
لماذا تتمتّع النساء بجنس أفضل تحت الاشتراكية؟
- مراجعة لكتاب كريستين غودسي «لماذا تستمتع النساء بجنس أفضل في ظل الاشتراكية؟»، الذي يربط بين الاستقلال الاقتصادي وحرية ورضا النساء في علاقاتهن العاطفية والجنسية. تؤكد غودسي أن وجود أجور متساوية، ورعاية صحية، وحضانات مدعومة، وإجازات أمومة، يمنح النساء القدرة على اختيار الشريك بدافع الرغبة لا الحاجة، وعلى مغادرة العلاقات غير المُرضية بلا خوف على المعيشة أو الكرامة.
يبدأ فيلم «الماديون» (The Materialists) للمخرجة سيلين سونغ كقصة حب عصرية: لوسي (داكوتا جونسون)، تعمل كـ matchmaker (خَطابة) في نيويورك، تُنسق مواعيد عاطفية لزبائنها حسب شروط العرض والطلب. تدور قصة الفيلم حول معضلة كلاسيكية: على لوسي الاختيار بين رجلين، أحدهما عميل ثري يمثل الأمان والرفاهية الاجتماعية، والآخر حبيبها السابق المفلس الذي يراها بطريقة لا تُشترى بالمال. على الرغم من تصنيفه على أنه rom-com إلا الفيلم لا يدور فعلياً حول الحب، بل حول تكلفته العاطفية والمادية، عن الرغبة حين تصبح سلعة، وعن العلاقات حين تُبنى على طبقات اجتماعية، ومعايير جمالية، وقوة شرائية وحرية اختيار لا تبدو دوماً حرة. كيف نُحب ومن يمكنه أن يُحب؟
في ظل اقتصاد الرغبة (economy of desire)، حيث لا يُستهلك الجسد فقط، بل تُنتج الرغبة ضمن شروط السوق، قد تكون العودة إلى كتاب كريستين غودسي الصادر في العام 2018 «لماذا تستمتع النساء بجنس أفضل في ظل الاشتراكية؟ وحجج أخرى من أجل الاستقلال الاقتصادي» مناسباً.
فجوة النشوة الجنسية بين الرجال والنساء ليست مسألة تقنية فحسب، بل سياسية. إنها تتعلق بالسلطة والتوزيع غير المتكافئ للرغبة والموارد
تطرح غودسي أطروحة بسيطة ومباشرة: عندما تكون النساء مستقلات اقتصادياً، تكون خياراتهن الجنسية والعاطفية أكثر حرية ومتعة، أقل انهاكاً وخضوعاً للضغوط. وعندما لا يكنّ كذلك، أي عندما يعتمدن على شركائهن الذكور من أجل تحقيق المالي، يصبح الجنس مكاناً للتفاوض أو الإكراه أو الأداء أكثر من كونه مكانًا للمتعة. تقول غودسي: «عندما تُمكّن النساء اقتصادياً، يصبحن أكثر حرية في مطالبة الرجال بالمزيد، ليس في الأعمال المنزلية وتربية الأطفال فقط، بل في السرير أيضاً». بعبارة أخرى: فجوة النشوة الجنسية بين الرجال والنساء ليست مسألة تقنية فحسب، بل سياسية. إنها تتعلق بالسلطة والتوزيع غير المتكافئ للرغبة والموارد، وبما إذا كانت المرأة قادرة على أن تقول «أريد» و«لا أريد» من دون أن تخسر معيشتها أو احترامها الذاتي.
يجمع الكتاب بين تحليل تاريخي وبيانات إحصائية وشهادات من نساء عشن في دول الكتلة الشرقية قبل انهيار الاشتراكية وبعدها، وتنظر من خلاله إلى الكيفية التي شكّلت بها النظم الاقتصادية شكل العلاقات الحميمة، وكيف أثّر وجود دعم حكومي في مجالات مثل رعاية الأطفال والإجازات المدفوعة والإجهاض على قدرة النساء على التوفيق بين الأمومة والعمل، أو ببساطة على مغادرة علاقات لم يعد لهن فيها رغبة أو حب أو راحة. الجنس الأفضل، وفق هذا المنظور، ليس سوى نتيجة منطقية لعلاقة أكثر توازناً ومساواة. فحين لا يُستخدم الجنس كورقة تفاوض أو وسيلة للبقاء، يصبح مجالاً للمتعة لا الأداء. وفي منظومة لا تُسلّع فيه الرغبة، يصبح الرجال مضطرين لأن يكونوا أكثر انتباهاً وإبداعاً وتجاوباً للحفاظ على علاقة حقيقية.
توضح غودسي، في كتابها: «عندما تكون هناك شبكات أمان اجتماعي قوية مثل الرعاية الصحية والتعليم ورعاية الأطفال وإجازات الأمومة المضمونة، لا تضطر النساء إلى الزواج من أجل المال، بل يمكنهن اختيار شركائهن بناءً على من يعجبهن، لا على من يدفع الإيجار. هذا التحوّل لا يجعل العلاقات أكثر حرية فقط، بل أكثر إشباعاً أيضاً. وتشير إلى دراسات أظهرت أن الأزواج الذين يتقاسمون العمل المنزلي يمارسون الجنس أكثر، وأن العلاقة الحميمة التي لا تخضع لمنطق «المعاملة» تكون ببساطة أفضل. الاشتراكية، لا تُنتج علاقات جنسية أفضل فقط، بل رجالاً أكثر تهذيباً. ففي مقابلة مع مجلة Jacobin، تقول غودسي: «في ثقافة تتمتع فيها النساء بفرص اقتصادية حقيقية، لا يمكن للرجال أن يكونوا مسيئين أو يعتبروا النساء أمراً مفروغاً منه». باختصار، أضافت غودسي إلى لائحة مساوئ الرأسمالية بندين: قلة التهذيب وجنس سيء.
في ثقافة تتمتع فيها النساء بفرص اقتصادية حقيقية، لا يمكن للرجال أن يكونوا مسيئين أو يعتبروا النساء أمراً مفروغاً منه
تستخدم غودسي، عالمة إثنوغرافيا وأستاذة الدراسات الروسية وأوروبا الشرقية في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، في الكتاب مصطلح «الاشتراكية الدولتية» (state socialism) عند الإشارة إلى دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي التي سيطرت عليها الأحزاب الشيوعية الحاكمة. وتوضح أن ما سمي بـ«الشيوعية» لم يتحقق فعلياً في أي من هذه الدول. ففي المفهوم النظري، تفترض الشيوعية اختفاء الدولة وتملّك جماعي لكل الأصول الاقتصادية، وهو ما لم يكن قائماً. لهذا تفضّل استخدام مصطلح «اشتراكية دولتية» للدلالة على الواقع القائم وليس الطموح الإيديولوجي.
هل كانت النساء في الدول الاشتراكية يتمتعن فعلًا بجنس أفضل؟
تستند غودسي إلى دراسة أجريت أثناء الحرب الباردة، قارنت بين الحياة الجنسية للنساء في ألمانيا الشرقية والغربية، وتبين أن 66% من نساء الشرق كنّ «يبلغن النشوة دائماً تقريباً»، و82% عبّرن عن «رضا» بعد الممارسة الجنسية، في مقابل نسب أقل بكثير لدى نظيراتهن في الغرب. ودعمت دراسات من بولندا والمجر والتشيك هذه النتائج، وأظهرت أن النساء في الدول الاشتراكية أفدن بمستويات أعلى من الرضا الجنسي، لا سيما عندما كانت السياسات تشجّع الرجال على تقاسم العمل المنزلي، وتوفر للنساء استقلالاً اقتصادياً فعلياً.
كما تستعرض غودسي التزام ألمانيا الشرقية المبكر بالمساواة الجندرية. أقرّ مبدأ «أجر متساوٍ لعمل متساوٍ» في الأربعينيات، ودُعّم بدستور 1949، ومع حلول السبعينيات، وفّرت الدولة شبكة حضانات وطنية، ومددت إجازات الأمومة، وشرّعت الإجهاض. بلغت نسبة النساء في سوق العمل 48% في ألمانيا الشرقية في العام 1970، بالمقارنة مع 29.6% في أوروبا الغربية. وفي الاتحاد السوفياتي، بلغت النسبة 51.8% في العام 1950. لم تكن النساء مجرد عاملات، بل كنّ ممثلات بقوة في قطاعات العلوم والتعليم. وفي نهاية الحرب الباردة، شكّلت النساء 73% من العاملين في قطاع التعليم والبحث العلمي. في المجمل، تعيد غودسي رسم العلاقة بين الاقتصاد والجنس، وتقترح أن ما يجري في غرفة النوم لا ينفصل عن السياسات العامة وأنظمة الدعم الاجتماعي. قد لا يكون الاشتراكيون قد بنوا جنّة على الأرض، لكنهم، وفق غودسي، جعلوا السرير مكاناً أفضل.
الرأسمالية جعلت الرجل عبداً، ثم من خلال المال جعَلت المرأة عبداً للعبد، وذلك أسوأ أنواع العبودية
في المقابل، لماذا يفشل النظام الرأسمالي في كل ذلك؟ تجادل غودسي بأن غياب الخدمات الأساسية المدعومة من الدولة، من رعاية صحية وتعليم إلى وسائل منع الحمل وفرص عمل مجدية، يعني أن النساء غالباً ما يجدن أنفسهن في علاقات جنسية قائمة على التبادل لا الرغبة. أي أنهن «يُقايضن» الجنس مقابل الأمان المادي. مع غياب بدائل آمنة ومستقلة، يصبح البقاء في علاقة غير مُرضية ضرورةً لا خياراً. تقتبس غودسي من برنارد شو قوله في العام 1928: «في ظل النظام الرأسمالي، وجدت النساء أنفسهن أسوأ حالاً من الرجال، لأن الرأسمالية جعلت الرجل عبداً، ثم من خلال المال جعَلت المرأة عبداً للعبد، وذلك أسوأ أنواع العبودية». وتضيف في مقابلتها مع مجلة GQ: «حين تكون النساء معتمدات مالياً على الرجال، لا يعود لدى الرجال حافز حقيقي للاهتمام بمتعة النساء أو حياتهن الحميمة، لأنهم يعتبرون أنهم يدفعون في مقابل رعاية النساء وصيانتهن، تقريباً كممتلكات».
كيف يقوّض النظام الرأسمالي الحميمية؟
تشير غودسي إلى ما تسميه «أخلاقيات المعاملة» (transactional ethos) في الرأسمالية، حيث لكل شيء ثمن، حتى الحميمية. وفي عالم لا تزال فيه النساء يتقاضين أجوراً أقل، ويؤدين أعمالاً منزلية غير مدفوعة، ويُعاقبن على الأمومة، تصبح العلاقة الغرامية شكلاً من التعويض الفردي. إذا لم تُوفّر الدولة الرعاية، فربما يُوفرها الزوج. إذا لم يُقدَّر عملك، فربما يُعوّضك جمالك أو شبابك. هكذا يتحول الجنس إلى خدمة، أو أداء، أو حتى عمل إضافي، وهو ما قد يتجسد في منصات مثل OnlyFans. لم تعد الرغبة «خاصة»، بل صارت جزءاً من اقتصاد الأداء الذاتي. «التمكين» في هذا الإطار، وضمن الثقافة الشعبية، لا يعني التحرر بالضرورة بل محاولة النجاة كأفراد في ظل انسحاب وتخلي الأنظمة عنهم جماعياً. في ذات الإطار، تصبح الإيجابية الجنسية (sex positivity) كما يُسوّق لها، مشروطة وغير مكتملة وقد تُعيد إنتاج مشاكلها نفسها. لغة التحرر والانفتاح حول المتعة قد تخفي اختلالاً أعمق في توزيع القدرة على الوصول إلى هذه المتعة، بمعنى أن تتوفر البنية الأساسية التي تدعم من يُفترض أن يستمتع بها. لا تكفي الألعاب الجنسية أو تنويع ورش العمل الجنسية (على الرغم من فائدتها)، إذا لم يكن هناك سكن آمن، مساواة في الأجور، رعاية صحية أو وقت أصلاً لتكون لديك رغبة.
يمكن تتبّع منطق غودسي أيضاً في صعود خطاب «تشجيع الإنجاب» في السنوات الأخيرة، والذي يتقاطع مع أجندات سياسية محافظة تدعو النساء لـ«العودة إلى البيت» وإعطاء الأولوية للأمومة. لكن، من دون دعم اجتماعي حقيقي، كذلك الذي وفرته بعض الأنظمة الاشتراكية سابقاً، يصبح خيار الإنجاب محفوفاً بالضغوط الاقتصادية، ومرتبطاً بدرجات من التبعية. يظهر ذلك بوضوح في التحول الذي شهدته أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية في العام 1989. في ألمانيا الشرقية مثلاً، أدى الانتقال المفاجئ إلى اقتصاد السوق إلى موجة من تسريحات العمال، وانهارت البنية التحتية للرعاية، وانخفضت معدلات الولادة بنسبة 60% في خلال سنوات قليلة. وتحت النيوليبرالية، المسألة ليست «متى» تنجبين، بل: هل يمكنك تحمّل كلفة ذلك أولاً، وهل يمكنك الرفض ثانياً؟
إذا لم تُوفّر الدولة الرعاية، فربما يُوفرها الزوج. إذا لم يُقدَّر عملك، فربما يُعوّضك جمالك أو شبابك. هكذا يتحول الجنس إلى خدمة، أو أداء، أو حتى عمل إضافي
يقدّم كتاب غودسي وصفة ثورية جاهزة، بل دعوة للتفكير: كيف تشكّل أنظمتنا الاقتصادية رغباتنا؟ وكيف أن الرغبة ليست رغبة فقط، بل شبكة من الشروط والضمانات والدعم. وأن الحب، بكل طاقته الشاعرية، يحتاج إلى شيء أكثر واقعية من القصائد: بنية مادية عادلة. على الرغم من ذلك، لا تُضفي غودسي طابعاً رومانسياً على الدول الاشتراكية، بل تعترف بإخفاقاتها وميولها السلطوية. وتوضح أنها لا تكتب دفاعاً عن الدولة الشمولية، بل دفاعاً عن مفهوم الاستقلال الاقتصادي بوصفه شرطاً أساسياً للرغبة والكرامة. بدلاً من أن يكون السؤال: كيف نُمكّن النساء في ظل الرأسمالية؟ قد نسأل: لماذا نُسلّم بالرأسمالية أساساً؟ ويصبح سؤال التمكين الحقيقي هل تملكين شروط الاستقلال أم مجرد وهمه؟ هل يمكنك أن تتركي شريكك؟ هل يمكنك دفع الإيجار وحدك؟ تربية أطفالك؟ النجاة؟
انتقادات
طبعاً، هناك انتقادات عدة للكتاب، معظمها نقاط تعترف بها غودسي لكنها لا تستكشفها بالكامل. الأنظمة الاشتراكية، كما تشير، لم تكن خالية من بالتناقضات، بل كثيراً ما تغاضت عن الهياكل السلطوية الذكورية التي استمرت تحت حكمها، من ضمنها العبء المزدوج الذي واجهته النساء: العمل الإلزامي خارج المنزل مقروناً بالمسؤوليات المنزلية، بالإضافة إلى أن قضايا العنف الأسري كانت غالباً تُقمع أو تُهمّش في الخطاب العام. يرى آخرون أن اعتماد غودسي على المقابلات القصصية والدراسات المحدودة يثير تساؤلات بشأن قابلية التعميم. فالمقارنة بين الحياة الجنسية في ألمانيا الشرقية والغربية، مثلاً، تبقى نقطة بيانات واحدة، وهناك من يشكك في دقة منهجها الاستنتاجي. كما إن حجتها بأن السياسات الاشتراكية تسببت مباشرة في «جنس أفضل» قد تبسط الديناميات الاجتماعية المعقدة، وربما تنسب النتائج بشكل مبالغ فيه إلى العوامل الاقتصادية وحدها.
وعلى الرغم من ذلك، يثير الكتاب محادثات مهمة بشأن تقاطعات الاقتصاد والجنس، في عالم أعادت فيه الرأسمالية تعريف كل شيء حتى الرغبة. ربما ليست الشمعة المعطرة أو الملابس الداخلية الجريئة هي ما نحتاجه لتحسين الحياة الجنسية. ربما نحتاج إلى: أجور متساوية، سكن آمن، إجازةً مدفوعةَ ورعايةً صحيةً شاملة. قد لا تبدو هذه المطالب كحبكة لفيلم رومانسي، ولكن ربما ينبغي أن تكون كذلك.