معاينة لماذا تفشل الأمم؟

لماذا تفشل الأمم؟

  • مراجعة لكتاب دارون أسيموغلو وجيمس أ. روبنسون «لماذا تفشل الأمم»، الذي يقدّم تفسيراً سياسياً-اقتصادياً لأسباب ازدهار بعض الدول وانهيار أخرى. ويرى أن المؤسسات السياسية والاقتصادية الشاملة التي تقوم على الديمقراطية والتعددية وسيادة القانون وضمان الملكية الخاصة هي التي تولّد النمو والابتكار والازدهار، فيما تؤدي المؤسسات الاستحواذية القائمة على الاحتكار والفساد والاستبداد إلى الفقر والتراجع. ويبرز الكتاب أهمية «الفوضى الخلّاقة» ودور «الحلقات الحميدة» في استمرار النمو، مقابل «الحلقات المفرغة» التي تكرّس التخلّف، ويخلص إلى أن ازدهار الأمم ليس صدفة جغرافية أو عرقية، بل نتاج مؤسسات تصنعها الشعوب والدول.

استقبل صدور كتاب «لماذا تفشل الأمم» الاقتصادي-السياسي، بإعجاب الكثير من المتخصّصين والباحثين الغربيين ومدحهم، منهم 5 من الحائزين على جوائز نوبل في الاقتصاد، فضلاً عن أساتذة الجامعات الأميركية والبريطانية، ومؤلفي الكتب الاقتصادية المعروفة، مثل فرانسيس فوكوياما ونيال فيرغسون وآيان موريس. وعلى الرغم من أن مؤلفي هذا الكتاب يعلنان منذ البدء انحيازهما للنظريات الاقتصادية الرأسمالية، لكنهما يطرحان نظريتهما الاقتصادية السياسية من خلال مقاربات بين دول ذات أصول عرقية واحدة مثل كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية، أو قارتين تم استعمارهما من قبل الأوروبيين مثل أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية، ومقاربات بين دول أفريقية كانت مزدهرة وفشلت في استدامة هذا النمو وتراجعت نحو الفقر والتخلّف.

وفي سياق هذه المقاربات، يعمل المؤلفان على إثبات صحّة «نظريتهما» التي تتمحور بنيتها الكبرى في العناوين التالية. 

أولاً، نوعية السياسات المطبّقة في النماذج التي تم المقاربة بينها، وهي نوعان: دور وتأثير السياسات الشاملة الديمقراطية والتعددية وعلاقتها الجدلية بالسياسات الاقتصادية المرتبطة بحقوق وبراءة الاختراع وانفتاح الأسواق والتنافسية، ودور وتأثير السياسات التسلطية الاستبدادية وعلاقتها الجدلية بالسياسات الاقتصادية الاستحواذية المركزية.

ثانياً، نظرية «الفوضى الخلّاقة» المرتبطة جوهرياً في السياسات الشاملة الديمقراطية، والمعدومة في السياسات التسلطية الاستبدادية. 

ثالثاً، علاقة «الحلقات الحميدة» ودورها البطيء في ديمومة النمو في المجتمعات التي أنشأت المؤسسات الشاملة التعدّدية اقتصادياً وسياسياً أو «الحلقات المفرغة» ودورها التي عزّزت مؤسسات وسياسات استحواذية مركزية اقتصادياً وسياسياً.

رابعاً، دور «الصدفة التاريخية» وليس «الحتمية التاريخية» في ازدهار مجتمعات ونموها وصعودها، بل وقيامها باستعمار دول أخرى، أو في المزيد من الإفقار والتخلف والاستعباد من قبل الآخرين لها وعليها.

وبالطبع، يستعرض النظريات الاقتصادية التي طبقت في بعض الدول وينتقدها، كالاقتصاد المزدوج بين الزراعة والصناعة، والاقتصاد السكاني المالتوسي، والاقتصادي المركزي الاشتراكي.

ثلاثة نماذج عن فشل الأمم أو نجاحها؟

تحلّل فصول الكتاب تاريخ التطوّر البشري منذ القدم وصولاً إلى إكتشاف القارتين الأميركيتين، وانطلاقة الثورة الإنكليزية والثورة الصناعية البريطانية والثورة الفرنسية، وصراعات دول شرق آسيا من اليابان والصين والهند وغيرها، واستعمار أفريقيا، فضلاً عن إفرازات هذه التطوّرات في صعود دول واستعمار دول أخرى. وفي كل هذه المحطات، يتم مقاربة تلك العناوين الأربعة المتقدم ذكرها والخاصة بنظرية مؤلفي هذا الكتاب، بهدف تبيان أن سبب فشل الدول في خلق الازدهار والنمو لمجتمعاتها هو غياب السياسات الشاملة وغياب الفوضى الخلّاقة وغياب الحلقات الحميدة. وأحاول تالياً تبيان بعض النماذج. 

النموذج الأول: تقع مدينة نوغاليس بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك، وقد تم تقسيمها إلى نصفين عبر سور مرتفع وطويل. فإذا وقفت بجواره ونظرت جهة الشمال، سوف ترى نوغاليس في أريزونا الواقعة في مقاطعة سانتا كروز، ويبلغ معدل دخل الأسرة المتوسطة الأفراد قرابة 30 ألف دولاراً أميركياً في العام. يمارس سكان مدينة نوغاليس أنشطتهم اليومية من دون قلق على حياتهم بسبب وجود الأمان، أو مصادرة الممتلكات، أو الأشياء الأخرى التي قد تشكل خطراً على استثماراتهم وتجارتهم وأعمالهم. وبالدرجة نفسها من الأهمية، يعتقد سكان نوغاليس بشكل أساسي، وعلى الرغم من كل عوامل عدم الكفاءة والفساد المحتمل، أن الحكومة هي الوكيل والممثل لهم حيث يمكنهم أن يدلوا بأصواتهم لاستبدال عمدة مدينتهم، وأعضاء الكونغرس، وأعضاء مجلس الشيوخ. كما أنهم يصوتون في الانتخابات الرئاسية التي تحدّد الشخص الذي سيقود بلدهم. وتشكل بالتالي الديمقراطية الطبيعة الثانية في حياتهم. 

غير أن الحياة جنوب هذا السور، والتي تبعد أقدام قليلة فقط، مختلفة تماماً. يبلغ معدل دخل الأسرة المتوسطة في جزء الجنوبي في نوغاليس في ولاية سونورا، قرابة ثلث دخل الأسرة العادية التي تقطن في مدينة نوغاليس بولاية أريزونا. كما أن القانون والنظام في حالة أسوأ، ومعدل الجريمة مرتفع، وتمثّل محاولة فتح نشاط تجاري أمراً محفوفاً بالمخاطر، إذ لا يتوقف ذلك عند مخاطر السطو المسلح فقط، بل يصل أيضاً إلى الحصول على التراخيص وتقديم الرشاوى لكل المسؤولين المعنيين. يتعايش سكان نوغاليس في سونورا مع فساد وعدم كفاءة السياسيين بشكل يومي، وعلى النقيض من جيرانهم الشماليين، تمثل الديمقراطية تجربة حديثة للغاية بالنسبة إليهم.

 الخيار الوحيد بالنسبة إلى أي مستعمرة قابلة للنمو والتطور الاقتصادي، يتمثل في أن تقيم مؤسسات قادرة على تقديم محفزات للمستعمرين لكي يستثمروا ويتفانوا في العمل

كيف يمكن لهذين النصفين في المدينة نفسها أن يكونا مختلفين بهذه الدرجة؟ لا يوجد اختلاف في الموقع الجغرافي، ولا المناخ، أو لا حتى أنواع الأمراض المنتشرة والمعروفة في المنطقة. السبب الذي يجعل مدينة نوغاليس في ولاية أريزونا الأميركية أكثر غنى وازدهاراً من مدينة نوغاليس في ولاية سونورا المكسيكية هو أن المؤسسات الموجودة على كلا جانبي الحدود الفاصلة بينهما مختلفة بدرجة كبيرة. ففي الشمال تعمل السلطات على خلق محفزات وفرص مختلفة بدرجة كبيرة لصالح سكان، بالمقارنة مع نوغاليس في سونورا. عند هذا المفصل، يكشف الكتاب عن السبب في هذا الفرق الشاسع بين منطقتين لشعب واحد، وهو إن كل مجتمع يعمل من خلال مجموعة من القواعد الاقتصادية والسياسية التي يتم وضعها وتطبيقها من قبل الدولة والمواطنين بشكل جماعي. إن المؤسسات الاقتصادية هي التي تحدّد المحفزات الاقتصادية من أجل إتمام التعليم والادخار والاستثمار والابتكار وتبني وسائل التكنولوجيا الحديثة... إن المسار السياسي المتبع هو الذي يحدّد طبيعة المؤسسات الاقتصادية التي يعيش الناس في ظلها، والمؤسسات السياسية هي التي تحدّد الكيفية التي تتم بها هذه العملية. على سبيل المثال، تحدد المؤسسات السياسية لدولة ما قدرة المواطنين على مراقبة السياسيين ومدى تأثيرهم في الطريقة التي يتصرفون بها. وهذا بدوره يحدّد ما إذا كان السياسيون يعملون كوكلاء ونواب عن المواطنين، على الرغم مما يشوب ذلك من نقص وضعف، أم أن لديهم القدرة على إساءة استخدام السلطة المخولة لهم من الشعب أو استولوا عليها من الشعب من أجل تكديس ثرواتهم الشخصية واتباع أجنداتهم الخاصة، التي تلحق الضرر بالأجندات الخاصة بالمواطنين. وتشمل المؤسسات السياسية: الدساتير المكتوبة، وما إذا كان المجتمع يتبع نظاماً ديمقراطياً، والسلطة والقدرة التي تملكها الدولة على تنظيم المجتمع وإدارته. وكما تملك المؤسسات التأثير على السلوك والمحفزات في الحياة الواقعية، فإنها تملك القدرة أيضاً على صياغة وتحديد نجاح الأمم أو فشلها. 

النموذج الثاني: يؤكد الكتاب أن الأنماط المختلفة للمؤسسات الموجودة في عصرنا الراهن تمتد جذورها وتنشط في ثنايا عصور الماضي. لذلك يطرح المؤلفان سؤالاً: لماذا تعد المؤسسات الخاصة في الولايات المتحدة الأميركية أكثر دعماً وملائمة بدرجة كبيرة لتحقيق النجاح الاقتصادي عن تلك المؤسسات التابعة لدولة في أميركا الجنوبية؟ تكمن الإجابة في الطريقة التي تشكّلت بها المجتمعات المختلفة في خلال الحقبة الاستعمارية الأولى، قبل أن تحدث حالة من الانحراف والتباعد المؤسسي، ظلت تداعياتها قائمة وممتدة حتى الوقت الحاضر. ومن أجل فهم طبيعة هذا الانحراف والتباعد، علينا أن نبدأ مباشرة من نقطة إقامة المستعمرات في كل من أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية.

لقد استطاع الإسبان السيطرة على معظم أميركا الجنوبية والتغلب على مقاومة السكان الأصليين. وسرعان ما جعلوا من أنفسهم طبقة أرستقراطية جديدة هناك. وعدّلوا الأنظمة القائمة المتعلقة بالعمل الجبري ودفع الضريبة الخاصة بالسكان. كان هذا هو نوع المستعمرة التي كانوا يريدون إقامتها. إن الأساس المنطقي للاستعمار الأوروبي للأميركتين، هو أن المستعمرين الإسبانيين والبرتغاليين الأوائل للقارة الجنوبية، لم يكن لديهم اهتمام بزراعة الأرض بأنفسهم، وكانوا يريدون أن يقوم الآخرون بهذا الدور بدلاً منهم، كما أنهم كانوا يسعون إلى الثراء والحصول على الذهب والفضة بالسلب والنهب. أما الاستعمار البريطاني للقارتين فقد بدأ متأخراً. فحينما بدأ الإسبان غزو الأميركتين في العام 1490، كانت إنكلترا قوة أوروبية صغرى تتعافى من الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب الأهلية التي أطلق عليها «حروب الورود»، ولم تكن في وضع يسمح لها بالاستفادة من الاندفاع الجامح نحو نهب وسلب الخيرات والذهب، والفرصة لاستغلال السكان الأصليين للأميركتين. لكن بعد قرابة 100 عام، وبالتحديد في العام 1588، كانت الهزيمة المنكرة للأسطول الإسباني في محاولة قام بها ملك إسبانيا فيليب الثاني لغزو إنكلترا، وكانت لهذه الهزيمة موجات صادمة على الصعيد السياسي في كل أنحاء أوروبا. وعلى الرغم من أن النصر الذي حققته إنكلترا كان وليد الصدفة التاريخية، إلا أنه كان أيضاً إشارة لتأكيد النمو والسيطرة الإنكليزية على البحار التي ستمكنهم من المشاركة أخيراً في تحقيق سعيهم الحثيث نحو بناء إمبراطورية استعمارية. 

اختار الإنكليز أميركا الشمالية، ليس لأنها جذابة، وإنما لأنها كانت الوحيدة المتاحة أمامهم. فالمناطق المرغوب فيها - حيث يوجد سكان أصليون ومناجم ذهب وفضة لاستغلالهم - احتلّها الإسبان، لذلك اضطر الإنكليز لاستعمار القارة الشمالية. وفي العام 1607، أنشأ الإنكليز مستعمرة جيمس تاون في فيرجينيا. وفي بداية استعمارهم، اتبعوا نموذجاً تأثر بشكل كبير بالاستعمار الإسباني. تمثّلت خطتهم الأولى في القبض على الحاكم المحلي واستخدامه كوسيلة للحصول على المؤن وإجبار السكان على إنتاج الغذاء وجمع الثروات لصالحهم. ويبدو أن الفكرة المتعلقة بأن المستعمرين الإنكليز أنفسهم سوف يعملون ويزرعون غذاءهم الخاص، لم ترد إلى أذهانهم على الإطلاق، فهذا ما لم يفعله المستعمرون للعالم الجديد. وعندما اقترب شتاء العام 1607 بدأ مخزون الطعام ينخفض لدى المستعمرين في جيمس تاون، وأصيب القائد المعين لإدارة حكم المستعمرة بارتباك وحيرة شديدة. وعلى الرغم من ذلك واصلوا سعيهم نحو البحث عن الذهب والمعادن الثمينة، ولم يدركوا بعد أنه من أجل البقاء، لا يمكنهم أن يعتمدوا على السكان المحليين لكي يطعموهم، سواء كان ذلك بالإكراه أو بالمتاجرة معهم. ولم يدركوا أيضاً إن الظروف مختلفة بدرجة كبيرة بين سكان أميركا الجنوبية وسكان فرجينيا الذين لا يملكون ذهباً. فأدرك المستعمرون أخيراً أن السكان الأصليين هنا لا يملكون سوى الغذاء، فيما أدرك السكان الأصليون بأن نقطة ضعف المستعمرين الجدد هي تركهم يموتون جوعاً.

عند هذا الإدراك، ومن أجل بقاء المستعمرة ونموها، كان على المستعمرين أن يعملوا بأيديهم.  ومن هنا، طلبوا من الحكومة البريطانية أن ترسل النوعية المناسبة من الأشخاص إلى فرجينيا: مزارعين ونجارين وصيادي أسماك وحدادين وعمال بناء. وبالتالي تم فرض القاعدة التي تنص على أن «من لا يعمل، لن يأكل». في العام 1618 تم تبني نظام «منح الأراضي» للمستعمرين الذكور وأسرهم لزراعتها، كما تم منح المستعمرين المنازل التي كانوا يقيمون بها. وفي العام 1619، تم إنشاء جمعية عامة مَكّنت جميع الرجال والنساء من المشاركة بآرائهم بشكل فعال في القوانين والمؤسسات التي تتحكم في شؤون المستعمرة، كان هذا هو بداية الديمقراطية في الولايات المتحدة. لقد استغرق الأمر قرابة سنوات حتى يتعلّم سكان المستوطنة الدرس الأول الذي يتمثل في أن الإستراتيجية التي ثبت نجاحها في حالة الإسبان في استعمارهم للمكسيك وأميركا الوسطى وأميركا الجنوبية، لن تفلح في الشمال. فيما شهد بقية القرن الـ17 سلسلة طويلة من الكفاح من أجل تعلم الدرس الثاني وهو أن الخيار الوحيد بالنسبة إلى أي مستعمرة قابلة للنمو والتطور الاقتصادي، يتمثل في أن تقيم مؤسسات قادرة على تقديم محفزات للمستعمرين لكي يستثمروا ويتفانوا في العمل. ومع تطور أميركا الشمالية، حاولت النخبة الإنكليزية مراراً أن تنشئ مؤسسات تستطيع أن تقيد بدرجة كبيرة الحقوق السياسية والاقتصادية للجميع، باستثناء منح الامتيازات لقلة من سكان المستعمرة، تماماً كما فعل الأسبان من قبل. غير أن هذا النموذج كان يفشل في كل مرة ويتوقف. لقد وضعت النخبة الإنكليزية خطة مُفَصَّلة لإنشاء مجتمع قائم على نظام المجتمع الإقطاعي، وهو نمط شمال أميركي شبيه بنسخة تحاكي المجتمعات الريفية في إنكلترا في خلال القرن الـ17. وقد استلزم الأمر تقسيم الأراضي إلى قطع تضم آلاف الأفدنة يتم إدارتها بواسطة اللوردات، الذين يعيّنون مستأجرين لزراعة الأرض ورعايتها ويدفعون قيمة إيجارية معينة لصالح النخبة التي تحظى بالامتيازات وتتحكم في الأراضي. ولقد قام الفيلسوف الإنكليزي جون لوك بصياغة الدساتير الأساسية لولاية كاليفورنيا. لقد قدمت هذه الوثيقة مخططاً لمجتمع طبقي نُخبوي قائم على تحكم النخبة المالكة للأرض وسيطرتها، وأن تتجنب إقامة ديمقراطية تعددية. 

كان يوجد في أسفل هذا التركيب طبقة عبيد الأرض أو الفلاحين المملوكين. تأتي فوق طبقة عبيد الأرض والذين لا يملكون أي سلطة سياسية - طبقتا أصحاب الأرض والزعماء القبليين اللتان تشكلان الطبقة الأرستقراطية. كان يخصص لكل فرد من طبقة أصحاب الأرض ولكل فرد من الزعماء القبليين مساحات شاسعة من الأرض. كان من المفترض أن يكون هناك برلمان يتم فيه تمثيل طبقتي النبلاء والزعماء القبليين. ولكن فشلت كل هذه الخطط. لقد كانت الأسباب متشابهة، إذ ثبت في جميع الحالات أنه من المستحيل أن يتم إجبار المستوطنين الجدد على العيش في مجتمع طبقي صارم لمجرد وجود الكثير من الخيارات المفتوحة أمامهم في العالم الجديد. بدلاً من ذلك كانت تُقدَّم لهم المحفزات والفرص لكي يعملوا، وسرعان ما بدأوا يطالبون بالحرية الاقتصادية وبعد ذلك بالحقوق السياسية. وقد قرّر المستوطنون أيضاً الحصول على أراضيهم الخاصة، وأجبروا اللوردات والنبلاء على إنشاء مجلس عمومي في العام 1691، وهكذا، تم التخلص من الامتيازات السياسية التي كان يتمتع بها الإقطاع وكبار اللوردات. وبحلول العشرينيات من القرن الـ18، كان لدى جميع المستعمرات الـ13، التي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة، أنماطاً متشابهة من الحكومات، حيث كان يوجد في جميع الحكومات حاكم للولاية، ومجلس قائم على حق الانتخاب لأصحاب الملكية من الذكور. لم تكن تلك الأنظمة ديمقراطية، حيث إن النساء والعبيد والأشخاص الذين ليس لهم أملاك لم يكن لهم حق التصويت. غير أن الحقوق السياسية كانت متاحة وواسعة بدرجة كبيرة مقارنة مع المجتمعات المعاصرة آنذاك في كل مكان. لقد كانت هذه المجالس وزعماءها هم الذين تكتلوا واتحدوا لكي يشكلوا الكونغرس الأول للمستعمرات في العام 1774، والذي كان يعد تمهيداً لاستقلال الولايات المتحدة. لقد اعتقدت المجالس أن لديها الحق في تحديد الأعضاء والحق في فرض الضرائب. وقد أدى هذا إلى خلق مشكلات للحكومة الاستعمارية الإنكليزية. لذلك، ينبغي أن يكون من الواضح الآن، أنه ليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة - وليست المكسيك أو البرازيل - تبنت وطبقت دستوراً ناصر وأيد الديمقراطية، ووضع حدوداً ومعايير لاستخدام السلطة السياسية، ووزّع تلك السلطة على نطاق واسع وشامل في المجتمع. إن الوثيقة التي جلست الوفود لصياغتها وإعدادها في فيلادلفيا في أيار/مايو 1787، وكانت محصلة ونتيجة لعملية طويلة بدأت بتشكيل المجلس العمومي (الجمعية العامة) في مستعمرة جيمس تاون في العام 1619.

ففي أميركا الشمالية تحوّل نمط الاقتصاد من البحث عن الذهب والفضّة والألماس إلى نمط إنتاجي زراعي ثم صناعي. وتطور معه الوضع السياسي إلى مجتمع شبه ديمقراطي، ثم ديمقراطي نيابي في كل ولاية

إذن، كانت مسارات التطور الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة مختلفة عن المسارات في دول جنوب أميركا. ففي أميركا الشمالية تحوّل نمط الاقتصاد من البحث عن الذهب والفضّة والألماس إلى نمط إنتاجي زراعي ثم صناعي. وتطور معه الوضع السياسي إلى مجتمع شبه ديمقراطي، ثم ديمقراطي نيابي في كل ولاية. وهذا عكس المكسيك خصوصاً، وبقية دول أميريكا الجنوبية عموماً، حيث استمر النمط البدائي في اعتماد المستعمرين الإسبان والبرتغاليين على نهب المعادن الثمينة والثروات الزراعية من القبائل، مع استمرار الأنظمة العسكرية والديكتاتورية بعد الاستقلالات من هاتين الإمبراطوريتين الأوروبيتين.

النموذج الثالث: يقارب الكتاب بين الكوريتين الشمالية والجنوبية تحت عنوان «صناعة الازدهار والفقر». ففي صيف العام 1945، بينما كانت الحرب العالمية الثانية تضع سطورها الأخيرة، بدأت المستعمرة اليابانية الموجودة في كوريا في الانهيار. وفي خلال شهر من الاستسلام غير المشروط من جانب اليابان في 15 آب/أغسطس، تم تقسيم كوريا إلى منطقتين، تتولى الولايات المتحدة إدارة المنطقة الجنوبية، على أن تتولى روسيا إدارة المنطقة الشمالية.

إن سكان كوريا الجنوبية لديهم مستويات معيشة مشابهة لسكان البرتغال وإسبانيا، أما بالنسبة إلى كوريا الشمالية فتنخفض مستويات المعيشة إلى أقل من 10 أضعاف مستويات المعيشة العادية في كوريا الجنوبية. هذه الفوارق الواضحة ليست قديمة جداً، فهي لم تكن موجودة في الحقيقة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية. غير أنه بعد العام 1945، دأب المجتمع الواحد في الشمال والجنوب على تبني طرق مختلفة فيما يتعلق بظروف الوضع الاقتصادي لدرجة أصبح هناك مجتمعين مختلفين. كان يقود كوريا الجنوبية اقتصاد سوق يتم فيه تحديد الملكية الخاصة، وبعد العام 1961، قامت الحكومة برمي ثقل الدولة خلف النمو الاقتصادي السريع، وحوّلت الائتمان والدعم الحكومي لصالح الشركات التي نجحت. في حين كان الموقف في الشمال الكوري مختلفاً، حيث نصّب كيم إيل سونغ، زعيم  الشيوعيين المناهضين لليابانيين، نفسه ديكتاتوراً في العام 1947، بمساعدة الاتحاد السوفياتي، واعتمد صيغة من الاقتصاد المخطط بصورة مركزية كجزء مما كان يطلق عليه «نظام جوتشي»، حيث تم تحريم الملكية الخاصة وحظر الأسواق، وتم تقليص الحريات في اقتصاد الأسواق وفي كل مجال من حياة الكوريين الشماليين. وبالتالي، لا يجب أن نندهش من أن الثروات الاقتصادية لكل من كوريا الشمالية والجنوبية قد تختلف بصورة حادة. إن ما نشهده من مجاعات متكرّرة في كوريا الشمالية لا يعود سببه إلى فشل انطلاق الإنتاج الصناعي فقط بل انهيار الإنتاج الزراعي أيضاً. إن غياب الملكية الخاصة كان يعني أن عدداً قليلاً من الأشخاص كان لديهم الفرص والمحفزات لكي يستثمروا أو أن يبذلوا الجهد من أجل زيادة أو حتى المحافظة على استمرار الإنتاج. 

كان هذا النظام معادياً للابتكار وتبني وسائل تكنولوجية جديدة واستخدامها، غير أن كيم إيل سونغ ولاحقاً ابنه كيم يونغ إيل، ورفقائهم لم تكن لديهم نية لإصلاح النظام القائم، أو إتاحة الملكية الخاصة، أو الأسواق، أو العقود الخاصة، أو تغيير المؤسسات السياسية والاقتصادية. وهو الأمر الذي جعل كوريا الشمالية تواصل طريقها نحو الركود الاقتصادي. وفي غضون ذلك، كانت المؤسسات الاقتصادية، في كوريا الجنوبية، تشجع على الاستثمار والتجارة، حيث استثمر الساسة الكوريون الجنوبيون في قطاع التعليم، ما ساعد على تحقيق معدلات عالية من التعلّم والتأهيل والتدريب. وسرعان ما استفادت الشركات الكورية الجنوبية من السكان الذين حصلوا على مستويات تعليمية مختلفة، وكذلك من السياسات التي تشجّع على الاستثمار والتصنيع والصادرات ونقل التكنولوجيا. وسرعان ما أصبحت كوريا الجنوبية واحدة من «الاقتصاديات المعجزة» بين دول شرق آسيا، وواحدة من أسرع الدول نمواً في العالم. في أواخر العام 1990، وفي خلال قرابة نصف قرن فقط، أدى النمو الاقتصادي في كوريا الجنوبية وحالة الركود الموجودة في كوريا الشمالية إلى إحداث فجوة في الحجم تبلغ 10 أضعاف، بين هذين الشقين اللذين شكّلا بلداً واحداً في السابق ويضمان شعباً من الأصول العرقية نفسها.

السياسات الشاملة والسياسات الاستحواذية 

لعل النماذج الثلاثة المتقدم ذكرها تكفي لتطبيق مقومات النظرية الاقتصادية-السياسية التي يتبناها مؤلفا هذا الكتاب، وأهم مقومات نظريتهما هو «مفهوم السياسات الشاملة أو الاستحواذية»، كسبب رئيس في نجاح أو فشل الأمم في تحقيق الازدهار والنمو.

تتفاوت الدول وتختلف في حجم نجاحها وتفوقها الاقتصادي بسبب اختلاف مؤسساتها، والقواعد والنظم التي تؤثر في الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد، وكذلك الفرص والمحفزات التي تخلق الدافعية لدى الأشخاص. إن المؤسسات الاقتصادية الشاملة، مثل تلك التي توجد في كوريا الجنوبية أو في الولايات المتحدة، هي تلك المؤسسات التي تسمح وتشجع على المشاركة الفعلية من جانب القطاع الأكبر من المواطنين في الأنشطة الاقتصادية التي تساعد على تحقيق أكبر قدر من الاستفادة من مهاراتهم ومواهبهم الشخصية والتي تمكن الأفراد من تحديد الاختيارات التي يرغبون فيها. ومن أجل أن تكون المؤسسات الاقتصادية شاملة للجميع فإنها يجب أن تتيح وجود ملكية خاصة آمنة، ونظام قانوني محايد وعادل، وأن توفر الخدمات العامة التي تتيح مجالاً للمشاركة المتساوية يستطيع من خلاله الأشخاص أن يتبادلوا المصلحة وأن يبرموا العقود. كما يجب أن يسمح بدخول أنشطة تجارية جديدة، وأن يسمح للأشخاص أن يختاروا مهنهم ووظائفهم الخاصة. إن التضاد بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وبين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، يوضح مبدأ عاماً مفاده أن المؤسسات الاقتصادية الشاملة تدعم وتشجع النشاط الاقتصادي، والنمو الإنتاجي، والازدهار الاقتصادي. كما أن حقوق الملكية الخاصة الآمنة تعد أساسية وجوهرية، حيث إن أولئك الأشخاص فقط الذين لديهم هذه الحقوق سوف تكون لديهم الرغبة والاستعداد للاستثمار وزيادة معدلات الإنتاجية. إن رجل الأعمال الذي يتوقع أن يتم سرقة ومصادرة إنتاجه ومجهوده، أو أن تفرض على كاهله الضرائب الباهظة، سوف يكون لديه قدر ضئيل من الدافعية للعمل والإنتاج، ناهيك عن وجود أي دافع أو حافز للقيام بأي استثمارات وابتكارات جديدة. غير أن مثل هذه الحقوق يجب أن تكون متاحة للأغلبية من الناس في المجتمع. إن حقوق الملكية الآمنة، والقانون، والخدمات العامة، وحرية التعاقد وتبادل المنافع، تعتمد جميعها على الدولة، باعتبارها المؤسسة التي تملك القوة الجبرية اللازمة لفرض النظام، ومنع السرقة والاحتيال، وتنفيذ العقود المبرمة بين الأطراف المعنيين. 

 الدولة مرتبطة ومتشابكة بصورة لا تنفك بالمؤسسات الاقتصادية، باعتبارها الطرف الحامي والمنفذ للقانون والنظام والملكية الخاصة والعقود المبرمة، وتكون في الغالب المزود الرئيس للخدمات العامة

ومن أجل تفعيل ذلك بصورة جيدة ومناسبة، يحتاج المجتمع أيضاً إلى خدمات عامة أخرى: الطرق وشبكة النقل التي تساعد على نقل السلع، وبنية تحتية عامة تساعد على إنعاش ودعم النشاط الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الخدمات العامة يمكن أن يتم تقديمها من الأسواق والمواطنين أصحاب الشركات الخاصة، إلا أن وجود قدر من التنسيق يعد ضرورياً لتحقيق ذلك على نطاق كبير والذي غالباً ما يتملص منه الجميع باستثناء السلطة المركزية المخولة بذلك. وهكذا، فإن الدولة مرتبطة ومتشابكة بصورة لا تنفك بالمؤسسات الاقتصادية، باعتبارها الطرف الحامي والمنفذ للقانون والنظام والملكية الخاصة والعقود المبرمة، وتكون في الغالب المزود الرئيس للخدمات العامة. إن المؤسسات الاقتصادية الشاملة للجميع تحتاج وتستفيد منها الدولة. إن المؤسسات الاقتصادية الخاصة بكوريا الشمالية أو بالحكومات في معظم أميركا اللاتينية لا تملك مثل هذه الخصائص. حيث إن الملكية الخاصة ليست موجودة في كوريا الشمالية، وفي الحق الاستعماري لأميركا اللاتينية فترة حكم الإسبان، كانت الملكية الخاصة متاحة للإسبان فقط، في حين كانت ملكية السكان الأصليين غير آمنة بدرجة كبيرة، كما أنه لم يكن لدى قطاع كبير من الأشخاص القدرة على اتخاذ القرارات الاقتصادية التي كانوا يرغبون فيها في كلا المجتمعين. لقد كانوا يخضعون للإكراه الجماعي. كما أنه في كلا المجتمعين لم تكن سلطة الدولة تستخدم في تقديم الخدمات العامة الرئيسة التي تساعد على تحقيق الازدهار. وفي كلا المجتمعين، لم يكن هناك مجال مشاركة متكافئ أو نظام  قانوني محايد. وفي كوريا الشمالية، يعد النظام القانوني كذراع للحزب الشيوعي الحاكم، وفي أميركا اللاتينية كان أداة للتمييز بين جموع الشعب. وقد أطلق المؤلفان على مثل هذه المؤسسات التي تملك خصائص متعارضة ومناقضة لتلك المؤسسات التي أطلقا عليها شاملة للجميع، مؤسسات اقتصادية استحواذية، لأن مثل هذه المؤسسات تقوم على الاستحواذ على الدخول والثروات من فئة من المجتمع لمصلحة فئة أخرى. 

محركات الازدهار 

تعمل المؤسسات الاقتصادية الشاملة على خلق أسواق شاملة للجميع، ولا تمنح للأشخاص الحرية في اختيار المهن والوظائف التي تناسب إلى أقصى درجة مواهبهم ومهاراتهم الشخصية فقط، وإنما أيضاً توفر مجال مشاركة متكافئ يمنحهم الفرصة في القيام بذلك. وبالنسبة إلى أولئك الذين يملكون أفكاراً جيدة سوف يكون لديهم القدرة على إقامة مشروعاتهم الخاصة، وسوف يميل الموظفون أو العاملون إلى الأنشطة التي تكون فيها قدرتهم الإنتاجية عالية بدرجة أكبر. ويمكن أن يتم استبدال الشركات الأقل كفاءة بأخرى تكون أكثر كفاءة وتفوقاً. تمهّد المؤسسات الاقتصادية الشاملة أيضاً الطريق أمام محركات أخرى للازدهار وهما التكنولوجيا والتعليم. حيث إن النمو الاقتصادي المستدام يكون دائماً مصحوباً بالتطوير التكنولوجي الذي يُمكِّن الأشخاص (القوى العاملة) والأرض ورأس المال القائم على المنشآت والآلات المختلفة، أن تصبح أكثر إنتاجية وفاعلية. إن هذه العملية من الابتكار قد تصبح ممكنة ومتاحة من خلال مؤسسات اقتصادية تشجع وتتيح الملكية الخاصة، وتدعم العقود المبرمة، وتخلق مجال مشاركة متكافئ للجميع، وتشجع وتسمح بدخول أنشطة تجارية جديدة تساعد على جلب وسائل تكنولوجية حديثة للحياة. ومن ثم، فإنه ليس غريباً أن يكون مجتمع الولايات المتحدة - وليس المكسيك أو بيرو - هو الذي أنتج توماس إديسون، وكانت كوريا الجنوبية - وليس كوريا الشمالية - هي التي تنتج اليوم شركات مبتكرة للتكنولوجيا مثل سامسونغ وهيونداي. إن مستوى التعليم المتدني في الدول الفقيرة يرجع سببه إلى المؤسسات الاقتصادية التي تفشل في خلق فرص ومحفزات لأولياء الأمور حتى يهتموا بتعليم أبنائهم، وكذلك بسبب المؤسسات السياسية التي تفشل في حث الحكومة على بناء وتمويل ودعم المدارس ورغبات أولياء الأمور والأطفال. إن الثمن الذي تدفعه هذه الدول، نتيجة مستوى التعليم المتدني لمواطنيها وعدم وجود أسواق شاملة تحتضن الجميع، يكون ثمناً باهظاً. إنها تفشل في تحريك ودفع مواهبهم الوليدة؛ إنهم يمتلكون الكثيرين ممن لديهم قدرات بيل غيتس، وربما واحد أو اثنين من أمثال ألبرت أينشتاين، والذين يعملون الآن كمزارعين فقراء غير متعلمين، حيث يتم إكراههم على العمل فيما لا يرغبون أن يعملوا به أو يتم تجنيدهم في الجيش، لأنهم لم تتح أبداً لهم الفرصة في أن يحصلوا على المهنة التي يرغبون فيها طيلة حياتهم. إن القدرة التي تملكها المؤسسات الاقتصادية على دعم وتعزيز قدرة الأسواق الشاملة للجميع، وتشجيع الابتكار التكنولوجي، والاستثمار في الموارد البشرية، وتحريك ودفع المواهب والمهارات لعدد كبير من الأشخاص يعد أمراً هاماً وجوهرياً بالنسبة للنمو الاقتصادي.

على الرغم من أن المؤسسات الشاملة للجميع قد تكون جيدة لتحقيق الازدهار الاقتصادي لأمة ما، إلا أن بعض الأشخاص أو المجموعات، مثل النخبة التي تمثل الحزب الشيوعي الحاكم في كوريا الشمالية أو الأسبان في أميركا اللاتينية أو في أفريقيا وآسيا إبان الحقبة الاستعمارية، يكون من الأفضل بالنسبة إليهم جميعا أن يقيموا مؤسسات استحواذية. 

في مقابل ذلك، فإن المؤسسات السياسية لمجتمع ما تمثل المحدّد الرئيس لنتيجة هذه السياسات الاقتصادية. إنها تمثل القواعد والقوانين التي تحكم المحفزات والفرص المتاحة في مجال السياسة، وهي تحدد الطريقة التي يتم بها اختيار الحكومة، وما هو الحق الذي يملكه كل قطاع من قطاعات الحكومة لكي يقوم بأداء الدور المنوط به. إن المؤسسات السياسية تحدد الجهة التي تملك السلطة في المجتمع وما هي الغايات التي يمكن أن تستخدم هذه السلطة من أجلها. وإذا كان توزيع السلطة ينحصر في نطاق ضيق ومن دون قيود أو ضوابط، فإن المؤسسات السياسية تكون ذات سلطة مستبدة مطلقة، كما تشير الأمثلة في ذلك لأنظمة الحكم الملكي المستبد المطلق والتي كانت تحكم في بقاع شتى من العالم خلال حقب تاريخية طويلة. وفي ظل المؤسسات السياسية المستبدة مثل تلك التي توجد في كوريا الشمالية وأميركا اللاتينية إبان المرحلة الاستعمارية، فإن أولئك الذين يستطيعون السيطرة على هذه السلطة ستكون لديهم القدرة على إقامة مؤسسات اقتصادية تساعد على زيادة ثرواتهم الشخصية، والاستحواذ لأقصى درجة ممكنة على السلطة التي بين أيديهم على حساب المجتمع. وعلى النقيض، فإن المؤسسات السياسية التي تقوم بتوزيع السلطة على نطاق واسع في المجتمع، ثم تخضع هذه السلطة لقيود وضوابط تقوم على التعددية؛ وبدلاً من أن تكون ممنوحة لفرد واحد أو المجموعة ذات نطاق ضيق في المجتمع، فإن السلطة السياسية تكون في أيدي ائتلاف أو تحالف أو من المجموعات المتعددة. وهناك بشكل واضح علاقة وثيقة بين التعددية وبين المؤسسات الاقتصادية الشاملة للجميع. غير أن المفتاح لفهم وإدراك السبب الذي يجعل كل من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة تملكان مؤسسات اقتصادية شاملة للجميع لا يتمثل فقط في وجود المؤسسات السياسية التعددية بهما، وإنما أيضًا في حكوماتها القوية والمركزية بدرجة كافية. 

نظرية الفوضى الخلاقة

إن النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي يصاحبهما، ما أطلق عليه عالم الاقتصاد جوزيف شومبيتر، الهدم البناء الذي اصطلح عليه بالفوضى الخلاقة. فهما يستبدلان الحديث بالقديم، وتجذب قطاعات جديدة الموارد بعيداً من القطاعات القديمة، وتستحوذ شركات جديدة على الأعمال والمشروعات من الشركات الموجودة من قبل، وتجعل التكنولوجيات الحديثة من المهارات والآلات الموجودة بائدة وعفا عليها الزمن. إن عملية النمو الاقتصادي والمؤسسات الشاملة التي يقوم عليها هذا النمو تؤدي إلى وجود خاسرين، كما تؤدي بالمثل إلى وجود فائزين في الحلبة السياسية، وكذلك في السوق الاقتصادي. إن الخوف من عملية الفوضى الخلاقة تكمن في الغالب في أصل المعارضة لوجود المؤسسات السياسية والاقتصادية الشاملة للجميع.

فإن نجاح وفشل مجموعات محددة يقدم لنا درساً واضحاً مفاده أن المجموعات القوية المسيطرة غالباً ما تقف ضد التقدم الاقتصادي وضد محركات الازدهار

يقدم التاريخ الأوروبي مثالاً حياً لعواقب عملية الفوضى الخلاقة، فقبل بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر بقليل، كانت حكومات معظم الدول الأوروبية يسيطر عليها طبقات أرستقراطية والتي كان مصدر دخلها الرئيسي يعتمد على ملكية الأراضي أو الامتيازات التجارية التي كانوا يتمتعون بها، وكان الفضل في ذلك يعود لأشكال الاحتكار المختلفة التي كانت تمنح لهم وعوائق الوصول إليها التي كان يفرضها الحكام. وكانت هناك عوامل أخرى تتفق مع فكرة الفوضى الخلاقة مثل انتشار الصناعات والمصانع والمدن التي أبعدت الموارد عن الأرض، وخَفَضَت قيمة إيجار الأرض، وزادت من قيمة الأجور التي كان يجب أن يدفعها مالكي الأرض للعمال. لقد لاحظت هذه النخبة أيضاً ظهور رجال أعمال وتجار جدد ينقضون على امتيازاتهم التجارية. لقد كانوا بشكل عام، هم الطرف الاقتصادي الخاسر بوضوح من جراء هذه الثورة الصناعية. كما أن الانتشار الحضري وظهور طبقة عاملة وسطى على درجة من الوعي الاجتماعي كان يمثل أيضاً تحدياً بالنسبة إلى مسألة الاحتكار السياسي الذي تهيمن عليه النخب الأرستقراطية المالكة للأرض. ولذلك نتيجة انتشار الثورة الصناعية لم تكن الطبقات الأرستقراطية فقط هي الخاسر الاقتصادي، وإنما كانت تخاطر أيضاً بأن تصبح الخاسر السياسي، فتخسر امتيازاتها. وعندما أصبحت كل من سلطتها السياسية والاقتصادية في موضع التهديد والخطر، قامت هذه النخب في الغالب بتشكيل جبهات معارضة كبيرة وقوية في مواجهة الثورة الصناعية. 

وفي الحقيقة، لم تكن الطبقة الأرستقراطية هي الخاسر الوحيد من الثورة الصناعية، فقد كان لها مناصرين من أصحاب المهارات اليدوية الذين تم استبدال الماكينات بهم. وكانوا يعارضون أيضاً انتشار الصناعة. وكانت هناك أيضاً الكثير من التحركات المنظمة ضد الصناعة، حيث كانوا يمارسون أعمال شغب ويحطمون الآلات التي كانوا يعتبرونها مسؤولة عن تدهور أحوالهم المعيشية وضيق أرزاقهم. لقد كانوا يمثلون حركة «ثورية لمقاومة التغير التكنولوجي». ولكن على الرغم من كل هذه المقاومات، استطاعت الثورة الصناعية في إنكلترا أن تواصل مسيرتها، لأن المعارضة الأرستقراطية قد صمتت. أما بالنسبة إلى الإمبراطوريتين النمساوية المجرية والروسية، حيث كان الحكام المستبدين والأرستقراطيين لديهم الكثير ليخسروه هناك، فقد تم عرقلة ووقف الحركة الصناعية هناك. وكنتيجة لذلك، توقفت حركة التطور الاقتصادي في كل من والنمسا والمجر وروسيا، وأصبحت في مؤخرة ركب الدول الأوروبية الأخرى، حيث حدثت عملية انطلاق للنمو الاقتصادي في خلال القرن الـ19. وعلى الرغم من ذلك، فإن نجاح وفشل مجموعات محددة يقدم لنا درساً واضحاً مفاده أن المجموعات القوية المسيطرة غالباً ما تقف ضد التقدم الاقتصادي وضد محركات الازدهار. 

إن النمو الاقتصادي ليس مجرد عملية ترتبط بالماكينات الأكثر عدداً والأفضل تطوراً، والأفراد الأكثر والأفضل تعليماً، وإنما أيضاً عملية تحويلية وزعزعة مصحوبة بعملية الفوضى الخلاقة واسعة الانتشار. وهكذا، فإن النمو يتحرك إلى الأمام فقط إذا لم يتم عرقلته ووقفه من الخاسرين الاقتصاديين الذين يتوقعون أن يفقدوا امتيازاتهم الاقتصادية، وكذلك من جانب الخاسرين السياسيين الذين يخشون من ضياع سلطتهم السياسية. إن الصراع حول الموارد الشحيحة، ومعدلات الدخل والسلطة يترجم إلى صراع حول قواعد اللعبة، والمؤسسات الاقتصادية هي التي ستحدد طبيعة الأنشطة الاقتصادية ومن سيستفيد منها. وعندما يكون هناك صراع، فإن رغبات جميع الأطراف لا يمكن أن يتم تلبيتها بصورة مباشرة؛ حيث سيكون البعض منهزمين ومحبطين، في حين سينجح البعض الآخر في الحصول على النتائج التي يرغبون فيها، وأن تحديد هوية الفائز في هذا الصراع يكون له تداعيات جوهرية بالنسبة إلى المسار الاقتصادي لأمة ما. وإذا كانت المجموعات التي تقف ضد حركة النمو هي الفائزة، فإنها يمكنها بنجاح أن تعرقل وتوقف النمو الاقتصادي، وسوف يتعرض الاقتصاد للركود. إن المنطق الخاص بالسبب الذي يجعل النخبة المسيطرة لا ترغب بالضرورة في إقامة مؤسسات اقتصادية تعمل على تحقيق النجاح الاقتصادي، يمتدّ بسهولة لاختيار المؤسسات السياسية. وفي حالة النظام المستبد المطلق، يمكن لبعض النخب أن تسيطر على السلطة من أجل إقامة المؤسسات الاقتصادية التي يفضلونها، فهل سيكون لديهم اهتمام بتغيير المؤسسات السياسية لجعلها أكثر تعددية؟ والإجابة بشكل عام تكون بالنفي، حيث إن هذا سوف يؤدي إلى التخفيف من سلطتهم السياسية فقط، ويجعل من الأكثر صعوبة - وربما من المستحيل - بالنسبة إليهم أن يحددوا بنية المؤسسات الاقتصادية التي تساعدهم على تحقيق مصالحهم الشخصية. وهنا نلاحظ مرة أخرى وجود مصدر مباشر للصراع. 

إن الأشخاص الذين يعانون من المؤسسات الاقتصادية الاستحواذية لا يمكن أن يأملوا من الحكام المستبدين أن يقوموا طواعية بتغيير المؤسسات السياسية ويعيدوا توزيع السلطة في المجتمع، وأن الطريقة الوحيدة لتغيير هذه المؤسسات السياسية تتمثل في إجبار النخبة على إقامة مؤسسات تكون أكثر تعددية. ومثال في هذا الصدد يتعلق بالنمو الاقتصادي والحركة الصناعية في الاتحاد السوفياتي في خلال الخطة الخمسية الأولى في العام 1928 وحتى السبعينيات من القرن الماضي. كانت المؤسسات الاقتصادية والسياسية هناك استحواذية بدرجة كبيرة، وكانت الأسواق مقيدة بصورة شديدة. وعلى الرغم من ذلك، كان الاتحاد السوفياتي قادراً على تحقيق نمو اقتصادي سريع لأنه استطاع أن يستخدم سلطة الدولة في تحريك الموارد من القطاع الزراعي، حيث كانت تستخدم بصورة غير فعالة بدرجة كبيرة إلى مجال الصناعة. ولكن، لماذا تباطأ النمو وتوقف بعد ذلك؟. الجواب هو أن نجاح المؤسسات الاقتصادية الاستحواذية له مداه القصير، حيث لا يمكنها أن تراكم نمواً مستداماً. فهناك علاقة ديالكتيكية بين المؤسسات الاقتصادية والمؤسسات السياسية. 

إقامة المؤسسات الديمقراطية

احتلت إنكلترا مكانة فريدة ومتميزة بين الأمم عندما أحرزت تقدماً نحو بناء نمو اقتصادي مستدام في القرن الـ17. إن تطور الصراعات المؤسسية في خلال القرنين الـ16 والـ17 كان يمثل حدثين فارقين: الحرب الأهلية الإنكليزية بين عامي 1642 و1651، والثورة في العام 1688 بصورة خاصة. لقد ساعدت على الحد من سلطة الملك والسلطة التنفيذية للدولة، ونقلها إلى البرلمان، السلطة المتعلقة بتحديد طبيعة المؤسسات الاقتصادية. وفي الوقت ذاته، فتح الطريق أمام مشاركة قطاع عريض من المجتمع في النظام السياسي والذين كانوا يحملون القدرة على إظهار تأثير ملحوظ على الطريقة التي تعمل بها الدولة. لقد كانت الثورة تمثل الأساس لبناء مجتمع تعددي تؤثر على عملية تحقيق المركزية السياسية وأسرعت فيها. وكان ذلك هو النمط الأول من المؤسسات السياسية الشاملة في العالم. ونتيجة لذلك، بدأت المؤسسات الاقتصادية أيضاً في أن تصبح شاملة حاضنة للجميع. ولم يعد هناك عبودية أو قيود اقتصادية قاسية في إنكلترا في بداية القرن الـ17، مثل تلك التي كانت سائدة في خلال فترة العصور الوسطى الإقطاعية، مثل عبودية المزارعين والكثير من القيود على الأنشطة الاقتصادية، بسبب انتشار وسائل الاحتكار، وفرض نظام ضرائب عشوائي وتعسفي، والاستحواذ على معظم الأراضي من خلال أشكال قديمة مبتذلة من حقوق الملكية التي جعلت من المستحيل أن يتم بيعها، ومن المجازفة والخطر أن يتم الاستثمار فيها. لقد تغير هذا بعد قيام الثورة، حيث تبنت الحكومة نمطاً من المؤسسات الاقتصادية التي عملت على تقديم المحفزات والفرص للاستثمار والتجارة. وقامت بتفعيل حقوق الملكية بشكل ثابت بما في ذلك براءة الاختراع التي تمنح حقوق الملكية للأفكار، والذي بدوره قدم محفزاً هاماً للابتكار. كما أنها عملت على حماية القانون والنظام. لقد كان تطبيق القانون الإنكليزي على جميع المواطنين، حالة غير مسبوقة في التاريخ البشري. لقد غَيّرت هذه الأسس بصورة حاسمة المحفزات والفرص المتاحة للأشخاص ودفعت محركات الازدهار إلى الأمام، ومهّدت الطريق أمام الثورة الصناعية. وكانت الثورة الصناعية تعتمد في المقام الأول على التطورات التكنولوجية الهامة، مستغلة في ذلك القاعدة المعرفية التي كانت قد تراكمت في أوروبا في خلال القرون السابقة؛ لقد كانت تمثل تغيراً جذرياً عن الماضي، والذي أصبح ممكناً من خلال البحث العلمي، والمواهب الخاصة بعدد من الأشخاص المتميزين. 

نتجت القوة الكاملة لهذه الثورة عن السوق الذي خلق فرصاً مربحة ومفيدة من خلال ابتكار التكنولوجيا وتطبيقها. وهكذا، فلم يكن من قبيل المصادفة أن الثورة الصناعية بدأت في إنكلترا بعد عقود قليلة من اندلاع الثورة الديمقراطية. استطاع المبتكرون العظماء مثل جيمس وات (مخترع المحرك البخاري)، وريتشارد تريفيثيك (الذي بنى أول قاطرة بالبخار)، وغيرهم عشرات من المخترعين. وكلهم كانت لديهم القدرة على الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي أفرزتها أفكارهم، وكانوا على ثقة وقناعة بأن حقوق الملكية الخاصة بهم سوف يتم احترامها، وكانت لديهم الفرصة للوصول إلى الأسواق، حيث كان يمكن أن يتم بيع واستخدام الابتكارات التي تم التوصل إليها بصورة مربحة. إن التقدم التكنولوجي باعتباره المحرك للأعمال والأنشطة التجارية لكي تتوسع ويتم الاستثمار فيها وكذلك الاستخدام الأمثل للمهارات والمواهب، كانت جميعها متاحة نتيجة لوجود المؤسسات الاقتصادية الشاملة التي أقامتها إنكلترا، وقد تأسست هذه المؤسسات بدورها على المؤسسات السياسية الشاملة الموجودة هناك. 

فإن النمو يتحرك إلى الأمام فقط إذا لم يتم عرقلته ووقفه من الخاسرين الاقتصاديين الذين يتوقعون أن يفقدوا امتيازاتهم الاقتصادية، وكذلك من جانب الخاسرين السياسيين الذين يخشون من ضياع سلطتهم السياسية

لقد أقامت إنكلترا هذه المؤسسات السياسية الشاملة نتيجة لعاملين. تمثّل العامل الأول في المؤسسات السياسية، بما في ذلك الحكومة المركزية، التي مكّنت إنكلترا أن تتخذ الخطوة الجذرية التالية، والتي كانت غير مسبوقة في الواقع، نحو إقامة المؤسسات الشاملة مع بداية الثورة. وعلى الرغم من أن هذا العامل قد ميز إنكلترا عن الكثير من بقية دول العالم، إلا أنه لم يُميّزها بشكل ملحوظ عن دول أوروبا الغربية مثل فرنسا وإسبانيا. أما العامل الثاني، وهو أكثر أهمية في هذا الصدد، فتمثّل بالأحداث التي أدت إلى قيام الثورة السياسية، قد شكلت تحالفاً وائتلافاً قوياً وواسعاً لديه القدرة على أن يضع قيوداً وضوابطاً قوية وثابتة على سلطة الملك والسلطة التنفيذية، والتي أجبرت على أن تستجيب لمطالب هذا التحالف. لقد ساهم هذا في وضع الأسس التي قامت عليها المؤسسات السياسية التعددية، والتي تشارك في بناء وإقامة المؤسسات الاقتصادية التي دعمت وساندت قيام الثورة الصناعية الأولى.

الصدف التاريخية 

في العام 1588 تحديداً، كانت إنكلترا وإسبانيا وفرنسا تخضع لأنظمة حكم ملكي مستبد مطلق: الملكة إليزابيث الأولى في إنكلترا، الملك فيليب الثاني في إسبانيا، والملك هنري الثالث في فرنسا؛ وكانت جميعها تتصارع مع برلمانات تضم أعداداً من المواطنين كانت تطالب بالحقوق والرقابة على سلطة الملك. كانت جميع هذه المجالس تملك سلطات مختلفة بدرجة ما. على سبيل المثال، كان البرلمان الإنكليزي يملك سلطة على نظام فرض الضرائب، حيث كانت الملكة إليزابيث الأولى أقل استقلالاً من الناحية المالية بدرجة كبيرة، كان عليها أن تتوسل للبرلمان لكي يفرض المزيد من الضرائب. وفي المقابل، كان البرلمان يطالب ببعض التنازلات، وخصوصاً فرض القيود على حق الملكة إليزابيث في منح امتيازات الاحتكار. لقد كان هذا يمثل واحداً من الصراعات التي حقق البرلمان فيها انتصاراً تدريجياً، أما في إسبانيا، فقد خسر المجلس التشريعي في مثل هذا الصراع. فلقد كانت التجارة تحتكر من قبل ملك إسبانيا وحكومته. بدأت تتضح أهمية هذه الفوارق بقدر كبير في القرن الـ17 عندما توسعت التجارة العالمية، وخصوصاً في المحيط الأطلسي، بين المتنافسين. هذه «الصدفة» التاريخية هي التي أدت إلى ديمومة النمو في إنكلترا، وتباطؤه في دول أوروبية أخرى. ولقد كانت عواقب هذا التوسع الاقتصادي مختلفة بدرجة كبيرة بالنسبة للمؤسسات في إنكلترا عن نظيراتها في كل من إسبانيا وفرنسا، نتيجة للفوارق الضئيلة التي كانت موجودة في البداية. لم تستطع الملكة إليزابيث الأولى وخلفائها أن يحتكروا التجارة مع الأميركتين، في حين استطاع الملوك الأوروبيون الآخرون القيام بذلك. ولهذا بينما كانت حركة التجارة الأطلنطية والاستعمار في إنكلترا، قد بدأت بتكوين مجموعة كبيرة من التجار الأثرياء، الذين يرتبطون بعلاقات محدودة مع الملكة، كان الأمر مختلفاً في إسبانيا أو فرنسا. عبر التجار الإنكليز عن استيائهم من السيطرة الملكية، وطالبوا بإجراء تغييرات في المؤسسات السياسية، والحد من حجم الامتيازات الملكية المتاحة. 

لقد أدّوا دوراً أساسياً في الحرب الأهلية الإنكليزية والثورة السياسية. وقد حدثت صراعات مماثلة في كل مكان ضد الملوك الفرنسيون مثلاً. ولكن كان الفارق هو أن في إنكلترا كان من المحتمل بدرجة أكبر بكثير أن ينتصر المعارضون ضد الحكم المستبد المطلق، لأنهم كانوا أكثر ثراء، وأكبر عدد بشكل نسبي من المعارضين للحكم الاستبدادي المطلق في إسبانيا وفرنسا. إن المسارات المتفاوتة والمختلفة لكل من المجتمعات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية في القرن الـ17 قد أظهرت أهمية هذه الفوارق المؤسسية الضئيلة، باعتبارها «حلقات حميدة». ففي خلال المرحلة الدقيقة قد يعمل حدث هام أو مجموعة من العوامل على زعزعة وإرباك التوازن القائم للسلطة السياسية أو الاقتصادية في أمة ما؛ ويمكن أن تؤثر هذه العوامل في دولة واحدة فقط، ولكن غالباً ما تؤثر على مجموعة من المجتمعات ككل. إن مثل هذه المراحل الدقيقة تعد هامة، لأن هناك عقبات هائلة ضد عمليات التطور والتقدم التدريجي، والتي تنتج عن العلاقة بين المؤسسات السياسية والاقتصادية، وبين الدعم الذي يقدمه كل منهما للآخر. وإن أولئك الذين يستفيدون من الوضع الراهن هم بالفعل أثرياء ومنظمون بشكل جيد، ويمكنهم أن يواجهوا بصورة فعالة التغيرات الرئيسية والهامة، التي قد تهدد الامتيازات الاقتصادية والسلطة السياسية التي يتمتعون بها. وعندما تحدث المرحلة الدقيقة، فإن الفوارق - حتى لو كانت ضئيلة - التي تكون مؤثرة وهامة هي الفوارق المؤسسية الأولية، التي تنتج عنها ضعف وردود أفعال مختلفة. إن هذا هو السبب الذي جعلت الفوارق المؤسسية بشكل نسبي في إنكلترا وفرنسا وإسبانيا، هي التي تسبب وجود مسارات نمو مختلفة بصورة جوهرية بين هذه الدول. إن هذه الفوارق تكون في الغالب ضئيلة في البداية، ولكنها تتراكم تدريجياً. وعلى الرغم من أن التنافر المؤسسي ليس له مسار محدد مسبقاً، ولا يحتاج حتى أن يكون تراكمياً، حيث إنه على مدار القرون يمكن أن يؤدي إلى وجود فوارق يمكن إدراكها. إن الفوارق التي يخلقها التنافر المؤسسي تصبح هامة ومؤثرة بصورة خاصة، لأنها تؤثر على الطريقة التي يتفاعل بها المجتمع مع التغيرات التي تتم في أوقات الظروف السياسية أو الاقتصادية في خلال المراحل الدقيقة. إن المؤسسات الاقتصادية والسياسية القائمة هي التي تصنع السندان الذي يتم فوقه طرق وتشكيل التغير المستقبلي الذي سيتم. وقد لا يجب أن يكون هناك افتراض بأن أي مرحلة دقيقة سوف تؤدي إلى ثورة سياسية ناجحة، أو أن يغير الوضع للأفضل. إن التاريخ يعج بالأمثلة والنماذج لثورات وحركات راديكالية وجذرية قامت باستبدال طاغية بطاغية آخر كرر وزاد من فساد ومساوئ سابقيهم، حيث كانوا في الغالب يعتنقون بتضييق نطاق توزيع السلطة السياسية بصورة شديدة، وإزالة القيود والضوابط التي تقيد حريتهم في التصرف، وكذلك إضعاف المحفزات والفرص الضئيلة المتاحة التي كانت فرص المؤسسات الاقتصادية للاستثمار والتقدم الاقتصادي. في حالات قليلة فقط، تم الوصول من المراحل الناجحة في بناء مؤسسات سياسية واقتصادية شاملة وليست استحواذية. 

لقد أفرزت الثورة الصناعية في إنكلترا موقفاً جديداً بشكل كامل، بالإضافة إلى أنماط مختلفة بشكل ملحوظ من التحديات أمام أنظمة الحكم الأوروبية، والتي في المقابل أنتجت مجموعة جديدة من الصراعات التي بلغت ذروتها وصولاً إلى الثورة الفرنسية.

لقد مثلت الثورة الفرنسية مرحلة دقيقة أخرى جعلت المؤسسات في أوروبا الغربية تلتقي مع مؤسسات إنكلترا، في حين تباعدت أوروبا الشرقية بدرجة أكبر عن أوروبا الغربية. ولقد اتبعت بقية العالم مسارات مؤسسية مختلفة، حيث ساهم الاستعمار الأوروبي في إعداد الساحة أمام التفاوت المؤسسي في الأميركتين، وعلى النقيض من المؤسسات الشاملة التي تم إقامتها في الولايات المتحدة. ظهرت مؤسسات استحواذية في أميركا اللاتينية، الأمر الذي يفسر أنماط عدم المساواة التي نلاحظها في الأميركتين. وكذلك المؤسسات الاقتصادية والسياسية الاستحواذية التي وضعت أسسها القادة الغزاة الإسبانيين في أميركا اللاتينية، وحكمت بذلك على جزء كبير من المنطقة هناك بالفقر. وعلى الرغم من ذلك، فقد نجحت كل من الأرجنتين وشيلي في التعامل مع الموقف تجاه معظم بقية الدول الأخرى في المنطقة، حيث لم يكن يوجد بهما الكثير من السكان الأصليين أو الثروات المعدنية، وتم تجاهلهما، في حين ركز الإسبان على الأراضي التي كانت تحت سيطرة حضارات الإنكا الغنية بالذهب والفضة. ومن هنا، فليس من باب «الصدفة» أن يكون الجزء الأكثر فقراً من الأرجنتين هو الجزء الشمال الغربي منها، لأن المنطقة الوحيدة من الدولة التي اندمجت في الاقتصاد الاستعماري الإسباني، وأن حالة الفقر المحتملة هناك، كميراث للمناطق الاستحواذية التي طبقتها الإمبراطورية الإسبانية.

كل هذه المصادفات، والحلقات المغيبة، والقوى التي طبقت السياسات الاقتصادية والسياسية الاستحواذية، وبالتالي قمعت آليات الفوضى الخلاقة. أو العكس من ذلك حيث نجحت القوى الصاعدة من فرض سياسات شاملة تعددية ديمقراطية سياسياً واقتصادياً، وبالتالي نشطت آليات الفوضى الخلاقة، وتحققت الحلقات الحميدة بين كل هذه الصدف والتطورات. كلتا هاتين الظاهرتين، قد عاشتها أغلبية دول العالم، سواء في أفريقيا - جنوب أفريقيا والصومال وأثيوبيا ومصر - أو آسيا بشبه قاراتها كالهند والصين، وجزرها العملاقة مثل الفلبين وإندونيسيا واليابان. وهذا ما توسع فيه هذا الكتاب.