معاينة الاقتصاد الفلسطيني بانتظار الإعدام

الاقتصاد الفلسطيني على مقصلة الإعدام

في العام 2004، رفع مئات المواطنين الأميركيين دعوى قضائية ضدّ البنك العربي استناداً إلى «قانون مكافحة الإرهاب» الأميركي، اتهموه فيها بتسهيل تنفيذ هجمات مسلّحة داخل «إسرائيل» والأراضي الفلسطينية المحتلّة، كان هؤلاء أو أقاربهم من بين ضحاياها. ووفقاً للدعوى، فقد حوّل البنك أموالاً إلى حسابات مرتبطة بحركة حماس وتنظيمات فلسطينية أخرى.

وعلى الرغم من نفي البنك العربي للتهم الموجّهة إليه وتأكيده التزامه بالمعايير المصرفية الدولية الخاصة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، أدانته هيئة محلفين في محكمة بروكلين في أيلول/سبتمبر 2014 بتهمة تمويل «تنظيمات إرهابية». غير أن القضية أُغلقت لاحقاً بمبادرة من البنك نفسه، بعد التوصّل إلى تسوية يُقال إن قيمتها بلغت مئات ملايين الدولارات.

وإلى جانب كونها نموذجاً واضحاً على توظيف القضاء الأميركي في قضايا الابتزاز المالي والسياسي، يرى مراقبون أن القضية انعكست سلباً على العلاقة المصرفية الفلسطينية–الإسرائيلية، التي خضعت منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في العام 2007 لرقابة وتدقيق متزايدين. فمنذ تسوية القضية في العام 2016، باتت الحكومة الإسرائيلية تجدّد الإعفاء الممنوح للبنوك الإسرائيلية، الذي يتيح لها التعامل مع نظيراتها الفلسطينية، على أساس سنوي. إلا أنه ومع تولّي بتسلئيل سموتريتش وزارة المالية، أصبح هذا الإعفاء يُجدّد كل ثلاثة إلى أربعة أشهر فقط.

بمعنى آخر، تمنح الحكومة الإسرائيلية عبر وزارتي العدل والمالية إعفاءات لبنكي هبوعليم وديسكاونت تحميهما من الملاحقات القانونية بتهم تتعلّق بتمويل الإرهاب أو غسيل الأموال، على خلفية علاقاتهما المراسِلة مع البنوك الفلسطينية.

منذ العام 2019 وحتى مطلع العام الجاري، بلغت قيمة الأموال المحجوزة نحو 1.9 مليار دولار، يُصار إمّا إلى تجميدها أو تحويلها لتعويض عائلات القتلى الإسرائيليين، وفي الآونة الأخيرة لتمويل مشاريع استيطانية

تنبع هذه العلاقة من الإطار التقني والاقتصادي القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، إذ يُفرض الشيكل الإسرائيلي عملةً رسمية على الأفراد والمؤسسات الفلسطينية، ما يجعل من البنوك الإسرائيلية القناة الأساسية لتسوية المدفوعات والتحويلات التجارية بين الجانبين، باعتبار أن إسرائيل هي الشريك التجاري الأول للاقتصاد الفلسطيني، ويُقدّر حجم المعاملات السنوية بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية بنحو 14 مليار دولار

كما تستخدم الحكومة الإسرائيلية تهمة «الإرهاب» ذريعةً لاحتجاز جزء من عائدات الضرائب الفلسطينية التي تجبيها نيابةً عن السلطة، والتي تبلغ نحو 2.9 مليار دولار سنوياً. وتبرّر ذلك باعتبار أن السلطة الفلسطينية، عبر دفعها رواتب وإعانات لأسر الأسرى والشهداء والجرحى، «تشجّع الإرهاب».

منذ العام 2019 وحتى مطلع العام الجاري، بلغت قيمة الأموال المحجوزة نحو 1.9 مليار دولار، يُصار إمّا إلى تجميدها أو تحويلها لتعويض عائلات القتلى الإسرائيليين، وفي الآونة الأخيرة لتمويل مشاريع استيطانية في الضفة الغربية، خصوصاً تلك المتعلّقة بمدّ أنفاق وطرق التفافية مخصّصة للفلسطينيين فقط، لمنعهم من الاقتراب من المستوطنات.

وقد شاركت الولايات المتحدة في الجهد الإسرائيلي الهادف إلى تضخيم شبهة الإرهاب وربطها بالاقتصاد الفلسطيني، إذ أوقفت منذ آب/أغسطس 2018 جميع أشكال الدعم المالي للسلطة الفلسطينية ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، بموجب قانون تايلور فورس، الذي اشترط وقف تمويل عائلات الشهداء. غير أن شيئاً لم يتغيّر حتى بعد رضوخ السلطة وقطعها الرواتب عن تلك الفئات في شباط/فبراير الماضي.

كل شيء قد ينتهي في لحظة

في حال توقّف العلاقات المصرفية عبر حظر الإعفاء أو تعليق صدوره، سيدخل الاقتصاد الفلسطيني فوراً في عزلة دولية تامة، منفصلاً عن نظيره الإسرائيلي تجارياً ومالياً. لن يكون هناك استيراد أو تصدير للبضائع والخدمات، كما ستُحرم المصارف الفلسطينية من استلام أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية. وبما أنّ هذه الضرائب تمثّل نحو 65% من إيرادات السلطة، فإنّ حرمانها منها يعني عجزها عن دفع رواتب نحو 153 ألف موظف، وتوقف قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية، ما يقود حتماً إلى انهيار مؤسساتها.

يتكشف هنا جوهر الشيكل الإسرائيلي كسلاح اقتصادي موجّه ضد فلسطينيي الضفة الغربية. فغياب العملة الوطنية أجبر الفلسطينيين على الارتهان للنظام المصرفي الإسرائيلي الذي يشكّل البنية المالية لتجارة السلع والخدمات. وبمجرد انقطاع هذا الارتباط، يجد المجتمع الفلسطيني نفسه بلا كهرباء أو وقود أو دواء أو غذاء، وبلا منفذ مالي مع العالم الخارجي، إذ يبقى محصوراً داخل القناة المصرفية الإسرائيلية التي فُرضت بموجب بروتوكول باريس الاقتصادي وكرّست بالممارسة على مدى 3 عقود.

فغياب العملة الوطنية أجبر الفلسطينيين على الارتهان للنظام المصرفي الإسرائيلي الذي يشكّل البنية المالية لتجارة السلع والخدمات.

صحيح أنّ فروع البنوك الأردنية العاملة في الضفة الغربية قادرة – إلى حدّ ما – على تحويل الدينار مباشرة إلى البنوك الأم في عمّان من خارج النظام المصرفي الإسرائيلي، غير أنّ هذا لا يشكّل بديلاً فعلياً أو منفذاً آمناً للاقتصاد الفلسطيني. فإسرائيل تسيطر على جميع المعابر داخل الضفة وخارجها، وتتحكّم بحركة البضائع ورؤوس الأموال، في ظلّ ترابط عضوي عميق بين الاقتصادين يجعل فكّه يتطلّب زمناً طويلاً وإجراءات موازية للتخلّص من الشيكل كعملة محورية في الأراضي المحتلة.

في المحصّلة، يبقى مصير الاقتصاد الفلسطيني رهينة بيد الحكومة الإسرائيلية، فيما يعيش الجميع حالة ترقّب حذرة لما سيؤول إليه الوضع مع نهاية الشهر الجاري، حيث تنتهي صلاحية الإعفاء الحالي الذي وجّه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بإلغائه منذ حزيران/يونيو الماضي، بانتظار مصادقة المجلس الوزاري المصغّر (الكابينت) التي لم تصدر بعد. 

ما السيناريوهات المطروحة؟

تُظهر الوقائع على الأرض أنّ ثمة خطة معلنة وجارية التنفيذ لضمّ الضفة الغربية رسمياً إلى إسرائيل، ما يعني عملياً تفكيك السلطة الفلسطينية وإعادة إنتاجها كوحدات إدارية لامركزية مرتبطة مباشرة بالاحتلال. وقد شكّل الضغط الاقتصادي الذي مارسته سلطات الاحتلال تاريخياً، وتضاعف في السنوات الأخيرة، الأداة الأبرز في إضعاف الموقف الفلسطيني وإخضاعه. 

فبعد قضم مساحات واسعة من الأراضي، وتقليص أعداد العمال الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي إلى الحد الأدنى بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وحجز جزء من عائدات الضرائب، وتعطيل الحياة الاقتصادية عبر الاقتحامات والتوغلات العسكرية، يأتي التهديد بقطع العلاقات المصرفية بين الجانبين كخطوة قد تُجهز نهائياً على ما تبقى من مقوّمات الاقتصاد الفلسطيني. ومع ذلك، ثمة عوائق تحول دون الإقدام على مثل هذا الإجراء بصورة فورية. 

ففي نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024، مارست الإدارة الأميركية السابقة ومعها مجموعة من الدول الأوروبية ضغطاً على الحكومة الإسرائيلية لتمديد صلاحية الإعفاء للبنوك الإسرائيلية عاماً إضافياً، أي أن استمرار العمل به جاء بفعل الضغط الغربي لا القناعة الإسرائيلية. 

السياسة المالية الإسرائيلية تجاه الأراضي الفلسطينية بأنها شكل من أشكال «الإكراه الاقتصادي» الذي يسلب الشعب الفلسطيني السيطرة على موارده وثرواته وينتهك سيادته

حتى إدارة الرئيس دونالد ترامب، المعروفة بانحيازها المطلق لتل أبيب، حذّرت على لسان سفيرها في تل أبيب، مايك هاكابي، من أن انهيار السلطة الفلسطينية اقتصادياً سيقود إلى تداعيات أمنية خطيرة على إسرائيل. 

وبذلك يصبح واضحاً أن قرار قطع نظام المراسلات المصرفية من خلال عدم تجديد الإعفاء يحتاج إلى ضوء أخضر من الحلفاء الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك أن الضفة الغربية تمثّل سوقاً كبيرة للاقتصاد الإسرائيلي؛ فقد صدّرت إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية في العام 2024 ما قيمته 4.8 مليار دولار (أي نحو 7.8% من إجمالي صادراتها) واستوردت منها ما قيمته 2.3 مليار دولار، ما يعني أن أي خطوة نحو «إزالة العقبة البيروقراطية» المتمثلة بالسلطة الفلسطينية يجب أن تراعي هذه المصالح الاقتصادية، فضلاً عن حسابات الأمن والدبلوماسية. 

غير أن إسرائيل، التي تعتبر نفسها في حالة حرب مفتوحة زمنياً، قد لا تُولي هذه الاعتبارات وزناً كبيراً إذا ما رأت أن انهيار السلطة يخدم أهدافها الاستراتيجية. 

وفي هذا السياق، وصف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في بيان صدر منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، السياسة المالية الإسرائيلية تجاه الأراضي الفلسطينية بأنها شكل من أشكال «الإكراه الاقتصادي» الذي يسلب الشعب الفلسطيني السيطرة على موارده وثرواته وينتهك سيادته، داعياً إلى وقف احتجاز أموال الضرائب وتجديد الإعفاء المصرفي بصورة دائمة. 

لكن هذه الدعوات، على الرغم من إيجابيتها الشكلية، تكشف حالة إنكار أو عجز عن إدراك الواقع، إذ كيف يمكن الحديث عن سيادة في وقت دُمّر فيه قطاع غزة بالكامل وخضع ثلثا الضفة الغربية للحكم الإسرائيلي المباشر، عسكرياً ومدنياً؟ 

في ظل هذا المشهد، يبدو الحصار المالي المفروض على الضفة الغربية، أو التهديد بفرضه، الحلقة الأخيرة في سلسلة الإجراءات الرامية إلى تفكيك السلطة الفلسطينية بالتوازي مع إنجاز مشروع «الكانتونات»، الذي قد لا ينتظر انهيار السلطة حتى يبدأ، بل ربما يجري التحضير له في ظلّها وباستخدام بعض من كوادرها، عبر إنشاء آلية جديدة للتواصل المالي تتجاوز مركزية السلطة الإدارية.

وإلى أن يحين موعد تنفيذ سيناريو كهذا، سيظل الإعفاء المصرفي قابلاً للتمديد مرة تلو الأخرى تحت ضغط خارجي، لكن غيابه في أي لحظة سيعني ببساطة إقدام الحكومة الإسرائيلية، أو أي حكومة لاحقة، على قتل الاقتصاد الفلسطيني تماماً لفرض واقع سياسي جديد.