مايكل روبرتس: ستكون الأمور أسوأ
تتسع دائرة الإقرار بأنّ النظام الاقتصادي العالمي الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتطوّر، يتعرّض لضغوط كبيرة قد تؤدّى إلى انهياره، حتّى صندوق النقد الدولي ناقش في عدد حزيران الماضي من مجلّته "التمويل والتنمية" احتمالات تفكّك هذا النظام والعودة إلى عالمٍ مُتعدّد الأقطاب، وأفول هيمنة الدولار، وارتفاع الحواجز التجارية وضوابط رأس المال مجدّداً، وظهور أنظمة نقدية مختلفة. يدور السجال حالياً بين الاقتصاديين عمّا إذا كان الاقتصاد الرأسمالي العالمي دخل في الركود، وبالتالي في أزمة عميقة سوف تسفِر عن ازدياد البطالة واللامساواة في توزيع الدخل والثروة والموارد. في الوقت الذي تساهم الموجة التضخّميّة بزيادة الفقر والحرمان من الحماية الاجتماعيّة وتدهور الخدمات العامّة وقدراتها الاستيعابيّة. تتفاقم المخاطر التي يواجهها العالم اليوم بسبب التحدّيات البيئية المُتزايدة إزاء الاتجاهات للحفاظ على النفط كمصدرٍ رئيس للطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز والموارد المُتجدّدة الأقل تلويثاَ.
نستضيف الاقتصادي مايكل روبرتس، لنحاول فهم ماهيّة هذه الأزمة بالضبط؟ ما الذي يحدث فعلياً؟ وكيف تنعكس على حياتنا اليومية وعلى النظام الاقتصادي العالمي؟ وما هي الوسائل لمقاومة أو حتّى استخدام هذه الأزمة لإحداث تغيير؟
مايكل روبرتس اقتصادي ماركسي ومدوِّن، عمل في لندن لأكثر من 40 عاماً، وعاين عن كثب كيفية اشتغال الرأسمالية العالمية من داخل عرينها. نشط سياسياً في الحركة العمّالية، ولديه كتب عدّة منها الركود العظيم - وجهة نظر ماركسية (2009)؛ الكساد الطويل (2016)؛ ماركس 200: مراجعة لمبادئ ماركس الاقتصادية (2018): وشارك في تحرير كتاب العالم في أزمة (2018).
لبنان نحو الأسوأ
البداية من لبنان الذي يشهد أزمات حادّة، وتتفاوض حكومته مع صندوق النقد الدولي على برنامج تمويل مشروط. هل تعتقدون أنّ ذلك سوف يساعد سكّانه على تجاوز أزماتهم؟
من المعروف أنّ الوضع في لبنان صاعقٌ، وهو كذلك منذ سنوات عدّة، إن لم يكن منذ عقود. يواجه لبنان واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في العالم في خلال الـ150 عاماً الماضية وفقاً للبنك الدولي، ومن المتوقّع أن ينخفض ناتجه المحلّي نحو 20% خلال العام المقبل، وأن يترافق ذلك مع ارتفاع معدّل التضخّم بنسبة 323% بالمقارنة مع ما كان عليه قبل عامين، وتضاعف أعداد الفقراء من 40% في عام 2019، وهو معدّل مرتفع بالأساس، إلى أكثر من 80% في عام 2021، فضلاً عن تعمّق فجوة انعدام المساواة إذ تمتلك قلّة قليلة أكثر من 70% من الثروة نتيجة السياسات التي اتُبِعت في خلال العقدين الماضيين.
الوضع مروعٌ في لبنان. ولا يبدو أن هناك أي احتمال للتحسّن، إذ تسير الحكومة الحالية على خُطى سابقاتها من خلال اللجوء إلى المؤسّسات الدولية لطلب تدخّلاتها. تبحث الحكومة اللبنانية عن نحو 3 مليارات دولار، وهو مبلغ زهيد لا يكفي لتحسين ظروف الناس، وسوف تحصل عليه بشروطٍ تضمن استعادة الصندوق أمواله في الوقت المحدّد من جهة، والأهمّ التزام لبنان بتنفيذ إجراءات سوف تجعل الوضع أسوأ على المقيمين من جهة أخرى. تركّز هذه الإجراءات على خفض الإنفاق الحكومي أو ما يسمّونه الاستقرار المالي، وزيادة الضرائب غير المباشرة مثل الضريبة على القيمة المضافة. صحيح أنّهم يدّعون دائماً خفض الإنفاق الذي ينطوي على هدر وفساد، وزيادة الإنفاق على الاحتياجات الاجتماعية، لكن لا يوجد دليل واحد يشير إلى حصول ذلك في الماضي أو إمكانيّة حصوله الآن. يتمّ اللجوء إلى هذه الإجراءات كبديل عن فرض ضرائب على الأغنياء. وللعلم إنّ فرض ضريبة على صافي ثروات شريحة الـ2% الأغنى يسمح بتحصيل نحو 12 مليار دولار وهو أكثر ممّا يستطيع صندوق النقد توفيره.
الحلّ الأفضل للبنان يتناقض مع الخيار السائد حالياً والقائم على الاستدانة من الصندوق، فهو يقضي بشطب الديون الحكومية وبعضاً من ديون القطاع الخاص، وهذا ما لم يحصل حتّى الآن. وأساساً، لا يوجد أي برنامج لإلغاء الديون لمساعدة لبنان، أو أي من دول الجنوب الأخرى التي راكمت مديونية ضخمة على مدى العقد الماضي وخصوصاً العامين الماضيين، مثل باكستان وسريلانكا ومصر وغيرها. بل على العكس أسعار الفائدة آخذة في الارتفاع، لأن الاقتصادات الرأسمالية الكبرى ومجموعة الدول السبع وبنوكها المركزية تسعى إلى خفض التضخّم لديها، وهذا لن يؤدّي إلّا إلى زيادة أعباء الديون على دول الجنوب وإبقائها في فقر مُدقع. لا يمكن الخروج من الفقر من خلال المزيد من الاستدانة، إنّما بإلغاء الديون وفرض ضرائب على الأغنياء في لبنان. ويتطلّب ذلك حكومة مستعدة للقيام بذلك، ومن ثمّ تخصيص الموارد لتطوير البنية التحتية، وتوفير فرص عمل في صناعات جديدة.
في الحديث عن لبنان، نلاحظ مُفارقة لافتة، ففي حين يواصل صندوق النقد تنفيذ السياسات التقشفية نفسها في الجنوب العالمي، تتبنّى الدول الرأسمالية الكبرى بعض التطبيقات النيوكينزية والنقدية الحديثة لحلّ أزماتها. كيف تنظر إلى هذا التناقض؟ وكيف يتطابق مع تحليلك لأزمة النظام الرأسمالي العالمي اليوم؟
أعتقد أنّ الأمر ليس دقيقاً بالنسبة إلى تبنّي الغرب سياسات بديلة عن التقشّف والخصخصة. لقد توقّف حالياً كلّ الإنفاق الحكومي والدعم النقدي الذي ضُخَّ خلال فترة تفشّي جائحة كوفيد-19، ورُفِعت أسعار الفائدة لتخفيض السيولة، وتحوّل التركيز إلى الإنفاق العسكري. وبما أنّ هذه الإجراءات سوف تزيد الأعباء على الناس، سوف نشهد خلال العام المقبل وعلى مدى السنوات العشر المقبلة انكماشاً حادّاً في العديد من الاقتصادات الغربية بسبب الضغط على أسعار الفائدة التي تؤثّر على الإنفاق المالي والقطاع الخاص وقدرته أو حتّى رغبته بالتوسّع والاستثمار. لقد ولّت فترة الإنفاق الحكومي التي شهدناها خلال تفشّي جائحة كوفيد-19، وكذلك التيسير النقدي منذ الكساد العظيم في عامي 2008-2009، وبالتالي لن يكون هناك فرق كبير بين السياسات التي يتبنّاها صندوق النقد في لبنان، والسياسات التي تتبنّاها حكومات الاقتصادات الكبرى ومجموعة السبع ضدّ شعوبها، ولو أنّ الأوضاع سوف تكون أسوأ في لبنان ودول الجنوب.
ما يجب على الناس أن يعرفونه
كيف تفسّر التغيير الأخير في الاتجاهات السياسيّة في الغرب، والذي جاء بعد أقل من عامين على صياغة هذه السياسات للتصدّي لتفشّي الوباء؟ لماذا يُعكَس هذا المسار قبل رؤية نتائجه المتوسّطة أو الطويلة المدى؟
يهدف نمط الإنتاج الرأسمالي إلى تحقيق الأرباح لا تلبية احتياجات الناس وتحسين مستويات معيشتهم. هذه هي القاعدة. قد يأتي تحسين الظروف أحياناً كنتيجة عرضية لتنامي مطالب الطبقة العاملة أو لوجود ظرف استثنائي مثل كوفيد- 19. لكن عموماً لا تستسيغ الشركات إنفاق الأموال على الخدمات الاجتماعية والعامّة أو على أي شيء قد يشكّل مكاسب للمجتمع لأنه يقلّل من ربحيّتها. أمّا ما يُعرف بسياسات دولة الرفاهية التي سادت في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية في الاقتصادات المتقدّمة، وقامت على التوسّع في المعاشات التقاعدية والخدمات الصحّية، فقد شكّلت فترة غير طبيعيّة في الرأسمالية، وتمّ الاستغناء عنها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
في الواقع، تتوقّف التنازلات التي تسمح بتقديم الخدمات العامّة بمجرد تعرّض ربحيّة رأس المال للضغوط. وبهذا المعنى، من غير الطبيعي أن يرضى الرأسماليون بحكومات تحاول إنفاق الأموال على الخدمات الاجتماعية إلى ما لا نهاية. النيوليبرالية ليست أيديولوجية وحشيّة ضدّ العمّال وهجوم طبقي على الأجور فحسب، إنّما أيديولوجيّة مدفوعة بشكل أساسي باحتياجات الشركات التي تجد صعوبة في مراكمة الأرباح.
ما رأيناه خلال السنتين الأخيرتين من توسّع في الإنفاق في البلدان الرأسماليّة الكبرى كان بمثابة محاولة للحفاظ على تماسك الاقتصاد، بحيث دفعت الحكومات للعمّال والشركات للحفاظ على حدّ أدنى من الدخل الأساسي، وفي بعض البلدان دفعت الحكومات لإعادة العمّال الأجانب إلى أوطانهم. حالياً، تحاول الحكومات عكس هذه السياسات والعودة إلى نمط العمل المُعتاد، أي تقليص حجم الدولة، وكبح النقابات العمّالية، وخصخصة ما تبقّى من عامٍ، وتقليص الخدمات العامة والاجتماعيّة. وهذا ما نشهده في الولايات المتّحدة وبريطانيا على سبيل المثال. وسوف يتواصل تخفيض مجمل النفقات باستثناء الإنفاق على التسلّح الذي سوف يستمرّ في الارتفاع، والدعم الممنوح للقطاعات الصناعيّة لمساعدتها على العمل.
حالياً تمّ الاستغناء عن السياسات الرأسماليّة الكينزية التي اتُبِعت بعد الحرب العالمية الثانية وحتّى السبعينيّات، وقضت بتوسيع الإنفاق الحكومي وزيادة أجور العمّال لتعزيز الطلب في الاقتصاد وزيادة الاستهلاك بحيث يستفيد كلٌ من الشركات والعاملين من تدخّل الحكومة لإنفاق المزيد من الأموال. يرى الرأسماليون في كلّ ذلك ضغوطاً على أرباحهم الخاصة. لذلك، الإجابة المُختصرة عن كلّ هذه التساؤلات هي: نعم هناك عودة إلى الطرق المُعتادة التي تقضي بتقليص مكاسب المجتمع لرفع ربحيّة رأس المال.
يعيد معظم المُحلّلين الأزمة الراهنة والمُتمثّلة بالركود والتضخّم وارتفاع كلفة الدَّيْن إلى جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية-الأوكرانية، في حين كنت تتوقّع هذا الركود منذ أكثر من عقدٍ. فما الذي حدث منذ 2008 وحتّى اليوم؟ وما هي المشكلة بالضبط
يقوم أساس التحليل الماركسي للرأسماليّة على قاعدة واضحة وهي أنّ الشركات لا تستثمر، ولا توظّف الناس، ولا تُنتِج القيمة ما لم تتمكّن من تحقيق ربح. إنه أمر بسيط للغاية. هذا النظام قائمٌ على الربح. لا بل هدفه الربح. غالباً يأتي تعظيم الأرباح في تناقضٍ مباشرٍ مع الاحتياجات الاجتماعية للعمّال. لا يُحلّ هذا التناقض الأساسي في الرأسمالية ما لم نتخلّص من الرأسمالية نفسها، لأنه كلّما ارتفعت الربحيّة ارتفعت إمكانيّات حدوث ركود، وبالتالي ينهار الاستثمار والإنتاج. الركود هو حدث مُنتظم في ظلّ الرأسمالية التي لا تستمرّ إلّا بمراكمة المزيد من الأرباح. وهذا ما حدث في الأعوام 1957 و1969 و1970 و1975 و1982 و1991 و2001، بالإضافة إلى الركود العظيم عام 2009. وبالنتيحة فقد الناس سبل عيشهم لسنوات ولم يتعافوا من آثار الركود لليوم، وللأسف سوف تواجه الأجيال المُقبلة المشكلة نفسها طالما نظام الإنتاج الرأسمالي قائم.
بعد ركود عام 2009، دخلت الاقتصادات الرئيسية في ركود طويل الأمد. كان النمو ضعيفاً ولم تتعافَ الربحيّة. فاندفع الرأسماليون إلى المضاربة في سوق الأسهم والعقارات لمراكمة الأرباح. أثّر هذا الكساد الطويل على عدد أكبر من البلدان بالمقارنة مع الكساد العظيم في الثلاثينيات. تأثّرت معظم بلدان العالم، واستمرّ الركود حتّى عام 2019. لذلك عندما يُقال أن الوضع المروع الراهن ناتج عن تفشّي الوباء فإنهم يتناسون السنوات العشر الماضية. في الواقع، كانت الربحيّة منخفضة منذ عشر سنوات نتيجة تراجع الاستثمار والإنتاج، ولو لم يتفشَ الوباء لكان حدث ركود آخر في عام 2020. وهذا ما يجب على الناس أن يعرفونه.
اليسار: اختلاف في وجهات النظر
تحدّثت عن دخول الرأسماليّة في مرحلة من الكساد منذ عقدٍ من الزمن، وتمظهُر هذا الكساد من خلال توجّه رأس المال إلى الاستثمار في ما سمّاه ماركس رأس المال الوهمي، أي الخدمات المصرفية والعقارية، بدلاً من القطاعات المُنتجة للقيمة، بهدف الاستمرار في المراكمة. فهل هذه الأزمات، سواء كانت عالمية أم محلّية، محصورة في القطاع المالي؟ أم أن القطاعات المالية تعاني من المشاكل الموجودة في الاقتصاد بالأساس؟
هذا موضوع نقاش مُحتدم بيننا نحن الاقتصاديين الاشتراكيين لتشخيص أزماتنا وتحليلها. يحب الاقتصاديون الأكاديميون استخدام مصطلح "الأمولة" للإشارة إلى توسّع القطاع المالي وهيمنته على الاقتصادات الكبرى وحول العالم، وأنّ ما يحدث في القطاع المالي يفرض نفسه على الاقتصاد ويسبّب بالأزمات. من الواضح أن هناك بعض الحقيقة في ذلك. كان هناك توسّع في القطاع المالي والمضاربة في سوق الأسهم والسندات، وسُجِّلت زيادة هائلة في الديون الحكومية وديون الأسر والأفراد، والأهمّ في ديون الشركات، وبات 20% من شركات الاقتصادات الكبرى عبارة عن شركات زومبي، بمعنى لا تحقق أرباحاً كافية لدفع الفوائد المُترتبة عليها. وهذا الأمر سوف يزداد سوءاً لأن أسعار الفائدة آخذة في الارتفاع. من هنا، من الخطأ القول إنّه يمكن تصحيح الرأسمالية من خلال فرز البنوك والمؤسّسات المالية، أو ضبط القطاع المالي وتنظيمه وجعله تحت السيطرة، لتستمرّ الرأسمالية بالعمل بسلاسة. وهذه نظرية الكثير من اليساريين الذين يقولون إنّ المشكلة تكمن في القطاع المالي وليس في القطاع الإنتاجي. وهنا جوهر المشكلة.
بالنسبة لي، من الخطأ النظر إلى القطاع المالي وتجاهل شركات الطاقة والإعلام والتكنولوجيا والأسلحة. ومن وجهة نظري يجب تغيير الاقتصاد أولاً، ولو أنّ ذلك لا يفسّر كلّ الأزمات كون موجات الكساد لم تتوقّف حتّى في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عندما لم يكن القطاع المالي متضخّماً. على سبيل المثال، سُجِّل ركودٌ كبيرٌ عام 1975 لم يكن ناجماً عن أزمة مالية بل عن أزمة في الأكلاف عٌبِّر عنها بانهيار ربحيّة القطاع الإنتاجي. وهذا هو المفتاح. إذا لم تحقّق القطاعات المُنتجة للقيمة أرباحاً، لن يتمكّن القطاع المالي من جني الأرباح. من هذا المنطلق، إذا كان أداء القطاع الإنتاجي جيّداً سوف ينعكس ذلك على القطاع المالي، الذي قد يضعف تأثّراً بضعف القطاعات الإنتاجية، ويُخرِج استثماراته منها، ويتوجّه نحو سوق الأسهم والسندات، فتصبح آثار الكساد أكثر حدّة. لذلك من الخطأ الادعاء بأنّ الحلّ يكمن بالسيطرة على البنوك والمؤسّسات المالية والمموّلين بمعزل عن القطاعات الإنتاجية التي سوف تستمر في مواجهة الأزمات. يكمن السؤال الرئيسي حول التناقض بين الربحية والإنتاج أو الاستثمار، وهو التناقض الكامن ضمن القطاع الإنتاجي.
نود الانطلاق من حالة اليسار فيما يتعلّق باقتراح الحلول. تقول إنّه من السذاجة التركيز على القطاع المالي وتناسي القطاع الإنتاجي. فلماذا يفعل الاقتصاديون اليساريون أو الكينزيون ذلك؟ هل هذا من أعراض سوء الفهم النظري، أو الافتقار إلى أجندة سياسية اقتصادية لليسار، أم مجرّد محاولة ليبدو اليسار أقل راديكالية ويحشد الدعم؟
إنّه مزيج من الثلاثة معاً. من وجهة نظري، هناك ضعف نظريٌ في فهم طبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي وتركيز على القطاع المالي. إذا عدنا إلى آراء جون ماينارد كينز الذي يُعتبر إلهاً بين الاقتصاديين المتموضعين على يسار التيّار السائد، كونه اقترح سياسات زيادة الطلب كحلّ أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات. أعتقدَ كينز أنّه يحلّ أزمة الرأسمالية بتوسيع الإنفاق الحكومي واعتماد برامج التشغيل وزيادة الأجور، لكن الأدلة تثبت العكس. لم يكن هناك تحسّن في مستوى البطالة طيلة فترة الكساد الكبير وحتّى بداية الحرب العالمية الثانية. بل يبدو أنّ سباق التسلّح هو ما حلّ هذه المشكلة. لكن هذا النقاش النظري، وهناك اختلافٌ في وجهات النظر بين الاقتصادييين الماركسييين والكينزيين حول ما يمكن أن ينقِذ الرأسمالية أو ما هو الخطأ فيها.
أمّا بالنسبة لقبول الاقتصاديين اليساريين بالكينزيّة بوصفها الحلّ لأزمات الرأسماليّة، فهناك كتاب جيّد جداً للاقتصادي الكندي جيف مان، يقول إنّ لدى هؤلاء خشية من الثورة تجنّباً لأي مواجهة قد تعترضهم. والمقصود بالثورة هو التخلّص من النظام القديم، أي نمط الإنتاج الرأسمالي، وتعبئة السكّان ضدّه واستبداله بالإنتاج التعاوني بقيادة العمّال، والتخطيط لإنتاج ما يحتاجه المجتمع العالمي ككلّ، لا كلّ بلدٍ على حدّة. هناك حاجة إلى حكومة عالميّة وتعاون عالمي لحلّ المشكلات.
هناك العديد مِمَن يعتبرون أنّ هذه الأفكار مثاليّة لحدّ الخيال، لكن الخيالي هو تصديق أن حياتنا سوف تكون أفضل من خلال تنفيذ بعض الإصلاحات. في الواقع، لن تتحسّن أوضاعنا خلال العقد المقبل، بل سوف تكون الأمور أسوأ بالنسبة للناس العاديين، لا بسبب تزايد هوّة انعدام المساواة فحسب، إنّما أيضاً بسبب الأزمات الكامنة في النمط الإنتاجي نفسه، ويضاف إلى ذلك أزمة التغيّر المناخي التي تجعل العالم أكثر سخونة، وتتسبّب بالمزيد من الفيضانات والجفاف، وسوف تُجبر مئات الملايين من الناس للبحث عن أماكن أخرى صالحة للسكن خلال العقدين التاليين. وبالطبع لا نتوقّع أن تحلّ الرأسمالية هذه المشكلات لأنّها السبب الرئيسي لها. بل على العكس، نجد أنّ البلدان الرأسمالية مستعدّة لخوض الحروب، وهذا ما يحدث حالياً في أوكرانيا وتايوان. لا سبيل للخروج من هذه الأوضاع المتردّية إلّا بالثورة وتغيير هذه الظروف عالمياً. لذلك، عندما يقول البعض إنّه من المثالية المناداة بالثورة وتغيير النظام، يكون ردّي الوحيد بدعوتهم للنظر إلى البديل الماثل أمامهم، وإلى أين نحن متّجهون، وإنّ كان المطلوب منا هو الجلوس فقط وعدم القيام بشيء.
تعاني مجتمعات الجنوب العالمي من تضخّم الديون، وانعدام الأمن، فيما يزداد تغيّر المناخ سوءاً يوماً بعد يومٍ. كيف يمكنهم بناء روابط مع مجتمعات الشمال، الذين قد لا يكونون بالضرورة أفضل حالاً، وإنّ كانوا يتمتّعون بامتيازات أكبر؟
إذا كنا نعيش في بلد غير متطوّر فمن المحتمل أن تُهيمن عليه الشركات المتعدّدة الجنسيّات التابعة للاقتصادات الكبرى وبنوكها. وهذا ما أسماه لينين بالإمبريالية، أي توسّع رأس المال العالمي إلى الجنوب العالمي لاستخراج فائض القيمة، وتحويل الأرباح الناتجة عن عمل العمّال المُستغَلّين في الجنوب إلى الشركات المتعدّدة الجنسيّات في الشمال، مع حصول شركات الجنوب على حصّة منها للحفاظ على مواقعها. وبالتالي يجري استغلال عمّال الجنوب والشمال عبر هذه العملية على حدّ سواء. من هنا، أعتقد أنّ العمّال، وتحديداً العمّال الصناعيون في الجنوب، في الصين والهند وآسيا، يشكّلون القدرة الأكبر على التغيير في المجتمع. وبالتالي إذا جرى تمكينهم وتنظيمهم للنضال من أجل تحسين أوضاعهم، سوف ينعكس ذلك على الأوضاع في بلادهم والأوضاع في العالم ككلّ. وهذا ما قاله ماركس في عام 1864 عندما أنشأ الجمعيّة العالميّة للعمّال. ما يوحّد العالم هو الطبقة العاملة، أي الأشخاص الذين يمكن أن يتّحدوا معاً لأن لديهم قواسم مشتركة. نحن كعاملين بريطانيين لدينا قواسم مشتركة مع العمّال اللبنانيين أكثر ممّا لدينا من قواسم مع عائلتنا المالكة أو مع الأوليغارشية اللبنانية. هذه القواسم المشتركة هي أساس التغيير ، ولو بدأ صغيراً. سأنتهي هنا، معظم التغييرات الثورية الكبيرة التي رأيناها في المئة عام الماضية حدثت في الجنوب العالمي وليس في الشمال. ومن المرجّح أن نرى موجة ثورية جديدة في الجنوب، ولكن إذا لم تنتقل إلى الشمال، وتوحِّد الموارد والمرافق وجهود العاملين، سوف يستمرّ الصراع.
ترجمة وتحرير ڤيڤيان عقيقي