Preview الحد الأدنى للأجور في مصر ومعضلة التطبيق

معضلة تطبيق الحد الأدنى للأجور في مصر

في الأول من أيار/مايو الجاري، دخل حيّز التنفيذ قرار المجلس القومي للأجور الصادر في نيسان/ أبريل الماضي، والقاضي برفع الحد الأدنى لأجور العاملين، في القطاع الخاص وقطاع الأعمال، من 3,500 إلى 6,000 جنيه. وهو ما يعني أن في نهاية هذا الشهر سوف تبدأ استفادة العاملين من هذا القرار. وهنا تأتي أهمّية المذكرة التي نشرها مركز «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» تحت عنوان «نحو أجر منصف للجميع في مصر»، للباحثة سلمى حسين، والتي سبقتها في العام الماضي قبل صدور قرار المجلس القومي للأجور، دراسة أخرى حملت العنوان نفسه، وقدّمت نقداً جدّياً وعميقاً لسياسة تحديد الحدّ الأدنى للأجور في مصر، والآثار الاجتماعية الناجمة عن تلك السياسة، التي تفضي في بعض نتائجها إلى سقوط قطاع واسع من العاملين بأجر تحت خطّ الفقر، خصوصاً من عمّال القطاع الخاص.

تقهقر حصّة الأجر من الدخل القومي

وعلى الرغم من أن زيادة الحد الأدنى للأجور التي قرّرها المجلس القومي للأجور في نيسان/أبريل الماضي هي الأكبر على الإطلاق، تبيّن المذكّرة حدودها، وتوضح أن الأسعار منذ العام 2016، حين كان الحدّ الأدنى للأجور 1,200 جنيه، تضاعفت عشر مرات تقريباً، ووفقاً لمعدّلات التضخّم التراكمية، التي بلغت 991%، تكون القيمة الحقيقية للحدّ الأدنى للأجور الذي ارتفع بمقدار 5 أضعاف وصولاً إلى 6,000 جنيه، انخفضت بمقدار النصف.

ما يؤكّد التراجع العام لمستويات الأجور في مصر هو تراجع نصيب الأجور من الدخل القومي إلى 25% في مقابل 40% في العقد الماضي

واستمراراً لتراجع القيمة الحقيقية للأجور، وليس الحد الأدنى للأجور فحسب، تشير المذكرة إلى تراجع الأجور في موازنة العام 2023/2024 بنسبة تتجاوز 15%، بعد زيادتها بنسبة 20% وارتفاع التضخّم بنسبة 35.7%. وما يؤكّد التراجع العام لمستويات الأجور في مصر هو تراجع نصيب الأجور من الدخل القومي إلى 25% في مقابل 40% في العقد الماضي، «وهو ما يعني زيادة اللامساواة بين العاملين بأجر وبين الدخول من الأرباح ومن ملكية الأصول سواء المالية أو غير المالية». وهذا ما يؤكّده أيضاً تراجع نسبة الأجور في الموازنة العامة للدولة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي في السنوات الثلاث الأخيرة، حتى 2023/2024 من 4.6% إلى 4.2% إلى 4%، في إشارة لتراجع القيمة الحقيقية للأجور على نحو مطرد. 

وما يفاقم من تأثير هذا التراجع هو اللامساواة في توزيع الأجور، إذ تشير المذكرة إلى استحواذ قطاع الخدمات العامة، الذي يضم المجالس النيابية والرئاسة ووزارة المالية وبعض الجهات السيادية، وقطاع النظام العام وشؤون السلامة العامة الذي يضم الداخلية والقضاء والمحاكم ثلث الأجور بالموازنة العامة، كما أن معدلات الزيادة في هذين القطاعين أعلى من باقي القطاعات.

85% من العمّال فقراء

وإذ تعتبر المذكرة أن مستويات الأجور من أهم العوامل المؤثّرة في معدلات الفقر، تعتبر أن الحد الأدنى للأجر لا يجب أن يقل عن 7,180 جنيه شهرياً، وهو يمثّل خط الفقر القومي لأسرة مكوّنة من أربعة أفراد. ما يعني أن الحد الأدنى للأجور بعد زيادته لا يحول دون سقوط شريحة واسعة من العاملين بأجر تحت خط الفقر.

حصول العمّال على الحد الأدنى للأجور بعد إقراره هو الاستثناء وليس القاعدة، هذا ما يجعل نسبة الفقراء العاملين تبلغ 85% في القطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي

بالإضافة إلى تقييم الحد الأدنى للأجور مقارنة بالتضخّم وخط الفقر، تتناول الدارسة آليات تطبيق الحد الأدنى للأجور، وهي النقطة الأهم إذ يفقد بها الحد الأدنى للأجور الجانب الأكبر من قيمته. وتشير المذكرة إلى رصدها انخفاض متوسط أجور النساء بشكل عام في القطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي في العام 2023 عن الحد الأدنى للأجور المقرر بعد تطبيقه، في حين أن 62% من الرجال يقل متوسط أجورهم عن الحد الأدنى للأجور. 

تكشف هذه البيانات أن حصول العمّال على الحد الأدنى للأجور بعد إقراره هو الاستثناء وليس القاعدة، هذا ما يجعل نسبة الفقراء العاملين تبلغ 85% في القطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي، بينما تبلغ في القطاع الحكومي، الأكثر التزاماً بالحد الأدنى للأجور والتدرج الوظيفي 15% فقط.

لتعميم الحد الأدنى للأجور

تحول علاقات العمل في مصر دون تطبيق الحد الأدنى للأجور، ما يعني أن إقرار حد أدنى للأجور وبأي قيمة، لا يمثل الحل لأزمة الأجور في مصر. فمن ناحية يعمل عدد كبير من الأجراء في القطاع غير الرسمي بعيداً من القوانين ومعايير العمل، ومن ناحية أخرى يؤدّي ضعف الرقابة على المنشآت وضعف التمثيل النقابي إلى تراجع كبير في أوضاع العمّال حتى في القطاع الخاص الرسمي، ويتمثل هذا التراجع بداية من عدم تحرير عقود عمل قانونية لأعداد كبيرة من العمّال، إلى غياب التأمين الصحي والتأمين الاجتماعي وعدم تطبيق الحد الأدنى للأجور.

القرار الأخير يستثنى المنشآت التي يقل عدد عمّالها عن 10 عمّال، كما يستثني المنشآت المتعثّرة، ولا يشمل العمالة غير الرسمية وعمّال اليومية

تلتقط مذكرة المبادرة المصرية هذه النقطة لتشدّد على أن متابعة تطبيق الحد الأدنى للأجور لا تقل أهمّية عن قرار تحديده وتحديد قيمته، وتحاول تقديم حلول واضحة لحل مشكلات تطبيق الحد الأدنى للأجور، منها تعميم الحد الأدنى للأجور. فالقرار الأخير يستثنى المنشآت التي يقل عدد عمّالها عن 10 عمّال، كما يستثني المنشآت المتعثّرة، ولا يشمل العمالة غير الرسمية وعمّال اليومية.

قد يكون اقتراح وضع حدّ أدنى لأجر العمل اليومي من أهم الاقتراحات التي تقدّمها المذكرة لتستفيد العمالة الموسمية وغير المنتظمة التي تمثل نسبة كبيرة من العمّال. وهنا تشدّد المذكرة أيضاً على عدم ربط تطبيق الحد الأدنى للأجور بالعلاقة التعاقدية، وإلزام أصحاب العمل بتعميمه على كل العمّال، وهو ما يمكن أيضاً أن يحدّ من تهرّب أصحاب الأعمال من تحرير عقود عمل للعمال. 

كما تقترح المذكرة ألا يقتصر دور المجلس القومي للأجور على تحديد الحد الأدنى للأجور، بل يمتد لمتابعة تطبيقه، ومدى التزام جهات العمل به. ولعل ربط المزايا والحوافز التي يحصل عليها المستثمرون بتطبيق الحد الأدنى للأجور، من أكثر الاقتراحات منطقية وفاعلية معاً. فالذريعة الرئيسة التي تمنح بها الدولة مزايا وحوافز للمستثمرين، سواء في أسعار الأرض أو أسعار الطاقة أو التيسيرات والإعفاءات الضريبية أو الدعم المباشر، هي زيادة معدلات التشغيل وتوفير الوظائف. وبالتالي يجب ربط تلك الحوافز ليس فقط بحجم التشغيل ولكن أيضا بمعايير العمل والتزام رجال الأعمال بالأجور العادلة.

المفاوضة الجماعية: المعضلة الرئيسة

تتسم مذكرة المبادرة المصرية عن الأجور بدرجة عالية من الواقعية والتماسك، سواء على مستوى تحديد الحد الأدنى للأجور على مستويات تفعيل عملية تطبيقه. ولكن هناك معضلة رئيسة تقف أمام أطروحات المذكرة.

حجر الزاوية في كل مقترحات المذكرة هو المفاوضة الجماعية والتي يجب أن يمثل فيها العمّال بشكل حقيقي وجدي، وهذا ما يحيلنا بالضرورة إلى الوضع النقابي العمالي في مصر. بعد صراع ممتد لسنوات من قبل العمّال لبناء تنظيمات نقابية مستقلة وغير خاضعة لهيمنة الحكومة، تمكّنت الحكومة عبر سياسات قمعية تارة وإجراءات بيروقراطية وتشريعية تارة أخرى من السيطرة على النقابات المستقلة، وعاد الوضع النقابي إلى ما كان عليه، من سيطرة تنظيم نقابي واحد خاضع لهيمنة الحكومة. وهو ما يجعل العمّال ممثلين بتنظيم موالي للحكومة في أي مفاوضة جماعية ويجعل الحوار من طرف واحد.

تمكّنت الحكومة عبر سياسات قمعية تارة وإجراءات بيروقراطية وتشريعية تارة أخرى من السيطرة على النقابات المستقلة، وعاد الوضع النقابي إلى ما كان عليه

وعلى الرغم من استمرار محاولات بناء حركة نقابية مستقلة، لكنها لم تصل إلي مرحلة التماسك والقدرة على الاستمرار بعد.

والحقيقة أنه لا يمكن فصل الحركة المطلبية عن الحركة النقابية، لأن الأخيرة في جوهرها هي حركة مطلبية. وتبلور المطالب العمّالية هو ما يدفع الحراك العمّالي. وتحركات العمّال للحصول على مطالبهم هي بالذات ما تطرح على أرض الواقع ضرورة التنظيم وأهميته، والأهم أنها تكشف الإمكانيات التنظيمية في الحركة العمالية.

إن محاولات التهرب من تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي أقرّ ودخل حيز التنفيذ بالفعل، سوف تصطدم بتوقعات العمّال، الذين عانوا بالفعل من تراجع حاد في القيمة الحقيقية لأجورهم بسبب موجات التضخّم الحقيقية. وهو ما يجعل احتمال صعود موجة من الاحتجاجات العمالية، في القطاع الخاص تحديداً، ضد محاولات التهرب من تطبيق الحد الأدنى للأجور، احتمالاً ليس بالبعيد. والتفاوض الجماعي الذي لم يحدث قبل قرار الحد الأدنى للأجور ولا مع تطبيقه، سوف يكون ضرورياً عندما يتحرك العمال لتحقيق مطالبهم، والتنظيم النقابي الذي لم يظهر في المراحل السابقة، سوف تمثل الحركة العمالية البيئة المواتية له للتبلور، ومثلما ترفع النقابات المطالب العمالية وتدافع عنها، فإن المطالب العمالية التي يتحرك العمّال من أجلها تقرب الحركة العمالية من بناء تنظيمها المستقل.