الدولة اللبنانية غير مسؤولة عن الحرب والشعب
خطّة (غير) استباقية بلا تمويل
في حالات الطوارئ والكوارث، يصبح تصميم السياسة أكثر صعوبة وتعقيداً، ويتطلّب مستوى أعلى من التنظيم والتنسيق من السلطات المعنية. ولكن في لبنان، في الحالات العادية كما في حالات الحروب والكوارث، تعتمد الدولة سياسة «اللاسياسة»، وهي سياسة تتلطّى خلف مزاعم العجز والافتقار إلى الموارد والإمكانيات وضعف الإرادة السياسية وفقدان السيادة، وهذا بذاته سياسة تخدم مصالح القوى المُهيمنة على حساب المجتمع ككلّ.
أمام هول الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزّة، يشعر الكثير من الناس في لبنان بقلق مضاعف، القلق من الحرب، والقلق من تغييب الدولة، الذي تختزنه ذاكرتهم الجماعية في تجاربهم الأليمة على مرّ الكوارث التي أصابتهم، فهم متروكون دائماً ليواجهوا وحدهم التداعيات من دون أي حماية ورعاية وإغاثة. لا طائل من التكهّن بمدى اتساع الحرب الوحشية الجارية ونطاقها الجغرافي، فلبنان في قلب هذه الحرب وليس فقط على تخومها. لذلك، من حق الناس أن تسأل ماذا فعلت دولتهم طيلة الأسبوعين الماضيين من بدء دولة الاحتلال حرب الإبادة المعلنة، وتهديدها المتواصل بإعادة لبنان إلى «العصر الحجري»؟
«أوّل خطّة استباقية»!
منذ اندلاع الحرب على غزّة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، انعقد مجلس الوزراء مرّتين، ومن دون كامل أعضائه، المرّة الأولى بعد خمس أيام من بدء الحرب، حيث طلب من «هيئة إدارة الكوارث عقد اجتماع طارئ وإجراء محاكاة لمواجهة الأزمة»، والمرّة الثانية بعد أسبوع من انعقاد الجلسة الأولى، وبعد سقوط 24 شهيداً في المواجهات على جبهة جنوب لبنان، أمّا المجلس الأعلى للدفاع الذي يرأسه رئيس الجمهورية فلم يدع إلى الاجتماع بحجّة «عدم إثارة إشكالية داخلية إضافية»، إي إشكالية طائفية في ظل الفراغ الرئاسي، على حد قول رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي.
واجتمعت هيئة «إدارة الكوارث والأزمات الوطنية»، التي يرأسها رئيس الحكومة وتضمّ عدداً من الوزارات والإدارات العامة، سبع مرّات (حتى الآن) لوضع «خطّة استباقية لمواجهة أي حرب مقبلة». وزعم أعضاء في هذه الهيئة أنها المرّة الأولى التي تضع الدولة خطّة استباقية في مواجهة الحرب، في محاولة لنفي التقاعس والهروب المعتاد من المسؤولية، إلا أن التصريحات التي يدلون بها عبر وسائل الإعلام لا تخفي أنها «خطّة» متأخرّة جدّاً، وعلى الورق فقط، وينقصها الشرط الأهم، وهو التمويل، فضلاً عن «الإرادة السياسية» وآليّات التنسيق والتنظيم والتكامل.
محاكاة حرب تمّوز/ يوليو 2006
وضعت خطّة الطوارئ بالاستناد إلى محاكاة مبنية على وقائع عدوان تموز 2006، والمناطق التي قصفتها إسرائيل وحجم الأضرار البشرية والمادية التي لحقت بلبنان. وتقتضي الخطّة العمل على ثلاث مستويات:
المحاكاة الجارية لا تتضمّن إجراءات تسبق توسّع الحرب نحو لبنان، بل تتركّز على لملمة الضحايا عند وقوعها
المستوى القطاعي، حيث تعمل الوزارات المعنية على جرد إمكاناتها وحاجاتها ووضع خططها الاستباقية في حال حصل عدوان إسرائيلي فيما يتعلّق بالإسعاف والإنقاذ، والأمن الغذائي، والإيواء، وتأمين المياه، الاتصالات، وتأمين المحروقات، وتأمين الطرق والجسور والمرافئ، والأمن والحماية.
المستوى الجغرافي، حيث جرى تقسيم لبنان إلى ثلاث مناطق، وهي:
1) المنطقة الحمراء، وهي الأكثر تضرّراً في خلال حرب تموز، وتضمّ الجنوب والنبطية وبعلبك والهرمل وبعبدا، والتي قد تتعرّض للقصف بكثافة في أي حرب مقبلة، لذلك المخطّط هو بتجهيز المستشفيات المحيطة بها بالأدوية والمعدات وتجهيز فرق الإنقاذ والدفاع المدني.
2) المنطقة الثانية، وهي التي تقع على تخوم المناطق الحمراء، ويفترض تجهيزها لتقديم الإغاثة والمساعدات الطارئة، وتضم صيدا وصور وزحلة.
3) المنطقة الثالثة المصنّفة منطقة إيواء وتضم مناطق جبل لبنان بشكل أساسي.
المستوى التنسيقي، الذي يقضي بتشكيل لجنة مركزية، يرأسها أمين عام مجلس الدفاع الأعلى، للتنسيق مع المنظّمات الدولية والجمعيات على المستوى المركزي، ومن ثمّ التنسيق مع لجان إدارة الكوارث المحلّية على مستوى الأقضية.
حتى الآن، لم تُنجز المحاكاة كاملة، وبالتالي ليس هناك خطّة موثّقة قابلة للمراجعة، إلا أن هناك ملاحظتين لا بد من إيرادهما في هذا السياق: الأولى، إن توقّعات المحلّلين تفيد أن توسّع الحرب قد يذهب أبعد بكثير من نطاق حرب 2006، سواء على صعيد الجغرافيا أو على صعيد الاستهدافات، لا سيّما أن دعم الولايات المتّحدة والغرب لجرائم دولة الاحتلال يشجّعها على ارتكاب المزيد منها، واستخدام القدرة التدميرية المتاحة، بما في ذلك الأسلحة المُحرّمة. أمّا الملاحظة الثانية، فهي في معنى الاستباق، أي أن المحاكاة الجارية لا تتضمّن إجراءات تسبق توسّع الحرب نحو لبنان، بل تتركّز على لملمة الضحايا عند وقوعها، فليس في هذه المحاكاة إجراءات إخلاء مُسبقة لبعض النقاط الحسّاسة، أو إقامة مستشفيات ميدانية في هذه النقاط ومستودعات للدواء والغذاء والوقود والمياه وغير ذلك، تحسباً لقطع الأوصال وتدمير البنى التحتية.
ماذا في الخطّة؟
تفيد المعلومات المتاحة أن الإدارات المعنية لا تزال في طور إجراء جردة بحاجاتها وإمكاناتها، وهذا ينفي عن الخطة الموعودة صفة «الاستباقية»، ولكنه لا ينفي الحاجة إليها، ولو كانت متأخّرة، إذا نجحت بوضع الآليات المناسبة للتنسيق والتنظيم والتدخّل على امتداد المناطق اللبنانية.
تمارس الدولة أقسى أشكال التقشّف، فموازنتها لم تعد تساوي موازنة بلدية، وهناك تجيير متعمّد لوظائف الدولة إلى الأحزاب والقطاع الخاص والمنظّمات غير الحكومية
يتعامل الكثير من الناس بصورة كاريكاتورية مع تهديدات دولة الاحتلال. بالنسبة إليهم، دولتهم أعادتهم إلى العصر الحجري، ولم يتبقَ للهمجية الإسرائيلية الكثير لقصفه سوى أعمارهم.
فالأزمة المتفاقمة طيلة السنوات الأربع الماضية، أطاحت بعملتهم، وخسروا أجورهم الحقيقية بفعل التضخّم الجامح، وخسروا أيضاً مدّخراتهم بسبب الإفلاس المصرفي. لقد انهارت البنية التحتية بشكل شبه كلّي، وبات القليل من الأمطار يهدّد بالطوفان، وانهارت الخدمات العامّة، لا كهرباء ولا مياه ولا اتصالات، ولا يوجد في الأصل نظم للحماية الاجتماعية في ظل التسليع المتمادي للحق في الصحّة والتعليم والسكن… إلخ.
تمارس الدولة أقسى أشكال التقشّف، فموازنتها لم تعد تساوي موازنة بلدية، وهناك تعطيل منهجي للقطاع العام، إذ لم تعد الدولة تمتلك أجهزة ووسائل كافية للقيام بوظائفها البسيطة، التي جرى تجييرها عن سابق تصوّر وتصميم إلى الأحزاب المسيطرة وشركات القطاع الخاص والمنظّمات غير الحكومية. لقد اندلعت انتفاضة شعبية عارمة في مثل هذا الوقت من العام 2019، وتبعها جائحة صحية عالمية اعتباراً من آذار/مارس 2020، وثم وقع واحد من أضخم الانفجارات غير النووية في التاريخ في آب/أغسطس 2020، دمّر جزءاً كبيراً من العاصمة وأوقع ضحايا بالمئات… لقد اختبر الناس في هذه الفترة أوضاعاً شبيهة بالحرب، ولم تسعفهم الدولة أبداً، وإنّما سمحت بقطع الطاقة والوقود والدواء والخبز ولم تتحر]ك كسلطة إلا لإلغاء الدعم وتحرير الأسعار وتدمير مستوى معيشة أكثرية الأسر الذين انجرفوا إلى ما دون خط الفقر.
فماذا ستقدّم لهم الدولة في ظل الحرب العنيفة التي يواجهونها؟
الإسعاف: يحتاج الناس إلى تدخل فوري وفاعل في ظل الحرب لإنقاذ الناس من تحت الأنقاض، ونقل الجرحى إلى المستشفيات، وتأمين وسائل نقل النازحين نحو مناطق أقل خطراً على حياتهم… وهذا يتطلّب تأمين احتياجات الدفاع المدني والإطفاء، وليس الاكتفاء بالرهان على المنظّمات غير الحكومية، كما يحصل عادة. ولا ضرورة للتذكير بالأوضاع المزرية التي يعاني منها العاملون في هذا المجال والنقص الفادح في التجهيزات والموارد.
الإيواء: تركّز الخطّة على تخصيص 75 مدرسة غير مستخدمة كمراكز إيواء – وهي بطبيعة الحال ليست محمية أو مصانة من أي اعتداء همجي قد تقرّره آلة القتل الإسرائيلية – ويجري التواصل مع اليونيسيف ومنسّق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية للبحث بكيفية تجهيز هذه المدارس لاستقبال النازحين من الحرب.
الاستشفاء: يعاني القطاع الصحّي من نزف في كوادره منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في العام 2019. فقدت المستشفيات الخاصة نحو 25% من كادرها الطبي بحسب نقيب المستشفيات سليمان هارون، وهناك نقص كبير في أطباء الشرايين وجرّاحي الجهاز العصبي الذين تشتدّ الحاجة إليهم لمعالجة إصابات الحروب. في المقابل تعاني المستشفيات الحكومية من شغور بنسبة 60% وفق مصدر في وزارة الصحّة، وبعضها غير قادر على الانخراط بالجهود الإسعافية. يشير وزير الصحّة فراس الأبيض إلى أن وزارته «وضعت خطّة طوارئ إلّا أن المعضلة تكمن بتأمين تمويل علاج الجرحى الذي لم يُبت به بعد في مجلس الوزراء»، ولذلك فإن الاتكال على «منظمة الصحة العالمية لتأمين الأدوية ومستلزمات طبية» وعلى القطاع الخاص.
يقدّر نقيب المستشفيات الخاصة كلفة علاج جرحى الحرب بنحو 11 مليون دولار وفق الخطة التي وضعتها وزارة الصحة، والتي استندت إلى محاكاة لضحايا وحالات دخول مستشفيات بنسبة 50% أكثر من تلك المسجّلة في حرب تموز/ يوليو 2006، وقد خصّصت 50 مستشفى لهذه الغاية تملك قدرة على علاج نحو ألفين جريح يومياً، كما أعدّت جردة للمستلزمات الطبية والأدوية الموجودة في مخازن المستشفيات الخاصة والمستورين وتبين أنها تكفي لثلاثة أشهر.
بحسب هارون، إن نجاح «الخطة الاستباقية مرهون بتأمين التمويل». ويشير إلى معضلة أخرى أساسية وهي «المحروقات التي تقدّر الحاجة الأسبوعية منها بنحو مليون و400 ألف ليتر، في حين لا يوجد أي تجهيز من وزارة الطاقة لتأمينها وضمان نقلها إلى المستشفيات لإبقائها في الخدمة».
تسلّم الحكومة بسردية لا تتناسب مع ظروف الكوارث مفادها: لا يوجد أي مجال لحشد التمويل الداخلي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح
الغذاء: يقول وزير الاقتصاد أمين سلام في تصريحات سابقة له إن كلفة بناء 3 صوامع لتخزين القمح في بيروت وطرابلس والبقاع، بدلاً من الإهراءات التي دمّرت في انفجار المرفأ، تبلغ نحو 60 مليون دولار، أي ما يشكل نحو 0.4% من قيمة العملات الأجنبية التي صرفها مصرف لبنان منذ ذلك حينها (14 مليار دولار). اليوم في ظل حالة الحرب، لا تملك الدولة اللبنانية أية كمّيات من القمح باستثناء ما تخزّنه المطاحن الخاصة في 12 مستودعاً في مناطق متفرّقة.
يقول نقيب المطاحن أمين حطيط إن «كمّيات القمح تكفي لنحو شهرين في ظل استهلاك طبيعي، وقد تتقلّص إلى شهر في حال جرى طلب كثيف على الخبز». ويقول نقيب مستوردي الأغذية هاني بحصلي إن «مخزون الأغذية يكفي لنحو 5 أشهر». المشكلة هي في كيفية توزيع هذه الأغذية سواء في حال قصفت إسرائيل البنية التحتية وقطّعت أوصال البلاد، أو في حال استغل التجّار الوضع ورفعوا الأسعار. والحالتان غير مستبعدتين، بما يهدّد بحرمان الناس من الغذاء الأساسي بعدما وضعتهم الدولة الغائبة تحت مقصلتي عدو همجي من جهة وتجّار لا يشبعون من جهة ثانية.
الوقود: لا يختلف وضع المحروقات عن وضع الغذاء، فاستيرادها وتخزينها وتوزيعها بقبضة القطاع الخاص. مخزونات منشأت النفط تقدّر بنحو 80 ألف طن وهي تكفي لتأمين الكهرباء في مؤسّسة كهرباء لبنان لمدّة 4 ساعات يومياً حتّى العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل (أي لمدة 20 يوماً إضافياً). لا يوجد حتّى الآن أي خطة واضحة لكيفية تأمين كميات إضافية سواء لإمداد المستشفيات أو مولّدات الكهرباء. أمّا بالنسبة للكمّيات الموجودة لدى القطاع الخاص، فالوقود المعد للاستهلاك المحلي ( من بنزين ومازوت) لا يكفي إلا لمدّة تتراوح بين 15 و20 يوماً، بحسب ممثل مستوردي المحروقات في لبنان فادي أبو شقرا.
لا يوجد تمويل!
لا تكتفي الخطّة الموعودة بإبقاء رقاب الناس تحت مطرقة العدوان وسندان القطاع الخاص، بل ترهن كل حظوظها بالمساعدات التي يمكن أن تتسوّلها الدولة من المنظمات الدولية، إذ تسلّم الحكومة بسردية لا تتناسب مع ظروف الكوارث مفادها: لا يوجد أي مجال لحشد التمويل الداخلي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح.
يقول وزير البيئة، ناصر ياسين، عضو في هيئة «إدارة الكوارث والأزمات الوطنية» إن «التمويل اللازم لتنفيذ الخطة غير متوافر، وهذه المعضلة الفعلية. إذ لا يوجد في اعتمادات الوزارات والإدارات العامة إلا الفتات، الذي لا يكفي حتّى لتغطية أبسط النفقات في الأوضاع العادية فما بالك بحربٍ، ولذلك سيتم الارتكاز بشكل أساسي على المساعدات من المنظّمات الدولية والجمعيات».
هل تفتقد الدولة اللبنانية الى التمويل حقّاً؟
حتّى منتصف تشرين الأول/أكتوبر الحالي، بلغت قيمة العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان (القابلة للاستعمال) نحو 8,779 مليار دولار، فيما أقصى التقديرات الموضوعة لتنفيذ الخطّة المزعومة لا تتجاوز الـ 400 مليون دولار، أي ما يشكّل نحو 4.5% من مجمل هذه الأموال. ما يعني أن الأموال موجودة، ولكن هناك من يمنع التصرّف بها، ومن يسلّم بعدم استخدامها حتى في ظل المخاطر الجسيمة التي تهدّد الناس في الحرب.
يروِّج حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أنه متمسّك بـ«عدم تمويل الحكومة لا بالليرة ولا بالدولار»
وفق مصدر حكومي (رفض ذكر اسمه)، يروِّج حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أنه متمسّك بـ«عدم تمويل الحكومة لا بالليرة ولا بالدولار»، ويقول لمن يراجعه إنه «لن يرضخ لمحاولات البعض استغلال احتمال الحرب لدفعه نحو تغيير سياسته النقدية، التي تقوم على ضبط الكتلة النقدية بالليرة وعدم التصرّف بما تبقى من احتياطات بالعملات الأجنبية».
حاول موقع «صفر» الاستفسار من منصوري مباشرة عن مسوّغات هذا الموقف والسند الذي يقوم عليه، لكنه لم يرد على الاتصالات الهاتفية ولا الرسائل عبر بريده الإلكتروني. وسخرت مديرة مكتبه (السيّدة كلود حايك التي شغلت هذا المنصب طيلة فترة وجود رياض سلامة في البنك المركزي) من احتمال توسّع الحرب وضحكت وهي ترد علينا: «لا استعدادات جارية في مصرف لبنان».
إذاً، لنجرّب الاستفسار من وزير المال يوسف الخليل. فهو المعني الأول في تأمين التمويل للخطة المزعومة، ولكن جوابه كان صاعقاً في خفّته، وقال: «نحن نعمل منذ فترة على تأمين الاستقرار في السوق واستعادة الثقة، وقد اتخذ مصرف لبنان مجموعة من الإجراءات لتأمين استقرار سعر الصرف، وزاد احتياطاته بالعملات الأجنبية ونحن قادرين على ضبط السوق. أيضاً رفعنا الدولار الجمركي ورفدنا الخزينة بالإيرادات»...
قاطعناه، لنعيد طرح السؤال عن تمويل خطّة طوارىء في مواجهة كارثة الحرب وتأمين حاجات الوزارات والإدارات، فأجاب: «تمتلك الوزارات اعتمادات واحتياطيات خاصة بها، وهي تنسّق فيما بينها». قاطعناه مجدّداً، وأخبرناه أننا نطرح سؤالاً جدّياً وننتظر جواباً جدّياً لا مجرّد كلام، فكلنا نعلم أن اعتمادات الموازنة واحتياطها لا تكفي لتسيير أمور الدولة بالحد الأدنى في ظروف ليس فيها حرب، فكان جوابه صاعقاً مجدّداً: «عليها (الوزارات والإدارات) أن تكمل بالإصلاحات لتأمين المزيد من الإيرادات».
لفتنا نظره إلى أننا نتحدّث عن خطة طوارى كان يفترض إنجازها وتنفيذها قبل الآن، فكيف تخبرنا عن «إصلاحات» لزيادة الإيرادات؟ ماذا عن الدولارات المتاحة لدى البنك المركزي، لماذا لا يتم اللجوء إليها؟ عندها طلب وزير المال بكل بساطة «سؤال مصرف لبنان عنها»، واعتذر لقطع الاتصال.
لنتذكّر وصفة صندوق النقد في هذه الأيام الأليمة
هذه الصور الكاريكاتورية لتصرفات المسؤولين في الدولة ليست إلّا الترجمة القاسية لما تعنيه الوصفات النيوليبرالية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، ويردّدها معظم المسؤولين والخبراء والإعلام مثل الببغاوات، ليس على صعيد التقشّف الظالم فحسب، بل على صعيد العبارة السحرية التي سرت مثل النار في الهشيم، بعد أن وردت مراراً وتكراراً في تقارير الصندوق، والتي تدعو إلى «منع مصرف لبنان منعاً باتاً من تمويل الخزينة».
الودائع، حتى لو كانت مقدّسة، لا يجب أن تكون مقدّسة أكثر من حياة 5 ملايين إنسان في لبنان
في المقال المنشور على موقع «صفر»، تحت عنوان «5 أسباب للمعارضة» (أي معارضة صندوق النقد الدولي)، أثير سؤال: «ماذا لو وقع زلزال (أو حرب) كالتالي نمرّ بها؟ هل سيقول البنك المركزي أنه غير معني ولا يهمّه تأمين التمويل المطلوب لإنقاذ من يمكن إنقاذهم وانتشال الضحايا من تحت الركام؟ ويصطفل المجتمع المدني بهذه المهمّة؟».
تتلطّى المواقف التي تؤيّد عدم تمويل البنك المركزي لحاجات الخزينة، ولا سيما في حالة الحرب، إلى سردّية واهية عن أن «الودائع مقدّسة»، وأن الدولارات التي لا تزال في عهدة البنك المركزي هي ممّا تبقى من ودائع، بعد تبديد أكثر من 90% منها. إذا كان ممكناً التسامح مع هذه السردية في ظل الأوضاع التي كانت قائمة في السنوات الأربع الماضية، فإنها في ظروف الحرب لا تخلو من بعد إجرامي بحق مجتمع مُهدّد بالقتل والتشريد والجوع والحصار. فالودائع، حتى لو كانت مقدّسة، لا يجب أن تكون مقدّسة أكثر من حياة 5 ملايين إنسان في لبنان.