Preview المشهد من نيروبي-واشنطن

المشهد من نيروبي-واشنطن

في 25 حزيران/يونيو، اقتحم المتظاهرون مبنى البرلمان الكيني في تتويج لثورةٍ ضريبية عمّت البلاد. كان الرئيس وليام روتو قد قدّم إلى البرلمان في أيار/مايو مشروع الموازنة الجديد الرامي إلى زيادة الضرائب على كل شيء، من الخبز والتحويلات النقدية إلى منتجات الصحة النسائية وبيانات الهاتف المحمول. على إثر ذلك انبرى جيل زد، الذي كان يتعرض لانتقادات بسبب عدم نشاطه السياسي، إلى تنظيم نفسه على تطبيق تيك توك والتعبئة في الشوارع.

كان المزاج العام يغلي منذ ما قبل الانفجار الاجتماعي. في السنة الماضية، سجّلت كينيا ثاني أعلى معدل معاناة بين سكانها لتحصيل الطعام على مستوى العالم، وأعرب شعبها عن أعلى معدل خوف من تسبب الاضطرابات السياسية بالعنف. تدهورت الخدمات العامة بسرعة مع شبه خلو المشافي بعد انقطاع الأدوية الأساسية وإضراب الأطباء للمطالبة بأجور جيّدة وتمويل أفضل للقطاع الطبي. كانت كينيا منذ أواسط العام 2021 تنفق على مدفوعات الفائدة ضعف ما تنفقه على الصحة. علاوة على ذلك، كانت البطالة آخذة بالارتفاع.

كينيا ليست وحدها في أزمتها. فغالبية حكومات العالم انتهجت سياسات تقشفية، إما تحت ضغط مباشر من صندوق النقد الدولي أو تحت انضباط غير مباشر من الدائنين الآخرين. لقد حذرنا في الربيع الماضي من أنّ هذه التحركات ستجعل المجتمعات تغلي. وبحسب البنك الدولي، فإنّ 3 من كل 5 دول منخفضة الدخل تواجه الآن خطر الوقوع في أزمة سداد أو هي بالفعل وقعت فيها. يتضمن برنامج صندوق النقد الدولي ما لا يقل عن 21 دولة في أفريقيا جنوب الصحراء. وقد تخلّفت 18 دولة عن السداد بين العامين 2021 و2023، لكنّ الكوارث في الميزانيات لا تلقى انتباه وسائل الإعلام الدولية إلا بعد اندلاع الأزمات الاجتماعية والاحتجاجات الدراماتيكية والقمع العنيف.

الإجراءات التقشفية في 185 بلداً

لا تمثِّل الضرائب التنازلية حلاً لضائقة الديون. في 13 حزيران/يونيو، يوم إقرار الموازنة في كينيا، عرقل المتظاهرون البرلمان في محاولة لإيقاف مشروع القانون الجديد. وقال الناشط يوليوس كاماو: «سئمنا هذه الطريقة من الحكم، سئمنا من حكم هؤلاء المختلين، المجانين، الكذبة واللصوص والمجرمين».

ومع تصاعد الاحتجاجات، ردّت حكومة روتو بالعنف، فنشرت الجيش لحماية البرلمان. أطلق الجيش ذخيرة حيّة، قتل 39 شخصاً وأصاب المئات، بحسب اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في كينيا. وبعدما ألقى روتو باللوم في البداية على «المجرمين» الذين «اختطفوا» الاحتجاجات، وأمام أزمة شرعية متصاعدة، رضخ لمطالب المتظاهرين وسحب مشروع القانون. (وفي هذا الأسبوع، استمرت استجابة روتو: لتخفيف المخاوف من الفساد، حلَّ 47 هيئة حكومية وخفَّض ميزانيات الرحلات الخارجية).

تحتل الشرعية أهمية خاصة عند روتو لأنّه يصور نفسه شخصية مناهضة للمؤسّسات، وناقداً «للسلالات» الحكومية السابقة في كينيا بسبب اقتراضها المفرط واستخدامها الإعانات لكسب ود جماعات عرقية مع تقديمها خدمات عامة ضعيفة. ومن هنا تسلّلت مشاعر الخيانة إلى قاعدة روتو الانتخابية (حركة المهمّشين) المكوّنة من عدد لا يحصى من الشباب العاطل عن العمل أو شباب البطالة المقنّعة، وكان هؤلاء قد طوّروا، بحسب عالم السياسة كين أوبالو، «مستويات غير مسبوقة من الاهتمام العام بتفاصيل صنع السياسات الاقتصادية في خلال العامين الماضيين».

لكن كما في العديد من البلدان الأخرى في العام 2024، يمكن إرجاع محنة كينيا إلى الهيكل المالي غير العادل، وصدمات الوباء لأسواق الائتمان والغذاء والطاقة، وزيادات أسعار الفائدة من البنوك المركزية الغربية، والكوارث الناجمة عن المناخ. في السنوات الأربع الماضية، تعرضت البلاد للجفاف والفيضانات وحتى اجتياح الجراد. لا شيء من هذه الأمور تحت سيطرة الحكومة الكينية، لكن لا يعني هذا غياب أي دور لسوء الإدارة والفساد في الأزمة الحالية.

في قمة ميثاق مالي عالمي جديد في باريس الصيف الماضي، تحدث الرئيس روتو بصراحة أمام رؤساء الدول المجتمعين عن وجوب إنشاء هيكل مالي جديد «لا تكون السلطة والحكم فيهما بيد القلة». كانت الجهود الدبلوماسية لروتو محمومة على مدار العام التالي. وعلى الرغم من قيامه بـ62 زيارة إلى 38 دولة، لم ينجح في الحصول على تمويل بشروط ميسرة أو تخفيف من أعباء الديون. لا يزال النظام المالي الدولي استغلالياً، تتدفق في إطاره الأموال من الدول الفقيرة إلى خزائن الدول الأغنى. وهذه الحقيقة مهدت الطريق إلى حد كبير لقرار روتو انتهاج التقشف.

جدول

اتفاق كينيا مع صندوق النقد الدولي. ومن المفارقات أن تقييم المخاطر الذي أجراه صندوق النقد الدولي لتنفيذ هذه التخفيضات في الميزانية والإجراءات الضريبية توقع حركات احتجاج على مستوى المجتمع. المصدر: دانيال موينفار.

محاولات روتو لحل الأزمة

منذ أصبح روتو رئيساً في أيلول/سبتمبر 2022، حقق شيئاً قلّما يحققه قادة الدول الفقيرة. فقد نال لقاء رؤساء دول مجموعة السبع، ولاقى ترحيباً في زيارة رسمية للولايات المتحدة، وحظي بتغطية في وسائل الإعلام الدولية النخبوية لشيء آخر غير الحرب والفساد والأزمة.

وعلى غرار رئيسة وزراء باربادوس ميا موتلي في أجندتها (بريدجتاون)، كان روتو يدعو إلى العدالة المالية والعمل المناخي والوكالة الاستراتيجية للدول الفقيرة. أسفرت دعوته لإصلاحات ضريبية عالمية عن تشكيل فريق عمل فرنسي-كيني-باربادوسي يستكشف جميع الخيارات. فصدرت «رؤية نيروبي-واشنطن» في إطار زيارة روتو الرسمية إلى واشنطن في أيار/مايو، ووضعت أجندة للمؤسسات المالية الدولية لإنشاء حزم دعم منسقة لكي «لا تضطر الدول ذات الطموح العالي إلى المفاضلة بين خدمة ديونها وإجراء الاستثمارات اللازمة في مستقبلها».

جهات الإقراض الكبرى وراء الدين الكيني المرتفع

وطوال هذا، كانت كينيا تحت ضغط سيولة حاد. وكانت جهات الإقراض تفكر كيف ستسدّد كينيا سندات يوروبوند بقيمة 2 مليار دولار باتت مستحقة في حزيران/يونيو. ومع تعرض الشلن الكيني للضغط، هرعت البلاد إلى سداد السندات مبكراً، باستخدام حصيلة تسهيل بقيمة 1.2 مليار دولار من البنك الدولي وإصدار سندات جديدة بقيمة 1.5 مليار دولار، وهذا يعني تأجيل هذه السداد إلى موعد لاحق.

لكن الدافع المباشر لبرنامج التقشف في كينيا حاجتُها لمئات الملايين من الدولارات بالإضافة إلى قرابة 4 مليارات دولار سبق أن مددها صندوق النقد الدولي. في المقابل، يطالب صندوق النقد الدولي كينيا بسداد ديونها. وهذا يعني بيع الأصول والشركات المملوكة للدولة. في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حصلت الخزانة الكينية من خلال تغيير في التشريع على صلاحيات بيع الشركات المملوكة للدولة من دون طلب موافقة البرلمان. وقد تم بالفعل خصخصة 11 مؤسسة مملوكة للدولة وبيع حصص في 35 شركة عامة أخرى من خلال بورصة نيروبي. شملت المؤسسات على قائمة المزاد شركة النفط الوطنية العامة وشركة خطوط الأنابيب وشركة التشغيل الآلي وشركة تصنيع المركبات وشركة البذور وشركتين لطحن الأرز وشركة الألبان وشركة النسيج.

أتتخلف كينيا عن السداد؟

الآن وبعد استبعاد زيادة الإيرادات الضريبية من الخيارات، ستصبح تخفيضات الإنفاق الحكومي أقسى وأشد. تضطر الدول المدينة إلى اتخاذ خيارات صعبة بين تسديد ديونها أو تأمين الغذاء والطاقة والخدمات الاجتماعية. وتُعطى الأولوية في الغالب لسداد الديون حتى لا تخاطر بإثارة غضب الدائنين، وللحفاظ على القدرة الهامة استراتيجياً والمتمثلة بالحصول على ديون مقومة بالدولار من أسواق السندات العالمية.

أدرج صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي كينيا في قائمة الدول الأفريقية جنوب الصحراء التي أصدرت سندات للمرة الأولى منذ جائحة كوفيد، «في إشارة إلى ثقة المستثمرين بأن تلك الدول يمكنها سداد ديونها». لكن كما أشارت شبكة العدالة للديون السيادية الأفريقية في وقت سابق من هذا العام، من السخافة أن نرى هذه الإصدارات دليلاً على الوضع الصحي للدولة في النظام المالي العالمي، بينما نتجاهل أسعار الفائدة الباهظة المطلوبة من المستثمرين في السندات. فالسندات الكينية الجديدة تحمل معدل فائدة 10.375%، وهو أعلى بكثير من معدل سندات العشر سنوات (6.875%) التي حلت محلها.

سداد الديون بأي ثمن أو التخلف عن السداد ليسا الخيارات الوحيدة المتاحة للدول في وضع كينيا. لاحظ براد سيتسر أنّ الأسواق كانت تتوقع إعادة هيكلة ديون كينيا، أي التفاوض على تعديل شروط السداد. تخضع السندات السيادية لقوانين ولاية نيويورك، وقد طالبت حملات عدالة الديون بتشريع يجبر الدائنين من القطاع الخاص على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

كان المسؤولون الكينيون يسعون للحصول على أحد أشكال تخفيف عبء الديون في محادثات مع نظرائهم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في اجتماعات الربيع العام الماضي. وقد حث صندوق النقد الدولي، صاحب الدور الحاسم في متابعة أي إعادة هيكلة، الحكومة الكينية على الاستمرار في إجراءات التقشف. وقال إنّ «على السلطات أن تكون حازمة في إجراءاتها للحفاظ على الثقة»، في إشارة إلى خطة لخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 55% بحلول العام 2029 (كانت النسبة تتراوح مؤخراً بين 65% و70%).

قلة من الدول التي تتبع أهدافاً صارمة لخفض الديون نجت من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. حددت ورقة صادرة عن معهد بروكينغز بقلم جانيس سي. إبرلي وبارى آيشنغرين وآخرين جامايكا كواحدة من الدول القليلة التي تمكنت من خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر وملحوظ من دون اضطرابات داخلية. وكان مفتاح نجاحها التشاور بين القطاعات: «الشراكية الديمقراطية» و«الشراكات الاجتماعية» بين المجتمع المدني والنقابات وغيرها، وهذه تطورت على مدى عقود بعد الأحداث الدموية لانتخابات 1979. يحتاج تحقيق هذا النوع من التنسيق إلى وقت طويل، ويشير مؤلفو الورقة إلى أنّ صغر حجم البلد يسهل من هذه العملية: وحدها إيرلندا وآيسلندا وبربادوس حققت نجاحاً مشابهاً. أما كينيا، من جهة أخرى، فهي موطن لـ56 مليون نسمة والمركز الاقتصادي واللوجستي والمالي لكل شرق أفريقيا. لا يوجد دليل إرشادي لخفض ديونها السيادية.

رؤية نيروبي-واشنطن؟

حين قوبلت الاحتجاجات في نيروبي بوحشية دموية، سرى شعور بالحرج في إدارة بايدن، فقد صنفت قبيل أيام كينيا «حليفاً أساسياً من خارج الناتو» – لتكون الأولى في أفريقيا جنوب الصحراء – وتجسدت هذه العلاقة في نشر 400 جندي كيني لـ«استعادة السلام» في هايتي وتكثيف العمليات المشتركة ضد متمردي حركة الشباب في الصومال.

وزيارة روتو لواشنطن الشهر الماضي دفعت بـ«التعاون التكنولوجي» الأخضر مع الولايات المتحدة. والفكرة أن تسهل الولايات المتحدة الاستثمارات في أجندة النمو الأخضر في كينيا – مراكز البيانات والكهرباء الحرارية الجوفية والدراجات الكهربائية والأسمدة الخضراء – التي أطلقها روتو «كمبادرة استثمار أخضر أفريقية» في كوب28 بتمويل 4.5 مليار دولار من الإمارات. والغرب، كما توقعنا، عهد بتمويل الانتقال إلى الطاقة النظيفة إلى الممالك الخليجية التي تتدفق عليها أموال النفط، بعدما ترك بالفعل جزءاً متزايداً من تمويل التنمية للصين ورأس المال الخاص منذ عقد تقريباً.

يريد الإماراتيون تحويل كينيا إلى مركز للابتكار التكنولوجي في القارة. وقد توصلت الولايات المتحدة والإمارات معاً إلى استثمار مايكروسوفت وشركة G42 التقنية الإماراتية مبلغ مليار دولار في حرم لمركز بيانات الذكاء الاصطناعي يعمل بالطاقة الحرارية الجوفية في وادي الصدع العظيم. وهكذا تستفيد كينيا من حرب الرقائق بين الولايات المتحدة والصين: لجعل الصفقة تحدث، وافقت إدارة بايدن على استخدام مايكروسوفت-G42 لرقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة من إنفيديا مقابل موافقة G42 على قطع العلاقات مع شركات صينية مثل هواوي.

من الجيد للنخب الجنوبية أن تفوز بمثل هذه الاستثمارات التكنولوجية. ولكن في حين يقدم إجماع واشنطن الجديد التوظيف الكامل وتريليونات في رفاهية ممولة بالعجز واستثمارات عامة في الشمال، فإنّ رؤية نيروبي-واشنطن التي يمثلها روتو غير كافية لتشجيع الازدهار في الجنوب – حيث تفرض الدول المثقلة بالديون والبطالة المتزايدة التقشف والحروب الطبقية والخصخصة، وسط تعنت الغرب في تقديم الإصلاحات الموعودة في الهيكل المالي.

نُشر هذا المقال في Phenomenal World في 4 تموز/يوليو 2024، وترجم وأعيد نشره في «موقع صفر» بموجب شراكة مع الجهة الناشرة.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.