقتي البيروتية بين الطائرات المسيّرة وعمليات الاغتيال، وإعادة بناء بنك أهداف الجيش الإسرائيلي. بالنسبة إليها، وهي غير الخبيرة بالشأن التقني، قد يكون تركّز «أم كامل» في منطقة محددة ناتجاً عن حاجة المشغّلين لمتابعة هدف ما ربما تحرّك، أو لرصد متغيّر في السلوكيات العامة لسكان هذه المنطقة؛ ما يمكن الاعتماد عليه لتحديد أهداف جديدة.
لكن الحقيقة المباشرة هي أن «أم كامل» وأخواتها دليل مادي فوري على خضوع البلاد لمنظومة الرصد والمراقبة والمتابعة والاشتباك الرقمية التابعة للجيش الإسرائيلي، بشكل دائم وعلى مدار الساعة. هذه المسيرات، ليست فقط عيون الاحتلال في السماء، وليست فقط للتصوير والإستعلام، هي آداب القتل والفتك الأكثر تطوراً. هي اليوم، أداة تنفيذية لمنظومة الاحتلال من السماء.
البلاد التي لا يضيّع ساستها وأحزابها وناشطوها وجمعياتها ومؤسساتها فرصة للتأكيد على ضخامة ما لا يَجمع بين الأفراد والجماعات فيها، أصبحت تشترك - وعلى كامل مساحتها - في الخضوع لمنظومة القوة التكنو-عسكرية الإسرائيلية، وتُمنَع حتى من الاعتراض على عمليات الإعدام اليومية التي تستهدف مواطنين يُصنّفون كأهداف مشروعة، بموافقة ورضى مَن يدَّعون دور «الوسيط» بين لبنان وحكومة نتنياهو.
لذا، يصبح من الواجب علينا أن نسعى لفهم كيفية عمل منظومة القتل التكنو-عسكرية هذه، ومما تتشكّل، في مسار طويل للتعرف إلى قاتل العشرات من اللبنانيين.
بنية منظومة القتل التكنو-عسكرية
لفهم آلية عمل هذه المنظومة وتبسيطها بعيداً من المصطلحات التقنية، ربما يجدر بنا الاستعانة بعلم تشريح جسم الإنسان، الذي يمكّننا من تقسيم الجسد البشري إلى مجموعة من الأجهزة المتكاملة.
1. الجهاز العصبي
يُعتبر المركز الرئيس للقيادة وإصدار الأوامر التنفيذية. فكما في الجسد البشري، حيث يشكّل الدماغ النواة الأساسية لمعالجة المعلومات الواردة، التي يتلقاها عبر النخاع الشوكي المتصل بشبكة عصبية لا متناهية تربط جميع أعضاء الجسم وتغطي كامل الجلد البشري؛ يمكننا أن نتخيّل أن منظومة القتل التكنو-عسكرية التي يديرها الجيش الإسرائيلي تحتوي على جهاز عصبي شديد التعقيد والمركزية.
الحقيقة المباشرة هي أن «أم كامل» وأخواتها دليل مادي فوري على خضوع البلاد لمنظومة الرصد والمراقبة والمتابعة والاشتباك الرقمية التابعة للجيش الإسرائيلي، بشكل دائم وعلى مدار الساعة
يتشكل هذا الجهاز من مجموعة من مراكز القيادة والتحكّم التي تدير شبكة واسعة من الحواسيب العملاقة المتصلة بمئات الخوادم (خوادم تخزين البيانات) القادرة على حفظ كمية هائلة من البيانات الخاصة بالفلسطينيين واللبنانيين بشكل عام. ويُذكر أن الجهاز العصبي لهذه المنظومة قد جرى تعزيز قدراته المعالجة عبر ربطه بخدمات الحوسبة السحابية المتوفرة عبر شركات التكنولوجيا الكبرى مثل «غوغل» و«أمازون» و«مايكروسوفت»، التي قدّمت، ولا تزال تقدّم، في معظمها، خدمات كبيرة لتحسين فاعلية هذه المنظومة القتالية.
وتضم مراكز التحكم هذه مجموعة الوحدات العسكرية والتقنية المشغّلة لمجمل منظومة القتل التي يديرها الجيش، وهي تمثل الوجود البشري الأبرز والمكوّن الأكثر تحكماً في مسارات اتخاذ القرار والإجراءات التنفيذية. تأتي الوحدة 9900 في قلب الوحدات المعنية بحسن سير الجهاز العصبي للمنظومة. يتمتع عناصرها بالمجمل بخلفيات علمية وتقانية متطوّرة وتتحكّم بمجموعة مختلفة من المعطيات والبيانات البصرية والجغرافية والبشرية والالكترونية. هذا الجانب غالباً ما يُهمَل دوره في ظل الحديث عن المراقبة الإلكترونية والاستهداف عبر الطائرات المسيرة، ولا ينبغي إغفاله.
2. شبكة الاستشعار والحواس
هنا يجب التمييز بين البيانات الواردة من مختلف الأدوات الحسية المتصلة بالدماغ عبر شبكة متشعّبة ومتعدّدة الطبقات من وصلات البيانات، التي يمكن اعتبارها بمثابة النخاع الشوكي والشبكة العصبية. فهناك الطائرات المسيرة وأسطول الأقمار الصناعية العسكرية، التي تؤدّي دوراً محورياً في المنظومة وتمثّل وظائف الأعضاء البشرية المكلَّفة باستطلاع البيئة المحيطة، بما يماثل مجموعة الحواس البشرية من بصر وسمع وشمّ وذوق ولمس.
كما تُستخدم مجموعة من المناطيد ذات الاستعمالات المحددة، وكانت إسرائيل قد أعلنت مؤخراً عن إلغاء أحد أكبر هذه المشاريع، الذي قُدِّرت تكلفة تطويره بمئات الملايين من الشواكل، بعد أن تعرّض للاستهداف المباشر في العام 2024 في خلال الحرب في لبنان. وتضم شبكة الاستشعار والحواس أيضاً مجموعة من الأدوات الاستطلاعية الأرضية المعنية بجمع المعلومات والتي تزرع مباشرة على أرض الميدان وغالباً ما نسمع، بين الفينة والأخرى، عن خبر اكتشاف أحدها في الأحراش والوديان وغالباً ما تكون مموّهة بشكل أحجار وصخور.
ومن المهم التأكيد على أن الجهاز العصبي للمنظومة يرتكز على مستوى عالٍ من التكامل والتلاؤم بين عمل مختلف الأدوات المسؤولة التي أصبحت - بعد الاستفادة من برمجيات الحوسبة السحابية المدنية - قادرة على إدارة فعّالة لسلسلة القتل المكوّنة من 6 مراحل.
تبدأ هذه السلسلة بتحديد الهدف المحتمل، ثم الانتقال إلى مرحلة التحقق من هويته والتأكد منه، فمتابعته مع تحديد موقعه الجغرافي بدقة، وإرسال البيانات إلى مركز التحكّم المسؤول عن تقييم المخاطر واتخاذ القرار. تنتقل المعلومة بعد ذلك بشكل أمر تنفيذي إلى الطائرات النفاثة أو الطائرات المسيرة القتالية المُزودة بالذخيرة، التي تتولى مهمة الاستهداف والاشتباك لتحييد الهدف. وتنتهي السلسلة بعملية التقييم والتحقق من «نجاح» المهمة، بعد إرسال مقاطع الفيديو والصور للتأكد من تحقيق النتيجة المُرتجاة. وبالارتكاز على مجموعة وصلات البيانات متعدّدة الطبقات التي تناولناها سابقاً، تتمكن منظومة القتل التكنو-عسكرية من إتمام هذه المهمة في وقت قياسي فوري.
3. العيون في السماء
الأقمار الإصطناعية، يمتلك الجيش الإسرائيلي أسطولاً متكاملاً من الأقمار الصناعية، كان آخرها أوفك 19 (Ofek 19)، النسخة الأحدث في السلسلة، والقادر على إتمام دورة كاملة حول الكرة الأرضية في ساعة ونصف الساعة، ما يمكّنه من مراقبة كامل الشرق الأوسط، بالإضافة إلى رصد أي هدف على بُعد 1,500 كيلومتر، وإرسال البيانات بسرعة قياسية إلى مراكز التحكم، وفقاً لآفي بيرغر، رئيس إدارة الفضاء والأقمار الصناعية في إسرائيل. وكان بيرغر نفسه قد صرّح في عام 2023 أن واحداً من كل أربعة أقمار صناعية تديرها إسرائيل هو في الحقيقة أداة عسكرية. تعتمد الأقمار الاصطناعية ثلاث وسائل مختلفة لإرسال البيانات: إما بشكل مباشر، حيث تفرغ حمولتها من البيانات لحظة تواجدها فوق محطات الاستقبال الأرضية، أو بوساطة قمر صناعي وسيط يتواجد في النطاق الجغرافي لمحطات الإرسال، ما يقلل فترة الانتظار ويُسرّع عملية إمداد «دماغ» المنظومة بالبيانات بشكل فوري، ما يحسّن من قدرة اتخاذ القرار. أما الطريقة الثالثة، فتعتمد فيها بعض الأقمار الاصطناعية على خاصية الإرسال المستمر وغير المنقطع للبيانات، بغض النظر عن موقعها الجغرافي، ما يؤمن التغطية المعلوماتية للوحدات العاملة في نطاق جغرافي خارج نطاق انتشار المحطات الأرضية.
المسيرات، تشير التقديرات - بناءً على المصادر المفتوحة - إلى أن حوالي 80% من العمليات الجوية للجيش الإسرائيلي تعتمد على الطائرات المسيرة، التي تقوم بمهام متنوّعة تتراوح بين مراقبة الحدود والاستطلاع، وصولاً إلى دعم القوات الأرضية وعمليات الاغتيال التي تُنفّذ يومياً في غزة ولبنان بشكل خاص.
وباختلاف أنواعها، بين الصغيرة والمتوسطة والكبيرة ذات الأدوار الإستراتيجية، ترتبط هذه الطائرات المسيّرة بمراكز التحكم والمعالجة الأرضية (دماغ المنظومة) عبر نظام اتصال لاسلكي ثنائي الاتجاه، مرتبط بمجموعة من هوائيات الإرسال التي تحملها المسّيرات، والمتصلة لاسلكياً بصحون استقبال وهوائيات أرضية. يعتمد النظام على خاصية «القفز الترددي السريع» (FHSS) بين موجات إرسال متنوّعة. تقوم هذه الخاصية على الانتقال ما بين مجموعة محدّدة من موجات الراديو بطريقة سريعة وغير متوقعة تجعلها محصّنة ضد الاختراق أو الاعتراض والتشويش. كما تعتمد على وصلات بيانات ضمن النظر (الرؤيا المباشرة).
يعتمد نظام السجن والعقاب على إقناع المحكوم عليه بالخضوع لموقعه في علاقات القوّة، ككائن عاجز عن المواجهة أو التغيير. وهكذا، يعاد صنع الفرد كجسد انضباطي يمكن التحكّم به عن بُعد
أما في حالة الطائرات المسيّرة بعيدة المدى والكبيرة ذات الأدوار الإستراتيجية (هيرمز 450 و900 وهيرون)، فيُعتمد على وصلات بيانات تُسمى «وصلات ما بعد خط النظر» (Beyond Line of Sight)، أي تلك التي تُدار من بُعد ومن على مسافات شاسعة. وهذه الطائرات مجهزة بهوائيات اتصال فضائية (SatCom) متصلة بالأقمار الإصطناعية العسكرية، ترسل بياناتها إليها، لتقوم بدورها بإعادة إرسالها إلى مراكز التحكم والمعالجة الأرضية. تحتوي المسيرات على مجموعة من مجسّات الاستشعار عن بُعْد، التي تؤدي مهام مختلفة، تتكامل فيما بينها لإمداد الجهاز العصبي لمنظومة الفتك بالدفق المعلوماتي الذي يمكنه من اتخاذ القرارات بطريقة قياسية، بحسب نوعية البيانات التي تلتقطها، ويمكن تصنيفها كالتالي:
الكاميرات عالية الدقة، تُستخدم للمسح الشامل للمناطق المراقبة، مع إمكانية تسجيل ومعالجة وإرسال مقاطع فيديو حية وصور ثابتة لكل ما يقع ضمن نطاقها من بشر ومعدات ومباني ومنشآت. بمعنى آخر، تقوم هذه المجسّات بشكل من أشكال المسح الشامل للمنطقة التي تغطيها، وتوفر لمركز القيادة رؤية مباشرة شاملة للحركة في المناطق اللبنانية.
المجسات الحرارية، قادرة على القيام بمسح شامل للبصمات الحرارية في منطقة معينة، وتحسين مستويات الرؤية والتحديد في الظروف المناخية الصعبة أو في خلال الليل، كما تساهم في تحديد أماكن فتحات التهوية الخاصة بالمنشآت تحت الأرض.
مجسات الاستشعار الإلكتروني (SIGINT)، وتقوم باعتراض ومراقبة مجمل الإشارات الإلكترونية الصادرة عن جميع الأجهزة من دون استثناء، بما فيها كاميرات المراقبة والأجهزة المنزلية والحواسيب الشخصية المتصلة بشبكة الإنترنت (WiFi) أو الهاتف المحمول، وحتى أجهزة الراديو. تقوم هذه المجسات بشكل رئيس بمسح النشاط الإلكتروني ومعالجتها وإرسالها إلى مركز التحكم بشكل فوري، ما يسمح ببناء صورة أشمل للوضع الميداني، ويمنح قدرة على استشراف المستقبل من خلال بناء تصوّر لأنماط سلوك الأفراد أو الجماعات under surveillance، بالإضافة إلى اعتراض إشارات الرادارات التي قد ترصدها أثناء عملها. بمعنى آخر، تمثل هذه المجسات بديلاً عن الأذنين البشريتين في التقاط الإشارات الصوتية المحيطة وتصنيفها وإرسالها إلى الدماغ لاتخاذ القرار.
مجسات الليزر (Laser Telemetry Systems/Designators)، والتي قد تتواجد في بعض المسيرات التي تنشط في لبنان، وهي التكنولوجيا الأبرز في سلسلة القتل التي ذكرناها سابقاً. إذ يُمكن الشعاع الليزري المرسل من الطائرة المسيرة نحو الهدف المحتمل - عند اقترانه بإحداثيات GPS وعمله المتصل بالكاميرات - من تحديد المسافة إلى الهدف واحتساب الطريقة المثلى لاستهدافها. ويُمثِّل الليزر الوسيلة الأساسية التي تحوّل الطائرات المسيّرة من أدوات مراقبة واستطلاع إلى أسلحة قاتلة مباشرة، حيث يشكل البنية التحتية التكنولوجية لتوجيه الذخائر نحو الهدف الذي سُبَقَت برمجته. ويتم ذلك عبر ما يُعرف بـ «شيفرة الليزر» التي تُرسم على الجسم المُستهدَف، والتي تلتقطها حصرياً الذخائر الموجّهة بالليزر. لا تقوم الطائرات المسيرة باختراق الهواتف الذكية للأشخاص المستهدفين مباشرة، لكنها تمهِّد لهذه العملية التي قد تنفذها وحدات أخرى متخصصة.
تحتاج «أم كامل» وأخواتها في عملها مع شبكة الموارد البشرية، وهي البنية التحتية الاستطلاعية التقليدية التي ما تزال إلى اليوم تعتبر مكوّناً أساسياً في التدفق المعلوماتي وقد أثبتت الحرب في غزة ولبنان استمرار الحاجة لها. كما يأتي المصدر المعلوماتي القادم من المصادر المفتوحة كوسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات القصيرة غير المشفرة ليزيد طبقة معلوماتية إضافية. لكن المعدّات والقدرات التكنولوجية المتطوّرة لا تأتي من دون منحى إيديولوجي يعكس تطوّر فكرة العقاب عند أحد أكثر الكيانات «حداثوية» في الشرق الأوسط. فكيف علينا مقاربته اليوم؟
تكنولوجيا المقصلة
تكمن قوة منظومة الفتك التكنو-عسكرية التي نحاول فهمها في إطباقها شبه الكلّي على المجال الجغرافي وقدرتها اللامحدودة على ربط مسارات الرصد والمتابعة مع اتخاذ قرار العقاب والاستهداف المباشر بشكل فوري وفي الزمن الحقيقي. فكما يقوم الدماغ بمهمة القيادة لمجمل أفعال وسلوكيات ومواقف الجسم البشري عبر شبكة الأعصاب التي تربطه بجميع أعضاء وأنسجة وأطراف الجسد؛ هكذا يعمل الجهاز العصبي لمنظومة الفتك بتلقي البيانات عبر شبكة الوصلات اللاسلكية فيعالجها ويعيد استخدامها في عمليات الإستهداف والفتك عبر إعطاء الأوامر للجهاز الحركي المتمثل بأسطول الطائرات النفاثة والمسيرات والمدافع الميدانية والبوارج على أن تُختار وسيلة الفتك الأمثل بحسب الهدف والوضع المثالي لنجاح المهمة.
لكن ما يميّز هذا الفعل في حالة لبنان، خصوصاً بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، هو الإصرار على جعله علنياً؛ أي إعلام المراقَب بأنه مراقَب باستمرار، وأن كل ما يتحرك أو يسكن في تلك البقعة الجغرافية يقع ضمن متناول منظومة الفتك التكنو-عسكرية.
هنا، تبرز الحاجة لاستدعاء منطق «المراقبة البانوبتيكية» الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، إذ يعتمد نظام السجن والعقاب على إقناع المحكوم عليه بالخضوع لموقعه في علاقات القوّة، ككائن عاجز عن المواجهة أو التغيير. وهكذا، يعاد صنع الفرد كجسد انضباطي يمكن التحكّم به عن بُعد، وبشكل علني، بما يقلّل من الحاجة للصدام المباشر وممارسة التوحّش الظاهري. إلا أن المشهد في لبنان اليوم يدفعنا لتعديل هذه الصيغة. فالعقاب الذي تمارسه إسرائيل هو استعادة مباشرة - وبأعلى درجات التطوّر التكنولوجي - لفكرة «العقاب السيادي» (Sovereign Punishment) في نسخته البدائية. وهو يهدف بالدرجة الأولى إلى إظهار قوة الحاكم المطلقة وإرهاب المجتمع عبر القتل المباشر لأي روح غير انضباطية. فتعذيب الجسد وتفتيته علانية والتفاخر بتلك المقدرة استعادة لمنطق العقاب الخام الما قبل حداثوي. الرسالة مباشرة، تجرأتم على سلطتي، لذا سأدمّر أجسادكم أمام الجميع كي يعلم الآخرون بقوتي. إنه وسيلة لإعادة تشكيل الروح البشرية كمساحة انضباطية محضة، خانعة تماماً للقوة المهيمنة، متجاوزاً كل مؤسسات الحداثة من قضاء وسجون ومواثيق دولية لحقوق الإنسان. في هذا الفعل رجوع عن العقاب الانضباطي (Disciplinary Punishment). لا تهدف منظومة الفتك الناشطة في سماء لبنان إلى تصحيح النفوس وتدجين الأجساد وخلق أفراد «منتجين» ومطيعين. أقله هي تمثل مساراً تراجعياً للعقاب كمسار إصلاحي نفسي وسلوكي. أقله ليس في هذه المرحلة. أخطر ما يحدث اليوم، أنها ومن موقع «الدولة» الأكثر «حداثوية»، ومع الدعم شبه المطلق من الإدارة الأميركية، تقدم مساراً تراجعياً عن العقاب كمسار إصلاحي نفسي وسلوكي في الزمن الذي طبّع به العالم لمدة تقارب السنتين مع الفعل الإبادي.
لا يكتفي النظام بمراقبتك وإقناعك بعجزك، بل يعود إلى ممارسة أبسط أشكال «العقاب السيادي» وأكثرها بدائية: العنف الجسدي المباشر والعلني. إنها عودة إلى منطق الإرهاب عبر تفتيت الجسد، ولكن هذه المرة بأدوات حداثية
فبدلاً من الركون إلى منطق «المراقبة الانضباطية» وتعزيزها بما يفترض أن الخضوع ينبع من الشعور الدائم بالمراقبة، ما ينتج أجساداً منضبطة تُراقب نفسها بنفسها – نشهد مزيجاً هجيناً وغير مسبوق. هي تجمع بين التقنيات البانوبتيكية الأكثر تطوراً، والمدمجة بمجموعة من المعدات والبرمجيات التكنولوجية الأكثر تطوراً، التي تهدف إلى إخضاعك نفسياً ومعرفياً، وممارسة علنية ومباشرة للعنف الصرف. وهكذا، لا يكتفي النظام بمراقبتك وإقناعك بعجزك، بل يعود، في انزياح صارخ عن المسار التاريخي الذي حلله فوكو واستكمل لاحقاً مع أشغال دولوز عن مجتمع السيطرة والتحكم بعيداً عن العقاب المباشر، إلى ممارسة أبسط أشكال «العقاب السيادي» وأكثرها بدائية: العنف الجسدي المباشر والعلني. إنها عودة إلى منطق الترهيب عبر تفتيت الجسد، ولكن هذه المرة بأدوات حداثية تمنحها دقة مطلقة وغطاءً من «اللامحدودية» التكنولوجية. إنها العودة للمقصلة، لا بل هي إعادة إنتاج لتكنولوجيا المقصلة في زمن رأسمالية الخوارزميات!
لكن الأمر ليس شأناً تقنياً صرف. تحتاج تكنولوجيا المقصلة للنمو في بيئة سياسية داعمة وهذا ما تؤمنه الإدارة الأميركية والدول الأوروبية وبنسب متفاوتة في زمن «اللاءات» الثلاث: لا حدود للتكنولوجيا الرقابية الإلكترونية، فهي اليوم تحتل مناطق من لبنان عبر المسيرات، ولا قوة تنفيذية فاعلة للمنظومة الحقوقية الدولية، ولا توازن في موازين القوى الدولية.
فكما يبدو المشهد الميداني، لا شيء يبدو قادراً على عرقلة إرادة الفتك التي تنتهجها القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل. لا القوانين ولا الحقوق. لا أحد في جنوب لبنان في مأمن. تعرضت قوات اليونيفيل وتتعرض لنيران أم كامل وأخواتها. قرارات الحكومة اللبنانية بحصر السلاح لم تكفِ، تكثيف الجهود التي يقوم بها الجيش اللبناني لحصر السلاح وبسط سيادته على كامل الأراضي اللبنانية لم يعتبر تقدماً ملموساً. لا بل وبالعكس، جرى التعرض لوحداته في أكثر من إعتداء. التعاطي الإيجابي للدولة اللبنانية في مسألة المفاوضات المباشر وغير المباشر قوبل بمزيد من الاعتداءات. هي عنجهية «المنتصر» التي لا ترى حدوداً لقوتها وقدرتها على الفتك. هي الحاجة لاستكمال أولوية «العقاب السيادي» بنسخته البدائية.
ففي ساحات بنت جبيل والنبطية وفي الضاحية وبيروت وفي مختلف القرى الجنوبية، وعبر الاستهدافات اليومية، تنصّب إسرائيل نفسها آمراً ناهياً. تضع المقصلة للبنانيين خياراً عقابياً واحداً. وتعلن عن ذلك مباشرة وعلانية عبر إنذارات أفيخاي أدرعي التي تُمثل استعادة لمنطق رسول البلاط وهو يقرأ فرمانات القتل اليومية على العموم من الناس. فيُذكر من يخطىء بأنه سيُقتل من دون أي مسار قضائي وقانوني ويروَع من يفكر في العصيان مقدماً له المثال على هكذا أفعال. فيُحدد لمن سيعيش كيف يعيش. ولمن سيموت كيف سيموت. لكن في هذا الأمر، مقصلة أخرى تُنصب لفكرة دولة القانون والحقوق في لبنان. مقصلة لجوهر المنطق القائل بضرورة إحتكار الدولة لقوة القهر والحق بممارسة هذه القوة وإنفاذها. ما العمل؟