Preview سكّان لبنان بين سندان الحرب ومطرقة الاحتكارات

سكّان لبنان بين سندان الحرب ومطرقة الاحتكارات

مع شنّ إسرائيل حرب الإبادة الجماعية على غزّة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعلنت الحكومة اللبنانية أنها وضعت «خطّة استباقية لمواجهة أي حرب مقبلة». وزعم أعضاء في هذه الحكومة «أنها المرّة الأولى التي تضع الدولة خطّة استباقية في مواجهة الحرب»، ولكن بعد 10 أشهر من الحرب المتواصلة وتصاعد احتمالات توسّع هذه الحرب وتجاوز ما سمّي «قواعد الاشتباك» التي حكمت حتى الآن الأعمال القتالية على الحدود اللبنانية- الفلسطينية: لا خطّة طوارئ أُعلنت، ولا أي تدابير استثنائية أُتخذت، ولا أي اجراءات استباقية نُفّذت… بل إن الأوضاع بقيت على حالها، الناس متروكون لحالهم في مواجهة الحرب، وكل شيء مُخصخص لقوى الاحتكار الداخلي من الإيواء إلى الدواء ورغيف الخبز. 

وفق استطلاع سريع قام به موقع «صفر» مع رؤوساء بعض النقابات المعنية بتجارة السلع الأساسية: الخبز والنفط والأدوية، يتبيّن أنها لا تزال عند مستوياتها المعهودة قبل اندلاع الحرب، فمخزون المحروقات لدى شركات الاستيراد والمحطّات لا يكفي سوى لشهرٍ واحدٍ، ومخزون الطحين يكفي لشهرين، ومخزون الدواء يكفي لثلاثة أو أربعة أشهر… وهناك اتفاق بين المعنيين على أن احتياطات لبنان من المواد الحيوية غير كافية بتاتاً لمواجهة تهديدات إسرائيل بتحويل لبنان كلّه إلى ساحة حرب.

هذه المواد، التي تمثّل حاجة أساسية للبقاء، سوف تنفذ في وقت أسرع مما هو مقدّر، في حال تهافت بعض الناس على تخزين الطحين والدواء والوقود. لكن ما يُخشى منه حقّاً، في ضوء التجارب السابقة، أن يستغل المحتكرون ظروف الحرب لجني الأرباح الطائلة عبر استغلال حاجات الناس، تماماً كما حصل في ظل الأزمة المستمرة منذ العام 2019، وجائحة كوفيد-19 (2020-2021). وانفجار مرفأ بيروت (آب/أغسطس 2020)، وصولاً إلى حرب الإبادة المتواصلة منذ أكثر من 300 يوماً.

حتى اليوم، لم يغلق البحر أبوابه أمام الاستيراد، ولم تتوقف الرحلات الجوية كلّياً على الرغم من التدابير التي اتخذها العديد من شركات الطيران، بما فيها شركة «ميدل إيست» المملوكة من الدولة اللبنانية، التي (للمفارقة) كانت السبّاقة (بالمقارنة مع الشركات الأجنبية) في إعادة جدولة رحلاتها إلى مطار بيروت ومنه، بذريعة «توزيع مخاطر التأمين»، على عكس شركات الطيران الإسرائيلية التي كثّفت عملياتها عبر مطار تل أبيب لتخفيف أثر تعليق رحلات الشركات الأجنبية. كما لا يزال الطريق البرّي الوحيد عبر سوريا نحو العراق والأردن سالكاً… ولكن السيناريوهات المتداولة عن اتساع رقعة الحرب ومداها تتضمّن احتمالات أن تكون الحرب طويلة وتمتد لأيام أو أسابيع، كما تتضمّن احتمالات فرض الحصار على لبنان على غرار ما حصل في حرب تموز/يوليو 2006.

Previewمخزونات المواد الأساسية بيد المحتكرين

فيما يلي نظرة سريعة على مخزونات السلع الأساسية:

القمح

منذ أسبوع تقريباً، استورد لبنان 45 ألف طن من القمح، ومنذ بضعة أيام استورد 7 آلاف طن أخرى، بحسب رئيس نقابة أصحاب المطاحن أحمد حطيط. ويوضح: «لدينا 80 ألف طن من القمح المدعوم وغير المدعوم، سوف تكفينا نحو شهرين، هذا في حال بقي معدل الاستهلاك اليومي على حاله».

 كل مخزون القمح المتاح هو في يد الشركات الخاصة، فالدولة لا تمتلك أي مخزون تحت تصرّفها، منذ أن دمِّرت الأهراءات في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020. وبالتالي، فإن «رغيف الفقراء»، كما يقولون، متروك في قبضة كارتيل يضمّ 12 مطحنة، في حين أن 5 أفران كبيرة تستحوذ على الحصص الأكبر من سوق الخبز، وهي: شمسين (23%)، مولان دور (12%)، وودن بايكري (13%)، وبان دور (11%) والسلطان (11%).

اعتاد هذا الكارتل على افتعال الأزمات لرفع الأسعار وجني المزيد من الأرباح. وما يزيد الطين بلّة أن قرض البنك الدولي المخصّص لدعم الخبز في لبنان انتهى في أيار/مايو الماضي، ولم تتخذ الدولة أي إجراءات لمواصلة الدعم بعد نفاذ كميات القمح المدعوم المتبقية، ما يعني أن إنتاج الخبز سوف يصبح في يد القطاع الخاص حصراً، وسوف يتم تحرير سعر ربطة الخبز، وسوف تصل أسعار الخبز إلى مستويات مرتفعة، سواء اندلعت الحرب أم لا.

في العام 2019 أشار رئيس «الدولية للمعلومات» جواد عدرا إلى أن «كارتل القمح وأصحاب الأفران يذكرون بمرحلة احتكار التجار في خلال الحرب العالمية الأولى حين قفز سعر الطحين في العام 1917 من 60 سنتاً إلى 40 دولاراً للكيلوغرام الواحد والناس ماتت جوعاً ومرضاً»، وكشف عدرا في تغريدة عبر حسابه في موقع «أكس» أن «الدولية للمعلومات أثبتت بالأرقام أن أرباح هؤلاء تتراوح من 20% إلى 100% بينما الربح عالمياً أقل من 5%». لربما الغد سوف يكون مثالاً آخر على كلام عدرا في حال نشبت الحرب.

اللحوم

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فاللحوم والدواجن والمواد الغذائية المختلفة تخضع أيضاً لأشكال من التحكّم والاحتكار.

يستورد لبنان المواشي الحيّة عبر 17 شركة استيراد وفق وزارة الزراعة، إلا أن 4 تجّار كبار يستحوذون على الحصص الأكبر في سوق اللحوم في لبنان، فحصّة شركة سليمان للمواشي (مثلاً) تساوي 30% من السوق، تليها شركات خليفة ومصري والعشي. في خضم الأزمة، أتبع التجار سياسة تقنين العرض في السوق لرفع الأسعار.

استورد لبنان السنة الماضية نحو 115 طن من رؤوس البقر الحية، علماً أن توقف الاستيراد مرهون بإقفال الطريق البحرية، وفق رئيس اتحاد القصّابين وتجّار المواشي ماجد عيد. اليوم، يوجد نحو 12 ألف رأس بقرة حي في لبنان، علماً أننا نستهلك حوالي 5 إلى 7 آلاف رأس في الشهر، أي لدينا ما يكفينا لشهرين تقريباً، من دون احتساب مخزون اللحوم المبرّدة التي تبقى صالحة للاستهلاك لمدة 50 يوماً، أو اللحوم المثلّجة التي تبقى صالحة لمدة سنتين.

الدواء

الدواء كما الغذاء له كارتيله الخاص، فمن أصل 44 شركة منضوية في نقابة مستوردي الدواء تستحوذ 10 شركات منها على أكثر من 70% من السوق، هذا إن استثنينا 40 مؤسّسة غير منضوية في النقابة و40 أخرى متوقفة أو غير موجودة.

كارتيل الدواء موجود في لبنان منذ القدم، وقد استطاع على مر تاريخ لبنان الحديث أن يثبط أي قوانين تطرح لفك قبضته على السوق، حتى في ذروة الأزمة الاقتصادية المستمرة حتى اليوم. نذكر استنفار مستوردي الدواء عندما أعلنت وزارة الصحة رسمياً فتح باب الاستيراد الطارئ للأدوية، وإتاحة الفرصة لمستوردين جدد وأسواق جديدة للتعويض عن الأدوية المفقودة  في السوق. 

تجدر الإشارة إلى أن لبنان يستورد أدوية أكثر مما ينتج محلياً، لا يشكل الإنتاج المحلي إلا 30% من السوق، ويقدّر استيراد لبنان من الدواء بنحو 550 مليون دولار في العام 2024، بحسب رئيس نقابة مستوردي الدواء جوزيف غريب.

يوضح غريب أن الشركات الخاصة لديها مخزون من الدواء يكفي لـ3 او 4 أشهر، أما بالنسبة إلى الأمراض المزمنة، فالمخزون يكفي لمدة تتراوح بين 4 أو 6 أشهر . هذه كميات «مقبولة» نسبياً، وفق غريب، ولكنها الكميات المفروضة كالمعتاد، أي أنها لا تتصل بحالات الطوارىء. 

حتى هبات الدواء لا يمكن لها أن تمرّ إلى لبنان إلا عبر الكارتيل، نظراً لتفوّقه اللوجستي على الدولة وقدرته على الاستيراد المباشر. نذكر كيف علقت هبة من قبرص أسابيع في المرفأ بسبب عدم وجود مُخلّص جمركي ولا شاحنات لنقل الأدوية، إلى أن تبرّعت إحدى شركات الاستيراد بتخليصها وتوزيعها. حتى لقاحات «كورونا» تم توزيعها بأسطول سيارات الشركات الخاصة.

بحسب رئيس نقابة مستوردي الأدوية فإن استيراد الدواء لن يتأثر طالما لم يتم إغلاق مرافىء الاستيراد، وطرق الملاحة الجوية والبحرية، وتقوم النقابة بالتواصل مع وزارة الصحة لتأمين منصة لوجستية في الإمارات أو قبرص للاحتفاظ بالأدوية في حالة الحصار، ليتم نقلها من هناك على دفعات، شرط أن يكون هناك اتفاق معين عبر المنظمات الدولية، علماً أن هذه المنظمات فشلت فشلاً ذريعاً في إيصال الأدوية إلى قطاع غزة.

الطاقة

تسيطر 5 شركات على أكثر من 75% من كمّيات البنزين المستوردة بين العامين 2021 و2022، وهي Total وUniterminals وLiquigas/Coral وMedco وHypco/Cogico. أمّا في سوق المازوت، فقد استحوذت 3 شركات على أكثر من 55% من السوق وهي Coral وUniterminals وHypco. 

نتذكر كيف تصرّف محتكرو البنزين والمازوت في عز الأزمة العاصفة بلبنان منذ العام 2019. ومشهد قطع المحروقات وطوابير السيارات على المحطات قد يتكرّر في ظل الحرب، ويتسبّب بانقطاع الكهرباء وتقنين المولّدات وتعطّل النقل. ونتذكّر أيضاً أنه عندما قرّرت الدولة إطلاق مناقصة استيراد 150 ألف طن بنزين عبر منشآت النفط، يومها التفّت الشركات حول بعضها البعض واعترضت على عدم قانونية استيراد الدولة لمادة البنزين، فيما امتنعت الغالبية عن المشاركة في المناقصة. ولم تكتفِ بذلك، بل دفعت أصحاب المحطّات إلى تنفيذ إضراب استمرّ يومين لمنع أي تعديل في سوق المحروقات.

يقول رئيس نقابة مستوردي النفط مارون الشماس إن مخزون النفط في المستودعات يكفي لشهر، علماً أن الاستهلاك اليومي يختلف باختلاف المواسم، وفي المجمل نستهلك 8 ملايين ليتر من المازوت ومثلها من البنزين في يوم العمل العادي. وهذا يعني أن الابتزاز في سوق النفط قد يكون فاتحة الابتزازات الأخرى في حال بدأت الحرب.