معاينة unplanned urban development

كيف نواجه صعود المدن العملاقة والتمدين الكثيف وانهيار الريف؟

تظهر بيانات الأمم المتحدة أن معظم الدول تستخدم تعريفات وطنية للمدينة والريف تعتمد على معايير إدارية أو تعداد سكاني غير منسجم مع المعايير الدولية. هذا يؤدي إلى تقديرات ناقصة عن حجم التحضّر الحقيقي. فوفق التعريفات الوطنية، تبلغ نسبة سكان المدن عالمياً نحو 58%، بينما وفق تصنيف Degree of Urbanization ترتفع النسبة إلى 81% (مدن + بلدات). وهذه الفجوة تعني أن عشرات الملايين من السكان الذين يعيشون في تجمعات حضرية متوسطة يُصنّفون على أنهم «ريفيون» على الرغم من أن بيئتهم حضرية فعلياً. 

تُعقّد هذه الفجوة التخطيط وتخفي المناطق التي تحتاج إلى بنى تحتية حضرية: طرق، مياه، كهرباء، مدارس، ومستشفيات. كما أنها تؤثر على قياس مؤشرات التنمية مثل الفقر والدخل والعمالة والهجرة.

في هذا السياق، كشف تقرير «التحضّر العالمي - آفاق 2025»، الصادر عن الأمم المتحدة (إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية - شعبة السكان)، عن الاتجاهات الحالية في التحضّر وتمدّد المدن، بالمقارنة مع تراجع الريف وشيخوخته، إذ تظهر مجموعة واسعة من المخاطر البنيوية العميقة التي ستشكّل وجه العالم في خلال العقود المقبلة. فالنمو الحضري السريع، خصوصاً في أفريقيا وآسيا، يحدث في أغلبه من دون بنى تحتية كافية، ما يؤدي إلى توسّع عشوائي واكتظاظ سكاني وعجز في شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي وارتفاع معدلات الفقر الحضري. فأكثر من مليار شخص يجدون أنفسهم في مدن غير قادرة على الاستيعاب، ما يجعل الهشاشة الحضرية أحد أكبر تحديات القرن.

في المقابل، يشهد الريف انكماشاً ديموغرافياً متسارعاً. تراجع العمالة الزراعية، والشيخوخة، ونقص الخدمات، وهجرة الشباب التي تُضعف القدرة الإنتاجية للريف، وتفتح الباب أمام أزمة غذاء عالمية محتملة، خصوصاً إذا استمر استهلاك الأراضي الزراعية لصالح التمدّد العمراني.

تزداد المخاطر مع تغيّر المناخ؛ إذ تقع معظم المدن الكبرى في مناطق مهدّدة بالفيضانات وارتفاع مستوى البحر والحرارة الشديدة. ومع انتقال السكان من ريف أقل عرضة للأزمات المناخية إلى مدن أكثر هشاشة، يتضاعف الخطر المناخي–السكاني. كما أن اتساع الفجوة بين المدينة والريف يهدّد الاستقرار الاجتماعي: مدن مكتظة بعمالة هشّة، وريف عاجز عن الصمود، ما يخلق بيئات خصبة للتوترات والهجرة القسرية.

إذا استمرت الاتجاهات الحالية من دون تخطيط، قد يشهد العالم نموذجاً مزدوجاً: مدن ضخمة وغير قادرة على الاستدامة في مقابل ريف فارغ ومعطّل. تكمن الحلول في إعادة توزيع التنمية، ودعم البلدات المتوسطة، وحماية الأراضي الزراعية، وتطوير البنى التحتية المناخية.

فيما يلي أبرز النتائج والخلاصات التي توصّل إليها تقرير الأمم المتّحدة:

1. العالم أصبح أكثر حضرية من أي وقت مضى 

شهد العالم منذ منتصف القرن العشرين تحوّلاً ديمغرافياً جوهرياً يتمثّل في الانتقال من نمط العيش الريفي إلى نمط حضري متسارع. ففي العام 1950، لم يكن العيش في المدن هو الخيار السائد، إذ لم يتجاوز عدد سكان المدن 20% من مجموع سكان العالم. لكن هذا المشهد تغيّر جذرياً بحلول العام 2025، إذ أصبحت المدن تضم 45% من سكان الأرض، أي أكثر من ضعف النسبة قبل 70 عاماً. ومع ذلك، تظهر البيانات أنّ المدن ليست وحدها في صعود؛ إذ أصبحت البلدات أو التجمّعات المدينية المتوسطة (Towns) تضم 36% من سكان العالم، ما يجعلها أكثر أشكال الحضر انتشاراً بعد المدن، بينما انخفضت نسبة سكان الريف إلى 19% فقط.

هذا التحوّل ليس مجرد انتقال جغرافي، بل يعكس تغيّرات عميقة في أنماط الاقتصاد والإنتاج وفرص العمل والتعليم والخدمات. فالمدن تقدّم مزايا اقتصادية من حيث التركّز الصناعي والخدماتي، كما تستقطب الاستثمارات والكفاءات. وفي المقابل، يواجه الريف تراجعاً ديموغرافياً حاداً وشيخوخة بنيوية، فيما تتصدّر المدن والبلدات دور المحرّك الاقتصادي العالمي.

تشير التوقعات إلى أنّ ثلثي نمو سكان العالم حتى العام 2050 سيتركّز في المدن وحدها، بينما ستصل المناطق الريفية إلى ذروتها في أربعينيات هذا القرن قبل أن تبدأ بالانكماش. تعيد هذه الدينامية رسم خريطة العالم السكانية وتفرض تحديات ضخمة تتعلق بالإسكان، الخدمات، البنى التحتية، والنقل، إلى جانب الضغط البيئي وندرة الموارد.

1

2. نمو المدن العملاقة

شهدت «المدن العملاقة» تطوراً لافتاً في العقود الأخيرة، إذ ازداد عدد المدن التي يفوق عدد سكانها 10 ملايين نسمة من 8 مدن فقط في العام 1975 إلى 33 مدينة في العام 2025، وأكثر من نصفها يقع في آسيا. هذا ليس مجرد تضخّم رقمي، بل هو نتيجة تراكم رأسمالي، وتوسّع حضري متسارع، وهجرة كثيفة من الريف إلى مراكز الأعمال والتعليم والخدمات.

تتصدّر جاكرتا قائمة أكبر المدن في العالم بعدد سكان وصل إلى 42 مليون نسمة، تليها دكا (37 مليون)، بينما تراجعت طوكيو التي كانت الأكبر لعقود لتصبح ثالثة. اللافت أن هذه المدن العملاقة ليست بالضرورة الأكثر استدامة؛ فالكثافة العالية والضغط على البنى التحتية يزيدان مخاطر العشوائيات والازدحام والتلوث وارتفاع كلفة المعيشة.

تشير التقديرات إلى أنه بحلول العام 2050 سيصل عدد المدن العملاقة إلى 37 مدينة، مع بروز مدن جديدة مثل أديس أبابا ودار السلام وهَاجيبور وكوالالمبور. وفي المقابل، ستشهد مدن كبرى في شرق آسيا انخفاضاً في عدد سكانها نتيجة الشيخوخة وتراجع الخصوبة مثل طوكيو وسيول.

تُعدّ المدن العملاقة مختبراً مفتوحاً لتحدّيات الحوكمة الحضرية أو الحق في المدينة: إدارة الكثافة، تأمين النقل، ضمان السكن اللائق، وتوفير الخدمات الأساسية لملايين السكان. كما أنّ هشاشتها أكبر أمام الصدمات المناخية مثل الفيضانات وارتفاع الحرارة.

2

3. المدن الصغيرة والمتوسطة: العمود الفقري للتحضّر العالمي 

على الرغم من أن الاهتمام الإعلامي والسياسي يتركّز عادة على المدن العملاقة، يعتمد المشهد الحضري العالمي في الأساس على المدن الصغيرة والمتوسطة التي تضم الغالبية الساحقة من سكان المدن. فبحلول العام 2025، أظهر التقرير أن 96% من مدن العالم يقل عدد سكانها عن مليون نسمة، وأن 81% منها يقل عدد سكانها عن 250 ألفاً. هذه المدن ليست هوامش هامدة؛ بل هي المحرّك الحقيقي للتوسع الحضري في أفريقيا وآسيا حيث تتركز أعلى معدلات نمو السكان المدينيين.

تُعد المدن الصغيرة والمتوسطة أكثر قدرة على الاستيعاب وأقل عرضة لاختناقات النقل أو التلوث أو ارتفاع الأسعار بالمقارنة مع المدن العملاقة. لكن في المقابل، تعاني غالباً من ضعف القدرات التخطيطية، ومحدودية الاستثمار في البنى التحتية، ونقص شبكات النقل العام، وتحديات في إدارة التوسع العشوائي. ولهذا، يشكّل دعم هذه المدن رافعة أساسية لتحقيق تنمية متوازنة.

من بين 400 مدينة نمت بأكثر من 4% سنوياً بين 2015–2025، كان ثلثها في أفريقيا جنوب الصحراء، وربعها في جنوب آسيا، وأكثر من ثلثيها مدن يقل عدد سكانها عن 250 ألف نسمة. ويعني هذا النمط أن مستقبل التحضّر لن يُصنع في جاكرتا أو طوكيو فقط، بل في مدن أصغر مثل كيسومو، كوتشي، لومي، وأوروميا.

3

4. 7 دول تقود النمو الحضري العالمي 

سيكون التحضّر العالمي في العقود المقبلة شديد التركّز جغرافياً؛ إذ إن 7 دول فقط ستُنتج أكثر من 500 مليون نسمة من الزيادة الصافية في عدد سكان المدن بين عامي 2025 و2050. وهذه الدول هي: الهند، نيجيريا، باكستان، إثيوبيا، مصر، بنغلادش، والكونغو الديمقراطية.

تمتلك هذه الدول خصائص مشتركة: نمو سكاني سريع، انتقال ريفي–حضري كثيف، ضعف كبير في البنى التحتية بالمقارنة مع وتيرة النمو وتباينات اقتصادية واجتماعية شاسعة بين المناطق. ما يعني أن نجاح تجربة التحضّر في هذه الدول سيحدد نجاح التنمية العالمية نفسها.

ستضيف الهند وحدها أكثر من 150 مليون ساكن حضري جديد، بينما ستشهد نيجيريا توسعاً حضرياً هائلاً يقوده نمو لاغوس وأبوجا ومدن الداخل. ستشهد باكستان تضخماً مستمراً في كراتشي ومدن البنجاب. أما إثيوبيا، فستشهد انفجاراً حضرياً يقوده صعود أديس أبابا والمدن الثانوية.

في مصر وبنغلاديش، سيدفع النمو الاقتصادي والضغط السكاني إلى توسّع قوي في القاهرة ودكا والمدن الكبرى الأخرى، بينما سيجعل عدم الاستقرار في الكونغو الديمقراطية من التحضّر تحدياً مضاعفاً.

4

5. المدن المتقلّصة: ظاهرة الانكماش الحضري

على عكس الصورة النمطية التي تربط التحضّر بالنمو الدائم، يكشف تقرير الأمم المتحدة أن أكثر من 3,000 مدينة في العالم شهدت تراجعاً في عدد سكانها بين عامي 2015 و2025. أغلب هذه المدن صغيرة، حيث يقل عدد سكان 80% منها عن 250 ألف نسمة، لكن اللافت أن مدناً كبرى مثل مكسيكو سيتي وتشنغدو شهدت أيضاً انكماشاً واضحاً.

تتركز المدن المتقلّصة في شرق أوروبا، الصين، اليابان، وكوريا الجنوبية، حيث الشيخوخة السكانية والهجرة الداخلية والخارجية تدفع المدن نحو انكماش بطيء لكنه ثابت. تضم الصين وحدها أكثر من ثلث المدن المتقلصة عالمياً، بينما تضم الهند نحو 17% منها.

يخلق الانكماش الحضري تحديات مختلفة تماماً عن التوسع: بنى تحتية كبيرة تتراجع الحاجة إليها، شبكات نقل يفوق حجمها عدد المستخدمين، فقدان الوظائف، وتراجع القدرات الاقتصادية للمدن، ما يخلق حلقة انكماش يصعب كسرها. كما أن العقارات المهجورة، وتراجع النشاط التجاري، وزيادة نسب الشيخوخة، تجعل هذه المدن أكثر هشاشة من المدن المتوسعة.

تحتاج المدن المتقلّصة إلى حلول مغايرة: تقليص حجم البنى التحتية، إعادة توظيف المساحات الفارغة، سياسات لجذب العمالة والشباب، وخلق اقتصادات محلية مرنة. فالانتقال من نمو إلى ركود حضري يمثل تحدياً حقيقياً لإدارة المدن في القرن الحالي.

5

6. البلدات المتوسطة: العقد التي تربط الريف بالمدينة 

تُظهر بيانات 2025 أن البلدات المتوسطة، التي يتراوح عدد سكانها بين 5,000 و300,000 نسمة، تضم أكثر من ثلث سكان العالم، وهي الأكثر انتشاراً في 71 دولة، من بينها الهند والولايات المتحدة وألمانيا وأوغندا. تعمل هذه البلدات كمراكز خدمات أساسية: مدارس، مستشفيات، أسواق، وعقد نقل تربط الريف بالمدن الكبرى.

تتمتع البلدات المتوسطة بميزة نادرة: القدرة على تخفيف الضغط عن المدن العملاقة، وفي الوقت نفسه تحفيز الاقتصادات الريفية عبر فتح أسواق وفرص جديدة. لكنها تعاني غالباً من ضعف الاستثمار في التخطيط الحضري، وتعرضها للهجرة المكثفة التي تفوق قدرتها الاستيعابية.

في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا، ستواصل البلدات المتوسطة النمو بسرعة حتى العام 2050، بينما تتراجع أو تستقر في أوروبا وأميركا الشمالية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هذه البلدات تُعامل كـ«ريف» في كثير من الدول، ما يؤدي إلى التقليل من شأنها في الإحصاءات والسياسات.

تطوير البلدات المتوسطة هو حجر الزاوية لتحقيق تنمية متوازنة: تحسين النقل بين المدن والريف، دعم الخدمات الأساسية، إنشاء مناطق صناعية صغيرة، وتحويلها إلى مراكز جذب للاستثمار والسكن.

6

7. تحوّلات الريف العالمي 

في العام 1950، كان الريف يضم أكثر من 60% من سكان العالم، بينما لا يضم اليوم سوى 19% فقط.

أفريقيا جنوب الصحراء هي المنطقة الوحيدة التي سيستمر فيها نمو الريف حتى العام 2050، مدفوعاً بارتفاع الخصوبة وضعف التحضّر بالمقارنة مع باقي المناطق. أما في أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا وشرق آسيا فقد بدأ الريف بالتراجع منذ سنوات طويلة، مع تقدم سريع في الشيخوخة وهجرة الشباب نحو المدن.

تواجه المناطق الريفية تحديات خطرة: نقص الخدمات الصحية والتعليمية، تراجع الدخل الزراعي، فقدان العمالة، والشيخوخة. هذه العوامل تخلق حلقة سلبية تهدد الإنتاج الغذائي، الاستقرار الاجتماعي، والهجرة القسرية.

تتطلب إعادة تنشيط الريف استثمارات ضخمة في الطرق، الإنترنت، الربط الزراعي–الاقتصادي، المدارس، وتجديد سلاسل التوريد. كما تتطلّب تعزيز الارتباط مع البلدات المتوسطة والمدن، لخلق شبكة اقتصادية–اجتماعية مترابطة تُعيد توزيع التنمية جغرافياً.

7

8. تمدد العمران واستهلاك الأراضي 

يشير تقرير الأمم المتحدة إلى أنّ المناطق المبنية توسّعت عالمياً بين عامي 1975 و2025 بمعدل ضعف معدل نمو السكان. فقد ارتفعت المساحة المبنية للفرد من 43 متر مربع إلى 63 متر مربع، ما يعكس تمدّداً أفقياً واسعاً للمدن، غالباً على حساب الأراضي الزراعية.

تكشف البيانات أن 60% من الأراضي التي تحضّرت منذ العام 1970 كانت زراعية، وهو ما يشكّل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي، خصوصاً في الدول النامية التي تعتمد على الأنشطة الزراعية.

يرفع هذا التمدد العشوائي تكاليف النقل، ويضر البيئة، ويزيد انبعاثات الغازات، ويصعّب إيصال الخدمات. ويضع المدن أمام خيارين: التمدد الخارجـي غير المنظّم أو النمو الداخلي الكثيف والمستدام.

تشمل السياسات المثلى: الحد من التمدد الأفقي، الاستثمار في النقل العام، الحفاظ على الأراضي الزراعية، وتطوير السكن العمودي بدل الأفقي.

8